وسنبين في موضع آخر
39
من هذه الرسالة أن بعض أصدقاء يعقوب من الفرنسيين اهتم بمستقبل القوة الحربية القبطية أكثر مما اهتم بحاضرها، وأنهم كانوا يحبون أن يروها على حال من البأس تجعلها العنصر المرجح في مستقبل مصر بعد جلاء الفرنسيين عنها.
كان وجود الفرقة القبطية إذن أول شرط أساسي يمكن رجلا من أفراد الأمة المصرية يتبعه جند من أهل الفلاحة والصناعة، من أن يكون له أثر في أحوال هذه الأمة إذا تركها الفرنسيون، وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فسادا. على الرغم من أنه لا ينتمي لأهل السيف من المماليك والعثمانيين، وبغير هذه القوة يبقى المصريون حيثما كانوا بالأمس: الصبر على مضض، أو الالتجاء لوساطة المشايخ، أو الهياج الشعبي الذي لا يؤدي لتغيير جوهري، والذي يدفعون هم ثمنه دون سواهم. وهنا الفرق الأكبر بين يعقوب وعمر مكرم، يعقوب يرمي إلى الاعتماد على القوة المدربة، والسيد عمر يعتمد على الهياج الشعبي الذي تسهل إثارته ولا يسهل كبح جماحه والذي قد يصل سريعا لتحقيق أغراض حاسمة، ولكنه لا يصلح قاعدة للعمل السياسي الدايم المثمر. فكما أن العامة سريعة الهياج في أوقات الخلل واضطراب الحكم، فهي أيضا سريعة القنوط خصوصا إذا اصطدمت بجند مسلحين حتى ولو كان أوليك الجند من نوع ما كان في مصر في أوايل القرن التاسع عشر من ترك وألبانيين ومن ماثلهم. وقد رأينا ما كان من أمر السيد عمر لما وجد أمامه محمد علي لا خورشيد. هذا الفرق بين الأداة التي اختارها يعقوب وتلك التي اختارها السيد عمر، ليس في الواقع إلا مظهرا لفروق أعمق. إذ ما حاجة هذا السيد نقيب الأشراف إلى جيش، والرجل لا يتصور مصر إلا خاضعة لحكم المماليك تحت سيادة السلطان، ولا يرمي إلى أبعد من أن يملي إرادته على القايمين بالأمر فيها مدافعا عن أفراد الرعية كلما زاد الفساد؟ وهو لهذا يكفيه قيام أهل القاهرة واجتماع كلمة العلماء، «أما يعقوب فله شأن آخر؛ إذ إنه لا يريد عودة المماليك والعثمانيين، وإنما يعمل على أن تكون لفية من المصريين يد في تقرير مصير البلاد بدلا من أن يبقى حظهم كما كان في الحوادث الماضية مقصورا على التفرج أو الاشتراك في نهب المهزومين». ذكر الجبرتي في حوادث المحرم سنة 1218 في كلامه عن اشتباك الألبانيين بأتراك الوالي العثماني خسرو - ذلك الاشتباك الذي انتهى آخر الأمر بولاية محمد علي - ذكر أن الألبانيين كانوا يقولون للعامة من أهل القاهرة: «نحن مع بعضنا وأنتم رعية فلا علاقة لكم بنا.»
40
أنتم رعية، تخضعون لمن ينتصر منا. هذا كل ما لكم!
أراد يعقوب أن يكون الأمر غير ذلك، وعول أن تكون القوة الحربية المصرية الجديدة مدربة على النظم الغربية. فكان سباقا إلى تفهم الدرس الذي ألقاه انتصار الفرنسيين على المماليك، أو قل إلى إدراك ما أدركه محمد علي بعد قليل من أن سر انتصار الغربيين في جودة نظمهم وبخاصة نظمهم العسكرية. فسرق البرق من الآلهة وكان له ما كان.
كيف كان للاتصال بالفرنسيين هذا الأثر كله في نفس فرد واحد من أفراد الأمة في آخر القرن الثامن عشر؟ ذلك لأن يعقوب كان على استعداد لتعلم دروس الحملة الفرنسية. وقد ثبت من القليل الذي وصل إلى علمنا من أخباره قبل 1798، أن يعقوب لم يكن كغيره من المبرزين من أبناء طايفته في ذلك العهد، وأن معاصريه منهم أحسوا باختلافه عنهم، وأثبتوا عليه شذوذه عن مألوفهم، ورواه عنهم المعمرون لصاحب تاريخ الأمة القبطية يعقوب بك نخلة رفيله المولود في غضون سنة 1847، والمتوفى في إبريل 1905.
41
قال صاحب هذا التاريخ: «يظهر أن يعقوب لم يحترف بحرفة الكتابة في الدواوين مثل باقي عظماء أبناء أمته، بل كان من أصحاب الأملاك والتجارة»،
صفحة غير معروفة