أبطال الرواية
في حديقة الأزبكية
شقاء المحبين
سليم وسلمى
خلوة مريبة
في منطقة الأهرام
رسول السوء
كتاب من سلمى
كشف السر
في الإسكندرية
من سليم إلى سلمى
قلبان يحترقان
حب جديد
فصل الخطاب
فرحة لم تتم
على الباغي تدور الدوائر
اجتماع الشمل
أبطال الرواية
في حديقة الأزبكية
شقاء المحبين
سليم وسلمى
خلوة مريبة
في منطقة الأهرام
رسول السوء
كتاب من سلمى
كشف السر
في الإسكندرية
من سليم إلى سلمى
قلبان يحترقان
حب جديد
فصل الخطاب
فرحة لم تتم
على الباغي تدور الدوائر
اجتماع الشمل
جهاد المحبين
جهاد المحبين
تأليف جرجي زيدان
أبطال الرواية
سليم:
محام شاب بالقاهرة.
حبيب:
موظف حكومي بالقاهرة ومقيم بحلوان.
سلمى:
خطيبة سليم.
أدما:
خطيبة حبيب.
شفيقة:
أخت حبيب.
سليمان:
والد سلمى.
سعيد:
والد أدما.
فؤاد:
شقيق سليم ومقيم بالإسكندرية مع أمهما.
داود:
تاجر إسكندري بالقاهرة.
وردة:
أرملة غنية بالإسكندرية.
إميلي:
ابنة وردة.
في حديقة الأزبكية
أقيم بحديقة الأزبكية بالقاهرة في 21 يونيو سنة 1887 احتفال كبير لمناسبة مرور خمسين عاما على تولي الملكة فكتوريا عرش إنجلترا، فزينت الحديقة بالأنوار، وتقاطر إليها الناس زرافات ووحدانا نساء ورجالا وأولادا من جميع الطوائف والملل، وكلهم فرحون بما أعد في تلك الليلة من دواعي البهجة ومعالم الزينة.
وكان الناس يخطرون جماعات في طرقات الحديقة وحول بركتها وعلى جوانب الساحة التي كانت الموسيقى تصدح فيها. فلم تكن ترى بينهم إلا وجوها باسمة وقدودا مائسة، هذا يخاطب صديقا له ويمازحه، وذاك يداعب ولده ويلاعبه، وتلك تنادي فتاتها لتسير بجانبها خوفا عليها من أن تتيه بين الجماهير. وآخرون جالسون إلى موائد صغيرة يسمعون عزف الموسيقى أو يتأملون جمال الطبيعة وتلألؤ الأنوار.
وكانت أبواب الحديقة غاصة بالداخلين والخارجين، والحجاب يمنعون الناس من الدخول بغير رقاع الدعوة، والشرطة يهولون على الرعاع لئلا يكدروا بمزاحمتهم وضوضائهم صفو الاحتفال.
فلما كانت الساعة التاسعة مساء، وصل إلى أبواب الحديقة شاب يرتدي الملابس الإفرنجية، جميل الصورة، ربع القامة رشيقها، ولكن وجهه كان مقطبا عبوسا تلوح عليه علائم الكآبة والارتباك، ويبدو مستغرقا في التفكير، فلما رأى ازدحام الناس هناك انتبه بغتة كأنه هب من رقاد، ثم مد يده إلى جيبه وأخرج رقعة الدعوة ودفعها إلى الحاجب فسمح له بالدخول.
وقف الشاب بعد أن قطع خطوات داخل الحديقة، وبدا حائرا لا يدري إلى أي جهة يسير، ثم استأنف سيره إلى ساحة الموسيقى. وكان لارتباكه وهواجسه كأنه سائر في خلاء قفر لا يستوقفه منظر، حتى وصل إلى المقهى القائم بجانب الساحة فعرج عليه وجلس على كرسي به، ثم أشعل سيجارته وأخذ يدخن والناس يخطرون أمامه ذهابا وإيابا بين رجال ونساء وأولاد في مختلف الأزياء، وتلوح عليهم أمارات السرور، لكنه لم يكن ينتبه لحركاتهم وضحكاتهم، وبقي في شاغل عنهم بما يفكر فيه، ويده تعبث بعصاه، وكلما انتهى من تدخين سيجارة أشعل أخرى حتى امتلأ الجو حوله بالدخان.
ولم ينتبه من غيبوبته هذه حتى جاء غلام القهوة يسأله عما يريد، ولم يكن في حاجة إلى شيء يشربه أو يأكله، ولكن العادة قضت عليه بطلب المشروب فجيء به إليه، ثم عاد إلى ما كان فيه من الاستغراق في التفكير.
وفيما هو في ذلك شعر بيد لمست كتفه، وسمع في الوقت نفسه صوت هاتف باسمه يحييه، فالتفت مبغوتا فإذا بصديق له ينظر إليه مبتسما وقد مد يده لمصافحته، فنهض للقائه وصافحه، وشعر لدى مشاهدته بأنه كان في ضيق وأتاه الفرج، فدعاه إلى الجلوس قائلا: «أهلا وسهلا بك يا عزيزي سليم!» فجلس سليم وهو يقول: «إني سعيد برؤيتك يا عزيزي حبيب، لكن ماذا جاء بك إلى هنا وعهدي بك أنك مقيم بحلوان؟»
فقال حبيب: «جئت لتفريج كربتي بمشاهدة هذا الاحتفال، لكنني لم أزدد إلا كربا، وقد أرسلك الله إلي في ساعة الحاجة إليك.» ثم تنهد وواصل حديثه قائلا: «نعم أنا في ارتباك عظيم يا سليم، على أني أحمد الله إذ بعث بك لتعزيتي، ولا غرو فإن الصديق الصادق من شارك صديقه في السراء والضراء.»
وأشعل سليم سيجارته، ونظر إلى حبيب نظرة تفيض بالمودة والإخلاص، ثم قال: «لا أراك الله ضيقا يا صديقي، إنك والله لأعز من الصديق وأقرب من الأخ وإذا لم يدفعني إلى غوثك دافع الحب فعشرة الصبا وحقوق التربية تتكفلان بذلك.»
فقال حبيب وقد كادت ظلمة العبوسة تنقشع عن وجهه: «لقد قضت الظروف بأن ألتحق بخدمة الحكومة المصرية كما تعلم، وهي خدمة ما كان أسعدها لو لم يكن من أمرها ما هو جار الآن من استغناء الحكومة عن كثير من موظفيها، اقتصادا في النفقات. ولم يكن يخطر ببالي يوم انتظمت في سلك الوظيفة أن يكون هذا مصيرها، وقد قضيت خمس سنوات أعمل بهمة ونشاط حتى كانت الثورة العرابية فهاجرت من هذه الديار ومعي والدتي وشقيقتي، فتكبدنا مشاق الأسفار، وأنفقت ما كنت قد ادخرته من راتبي الشهري، وحينما عدت في أوائل السنة الماضية لم أكن أملك قرشا واحدا ولكني استطعت العودة إلى منصبي الحكومي، وبدأ حالنا يتحسن وكدنا ننسى تلك المشقات والأسفار، لولا أن داهمني القدر بما لم يكن في الحسبان.» قال ذلك وتأوه.
فتطاول سليم بعنقه إليه في اهتمام وسأله أن يكاشفه بحقيقة الأمر.
فقال حبيب: «علمت من ثقة أن الحكومة ما زالت معتزمة الاستغناء عن بعض الموظفين، وقد أخبرني أحد الأصدقاء بأن هذا الاستغناء سيشملني، ولا يخفى عليك أن بيتي مفتوح وجيبي خال للأسباب التي قدمتها.»
فقال سليم: «من الذي أنبأك بذلك؟»
قال: «أنبأني به صديقنا حسان.»
فهز حبيب رأسه مستهزئا وقال: «ومن أخبره بذلك؟ إن الأمر لعلى عكس هذا.»
قال: «لقد أكد لي أن الخبر صحيح لا ريب فيه.»
قال: «ثق بأنه خبر عار من الصحة بل هو عكس الواقع تماما.»
فأبرقت أسرة حبيب ونظر إلى سليم بعين المستطلع وقال: «وكيف ذلك؟ لعلك تمزح!»
قال: «كلا لست مازحا، وليس ما بلغك إلا محض اختلاق، وما أخبرك به صاحبنا إلا لغرض لنفسه أنت تعلمه، والحقيقة أنك ستنال مركزا أحسن مما أنت فيه و...»
فقطع عليه الكلام قائلا: «أحق ما تقول، ومن أين علمت هذا؟»
قال: «نعم، إنك سترتقي إلى مركز أحسن في نظارة الداخلية، وقد علمت ذلك من ثقة، فكن مطمئنا، وإن غدا لناظره قريب، فلا تبتئس ولا تجزع.»
قال حبيب وقد انبسط وجهه: «حقق الله الآمال يا عزيزي، والله إنك لوجه السعد، ولولا مجيئك لكنت أصبت بمرض لفرط قلقي وهواجسي، وإني لأشكر لك صدق مودتك وأحمد الله على ما بشرتني به.»
فقال سليم: «إن الله هو الرزاق، وهو سبحانه واسع الفضل والرحمة. وهب أنك خرجت من خدمة الحكومة، فالأعمال الأخرى كثيرة وأبوابها مفتحة لمثلك.»
قال: «نعم، لله الحمد على كل حال، وهو لا ينسى أحدا من خلقه. وإنما أهمني أن من يترك خدمة الحكومة نادرا ما يوفق في غيرها، وليس هذا لقلة الأعمال الأخرى ولكن لتعوده الراحة وتقاعده عن اكتساب ما يؤهله لسواها، ولقد مرت بذاكرتي هذه الليلة سيرة حياتي الماضية فندمت ندما لا مزيد عليه لأني لم أعمل بمشورة أبي - رحمة الله عليه - وأتعاطى التجارة معه، ولو أني أطعته لكنت في غنى عن هذا الارتباك، ولكن ما قدر كان.» •••
مضى الصديقان يتجاذبان أطراف الحديث، وقد زايل حبيبا تردده وارتباكه وأخذ يمتع نظره بما حوله من المناظر. ثم قال لسليم: «ترى ما الذي جاء بك إلى هنا الليلة، تاركا مشاهدة خطيبتك المحبوبة؟ أم لعلك تسر بمشاهدة هذه الأنوار وتأنس بهذا الازدحام أكثر من سرورك وأنسك بمشاهدة عروسك المقبلة؟»
فعلا وجه سليم الاحمرار لتذكره خطيبته وما يقاسي من أجلها، ولكنه حاول إخفاء عواطفه وهواجسه فسكت برهة وحبيب يراقب حركاته كأنه يريد استطلاع مكنونات قلبه، لعلمه بما هناك من روابط المحبة بينه وبين خطيبته. ثم قال سليم محاولا إخفاء ما في ضميره: «لقد قضيت معها فترة قصيرة أول هذه الليلة، ثم رأيتها في حاجة إلى الرقاد فتركتها لتمضي إلى فراشها وجئت أقضي بقية السهرة في هذه الحديقة.»
