جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

فهمي سعيد الشيخو ت. 1450 هجري
103

جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

تصانيف

أومأ غريغور مبتسما والدموع تنهمر من عينيه: آه يا بانوس، ليتني سمعت كلامك يوم ترددت بالخروج معنا من القرية إلى «وان»، وقلت يومها: «نحن ندافع عن أهلنا هنا في القرية، وهناك سندافع عن أبناء جلدتنا من الأرمن، ما الفرق في ذلك، لا، بل أهل القرية بحاجتنا أكثر من غيرهم.» ليتنا بقينا نقاتل العصابات التي كان همها سرقة الخراف والأموال، ليتنا يا بانوس ليتنا.

ثم أجهش بالبكاء، اقترب منه غريغور وحاول أن يهدئه: كفاك تعاتب نفسك يا أرتين، الموت بيد الرب «ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح ، ولا سلطان على يوم الموت». هيا يا أرتين أعني على نفسك ودعني آخذك إلى مكان آمن، سيبدأ القصف في أي وقت لا محال.

كان غريغور يردد آيات من الإنجيل بصوت مبحوح، وقد لف أرتين ذراعه حول رقبته ويمشيان الهوينا في الزقاق المؤدي نحو الإرسالية الأمريكية القديمة، مر على ذاكرته أيامهم الجميلة مع بعض، أخرج شهقة وهو يقول لغريغور: كنا عندما نذكر الموت نضحك ونقول لبعضنا البعض: إذا مات أحدنا فسيرقص الباقيان في عزائه ويوزعان الحلوى فرحا بخلاصهما منه.

أصدر غريغور نحيبا وهو يهز رأسه دون أن يستطيع الكلام. - كنا نقول: الأرض لا تتحملنا في بطنها يوما واحدا؛ لذلك فهي تدعو وتصلي للرب كل يوم ألا يأخذ أرواحنا كي لا تتأذى معدتها الكبيرة بسببنا. يا للطفولة! كم هونت وحقرت أخطر ما يخاف منه الإنسان في الحياة حتى جعلتنا نضحك للموت!

الفصل الثامن والثلاثون

القدس - فلسطين 1946م

الخيبة اعتلت الوجوه، والصمت ساد المكان، تصاعد دخان القهر والحيف من أفواه الحاضرين وكأن المقهى تحول إلى عزاء مفتوح لأهل الحي جميعا، عزاء الثقة التي اهتزت في النفوس، عزاء الوفاء للأرض والوطن. اكتشف حسن يومها أن العزاء ليس فقط لمغادرة روح جسد إنسان، لا، بل هنالك عزاءات أعظم أثرا وأعمق جرحا في النفوس منها في الحياة.

بعدما انكشف سر الاختفاء المفاجئ لأبي هشام، وتناقل الناس أخبارا تقول إن هناك من رأوه يركب سفينة متجهة إلى بريطانيا مع عائلته وقد ارتدى لباسهم وحلق شاربيه ووضع قبعة سوداء على رأسه. خرج صوت من بين الحاضرين: «لقد باع نفسه وشرفه قبل أن يبيع أرضه.» أردف آخر «سيلحقهم العار إلى أحفاد أحفادهم.» لم يحتمل الموقف حسن، وثقل عليه أجواء المقهى المليء بالخيبة والخذلان، ضاق نفسه، تذكر يوم الخيبة عند فشل الثورة الكبرى قبل عدة أعوام، وخيبة هزيمة ألمانيا في الحرب الأخيرة. قال في نفسه: خيبات متكررة تنهال علينا من القريب والبعيد، أينما أدرت وجهك رأيتها بارزة ظاهرة على الوجوه وكأنها أصبحت السمة التي تميزنا عن باقي الشعوب!

لم يكن لديه من يخفف عنه ثقل ما يحمله غير هشام، حتى لو كان تحت التراب فمجرد شعوره بالقرب منه يخفف عنه الكثير. جثا على ركبتيه ونثر حبات الصنوبر على قبره، قرأ سورة الفاتحة على روحه، ثم أخبره أن أهل الحارة لا يذكرونه بشيء، لا بخير ولا بشر، وكأن ما فعله أبوك قد أنساهم إياك، لا تحزن يا صديقي؛ فالشر يغطي الخير مهما كان حجمه صغيرا، هكذا نحن البشر، بل هكذا هي الحياة، لا إنصاف فيها لأحد. وما دمت خرجت من الدنيا فلا يضيرك نسيانهم ما ضحيت به من أجلهم.

سمع حسن خلفه حركة، التفت وإذا بأنوشكا وعليها فستان أسود طويل وشال أبيض شفاف يغطي جزءا من شعرها المنسدل على وجهها، مسحت الدموع من عينيها بأطراف أناملها، صلت للرب من أجل هشام، وقبلت الصليب الذهبي الذي كان يتدلى على رقبتها وجلست بقرب حسن. - تبكينه وأنت لم تريه في حياتك! - أبكيه لأجلك، عندما رأيت تأثرك وبكاءك الشديد في يوم التشييع علمت مدى حجم فقدك الكبير له، شعرت أن لا أحد يشيعه بصدق غيرك. - هشام لم يكن صديقي فقط يا أنوشكا، هشام كان أخي وسندي وموضع سري، وشريك ذكريات لا تنسى. بفقده هوى ركن كبير في وتحطم إلى الأبد، هشام لا يعوض أبدا يا أنوشكا.

صفحة غير معروفة