كانت لوردة خادمة قديمة عجوز اسمها سعيدة، تماثلها في المكر واللؤم والخسة، فدعتها وردة إليها بعد خروج داود من عندها، وأنقدتها جنيهين قائلة: «إن إخلاصك يستحق أكثر من هذه الهبة المتواضعة، ولكن الأيام بيننا.»
فعجبت العجوز لهذه العطية على غير انتظار، وعلمت لدهائها ومكرها أن سيدتها تريد منها أمرا، فهمت بيدها وقبلتها وقد انبسط وجهها، وأخذت تدعو لها بطول البقاء، وأن يتم الله نعمته عليها بتوفيق ابنتها إميلي إلى زوج يسعدها، فتنهدت وردة وقالت: «أنت تعلمين يا سعيدة أني ترملت منذ سنين وليس لي إلا هذه الفتاة.»
قالت: «نعم يا سيدتي، وأدعو الله أن يطيل عمركما، ويعوض صبركما خيرا.»
فقالت وردة: «إني زهدت الدنيا من أجلها، فهي تعزيتي الوحيدة في هذا العالم، ولا يخفى عليك ما هي عليه من الجمال واللطف والدلال، وقد خطبها كثيرون من خير شباب الإسكندرية، ولكنها لم ترض بأحد منهم، ولم أشأ أن أرغمها على القبول، وأخيرا رزقها الله بخطيب نال رضاها وإعجابها، فكانت فرحتي بذلك عظيمة. ولكن أولاد الحرام أغرو الشاب بحب فتاة أخرى في القاهرة، وعبثا حاولت والدته أن تنقذه من حب تلك الفتاة.»
فقالت سعيدة مغضبة: «لعنة الله عليها وعلى من أوقعوه في شراكها، ألم تعرفي شيئا عنها يا سيدتي؟»
قالت: «إنها تقطن في شارع شبرا بالقاهرة، واسمها سلمى، واسم أبيها الخواجة سليمان. ويبدو أنها وأهلها يشددون الخناق على سليم لكيلا يتركوا له فرصة للتروي والتفكير.»
فقالت سعيدة: «صدق من قال: أولاد الحرام لم يتركوا شيئا لأولاد الحلال، ولكن صبرا فسأعرف كيف أنقذه منهم بإذن الله، وسأسافر فورا إلى القاهرة ولن أرجع إلى الإسكندرية إلا وهو معي.»
قالت ذلك ومضت إلى غرفتها، فأخذت تعد ثيابها تأهبا للسفر، وتبعتها سيدتها لتودعها وأخذت توصيها بكتمان الأمر عن كل إنسان. وبعد أن أعدت سعيدة ما تحتاج إليه من الثياب في صرة، تناولت شيئا من الطعام ثم ودعت سيدتها وخرجت توا إلى المحطة فركبت القطار قاصدة إلى القاهرة، فوصلت إليها في المساء. وكانت تعرف طرقاتها لأنها ربيت فيها وخدمت في كثير من بيوتها، فقضت ليلتها في بيت بعض أقربائها، ثم بكرت في صباح اليوم التالي فارتدت ملاءتها وتبرقعت، وقصدت إلى بيت الخواجة سليمان في شارع شبرا، فاتفق وصولها إليها قبل ثلاثة أيام من رحلة الأهرام السالفة الذكر.
وقرعت الباب، ففتحته لها والدة سلمى بنفسها وسألتها عما تريد، فقالت: «إني امرأة مسكينة ليس لي من يعولني وقد طرقت أبواب الخدمة في المنازل بوساطة المخدمين فكانوا كلما خدمت في بيت يأخذون نصف أجري ظلما وعدوانا، وإلا عملوا على طردي من المنزل الذي أخدم فيه. وأخيرا اعتزمت أن أبحث بنفسي عن عمل أعيش منه، وما زلت أواصل البحث عن أسرة كريمة طيبة حتى دلني بعض أولاد الحلال على هذا البيت. وإني أحمد الله على أن وفقني إلى بيتكم؛ إذ يبدو لي أنك سيدة فاضلة كريمة. فإذا رأيت أن أكون خادمة عندك، فذلك ما أتمناه، وسترين مني ما يسرك بإذن الله.»
وكانت والدة سلمى قد عانت عذابا أليما بسبب الخدم والمخدمين، وكثيرا ما كانت تطلب من المخدم خادمة وتنقده أجره على ذلك مضاعفا، ولكنه لا يلبث بضعة أيام حتى يغري الخادمة بالخروج من عندها؛ لكي يلحقها بالخدمة في بيت آخر وينال أجرا جديدا، وهذه حالة يشكو منها أكثر أهل القاهرة، ولا سيما السيدات لاحتياجهن إلى الخدم. وكان في بيت الخواجة سليمان خادمة من هذا القبيل لا تكاد تحسن عملا من أعمال البيت؛ لهذا ما كادت والدة سلمى تسمع كلام سعيدة، مع ما عاينت فيها من الظواهر الحسنة حتى سرت بتلك الفرصة وهرولت إلى سلمى وأخبرتها بالأمر، فوافقتها على استخدامها بدلا من الخادمة القديمة، ولكنها قالت لها: «على أني أخشى أن تكون الخادمة الجديدة من المحتالات، وربما سرقت شيئا من البيت!»
صفحة غير معروفة