فلم يقتنع حبيب بذلك، ولكنه أظهر الاقتناع به على أن يستطلع حقيقة الأمر بنفسه في الغد، ثم لاحظ على سليم أنه عاد إلى الصمت وقد علت أسرته الكآبة وبدا عليه الاضطراب، فقال له مبتسما: «أرى صديقي قد وقع فيما كنت فيه؟ فهل ترى ذلك خوف الفصل من الخدمة أيضا؟»
فعلا وجه سليم الاحمرار، وحاول التكلم لكنه تلجلج وعاد إلى الصمت، ولم يشأ حبيب أن يلح عليه في السؤال حتى لا يجرح عواطفه أو يحرجه. وكانت الموسيقى قد انتهت من العزف فوقف وقال لصديقه: «ألا توافقني على أن نتمشى في الحديقة قليلا لنتمتع بمناظرها؟»
فوقف سليم وهو يحاول عبثا إخفاء عواطفه، وحبيب يتجاهل أمره ويحدثه في أمور مختلفة تتعلق بالزينة وبهرجها واشتغال الناس بها؛ تسكينا لما لاحظه عليه من حدة القلق، وإن كان شديد الميل إلى معرفة قلقه وانقباضه.
ومشيا صامتين بعض الوقت وكل منهما يفكر في أمر، إلى أن وصلا إلى باب الحديقة الشمالي، فنظر حبيب إلى ساعته فإذا الساعة قاربت العاشرة فقال لسليم: «هلم بنا نخرج إلى مكتب البريد لأني أنتظر بريدا من أوروبا هذه الليلة!» فوافقه وخرجا من الحديقة، ومشيا حتى وصلا إلى مكتب البريد، وسأل كل منهما الموظف المختص: «هل توجد لديه خطابات باسمي؟» ففحص الخطابات الموضوعة أمامه، وأخرج من بينها خطابين، ناول أحدهما لسليم والآخر لحبيب.
وتناول حبيب كتابه وقرأ عنوانه فإذا هو بخط كأنه يعرفه، ثم نظر إلى طابع البريد على الغلاف فإذا هو طابع مصري وعليه خاتم مكتب بريد القاهرة فعلم أنه صادر منها، ففض الخطاب وأخذ يتلوه لنفسه فإذا فيه:
يا سادتي هل يخطرن ببالكم
من ليس يخطر غيركم في باله؟
يا شقيق الروح ومالك الفؤاد
أكتب إليك هذه الكلمات بغير إمضاء، والقلب يخفق، واليد ترتعش، فإذا خفق قلبك وارتعشت يداك، فلعلك تدرك بعض ما لك في قلبي من المحبة التي كتمتها حتى طفحت، ولعلك إذا عرفت ذلك أن ترثي لي، وإلا فإنها شكوى أبثها لمن ملك قلبي مع بقاء أمري مكتوما في ضميري عنه وعن سواه إلى أن يقضي الله بما يشاء.
فبغت حبيب وأخذ يعيد تأمل الخطاب ويكرر قراءته متعجبا، ثم حانت منه التفاتة إلى سليم، فإذا هو يتلو الخطاب الذي تسلمه وقد امتقع لونه وأخذت الورقة تنتفض في يده، فطوى حبيب كتابه وخاطب سليما قائلا: «خيرا إن شاء الله يا سليم؟»
فقال: «ليس هناك سوى الخير يا عزيزي.» ثم طوى الكتاب ووضعه في جيبه، ومشى يريد الخروج من مكتب البريد، فمشى حبيب بجانبه وهو يفكر تارة في كتابه، وطورا فيما ظهر على صديقه من مظاهر الاضطراب، وأراد استطلاع حقيقة حاله فمنعه التأدب، لكنه قرر في نفسه استعمال الحيلة للوقوف على سر اضطراب سليم، وأخذ يجاذبه أطراف الحديث إلى أن قال له: «تبارك الخلاق العظيم، أليس من دلائل قدرة الله أنك لا تكاد تجد بين الناس اثنين يتفقان في الخلقة والأخلاق؟ وقد صدق من قال:
إنما نحن في اختلاف عقول
مثلما نحن في اختلاف وجوه!»
ولما آنس منه إصغاء، واصل كلامه فقال: «إني إذا أغضبني أمر لا أستطيع إخفاء عواطفي قط، فإن كان إلى جانبي أحد عرف أنني في انقباض كما عاينت ذلك في هذه الليلة.»
فتنهد سليم وقال: «لعل ذلك ينطبق علي أيضا.» وكأنه أحس بقرب تغلب صديقه على لسانه فبادر بقطع الحديث وتعلل بميله إلى الرقاد قائلا: «إني أشعر بتعب وألم في الرأس، ولهذا أفضل الرجوع إلى البيت الآن، وإن كنت أود قضاء بقية السهرة برفقتك.»
فأدرك حبيب مراده ولكنه تجاهل وقال: «إن النوم أفضل شيء للراحة، وأنا أيضا أحس مثل هذا التعب لما كنت فيه من الشواغل في هذه الليلة، وأرجو أن أدرك القطار الذاهب إلى حلوان الآن.»
ثم مد يده مودعا، فتصافحا وسار كل في سبيله وفي نفسه أمر يحاول إخفاءه عن رفيقه.
شقاء المحبين
مشى حبيب قاصدا إلى محطة باب اللوق فلما توارى عن صديقه أخرج من جيبه الخطاب الذي تسلمه من مكتب البريد، وجعل يردد نظره فيه ويقرؤه تكرارا مستعينا بأنوار الشوارع على تأمل الخط النسائي الذي كتب به.
وما زال كذلك حتى وصل إلى المحطة فإذا بالقطار قد أقلع منها إلى حلوان منذ دقائق، وسأل عن القطار التالي إليها فعلم أنه يقوم في منتصف الليل، فساءه ذلك لما هو فيه من الهواجس والارتباك. ثم رأى أن يمضي فترة الانتظار في التنزه، فتوجه إلى الجزيرة ليقضي هناك ساعة ثم يعود ليستقل القطار. وكان يسير والخطاب في يده، وأفكاره تتجاذبها الهواجس، وراح يستعرض بذاكرته البيوت التي يختلف إليها والسيدات اللواتي عرفهن لعله يعرف كاتبة الخطاب، فلم ينتبه لنفسه إلا وهو على كوبري قصر النيل، فوقف هناك يتأمل منظر الماء الجاري، ويشنف سمعه بموسيقى خريره وارتطامه بأعمدة الكوبري. وراقته الأنوار المتلألئة على جانبيه كأنها كواكب ثابتة في ذلك الفضاء، فمضى يمشي الهوينى حتى وصل إلى الجزيرة ودخل شارعها المظلل بالأشجار فمشى فيه، ثم عرج إلى منعطف نحو الشاطئ فسمع قرقعة عربة مارة في الشارع، ثم رآها وقفت، فتربص ليرى ما يكون من أمرها، فإذا بشخص ينزل منها ويمشي في منعطف بالقرب من النخلة التي اختفى هو خلفها حتى بلغ النيل فوقف قليلا، ثم انحدر إلى أسفل الشاطئ وجلس على صخر هناك.
وتأمله حبيب فإذا به يشبه صديقه سليما، ثم تحقق أنه هو بعينه، فأشكل عليه أمره وعجب لمجيئه إلى هناك في ظلام الليل وقال في نفسه: «يحسن أن أمكث مختفيا لأرى ماذا جاء به إلى هنا.» ثم تذكر ما رآه فيه من ارتباك ذلك المساء فخاف أن يكون قد وقع في اليأس وأراد الانتحار غرقا في النيل، فمشى بضع خطوات بكل خفة حتى أصبح وراءه وجلس مختفيا وراء نخلة أخرى هناك ليرى ما يكون من أمره، وليسارع إلى إنقاذه إذا رآه يلقي بنفسه في النيل، وشكر الله على ما كان من تأخره عن اللحاق بالقطار إلى حلوان.
أما سليم فإنه جلس إلى الشاطئ مطرقا والماء جار أمامه والظلام مستول على تلك الجهة إلا ما يصل إليها من الأشعة البعيدة المنبعثة من أنوار الكوبري. وبعد قليل أخذ يتلفت يمنة ويسرة كأنه يحاذر أن يراه أحد، ثم تنفس الصعداء وقال متحرقا: «آه من حوادث الزمان، وآه من جهالتي وقلة تدبيري! آه يا سلمى يا حبيبتي ومنى فؤادي!»
ثم خنقته العبرات فأطلق لنفسه عنان البكاء حتى سمع حبيب صوت شهيقه فتفتت قلبه حزنا عليه وجاشت عواطفه حتى كاد يشاركه البكاء، لكنه أمسك ليرى ما يكون منه بعد ذلك فإذا به بعد البكاء والشهيق برهة عاد فقال: «أي سلمى حبيبتي! إني أحبك والله حبا لم أشعر بمثله لغيرك، ولم أكن أعلم أن الحب يملك القلب ويتسلط على العواطف إلى هذا الحد. آه ما أحلى الحب وما أمره!»
وعاد إلى البكاء حينا، ثم قال محدثا نفسه: «آه يا سليم! هل خطر ببالك أنك تصبح ألعوبة بيد الحب وأنت أنت الذي لم تكن تعبأ بحوادث الزمان ولا بأي أمر من الأمور؟ آه يا إلهي! ماذا أعمل لأتخلص من هذا التردد؟ أأترك سلمى؟ كلا والله لا أتركها ولا أتخلى عنها؛ لأنها تحبني وقد علقت آمالها على وعدي لها بالزواج، وهي ملاكي وحبيبتي ومنتهى أملي. لا لا، لا أتخلى عنها لأني لا أدري ماذا يلم بها إذا علمت بترددي في محبتها. لا لا، يجب ألا أتردد، إنها كعبة آمالي. روحي فداك يا سلمى، لعلك الآن راقدة في فراشك وقد كحل عينيك الكرى، فنامي هنيئا ولا تزعجك الأحلام!»
وكان حبيب يسمع أقواله كلمة كلمة ويتمعن فيها لعله يستطلع من خلالها سببا لهذه التأوهات.
ثم سمعه يقول وقد أمسك نفسه عن البكاء ومسح عينيه بمنديله: «ماذا جرى لي؟ لماذا أنا خائف؟ إني خائف على سري أن يباح ولكن من يذيعه وليس هنا غير النيل شاهدا؟»
ثم سكت وأخرج ورقة من جيبه وتأملها في الظلام، ثم تنهد وعاد إلى البكاء وقال: «نعم، لا أتركك يا سلمى، ولكن ماذا أفعل بوالدتي التي زهدت في الدنيا كلها من أجلي، ربتني بدموعها وسهدها، فأدخلتني المدارس وعلمتني، وأنفقت كل شيء في سبيلي ولم تدعني أتحمل ضيما، وهي إنما فعلت ذلك آملة أن أكرس حياتي لخدمتها، وإنها أهل لأكثر من ذلك فكيف أخالف أمرها أو أعقها؟ لا لا، يجب أن أكون طوع إرادتها لأن أيامها في هذه الدنيا معدودة. يجب أن أفعل كل ما تأمرني به!»
