فأجابت شفيقة ببساطة قائلة: «إن هذا التمثال مدهش حقا.»
فأدركت أدما أنه أراد لفت نظرها إلى بساطة شقيقته، حتى لا تتهيب وجودها معهما وتمضي في الحديث معه، فنظرت إليه مبتسمة وقد أسرع خفقان قلبها كأنها تقول له: «قد فهمت مرادك.»
ثم تحولوا عن التمثال وانحدروا درجات قليلة إلى الكنيسة، فإذا هي بناء خرب، لكن بقاياه تدل على عظمه، وأكثره مبني بأحجار الجرانيت الكبيرة، فلما وصلوا إلى باب الهيكل قالت له أدما: «إن هذا الهيكل متقن الصنعة من الخارج، فهل ترى هو كذلك من الداخل؟»
فأدرك مرادها وأجابها وقد هاجت عواطفه قائلا: «إن داخله أكثر إتقانا وإشراقا من خارجه، فإن الناظر إليه من الخارج يظنه خربا ولكن لو دخلت إليه ونظرت إلى داخله لرأيت ما يسرك وربما تفضلين البقاء فيه.»
فقالت وقلبها يزداد خفقانا: «هل يدخله أناس كثيرون؟»
قال: «أؤكد لك أنه لم يدخله أحد سواك قط ولن يدخله أبدا.»
قال ذلك مشيرا إلى قلبه، ولكن شقيقته لم تفطن إلى ذلك وحسبته يتحدث عن الهيكل فقالت: «كيف تقول إنه لم يدخله أحد قبلها ولا بعدها؟ لعله كان مغلقا، وسيغلق ثانية بعد أن ندخله الآن!»
فاستدرك قائلا: «أنا أقصد زيارته في هذا اليوم فقط؛ لأننا أتينا إلى هنا مبكرين فلم يأت أحد قبلنا لزيارته، وأكبر الظن ألا يأتي أحد بعدنا، أما والدانا فإنهم دخلوه قبلا ولا يدخلونه اليوم وكذلك الخواجة سليم والآنسة سلمى.» فاقتنعت شفيقة وسكتت، واستأنف هو وأدما حديثهما وقد تحقق كل منهما ما عند الآخر من العواطف المتبادلة. وكانت أدما أكثر من حبيب سرورا لأنها أحبته قبلما أحبها، وكانت تخشى أن ترى منه صدودا أو إعراضا. والواقع أنه كان يرتاح لمجالستها ويلتذ بحديثها لكنه لم يكن يفكر في الاقتران بها، ولا يشعر بشدة خفقان قلبها كلما جاء لزيارة أبيها، ولا بأن الحب تمكن من قلبها، وصار يزداد تمكنا يوما بعد يوم؛ إذ كانت لتعقلها وحسن بصرها بالعواقب تخفي ذلك جهدها، وتنتظر أن يبدأ هو بإظهار المحبة جريا على الغالب في مثل تلك الحال، فلما طال بها الانتظار، لم تعد تستطيع صبرا على هذا الكتمان، ولم تجد سبيلا أفضل من كتابة ذلك الخطاب وإرساله إليه دون توقيع، حتى إذا فازت بمرادها وتحققت أمانيها لم تعد تخشى التصريح له بما في قلبها، ولكنها لم تستطع ذلك لوجود شفيقة معهما فاكتفت بالتلميح.
وكذلك كان شأنه أيضا، فإنه لما تحقق ظنه وأيقن بأنها صاحبة الخطاب وبأنها تحبه إلى هذا الحد، مال إلى مكاشفتها أيضا، ولكنه اكتفى بأن أوضح لها بالرموز أن قلبه مكرس لأجلها وأنه لن ينظر إلى سواها، واعتبر نفسه بذلك قد ارتبط معها بعهود وثيقة، وأحس أنها أصبحت منذ تلك اللحظة خطيبة له.
وحالما تصور ذلك شعر بانقباض داخلي لم يعرف له سببا، ولكنه كان يلمح في ذلك الانقباض ظلاما من الندم؛ إذ تذكر حال صديقه سليم وما آل إليه تعجله في خطبة سلمى من غضب والدته.
صفحة غير معروفة