لم يجلب انتباهه ذلك الخبر. - كانت تذرف الدموع دما على فراقك، لقد أوغلت في قلبها يا فتى. - أرجوك يا سكينة اتركيني وحدي.
بعد الحادثة تغير حسن جذريا وكأنه أصبح إنسانا آخر، لا يمزح مع أحد، لا يضحك البتة، بالكاد يظهر ابتسامة بوجه أحد إذا مازحه، صار جديا على غير عادته، يتكلم بثقة كبيرة، ولا يسمع له صوت في البيت، لا يبادر بالكلام مع أحد، لزم الصمت فوهب الهيبة، شعر أبو خالد أن ابنه أصبح رجلا للتو، وتخلص من مراهقته وأصبح بالإمكان الاعتماد عليه الآن، زاد احترام خالد له في البيت والدكان، حتى في المقهى وبين أهل الحارة تغيرت نظرة الناس إليه، وتعاملهم معه.
عند قبر هشام، وضع حسن يده على شاهده، وأقسم بتراب قبره الشريف وبدمائه الزكية التي أريقت من أجل هذه الأرض المباركة أن يكمل ما انتهى إليه هشام وينضم للمقاومة.
في أول عملية له مع المقاومة، استبسل حسن وقاتل بشراسة واستطاع قتل ضابط الدورية بحركة بطولية لفتت انتباه الجميع، والتف حوله المقاتلون بعد العملية، يحيونه ويمدحون شجاعته وكيف انقض على الضابط وقتله، سمع حسن القائد يقول لأحد مساعديه: «أين كان يختبئ هذا الأسد عنا؟» أطلقوا عليه خليفة «عمر الصفدي» تثمينا لشجاعته وإقدامه في القتال.
كان يمر على حسن لحظات يستغرب فيها من نفسه، كيف يمكن لذلك الفتى الذي كان يخشى صوت الطلقات النارية على بعد مئات الأمتار، وتصيبه رعشة ورهبة منها، أن يدخل اشتباكا ضاريا مع قوات الاحتلال ويطلق النار من بارودته هو، ويقتل الأعداء دون أن يهتز له جفن! كيف كان يجهل كل هذه الشجاعة المطمورة في جوفه؟
الفصل التاسع والثلاثون
وارسو - بولندا 1945م
كانت رائحتهما كريهة؛ إذ لم يكن يسمح لهم بالاستحمام لفترات طويلة، اعتلى الدرج الخشبي نحو الطابق العلوي حيث غرفة نوم الضابط، فتش الخزانة، كان فيها بزتان عسكريتان وثلاثة بناطيل وخمسة أقمصة ورداءان، أحدهما أسود اللون والآخر أخضر باهت، وملابس نوم وثلاثة أزواج أحذية من الجلد الطبيعي، لفت انتباهه صورة مؤطرة على طاولة خشبية صغيرة قرب السرير ، ألقى نظرة فيها، كانت صورة امرأة تحمل طفلا في الخامسة من عمره، يبدو أنها زوجته وابنه، استلقى على السرير حاملا الصورة بيديه ويفكر في غرابة الإنسان، هذا المخلوق العجيب كيف كان يقتل ويتسبب في قتل الأطفال والنساء في النهار ثم في الليل يضع هذه الصورة على صدره ويحضنها شوقا إلى طفله وزوجته؟! كيف يقسو من يحمل هذه المشاعر المرهفة؟! ألم يفكر يوما ماذا لو حل بابنه ما يحل لأبنائنا بسببهم؟ أسئلة لا يمكن إيجاد أجوبتها حتى لو كان صاحب الصورة أمامه.
توجها إلى وارسو بإحدى العربات العسكرية للحلفاء، وللمرة الأولى صعد مايكل على الصندوق الخلفي لعربة عسكرية دون الخوف من مصير مجهول أو اعتقال بلا سبب يذكر، كانت نظراتهما هو وروبرت تتحدث دون النطق بكلمة وترتسم على وجهيهما البسمة والفرح، أمر لا يصدق، البارحة في مثل هذا الوقت كنا معتقلين يائسين عبيدا مذلولين مهانين في بقعة صغيرة لا نخطو فيها إلا بأمر، ولا نعيد الخطوة للوراء إلا بأمر، واليوم نحن أحرار وكأن الدنيا فتحت أبوابها لنا وكتبت لنا حياة جديدة! كل الناس ولدوا مرة واحدة في حياتهم إلا نحن، ولدنا مرتين فيها.
على الضفة الثانية لنهر فيستولا الذي يمر من منتصف وارسو، كانت أسوار الغيتو المبنية من الطوب الأحمر وأبنيتها تبدو محطمة ومحترقة من بعيد. وصلا قرب البوابة الرئيسية للغيتو؛ المكان الذي تم نقل مايكل منه إلى معسكر أوشفيتز. نزل من العربة مسرعا متلهفا لرؤية أمه والخوف قد سرى إلى جوفه بعد رؤيته المباني المهدمة. كان المكان يبدو قد فرغ من البشر والباب الرئيسي مخلوع، كان روبرت يتفحص المكان، ومايكل يخبره عن بعض الذكريات في طريقهما نحو المبنى الذي كان يسكن فيه مايكل. حطام المباني المهدمة كان قد سد بعض الأزقة بالكامل. - روبرت، هنا في هذه الساحة بت ليلة كاملة تحت المطر والبرد، وهناك في تلك الغرفة الصغيرة المحطمة كان المحرس، يومها أتى ذلك الحارس الشهم بقطعة جبن ملفوف عليه الخبز وأطعمني.
صفحة غير معروفة