وسكت ثم عاد فقال: «لا لا، إن والدتي تريد أن أتخلى عن سلمى حبيبتي، وأنا لا أستطيع أن أترك سلمى ولو تركتني روحي أو تركتني والدتي الحنون. إن سلمى وضعت كل آمالها في فكيف أخيب أملها وأتركها تموت حسرة وأسفا؟ سامحك الله يا والدتي! لماذا بالغت في نهيي عن الاقتران بها؟ ولماذا هددتني بأن تتركيني إذا لم أترك سلمى؟ أصحيح أنك لن تعديني ولدا لك إذا أصررت على زواجها؟ ويلاه ماذا أفعل؟ ليس لي إلا إنهاء حياتي فأتخلص من هذا التردد وألقي نفسي في هذا النيل.»
فلما سمع حبيب كلامه، تحفز للحاق به وإمساكه عن الانتحار غرقا، لكنه ما لبث أن سمعه يقول: «لا لا، إذا قتلت نفسي فإني أكون قد قتلت والدتي وحبيبتي أيضا، فهما ولا شك ستموتان حسرة بعدي.»
ثم رآه ينهض ويتحول عائدا إلى العربة، فتقهقر حبيب مختبئا خلف النخلة حتى لا يراه سليم فيكدره ذلك لحرصه على إخفاء ما به عن الناس كافة، وكانت العربة في انتظار سليم عند أول الشارع فركبها وأمر السائق فحول الأعنة وعاد به إلى المدينة.
وهنا رجع حبيب من حيث أتى، وهو يعجب لذلك الاتفاق الذي كشف له عن سر صديقه، وقد رثى لحاله وشعر بمقدار القلق الذي يعانيه، ولم يكن يعلم أن مشكلته معقدة إلى هذا الحد.
ونظر إلى الساعة فإذا بالليل كاد أن ينتصف، فهرول مسرعا إلى المحطة خوفا من أن يفوته القطار، فأدركه قبل إقلاعه بقليل.
وفي طريق القطار به إلى حلوان، عاد فأخرج الخطاب الذي تسلمه من مكتب البريد وأخذ يتأمله ويكرر تلاوته محاولا حل رموزه وكشف معمياته، لكن محاولاته لم تزده إلا ارتباكا، ولم يستطع أن يعرف صاحبة الخطاب لأنه كان يتردد على بيوت كثيرة في القاهرة ويشاهد فتيات كثيرات، ولم يكن يخطر له أمر الحب مطلقا؛ ولذلك لم يكن ينتبه لحركات إحداهن لخلو ذهنه من ذلك. على أنه مع هذا ظل يستعرض في ذاكرته من كان يزورهن كثيرا من أولئك الفتيات، وتذكر واحدة منهن كان يسر لمشاهدتها للطفها ورقة جانبها وتواضعها، وكانت من أكثر الفتيات رقة وتهذيبا، ولم يلحظ منها مطلقا أنها ممن يملن إلى المغازلة بل كان يراها بعكس ذلك لا تتكلم إلا بحساب، ولا تأتي ما يشتم منه رائحة الطيش، فاستبعد أن تكون صاحبة الخطاب.
وقضى معظم الطريق في مثل هذه الهواجس حتى وصل القطار إلى محطة حلوان فطوى الخطاب ووضعه في جيبه ونزل قاصدا منزله فإذا بوالدته لا تزال في انتظاره وقد استبطأته، فلما قرع جرس البابا نادته باسمه فأجابها ففتحت الباب واستقبلته سائلة عن سبب تأخره، فلفق لها عذرا قبلته. ثم سأل عن أخته فقالت له إنها في الفراش منذ وقت قصير؛ لأن أسرة الخواجة سعيد جاءت لزيارتهم عند العصر، ولم تعد إلى القاهرة إلا في القطار الأخير الذي غادر حلوان منذ قليل.
فلما سمع اسم تلك الأسرة، خفق قلبه بشدة لم يعهدها قبل ذلك، وسأل والدته: «وكيف حال الخواجة سعيد وأسرته؟»
فقالت: «هم جميعا بخير، وقد تناولوا العشاء هنا وسألوا عنك كثيرا، وقبل أن يبرحونا بالقطار الأخير اتفقنا على أن نسير معا يوم الجمعة القادم إلى أهرام الجيزة للتنزه، على أن تذهب شقيقتك شفيقة معنا؛ لأن الآنسة أدما ابنة الخواجة سعيد طلبت ذلك، وأنت تعلم مقدار حبها لشفيقة وحب شفيقة لها.»
وما طرق أذنه اسم أدما، حتى اشتد خفقان قلبه، وحدثته نفسه بأنها هي لا سواها صاحبة الخطاب الذي تسلمه، وكان اسمها قد تردد في أذنه وهو في القطار، لكنه تجلد وتمالك عواطفه ريثما تنكشف له الحقيقة، وإن شعر منذ تلك الساعة بميل شديد إلى تلك الفتاة، وود لو تكون هي مرسلة الخطاب إليه. ثم ودع والدته وذهب كل منهما إلى فراشه. لكنه لم يستطع الرقاد لشدة هواجسه فبقي فيه حينا دون أن ينام، ثم نهض ومضى إلى خزانة كتبه فأخرج منها كتابا وعاد إلى فراشه ليتلهى بمطالعته. وشعرت به شقيقته وهو يمر بغرفتها فسألته عن سبب نهوضه من الفراش فقال: «جئت لآخذ رواية أطالع فيها ريثما أنام.»
قال ذلك ودخل إلى سريره والشمعة مضيئة على مائدة بجانبه، وأخذ يقرأ في الكتاب. لكن عواطفه كانت لا تسمح له بالمضي في القراءة، فكان يخرج الخطاب من جيبه بين آونة وأخرى ويعيد قراءته.
وقضى في ذلك معظم الليل حتى كاد يطلع الفجر، وإذا بوالدته داخلة غرفته وقد عجبت لسهره إلى تلك الساعة، فلما شعر بدخولها عليه أخفى الخطاب في الكتاب وأغلقه. ولما سألته عن سبب سهره زعم لها أنه مغتبط بمطالعة إحدى الروايات ولم يشأ أن ينام قبل أن يتمها، فصدقته ومضت لشأنها. أما هو فأخذ الكتاب ووضعه في الخزانة وأغلقها ثم عاد إلى فراشه وقد أنهكه السهر والتعب فنام إلى أن حانت ساعة خروجه إلى عمله، فنهض وتناول قليلا من الشاي، ثم مضى إلى عمله.
سليم وسلمى
عاد سليم في العربة من شاطئ النيل وعيناه مبتلتان بالدموع وقد أخذ منه القلق كل مأخذ، واشتدت به لوعة الغرام، وكان يظن أن أمره ما زال مجهولا من كل إنسان على أنه كان يشعر أن كتمانه حبه مضر بصحته وعقله، ويود من صميم قلبه أن يلقى صديقا يبث إليه شكواه تخفيفا للوعته.
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يؤسيك أو يتوجع
وكان يثق بصديقه حبيب كل الوثوق ولكن خشي مفاتحته بالأمر من تلقاء نفسه.
ولكن حبيبا كان من الرقة وحسن الذوق على جانب عظيم، فبقي رغم وقوفه على سر حب صديقه، لا يخاطبه بشيء في شأنه، ولا يسأله عنه؛ خوفا من أن يعد ذلك منه تطفلا أو فضولا.
وكان سليم مقيما بغرفة مفروشة في نزل بأحد شوارع القاهرة؛ لأنه كان وحيدا بها، ولم يأتها إلا منذ بضع سنين ليمارس مهنة المحاماة، ولما كان غير واثق بنجاحه فيها، آثر ألا يأتي بوالدته معه، وتركها مقيمة بمنزل أخيه المتزوج في مدينة الإسكندرية، على أن يأتي بها لتقيم معه متى استقر به المقام بالقاهرة.
واتفق له بعد مجيئه إلى القاهرة ببضعة أشهر، أن تعرف إلى سلمى خلال تردده إلى بيت أبيها، وهو من أبناء بلدته، فتعلق قلبه بها، واعتزم خطبتها لنفسه لما آنس فيها من الأدب والتهذيب والكمال. لكنه لم يخبر والدته بذلك أول الآمر، فلما أطلعها عليه بعد حين، فوجئ بعدم موافقتها على هذه الخطبة، وراجعها مرارا فلم تزدد إلا إباء. وأخيرا بعثت إليه بذلك الخطاب الذي تسلمه من مكتب البريد، مذكرة إياه بحقوقها عليه، مؤكدة أنها إن لم يعدل عن خطبة الفتاة فلن تعده ولدها، بل لن تبقى على قيد الحياة لأنها إن لم تمت حسرة وكمدا فستقتل نفسها لتستريح من شقائها بعقوقه ومخالفته إرادتها!
وكان رغم شدة تعلقه بسلمى، وإعجابه بخصالها، لا يريد أن يخالف والدته، فوقع في حيرة كادت تدفع به إلى وهدة اليأس والانتحار.
فلما عاد إلى غرفته أضاء الشمعة وبدل ثيابه، ثم جلس إلى مائدة بجانب سريره وأخرج كتاب والدته ليعيد قراءته، فلما نظر إليه عاد فطواه وأرجعه إلى جيبه خوفا من إثارة عواطفه، وأشعل سيجارة أخذ يدخنها وفكره مشغول بما هو فيه من الارتباك، وباضطراره إلى كتمان أمره عن خطيبته حتى لا تتكدر، وربما أدى بها الحزن إلى ما لا تحمد عقباه.
وما زال في هواجسه هذه حتى الصباح، فنهض إلى عمله كالعادة، وعند العصر ركب عربة مضى بها إلى دار سلمى ليمتع طرفه وسمعه برؤيتها وحديثها، وكان يرتاح لمجالستها وينسى وهو معها كل متاعبه ومشاغله.
وما كادت المركبة تقف به أمام البيت حتى سارعت سلمى إلى استقباله وقلبها يطفح سرورا ووجهها يشرق ابتساما، فلما دخل سلم على أهل البيت وقد أبرقت أسرته، ثم مد يده إلى سلمى مسلما وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث وكل منهما لا يرفع نظره عن وجه الآخر، وأهل المنزل فرحون بائتلاف قلبي الخطيبين وبما جمعه الله فيهما من صفات الكمال.
وقالت سلمى له بعد قليل: «أرجو أن تكون قد سررت أمس بمشاهدة الزينة في حديقة الأزبكية!»
فقال: «الواقع أني سررت بها كثيرا، ولكن سروري لم يتم لأني كنت أود لو أنك كنت معي لنشاهد تلك المناظر البديعة معا.»
فقالت: «إن ما يسرك يسرني، وقد كنت طول الوقت منشرحة الصدر لعلمي أن صدرك سينشرح ولا شك بتلك المناظر.»
قال: «بورك فيك يا عزيزتي، وإني لأحمد الله على أن رأيتكم جميعا في عافية. على أني كنت أود لو أن التقاليد لم تحل دون ذهابك معي فأزداد سرورا بمصاحبتك.»
قالت: «وماذا تعني بذلك؟»
قال: «أعني أن الناس لا يعلمون بما تم من أمر خطبتنا، فلو أنهم رأونا نتنزه معا لأدى ذلك إلى تقولهم علينا، مما لا أرضاه لك.»
فخجلت سلمى وأدركت أنه يشير إلى بقاء خطبتهما في طي الكتمان، ثم نظرت إليه نظرة كلها حب وحنان، وقد تضرجت وجنتاها خفرا وحياء وأطرقت ولم تتكلم.
فتبسم سليم، وقد ازداد إعجابا بجمال سلمى وكمالها، ثم وجه خطابه إلى والدتها قائلا: «أليس كذلك يا سيدتي؟»
فقالت: «إنك معدن اللطف والكمال يا ولدي، ولكن الناس أكثرهم لا يتورعون عن القال والقيل، ومن الحكمة ألا نتيح لهم الفرصة لذلك، وكل آت قريب.»
قال: «هذا هو اعتقادي أيضا، ولكنني أود أن نذهب للتنزه جميعا في مكان خارج المدينة بمعزل عن الرقباء وتكونين وحضرة العم معنا فنقضي يوما من الأيام الجميلة.»
قالت: «نحن لا نتأخر عن القيام بما فيه سرورك.»
قال: «إن سروري لا يتم إلا بسروركم جميعا.» ثم حول نظره إلى سلمى مستطلعا رأيها فقالت: «أنت تعلم ما يسرني، فاتفقوا فيما بينكم على الموعد الذي يعجبكم وأنا رهن مشيئتكم.»
قال: «سنعين المكان والزمان في فرصة أخرى.»
ثم أخذوا في أحاديث مختلفة، وفيما هم في ذلك سمعوا رنين جرس الدار، ثم دخل حبيب فقاموا جميعا للترحيب به، فسلم عليهم وجلس يشاركهم الحديث، ولما سألوه عن والدته وشقيقته قال: «هما في خير وتهديانكم أزكى السلام، وكان في عزمهما الحضور إلى القاهرة اليوم، ثم آثرتا تأجيل ذلك إلى يوم الجمعة المقبل، لتقضيا معكم بعض الوقت، ثم تتوجهان إلى بيت الخواجة سعيد؛ لأننا تواعدنا مع أسرته على زيارة الأهرام معا، ويا حبذا لو شاركتمونا هذه الزيارة!»
فقال سليم: «الحق أنها زيارة ممتعة، ولئن وافق عمي والأسرة على ذلك لنكونن جميعا من السعداء.»
فاستحسن الجميع ذلك الرأي، وتم الاتفاق على الذهاب إلى الأهرام صباح يوم الجمعة القادم، ثم أخذوا في أحاديث أخرى. •••
كان حبيب وحده من بين الحاضرين يعلم أمر خطبة سلمى لصديقه سليم، وقد كان في قلق عليه منذ وقف على حقيقة حاله مصادفة على ضفة النيل؛ ولذلك سارع بعد خروجه من الديوان إلى زيارته في غرفته بالفندق ليرى ما تم له، فلما لم يجده هناك وعلم أنه ذهب إلى بيت خطيبته، لحق به إليه.
وكان يتوقع أن يرى على وجه صديقه شيئا من علامات الاضطراب، واعتزم أن يعزيه ويسعى في تخفيف كربه، ولكنه شاهده على غير ما كان يتوقع وكأنه لم يكن في شيء مما كان بالأمس، فعجب لتأثير المحبة في قلوب المحبين، وكيف أنها مع ما يخالطها من الأكدار تكون أكبر تعزية لهم! وهكذا خف قلقه على صديقه، ولكنه بقي معتزما مفاتحته في الأمر في فرصة أخرى لعله يستطيع مساعدته بشيء.
ولما حان وقت العشاء نهض حبيب مستأذنا في الانصراف لكي يلحق القطار الذاهب إلى حلوان بعد قليل، فودعوه بمثل ما استقبلوه به من الإعزاز وخرج من هناك إلى المحطة رأسا، مؤجلا المرور ببيت الخواجة سعيد إلى فرصة أخرى.
أما سليم فبقي في بيت خطيبته إلى حوالي الساعة الحادية عشرة، وكانت الساعات تمر مسرعة كالسحاب دون أن يشعر بها لفرط سروره بمجالسة خطيبته واستئناسه بحديثها وإعجابه بكمالها، فضلا عما كانت عليه من الجمال وخفة الروح. ثم ودعهم وخرج وقلبه يود البقاء، ولم ينس قبل خروجه أن يضغط يدها وهو يصافحها مودعا، فضغطت يده بدورها متمنية له السلامة في الذهاب والإياب.
ولم يكد سليم يخرج من البيت حتى عادت إليه هواجسه وأخذ يفكر فيما هو فيه من الارتباك، فانقبض وجهه وقلبه، وما كاد يصل إلى غرفته حتى وجد بطاقة زيارة متروكة له باسم داود سليمان، فأخذه العجب لأنه لا يعرف أحدا بهذا الاسم، ثم دق جرسا أمامه داعيا الخادم، فلما جاءه سأله عمن أتى بتلك البطاقة، فقال: «إن صاحبها أتى لمقابلتك، فلما لم يجدك تركها على أن يعود صباح الغد.»
وبعد أن صرف سليم الخادم، جلس يكتب إلى والدته خطابا يرد به على خطابها، ولكنه كان مشتت الفكر لا يدري ماذا يكتب، فكتب سطرين ثم مزق الورقة وعاد فكتب سطرين آخرين ولم يعرف كيف يعبر عن أفكاره لشدة ارتباكه فمزق هذه الورقة أيضا وأطرق مفكرا وقد أخذ منه الارتباك مأخذا عظيما. وبقي كذلك حينا غير قصير، ثم نهض دون أن يكتب شيئا فبدل ثيابه وتمدد في سريره محاولا النوم. لكنه بقي مسهدا يتقلب في فراشه إلى أن طلع الفجر فغادر الفراش وارتدى ثيابه، ثم أخذ يشغل نفسه ببعض أوراق القضايا التي وكل فيها.
وفيما هو في ذلك طرق الخادم باب الغرفة ثم دخل وأنبأه بقدوم الزائر الذي ترك بطاقته بالأمس فأمره بالمجيء به.
ودخل عليه الزائر، فإذا هو كهل طويل القامة، أفطس الأنف، ضيق العينين، في فمه اعوجاج ملحوظ وأسنانه بارزة، فرد تحيته بمثلها ورحب به.
ولما استتب الجلوس بالزائر افتتح الحديث في الشأن الذي جاء من أجله فقال: «لقد جئت أمس لمقابلتكم فلم يسعدني الحظ بذلك إلا الآن.»
فقال سليم: «أهلا وسهلا، وإني ليسعدني أن أكون في خدمتك.»
قال: «أشكرك يا سيدي على هذا الفضل الكبير، ولكني أرجو أن تجيب لي قبل ذلك طلبا بسيطا.»
قال: «ما هو هذا الطلب؟» قال: «تقسم لتحفظن ما أقوله لك سرا مكتوما عن كل بشر.»
فتبسم سليم والتفت إليه قائلا: «إن في طلبك هذا إهانة لي وطعنا في كرامتي؛ إذ لا يخفى عليك أن المحامين مكلفون حفظ الأسرار التي يقفون عليها بحكم مهنتهم كما يحفظ الكهنة سر الاعتراف، فلا داعي لأن تكلفني مثل هذا القسم.»
فقال داود: «معاذ الله، إني لم أرد طعنا أو إهانة، وأنا أعلم طهارة ذمتك ولولا ذلك ما جئت إليك مستشيرا، ولكن الأمر الذي جئت فيه يتعلق بالأعراض؛ ولذلك طلبت إليك القسم زيادة في الحرص على هذه الأعراض.»
فقال سليم: «إن العادة لم تجر بمثل ذلك قبل الآن، ولكنني إكراما لخاطرك ولمن أشرت إليهم، أقسم لك بالذمة والشرف لأكتمن كل ما تقوله لي الآن.»
فشكره داود على ذلك وقرب كرسيه منه ثم أخذ يقص عليه قصته. •••
قال داود: «إني من أصحاب الأملاك الزراعية في مديرية الغربية، ولكن إقامتي بالقاهرة في شارع شبرا قرب منزل الخواجة سليمان.»
فلما سمع سليم ذلك خفق قلبه لأن الخواجة سليمان هو والد حبيبته سلمى، فأصغى إلى داود بكل جوارحه، وواصل هذا كلامه فقال: «وكنت منذ أربع سنوات أتردد إلى بيت جاري المشار إليه ونتبادل الزيارات فيما بيننا كعادة الجيران في بلادنا، وكان له ابنة اسمها سلمى ...»
فاشتد خفقان قلب سليم، وازداد اشتياقا إلى استطلاع الحكاية فأنصت لسماع تتمة الحديث، ومضى داود فقال: «وقد آنست في تلك الفتاة لطفا وتهذيبا قل مثالهما كما رأيت منها ميلا إلي، وكنت أستأنس بها كثيرا حتى علقتها ومال قلبي إليها.»
وهنا كاد قلب سليم أن يقفز من بين ضلوعه، وشبت نار الغيرة فيه، لكنه أمسك عن إظهار عواطفه ليقف على نهاية القصة.
فقال داود: «فلما رأيتها تحبني وتظهر لي الميل الشديد تلميحا وتصريحا، ورأيت أباها يلاطفني ويكثر من دعوتي إلى زيارتهم، لاح لي أن أخطبها منه، وبقي هذا الأمر يتردد في فكري زمنا طويلا خوفا من أن يكون في الأمر دسيسة أو خديعة، ولكن الحب أعمى بصيرتي فصممت على خطبتها منه وفاتحته في الأمر، فرأيت منه ميلا شديدا إلي، وقال لي: «إن سلمى تكن لك أضعاف هذا الميل.» فازددت تعلقا بالفتاة وصرت أكثر من التردد إلى البيت، وكنت أحيانا أخلو إلى الفتاة ونظل الساعة والساعتين نتبادل عواطف الحب، ولم أكن أرى منها إلا حبا وهياما وطالما صرحت لي بأنها لم يعلق قلبها بسواي إلى غير ذلك من عبارات المحبة.»
فلم يتمالك سليم عند ذلك عن الانتفاض من شدة التأثر، وعلا وجهه الاحمرار وأحس كأن نارا تتقد في جسمه غيرة وحنقا، لكنه تجلد حتى يسمع بقية الحديث، مكتفيا بإظهار عنايته بتتبعه.
فقال داود: «ولا أكتمك أني وصلت في حب هذه الفتاة إلى درجة أن صورتها لم تكن تفارق ناظري ليلا ولا نهارا، وظننت نفسي قد بلغت نهاية السعادة بالحصول عليها. على أني لم أخطبها رسميا لأن أباها العجوز - سامحه الله - قال لي: «إن الخطبة لا بأس من تأخيرها.» ثم طلب مني بعض المال على سبيل القرض، لاحتياجه إليه في دعوى مقامة عليه، لا أعلم ما هي وربما كانت مثل الدعوى التي أرجو أن أستطيع رفعها ضده بمساعدتك، فنقدته مائة جنيه. ونظرا إلى ثقتي به لم أكلفه كتابة صك بها، وقد كنت أحسبه أشرف رجل على وجه هذه البسيطة كما كنت أحسب ابنته أطهر فتاة رأتها عيني. ولكني اضطررت بعد ذلك إلى العدول عن خطبة الفتاة لسبب أخجل أن أذكره.»
فاشتعل قلب سليم غيرة وحنقا، ولم يتمالك عن النهوض عن الكرسي بغتة لشدة الانفعال، لكنه عاد إلى عقله وخاف الفضيحة فتظاهر بأنه يبحث عن علبة سجايره ثم تناولها ودفع إلى داود سيجارة منها، وأشعل لنفسه أخرى وجلس لسماع الحديث وهو يجاهد نفسه لإخفاء عواطفه.
ولم تخف حالته على داود، لكنه تجاهل وواصل كلامه فقال: «نعم، إنني أخجل من ذكر سبب عدولي عن خطبة الفتاة، ولا سيما أن الأمر يمس العرض.»
فقال سليم: «لا داعي للخجل، وقد أقسمت لأكتمن السر.»
فتردد قليلا، ثم قال: «ماذا أقول؟ يكفي أني دخلت يوما منزل الخواجة سليمان هذا دون أن أقرع الجرس، فلما دخلت غرفة الفتاة وجدتها جالسة بجانب شاب - كنت أعده صديقا للأسرة - في هيئة مريبة.»
وهنا يعجز القلم عن شرح حالة سليم عند سماعه ذلك الاتهام الموجه إلى حبيبته التي يعتقد فيها العفاف والطهر، فلم يستطع إمساك عبراته، وغادر الغرفة متظاهرا بأنه يريد حاجة خارجها، ثم عاد بعد أن مسح دموعه فجلس على كرسيه ساكتا مصغيا ولكن قلبه يتقد غيرة وحنقا.
وتجاهل داود ما لاحظه على سليم، وأخرج منديله فمسح به أنفه وشاربيه وعاد إلى إتمام حديثه فقال: «ولما رأيتها مع الشاب المشار إليه في تلك الخلوة المريبة، لم أتمالك عن الخروج حالا وقد اتقدت نار الغيرة في قلبي، ورجعت من حيث أتيت وبقيت مدة لا أزور ذلك البيت. على أني كنت أفكر دائما في أمر المائة جنيه التي اقترضها مني أبو الفتاة، وأخيرا لاح لي استشارة محام ماهر لرفع الدعوى على الرجل مطالبا إياه بأداء ذلك الدين. ثم رأيت أن أطالب الرجل أولا، فلما طالبته أخذ يماطلني ويعدني تارة بالدفع، ويسألني تارة عن سبب عدولي عن خطبة الفتاة فألفق له بعض الأعذار. وأخيرا كشفت له حقيقة ما وقفت عليه من أمر ابنته فقال لي: «إن ذلك الشاب صديق الأسرة كما تعلم، ولا شك في أنه هو الذي غرر بالفتاة مستغلا بساطتها، لكنه لم ينل منها شيئا.» ولما يئس من إقناعي، ورأى أني مصر على إرجاع مالي الذي أخذه، أنكر أنه اقترضه مني. فهل تظن أني إذا رفعت عليه دعوى أستطيع ربحها؟»
فقال سليم وقد أمسك عواطفه: «لا يخفى على فطنتك أن الدعاوى المالية لا تقوم إلا بالبينة، فهل عندك بينة أو شاهد يشهد بذلك؟»
فقال: «إني دفعت إليه المبلغ سرا دون أن يعلم أحد بذلك، ولكن الشاب الذي حدثتك الآن عن صلته بالفتاة، علم بالأمر خلال تردده إلى المنزل، على أني ما أظنه يقبل إثبات هذه الدعوى؛ لأنه كان السبب الأكبر بل هو السبب الوحيد لما حصل، وبناء عليه أقول إنه ليس لدي بينة أو شهود.»
فاشتغل بال سليم بذلك الشاب وأحب معرفة اسمه فقال: «هل تعرف ذلك الشاب الذي أشرت إليه؟»
قال: «هو شاب لا أراه في القاهرة الآن إلا يسيرا، واسمه حبيب.»
فاضطرب سليم عند سماعه اسم صديقه بعد أن سمع ما قيل عنه وعن سلمى، لكنه تجاهل وأجاب متظاهرا بأنه غير مكترث قائلا: «إني أعرف هذا الشاب معرفة بسيطة، وإذا لم تستطع الحصول على شهادته لا أظنك تستفيد شيئا من رفع دعواك.»
فقال داود: «أما شهادته فأنا واثق بأني إن خاطبته في شأنها فلن يقبل أداءها، وربما ادعى أنه لم يرني قط ولا عرف شيئا عني، وعلى هذا أرى الأولى بي أن أترك عوضي على الله، وأكتفي بأني تخلصت من الشرك الذي كان منصوبا لي، وأشكر الله أني عرفت حقيقة الفتاة قبل العقد عليها، ولو كان ذلك بعد الاقتران بها لكانت المصيبة أعظم. والآن لا حاجة بي إلى أن أذكرك بقسمك، لكي تكتم حديثنا هذا عن كل إنسان كما وعدت وتعتبر أني لم أقابلك الآن ولا خاطبتك في شيء.»
ثم نهض مودعا شاكرا لسليم حسن مشورته، وأراد أن ينقده أجر هذه المشورة فلم يقبل سليم، فخرج مكررا الشكر، وترك سليما على مثل الجمر.
وما كاد ينصرف حتى أغلق سليم باب الغرفة وجلس يناجي نفسه وقد أخذ منه الغيظ كل مأخذ، فقال: «أهذه حقيقتك يا سلمى؟ أين عفافك وأنفتك؟ بل أين تهذيبك وأدبك؟ أفي يقظة أنا أم في حلم؟ لا لا، لا أصدق ذلك عنك. ولكن كيف أتهم الرجل بالافتراء، وما الذي يحمله على الكذب أو الإيقاع بيننا وهو لا يعرف عني شيئا، وإنما قاده الاتفاق إلي؟ وما أعجب هذا الاتفاق الذي كشف لي أمورا كنت عنها غافلا!»
ثم سكت حائرا لا يدري بم يفسر تلك الحكاية، وأخيرا نهض بغتة وقد اتقدت الغيرة في بدنه كالجمر وقال: «آه منك أيضا يا حبيب، آه من قلب الإنسان ما أفسده! أتحب سلمى وتحبك، ثم تظهران لي بمظهر الإخلاص؟ آه من هذا الزمان! الآن عرفت صدق مقال والدتي، وإنها والله لأصدق مني مقالا وأوسع اختبارا.» قال ذلك وأخرج كتاب والدته من جيبه وأخذ يقرؤه حتى وصل إلى قولها فيه:
لا تغتر يا ولدي بمظاهر البنات فإنهن أقدر البشر على المداهنة والنفاق، وقد يظهرن العفاف وهن بعيدات عنه، ويبدين الإخلاص وهن أروغ من الثعلب. وفضلا عن ذلك فإن الفتاة التي علقتها ليست ممن يليق بك الالتفات إليهن، وقد سمعنا عنها ممن عرفوها هنا أنها قد نصبت مثل هذه الشراك لسواك وأخفقت سعيا وخابت آمالها ويكفيني التلميح عن التصريح.
فلما قرأ هذه العبارة، أخذ يلعن الساعة التي عرف فيها ذلك البيت؛ لأنه لم يعد يعرف الراحة منذ عرفه . وحدثته نفسه بأن يتخلى عن سلمى قبل عقد الخطبة، ولكن نار الحب ثارت في قلبه كأنها تكذب ما بلغه فقال: «لا لا يا سلمى، أنت والله حبيبتي ومنتهى أملي، وقد وهبتك هذا القلب وملكتك نفسي حتى استوليت على كل عواطفي، ولم ألق منك منذ عرفتك إلا كل جميل، فلا أنثني عن حبك ولا أظن بك سوءا. ولكن ما هذه الحكاية التي سمعتها الآن؟ أهي محض اختلاق؟ كلا فقد علمت بها اتفاقا، ولو كان بيني وبين راويها علاقة أو معرفة لاتهمته بالافتراء والكذب وقلت إنه واش يريد فصم ما بيننا من علائق المحبة. أتحبين حبيبا كل هذه المحبة وتقولين إنك تحبينه من أجل صداقته لي؟ تبا لك وله! ولكن ... ولكن حبيبا صديقي وقد عرفته منذ نعومة أظفاره ولم أر فيه إلا إخلاصا وغيرة، ولكن ... ولكن النفس أمارة بالسوء وعين الحب عمياء، فلا بد لي من التجلد والصبر، ثم ملاحظتكما ومراقبة خطواتكما وحركاتكما، فإذا تحقق لدي ما سمعته الآن ... آه آه من الحب ما أمره وما أحلاه! لا لا، بل هو مر علقم وقد صدق من قال: «إن سوء الظن من حسن الفطن»، فلو أني لم أفتح قلبي لك وأضع ثقتي فيك ما عميت عن حقيقة حالك وحال ذلك الشاب الذي خدعني بصداقته سنين. ولكن مهلا سوف تريان وأرى، وكل آت قريب!»
ثم نهض وهو في أشد الانفعال، وخرج لا يلوي على شيء. وفيما هو في الطريق نظر إلى ساعته فإذا الساعة الحادية عشرة، ففطن لميعاد المرافعة في مجلس الاستئناف. وكان عليه أن يذهب للمرافعة في دعوى وكل فيها عن بعض الناس، ولكنه رأى أنه لا يستطيع ذلك وهو في مثل ذلك الانفعال، فسار وهو لا يدري إلى أين يذهب، فقاده الاتفاق إلى حديقة الأزبكية فدخلها وجلس على مقعد بإزاء البركة. وكانت الحديقة في ذلك الحين هادئة لخلوها من الناس، فأخذ يجول بأفكاره فيما سمعه في صباح ذلك اليوم وهو يكاد ألا يصدق أنه سمعه في اليقظة لغرابته وبعده من اعتقاده السابق .
ولبث في حيرة تتقاذفه الهواجس وتتلاعب به الظنون، وهو تارة ينقم على سلمى وسوء طويتها، وطورا يكذب ما سمعه عنها ويجلها عن مثل تلك الدناءة.
خلوة مريبة
عاد حبيب إلى حلوان وهو يفكر في الخطاب الذي تسلمه ويردد في ذاكرته سوابق زياراته بيت الخواجة سعيد وما كان يلحظه في أدما من الحركات والإشارات حتى كادت تنجلي له الحقيقة، وترجح لديه أنها هي التي بعثت إليه الخطاب، فاعتزم أن يستطلع ذلك ويتحققه يوم ذهابهم جميعا للتنزه في منطقة الأهرام.
وأمضى حبيب ليلته يفكر في ذلك، دون أن يزور الكرى عينيه. وكانت نفسه تحدثه بأن يتعجل استطلاع الأمر فيذهب في الغد إلى بيت الخواجة سليمان، في موعد لا يكون فيه سليم ولا أحد غير سلمى هناك - وكان لكثرة تردده إلى ذلك البيت، ولما بينه وبين الأسرة من علائق المودة الخالصة لا يستنكف أن يزوره في أية ساعة - وهناك يجاذب سلمى أطراف الحديث على انفراد، لعله يعلم منها شيئا عن أدما يحقق ظنه.
وفي صباح اليوم التالي بكر بالخروج إلى مقر عمله على عادته، وبقي هناك حتى الساعة الحادية عشرة، ثم توجه إلى منزل الخواجة سليمان، فلم يجد فيه غير سلمى ووالدتها، فرحبا به، واستغربا مجيئه في تلك الساعة، غير أن اللياقة لم تسمح لهما بإظهار ذلك الاستغراب، ثم جلسوا جميعا في قاعة الاستقبال وسلمى وأمها بثياب المنزل، دون أن تستنكفا ذلك، لما بين حبيب والأسرة من صداقة ترفع التكليف.
وشعر حبيب عقب جلوسه باستغرابهما مجيئه في تلك الساعة، فأفهمهما أنه ذهب لمقابلة الخواجة سعيد للتفاهم معه على خطة الذهاب إلى الأهرام وإعداد ما يحتاجون إليه في تلك الرحلة، فلما لم يجده في منزله، رأى أن يزورهم لذلك السبب نفسه، فاقتنعتا بذلك، وأخذ ثلاثتهم يتداولون في أمر الرحلة.
وبعد قليل تركتهما والدة سلمى معتذرة بأن الطعام على النار وأنها لا تثق بالطباخ في إصلاحه، فقبل حبيب عذرها وقد سر جدا منه. وما كادت تنصرف حتى عاد إلى الحديث مع سلمى في شأن زيارة الأهرام، ثم تطرق من ذلك إلى حديث أدما فقال: «إني أنتظر صباح الغد بفروغ صبر حتى نذهب في موعدنا هذا؛ وذلك لأني أحب الذهاب إلى تلك الجهة لجودة هوائها وحسن موقعها، ومما يضاعف سروري أن شقيقتي شفيقة أكثر مني تشوقا لهذه الرحلة، ولا سيما بعد أن علمت بأنكم ذاهبون معنا أيضا، وكذلك أسرة الخواجة سعيد، وهي لم تر الآنسة أدما منذ وقت طويل.»
فقالت سلمى: «إن الآنسة شفيقة خليقة بكل محبة وإجلال، ونحن جميعا نحبها ونجلها للطفها وتعقلها. ولكن لا شك في أن الآنسة أدما أكثرنا انعطافا نحوها، وهي لا تفتر عن ذكرها وامتداحها.»
فقال: «لقد لاحظت مثل هذا الانعطاف من شقيقتي نحو الآنسة أدما، وكثيرا ما ذكرتها بالمدح والثناء والإعجاب بحسن خصالها.»
فقالت: «الحق أن الآنسة أدما من أحسن البنات تهذبا وأدبا ولطفا، كما أنها على جانب عظيم من العلم والمعرفة.»
فقال حبيب وقد خفق قلبه وعلا وجهه الاحمرار: «وأين تعلمت كل هذا؟»
قالت: «تعلمته في مدارس بيروت، كما تعلمت فن التصوير وأتقنت الخط.»
فقال: «أتقنت الخط؟ هذا عجيب لأن الفتيات قلما يتقن الخط لقلة استعمالهن الكتابة!»
قالت: «الواقع أن خط الآنسة أدما جميل جدا، وإذا شئت فإني أطلعك على خطها في رسالة بعثت بها إلي منذ بضع سنين.»
قال وقد استبشر بالفوز: «لا أريد أن أثقل عليك بتكليفك البحث عن هذه الرسالة الآن.»
فنهضت قائلة: «لا ثقلة علي في ذلك.» ثم مضت إلى غرفتها وجاءته بتلك الرسالة وجلست بجانبه لتريه جمال خط أدما، ثم قالت له وهي تضحك: «أخشى أن تسخر من العبارات التي تضمنها الخطاب، ولكننا كنا ما زلنا أطفالا حينذاك.»
فقال: «العفو يا آنسة.»
وفيما هما في ذلك فوجئا بدخول سليم عليهما، فبغتا وبدا الخجل في وجهيهما، مع أنهما لم يكونا في حالة توجب الخجل ولكنهما لم يكونا ينتظران مجيئه في تلك الساعة.
وكان سليم قد مل الجلوس في الحديقة فحدثته نفسه بأن يزور خطيبته في تلك الساعة على غير المعتاد لعله يستطلع شيئا مما سمعه عنها، ودخل البيت دون أن يقرع الجرس فاتفق وصوله إلى قاعة الجلوس في اللحظة التي كانت سلمى فيها جالسة بجانب حبيب تريه خط أدما في رسالتها إليها، فرآهما ووجهاهما متقاربان، وهما ينظران في ورقة أمامهما ويضحكان، فلما رأى بغتتهما، تحقق صحة ما سمعه عن علاقتهما من داود، ولا سيما أن زيارة حبيب للمنزل كانت في وقت غير عادي، وأن سلمى كانت بثياب البيت.
ولا حاجة بنا إلى شرح عواطفه عند مشاهدته سلمى وحبيبا في تلك الحال، فازداد وجهه انقباضا وحدثته نفسه بأن يوبخهما ولكنه أمسك وتجلد، إما خجلا وإما تعقلا، لكنه لم يستطع إخفاء عواطفه.
أما سلمى فإنها لبراءتها لم يخامرها شك في اعتقاد حبيبها، فلما دخل الغرفة خفت لاستقباله مسلمة ومدت يدها إليه مصافحة، فلما لمست يده شعرت بارتعاشها وبأنها باردة كالثلج، ثم أخفت الرسالة خوفا من رغبته في استطلاع سبب وجودها معها وذلك ربما يغضب حبيبا.
وأما حبيب فحيا صديقه ببشاشة، لكنه لم يلق منه إلا إعراضا.
ثم جلس الجميع وسليم مقطب الوجه ممتقع اللون، فأدركت سلمى أن إخفاء الرسالة ربما أوجب سوء ظن سليم، فأخرجتها من جيبها ووجهت كلامها إليه وقالت ضاحكة: «إني ليضحكني تذكر أيام المدرسة يوم كنا نكتب مثل هذا الخطاب الذي كنت أطلع الخواجة حبيب عليه الآن، وهو من صديقتي الآنسة أدما كتبته منذ بضع سنين يوم كانت في المدرسة في بيروت، وكنا نتحدث عن جمال خطها فلم يصدق أنه جميل فأخرجته لأطلعه عليه.»
ثم دفعت الخطاب إلى سليم لكي يراه فمد يده وتناوله، ولم يكد ينظر إليه حتى أعاده إليها ببرود وهو يتكلف الابتسام.
فخجلت سلمى لهذه المعاملة المهينة، لكنها كظمت عواطفها وسألت سليما عن سبب اضطرابه، فقال: «إني متكدر من بعض الأمور الشخصية المتعلقة بالعمل.»
فقالت: «أرجو ألا يكون في ذلك ضرر عليك يا عزيزي.»
فأجابها وهو ينظر إلى نافذة القاعة قائلا: «لا ضرر هناك إن شاء الله.»
قال ذلك وهو يتردد بين عوامل الغيرة والكظم، فيهم بأن يظهر غضبه ثم يمسكه التعقل خشية سوء العاقبة.
فقال له حبيب وقد جاء بكرسيه إلى جانبه: «لا أراك الله مكروها يا عزيزي، ما لك منقبض النفس؟ ألا فرجت عنك وتركت المقادير تجري في أعنتها؟» وقد أراد بذلك أن يخفف عنه، ظنا منه أن انقباضه بسبب الخطاب الذي ورد إليه من والدته.
فأراد سليم أن يجيبه منتهرا ويوبخه، ثم تذكر ما بينهما من الصداقة القديمة وما للفتاة في قلبه من المحبة، وما يتجلى في وجهها من دلائل الوقار والهيبة والتعقل، فغلبت عليه طيبة قلبه، وأجاب حبيبا: «إني متكدر من أمر عرضي يتعلق بمهنتي، وليس فيه ما يوجب الخوف أو اليأس.» غير أن لهجته رغم ما حاوله من التلطف كانت تنم عما يعتمل في صدره.
فرأت سلمى أن عليها أن تعزي حبيبها وتواسيه، فدنت منه وأمسكت يده بيد كادت تذوب لطفا، ونظرت إليه بعينيها الجميلتين مبتسمة وقالت: «روحي فداك يا عزيزي، لا يغضبك أمر ولا تجعل للكدر بابا للتمكن منك فإنك تعلم أن الأعمال في هذه الدنيا تحتاج إلى التبصر والصبر، فلا تستعجل النجاح فلكل شيء وقته، ولا يخفى عليك أن الكدر يضعف الجسم.»
فوقعت هذه الكلمات في أذن سليم موقعا حسنا، وشعر بأنها ألقت عن صدره حملا ثقيلا من القلق والغيرة، وكان يحتاج وهو في تلك الحال من التردد إلى مثل هذه العبارة التي ساعدته في تخفيف غيظه وحملته على الصبر والتأني في حكمه على حبيبته وصديقه. ولما أمسكت يده شعر بمجرى كهربائي بارد تخلل أعضاءه فأخمد جانبا كبيرا مما كان متقدا فيها من نيران الانتقام والغيظ، فغلبت عليه الحكمة واعتزم إخفاء ما به والتربص ريثما يتحقق الأمر مرة ثانية وثالثة؛ لأن ما علمه حتى ذلك الوقت لم يكن كافيا لإصدار حكمه بإدانتهما، كما أن العواطف سريعة الحكم لا تصبر على العقل ريثما يتروى فتحمله على الانتقام من البريء لسرعة حكمها.
فنظر إليها مظهرا البشاشة وقال: «مهما أكن مثقلا بالهموم فإني أنساها عند مشاهدتك ومشاهدة عزيزي حبيب، ولكني كما قلت له مرة إذا تكدرت من أمر يصعب علي نسيانه حالا، فأتقدم إليكما أن تسبلا ذيل المعذرة على ما ظهر لكما مني الآن، فإن ذلك عن غير قصد مني وسببه ما ذكرت.»
فقال حبيب: «فليبتهج قلبك يا عزيزي ولا تحزن، إننا الآن نستعد للمسير إلى الأهرام غدا، وقد جئت الآن لهذه الغاية لكي نتفق على ميعاد نسير فيه معا. وتم الاتفاق على أن نبدأ الرحلة في الساعة السابعة صباحا. وسنعد ما نحتاج إليه من العربات ومعدات الطعام وما إليها؛ خشية أن يهمل الخدم في شيء من ذلك.»
ثم جاءت والدة سلمى فسلمت على سليم وأخذت ترحب به. وكانت قد سمعتهم يتحدثون عن رحلة الأهرام وإهمال الخدم فقالت: «قبح الله الخدم فإنهم لا يمكن الاتكال عليهم في أمر البيت، ولا بد لربته من المساعدة في جميع شئونه.»
فقالت سلمى: «الحق معك يا والدتي، ولكن خادمتنا سعيدة ماهرة، ولعل من الخير اصطحابها معنا في الرحلة.»
فقالت: «لا بأس من أخذها معنا.»
وفيما هم في الحديث جاء الخواجة سليمان، فجلسوا جميعا يتحادثون، ثم أراد حبيب وسليم الانصراف فدعوهم إلى البقاء لتناول الغداء. ثم وضعت المائدة وتناولوا الغداء معا وسليم لا يزال في شاغل داخلي بما تم له في ذلك اليوم، وقد عول على مراقبة حركات سلمى.
وبعد الغداء وشرب القهوة استأذن حبيب وسليم وخرجا، فمضى كل منهما في سبيله وهو في شاغل عظيم.
وكان حبيب قد رأى بين خط الكتاب الذي تسلمه وخط أدما مشابهة كبيرة جدا بحيث كاد يجزم بأنها صاحبة الخطين، لكنه صبر إلى الغد حيث يتقابلان في الأهرام ويستطلع أمرها بنفسه. وما زال سائرا حتى وصل إلى حلوان فأخبر والدته وشقيقته بموعد الذهاب إلى رحلة الأهرام.
وأما سليم فسار إلى غرفته، ثم غادرها إلى الحديقة حيث قضى فيها بقية النهار، ثم عاد في المساء إلى غرفته فجلس مفكرا فيما سمعه عن سلمى وأبيها من داود في الصباح، وعادت إليه هواجسه وانفعالاته، وأخذت تتقاذفه الأوهام، ثم تذكر كتاب والدته فأراد إخراجه من جيبه لكنه أمسك تجنبا لمضاعفة هواجسه. وبقي برهة يدخن ويفكر حتى غلبه التعب فذهب إلى فراشه. وقبل أن يروح في النوم تذكر أنه لم يعرف مكان داود حتى يجتمع به مرة أخرى ويستوضحه بعض الأمور، فأسف على ذلك واعتزم أن يغتنم أول فرصة يراه فيها ويسأله عن عنوانه.
في منطقة الأهرام
بكر الجميع في الصباح التالي إلى منزل الخواجة سليمان، ثم جاءوا بأربع عربات ركبوها إلى منطقة الأهرام وقد أعدوا كل ما يحتاجون إليه في نزهتهم.
وسارت بهم العربات حتى وصلوا إلى الجزيرة وكلهم فرحون بذلك الاجتماع ولا سيما حبيب؛ لأنه كان ينتظر ذلك اليوم بفروغ صبر. أما سليم فكان في العربة مع سلمى ووالديها وكل منهما يسترق النظر إلى الآخر ويحاذر كشف سريرته.
وكان ذلك النهار صافي الجو هادئا، فمرت العربات في طريق الأهرام المظللة بالأشجار تتناغى فوقها الأطيار، وعلى كل من جانبي الطريق بساتين يانعة تكسوها الأعشاب الخضراء، وتسرح فيها الماشية من البقر والجاموس يسوقها رعاة من الأحداث تكسو أجسادهم خرق بالية ولكنهم فرحون بما رزقهم الله من العيش السهل على ضفاف النيل الخصبة المرعى الرقيقة النسيم، وليس فيهم إلا من أنعشته نسمات الصباح فأخذ يغني كأنه يشارك الأطيار في تغريدها. أما الماشية فكانت تسرح وتمرح في مرعاها غافلة عن شواغل بني الإنسان.
كانت العربات تحمل قلوبا تتقد حبا يخامره في بعضها تردد، وفي بعضها الآخر تحسر أو ارتباك، والآباء والأمهات في غفلة عما شب في أفئدة أولادهم من العواطف، والطبيعة فوق كل ذلك تضحك من ضعف بني الإنسان وتستخف بما يستعظمونه لكثرة ما مر بها من الأجيال، وما شهدت من الأهوال حتى تساوى لديها الكبير والصغير والحب والبغض.
وما كادت العربات تدخل ذلك الطريق حتى لاحت لمن فيها أهرام الجيزة الكبرى من خلال الأشجار، قائمة كأنها جبال راسيات. واشتغلت بها أفكارهم وطارت إليها قلوبهم وقد خيل لهم لعظمها أنها منهم على أقرب من مرمى القوس، في حين أن بينهم وبينهما مسيرة ساعة أو تزيد.
وأخيرا وقفت العربات بهم عند مرتفع تعلوه الأهرام الثلاثة كأنها جبال منتظمة الهندام، فترجلوا جميعا ومشوا صعدا يطلبون الأهرام وعيونهم شاخصة إليها حتى شغلهم حينا من الزمان لم ينطق خلاله أحدهم ببنت شفة. ولما دنوا منها أشرفوا على تمثال أبي الهول القابع على مقربة منها كأنه الحارس الأمين.
وهرع لاستقبالهم هناك كثير من التراجمة والأدلاء في ملابس أهل البادية، وجعلوا يخاطبونهم بلسان أعجمي أرادوا به أن يكون اللغة الإنجليزية ولكنه كان مزيجا منها ومن الفرنسية. وكان هؤلاء لكثرة تردد الإفرنج إلى الأهرام يحسبون كل زائر لتلك المنطقة إفرنجيا، وقد رجح لديهم هذا الظن لما رأوا السيدات في الزي الإفرنجي، على أنهم ما لبثوا قليلا حتى علموا أن هؤلاء القادمين ليسوا من الأجانب؛ إذ سمعوهم يتكلمون باللغة العربية، فتقدم شيخهم وسألهم قائلا: «هل لكم في الصعود إلى قمة الهرم الكبير؟»
وهنا أعرب سليم عن رغبته في الصعود، فأوقفه حبيب محذرا إياه قائلا: «إني لا آمن عليك هذا الصعود، فإن في ذلك خطرا كبيرا، وكم من أناس خسروا حياتهم لتجرئهم على صعود الهرم، فزلت أقدامهم خلال ذلك.»
فلما سمعت سلمى ذلك اقشعر جسمها خوفا على حبيبها ونظرت إليه وفي ملامح وجهها ما ينم عن خوفها على حياته، فتأثر بتلك النظرة تأثرا شديدا، ولكنه تذكر حديث داود عنها، فانقبض قلبه وظهر ذلك على وجهه فحول نظره عنها مغضبا، فدنت هي منه تاركة والديها يذهبان إلى الجانب الآخر من الهرم ليتأملا ارتفاعه ومعهما الخواجة سعيد، ثم التفتت وراءها فإذا بحبيب واقفا إلى جانب أدما وأخته شفيقة يشرح لهما تاريخ بناء الهرم، وهما شاخصتان إليه مشغولتان بما يقول، فعلمت أن لا أحد يسمعهما إذا تكلمت فقالت لسليم: «ألا تخاف الصعود إلى قمة هذا الهرم، وهي على هذا الارتفاع الهائل؟» قالت ذلك وهي ترنو إليه وتلاحظ حركاته.
فقال: «لو كان ارتفاعه أضعاف ما هو عليه، ما خفت الصعود إلى قمته.»
قالت: «ولكنني أنا أخاف عليك.»
قال: «مم تخافين؟»
قالت: «لا أريد أن تعرض حياتك للخطر.»
فصمت ولم يبد جوابا، وكأنه كان يريد التكلم ويمنعه التردد، فعادت هي تقول: «لعلك لا تخاف علي إذا حاولت الصعود وربما تزل قدمي فلا أصل الأرض إلا جثة بلا روح؟»
فلما سمع ذلك منها اقشعر بدنه، وهاجت عاطفة الحب في قلبه، وتذكر ما كان بينهما من الإخلاص وغلبت عليه عواطفه فقال: «نعم أخاف عليك خوفا شديدا، لا من الصعود إلى قمة الهرم فقط، بل أخاف عليك حتى من هذا النسيم اللطيف، ومن عيون البشر فإنها أحد من السهام على قلبي!»
فعجبت لعبارته الأخيرة إذ لم تر لها محلا، ولاح لها أنها تخفي وراءها شيئا يكنه في ضميره ويود إخفاءه عليها، فبهتت وأخذت تفكر في ذلك ثم قالت متجاهلة: «إذا كنت تخاف علي إلى هذا الحد فكيف لا تشعر بأني أخاف عليك أيضا؟»
فازدادت في قلبه عوامل الغيرة والحنق، وضاق صدره بما يكتمه، فأخذ ينكت الأرض بعصاه متشاغلا ويداه ترتعشان، ووجهه يزداد انقباضا.
فابتدرته قائلة: «ما لك لا تجيب عن سؤالي كأني لا أستحق جوابا؟» قالت ذلك وهي ترنو إليه بعينيها كأنها تقول له: ما الذي تكتمه؟ ولماذا الكتمان؟
فنظر إليها شزرا وأراد التكلم فشرق بدموعه، فحول وجهه إلى السهل الرملي المحيط بالهرم إخفاء لما به.
وقالت سلمى لسليم: «ألا تخاف الصعود إلى قمة هذا الهرم؟»
فلحظت منه ذلك وتساقطت العبرات على خديها وقد امتقع لون وجهها، ثم مسحت دموعها بمنديلها من حيث لا يراها، ولكنه التفت إليها بغتة وقد هم بأن يبوح لها بما في قلبه، فلما رأى الدموع تترقرق في عينيها، أمسك. وبقي الاثنان لا يتكلمان كأنهما أصيبا بجمود وكل منهما يفكر في أمر يحاذر أن يطلع الآخر عليه وقد نسيا ما حولهما.
وفيما هما في ذلك إذا بمناد ينادي سلمى، فبغتا والتفتا إلى مصدر الصوت فإذا بأدما تنادي سلمى قائلة: «تعالي يا عزيزتي سلمى واسمعي ما يقوله حبيب أفندي!»
فمسحت سلمى دموعها دون أن يشعر بها أحد، والتفتت إلى صديقتها متظاهرة بخلو الذهن وقالت: «ماذا يقول يا عزيزتي؟»
وخطت نحوها وهي ما زالت تمسح عينيها بمنديلها متظاهرة بأن بعض الغبار تطاير إليهما حتى دمعتا، فانطلت حيلتها على أدما وقالت لها حين اقتربت منها: «يقول حبيب أفندي إن هذه الأهرام قد بنتها الأسرة الرابعة من ملوك الفراعنة من حوالي خمسة آلاف سنة!»
فقالت سلمى: «قد كنا الآن في مثل هذا الحديث وقال لي سليم: إن 12 ألفا من الناس عملوا في بنائها.» ثم نادت سليما وقالت له: «أليس كذلك؟»
وكان قد مسح عينيه وأخفى عواطفه، لكنه كان يود لو أنه بقي مع سلمى على انفراد حتى يبوح لها بما في فؤاده من الشك، فلما سمعها تناديه تقدم نحوها مضطرا وأجاب بقوله: «لا تعجبوا لما يقال لكم عن قدم هذه الأهرام، فإن أبا الهول الذي تشاهدون قفاه من هنا أقدم منها كثيرا، وهو من صنع الأسرة الثالثة الفرعونية.»
فتعجبت أدما من ذلك وقالت: «كنت أسمع أن في هذه الناحية مكانا قديما اسمه الكنيسة فأين هو؟ إني أود أن أراه.»
فقال حبيب: «هو إلى جانب أبي الهول.»
قالت: «هل هو كنيسة حقيقية؟»
قال: «لا، ولكنه هيكل من هياكل المصريين القدماء وإنما سمي كنيسة لأنه يشبه الكنائس من حيث كبره واتساعه.»
ثم أظهرت ميلا شديدا لمشاهدة أبي الهول والكنيسة، فقال لها حبيب: «ألا تتمهلين ريثما نشاهد هذا الهرم أولا ونستريح قليلا ثم نمضي إلى الكنيسة لمشاهدتها؟»
قالت: «أود مشاهدتها الآن، وأخشى أن يشتد الحر بعد قليل فلا أستطيع الذهاب إليها إلا بمشقة.»
فاقترح حبيب أن يسيروا جميعا إلى هناك، وبدا أنهم موافقون على ذلك، لكن سلمى قالت: «إني أعرف ذلك المكان وقد شاهدته مرة قبل هذه برفقة والدي.» وقد أرادت بذلك أن تعود إلى الاختلاء بسليم ليتما الحديث لأنها قلقت لما شاهدت منه.
فالتفت حبيب إلى شقيقته شفيقة وقال لها: «هيا بنا يا شفيقة إلى الكنيسة مع الآنسة أدما.»
وكان يود لو أن شقيقته لا ترافقهما لكي يخلو إلى أدما ويستطلع ما في قلبها، لكنه تذكر أن شقيقته ساذجة وأنه يستطيع التفاهم مع أدما بالرموز والأحاجي دون أن تفطن هي إلى ذلك ، ثم مضى معهما حتى أطلوا على أبي الهول من الخلف فإذا هو تمثال هائل يشبه أسدا رابضا ورأسه رأس إنسان، فداروا حوله حتى وقفوا أمام وجهه، فجعلت أدما وشفيقة تنظران إليه وتتعجبان لكبره وهوله، وقالت شفيقة لحبيب: «أخبرني يا أخي عن سر هذا التمثال الكبير، ولماذا جعلوا جسمه جسم أسد ورأسه رأس إنسان؟»
فقال: «جعلوه كذلك إشارة إلى اجتماع القوة والعقل؛ لأن الأسد مثال القوة، والإنسان مثال العقل.»
فقالت أدما: «ولكن كيف عرف المعاصرون أن القوم جعلوه كذلك لهذه الغاية؟»
فنظر إليها حبيب وقد اعتزم أن يستطلع خفايا قلبها وقال: «إنهم عرفوا ذلك بقراءة ما كتب عليه. هذا إلى أن الإنسان المتبصر لا تخفى عليه أن الطبيعة كلها رموز وأن لكل رمز معنى. والرجل العاقل يستطيع أن يعرف الغايات بالنظر إلى المقدمات. أم أنت تتصورين أن الإنسان العاقل يخفى عليه مثل هذا؟»
قال ذلك ونظر إلى وجهها فإذا هي ترنو إليه منتظرة إتمام حديثه وقد كاد الخجل يتجلى في وجهها عند سماعها قوله، لكنها تمالكت عواطفها، وواصل هو كلامه فقال: «ثم هبي أن الإنسان لم يتمكن من فك رموز الطبيعة بوساطة النظر إليها، فإن الكتابة لم تدع سرا مسدولا ولا أمرا مكتوما.»
قال هذا ونظر إليها بطرف عينه فإذا بها قد توردت وجنتاها خجلا وأطرقت متظاهرة بالتأمل فيما يقول.
فنظر إليها وقال: «ما رأيك يا آنسة أدما؟ أليس صحيحا ما أقوله؟»
فأجابت وقد أبرقت عيناها قائلة: «ماذا أقول؟ ليس لي إلا أن أوافق على ما ذكرته من أمر الكتابة وما تدل عليه.»
فأعجبته فطنتها وفهم من ردها أنها التي كتبت إليه ذلك الخطاب، ثم وجه خطابه إلى شقيقته قائلا: «أليس كذلك يا شفيقة؟»
فأجابت شفيقة ببساطة قائلة: «إن هذا التمثال مدهش حقا.»
فأدركت أدما أنه أراد لفت نظرها إلى بساطة شقيقته، حتى لا تتهيب وجودها معهما وتمضي في الحديث معه، فنظرت إليه مبتسمة وقد أسرع خفقان قلبها كأنها تقول له: «قد فهمت مرادك.»
ثم تحولوا عن التمثال وانحدروا درجات قليلة إلى الكنيسة، فإذا هي بناء خرب، لكن بقاياه تدل على عظمه، وأكثره مبني بأحجار الجرانيت الكبيرة، فلما وصلوا إلى باب الهيكل قالت له أدما: «إن هذا الهيكل متقن الصنعة من الخارج، فهل ترى هو كذلك من الداخل؟»
فأدرك مرادها وأجابها وقد هاجت عواطفه قائلا: «إن داخله أكثر إتقانا وإشراقا من خارجه، فإن الناظر إليه من الخارج يظنه خربا ولكن لو دخلت إليه ونظرت إلى داخله لرأيت ما يسرك وربما تفضلين البقاء فيه.»
فقالت وقلبها يزداد خفقانا: «هل يدخله أناس كثيرون؟»
قال: «أؤكد لك أنه لم يدخله أحد سواك قط ولن يدخله أبدا.»
قال ذلك مشيرا إلى قلبه، ولكن شقيقته لم تفطن إلى ذلك وحسبته يتحدث عن الهيكل فقالت: «كيف تقول إنه لم يدخله أحد قبلها ولا بعدها؟ لعله كان مغلقا، وسيغلق ثانية بعد أن ندخله الآن!»
فاستدرك قائلا: «أنا أقصد زيارته في هذا اليوم فقط؛ لأننا أتينا إلى هنا مبكرين فلم يأت أحد قبلنا لزيارته، وأكبر الظن ألا يأتي أحد بعدنا، أما والدانا فإنهم دخلوه قبلا ولا يدخلونه اليوم وكذلك الخواجة سليم والآنسة سلمى.» فاقتنعت شفيقة وسكتت، واستأنف هو وأدما حديثهما وقد تحقق كل منهما ما عند الآخر من العواطف المتبادلة. وكانت أدما أكثر من حبيب سرورا لأنها أحبته قبلما أحبها، وكانت تخشى أن ترى منه صدودا أو إعراضا. والواقع أنه كان يرتاح لمجالستها ويلتذ بحديثها لكنه لم يكن يفكر في الاقتران بها، ولا يشعر بشدة خفقان قلبها كلما جاء لزيارة أبيها، ولا بأن الحب تمكن من قلبها، وصار يزداد تمكنا يوما بعد يوم؛ إذ كانت لتعقلها وحسن بصرها بالعواقب تخفي ذلك جهدها، وتنتظر أن يبدأ هو بإظهار المحبة جريا على الغالب في مثل تلك الحال، فلما طال بها الانتظار، لم تعد تستطيع صبرا على هذا الكتمان، ولم تجد سبيلا أفضل من كتابة ذلك الخطاب وإرساله إليه دون توقيع، حتى إذا فازت بمرادها وتحققت أمانيها لم تعد تخشى التصريح له بما في قلبها، ولكنها لم تستطع ذلك لوجود شفيقة معهما فاكتفت بالتلميح.
وكذلك كان شأنه أيضا، فإنه لما تحقق ظنه وأيقن بأنها صاحبة الخطاب وبأنها تحبه إلى هذا الحد، مال إلى مكاشفتها أيضا، ولكنه اكتفى بأن أوضح لها بالرموز أن قلبه مكرس لأجلها وأنه لن ينظر إلى سواها، واعتبر نفسه بذلك قد ارتبط معها بعهود وثيقة، وأحس أنها أصبحت منذ تلك اللحظة خطيبة له.
وحالما تصور ذلك شعر بانقباض داخلي لم يعرف له سببا، ولكنه كان يلمح في ذلك الانقباض ظلاما من الندم؛ إذ تذكر حال صديقه سليم وما آل إليه تعجله في خطبة سلمى من غضب والدته.
لكنه عاد فقال لنفسه: «إن أدما تليق بي، ولا أظن أني أوفق إلى أحسن منها ولا سيما أن والدتي وشقيقتي يحبانها كثيرا.»
ثم خرجا من الهيكل صامتين وقلباهما يتكلمان، وشفيقة بينهما مشغولة بالنظر إلى ما حولها من الآثار العظيمة. وما لبثوا قليلا حتى وصلوا إلى الأهرام حيث كان بقية أفراد الرحلة ينتظرون هناك. •••
سر سليم وسلمى لبقائهما معا على انفراد، بعد ذهاب حبيب وشقيقته وأدما لمشاهدة الهيكل. وكانت سلمى أكثر سرورا بذلك لقلقها مما لاحظته على سليم من مظاهر الانقباض، وتشوقها إلى استطلاع سبب ذلك.
أما هو فكان لشدة تأثره يود نسيان ما يخالج ضميره من الشك في إخلاصها. ومع شدة رغبته في استطلاع حقيقة ما بلغه عنها كان كثير الميل لتكذيب ذلك وإجلالها عنه، مدفوعا بما تمكن في فؤاده من حبها واحترامها. على أن الغيرة كانت تدفعه إلى تحقق الأمر بنفسه. فلما خلا إليها نظر إليها نظرة تشف عما يتردد في قلبه ويتجاذبه من عوامل الحب والغيرة، فأجابته بنظرة تتخللها عواطف تتقد محبة رغم ما يسودها من القلق والاضطراب.
وأخيرا قال لها: «إلى أين ذهب حبيب وزميلتاه؟»
قالت: «ذهبوا إلى أبي الهول.»
فقال: «وكيف استطاع الذهاب الآن؟» فلم تفهم مراده وقالت: «وماذا يمنعه من الذهاب؟»
فأطرق ساكتا مترددا بين التصريح والكتمان، وداخلها الريب في سكوته، فعادت تسأله: «هل هناك ما كان يمنع ذهابه الآن؟»
فازداد ما عنده من الحيرة والتردد، وقال : «لا أدري.» فقالت: «ومن يدري إذن؟»
ونظرت إلى عينيه كأنما تبحث فيهما عما في ضميره، فلم يسعه إلا أن تنهد وقال: «أنت التي تعلمين.»
فبغتت وسكتت قليلا تفكر فيما ينطوي تحت هذه الكلمة، ثم قالت: «ماذا تعني؟»
قال: «لا أعني شيئا تجهلينه.»
فازدادت قلقا واضطرابا، وعلا وجهها الاحمرار ثم قالت: «أراك تخاطبني بالأحاجي والمعميات، أفصح عن مرادك.»
قال: «هل يخفى عليك فهم ما أريد إلى هذا الحد يا سلمى؟»
قالت: «لم أفهم شيئا، ولا أعلم ما يمنع حبيبا من الذهاب مع أدما وشقيقته لمشاهدة الهيكل! أم تقصد أن أدما غريبة عنه؟ ولكنه - حتى لو لم تكن شقيقته معهما - شاب مهذب عاقل كما تعلم، فليس هناك ما يوجب المظنة.»
فحمي غضب سليم حين سمع امتداحها حبيبا، واتقدت في قلبه نار الغيرة وقال: «صدقت إنه شاب مهذب وليس هناك ما يوجب أية مظنة.»
فازداد تعجبها وسكتت برهة تردد عبارته في ذهنها لعلها تجد لها معنى، فلما أعياها ذلك قالت له: «ماذا تريد يا سليم؟ إنني أستحلفك بحياة المحبة الطاهرة التي بيننا أن تفصح عن مرادك فقد نفد صبري.»
فرنا إليها بعينين تتقد فيهما نيران الغيرة رغم محاولته إخفاءها وقال: «بالله عليك لا تذكري المحبة الطاهرة، فهي شيء كان فيما مضى فقط.»
فازداد خفقان قلبها وامتقع لونها، ونظرت إليه وقد نفد صبرها فشرقت بدموعها حين أرادت التكلم، ولم يسعها إلا أن تسكت آخذة في البكاء.
فابتدرها بالكلام وقد كادت دموعها تطفئ نار غضبه قائلا: «كفى الآن يا سلمى، إني لا أعي ما أقول، ولا أستطيع أن أصرح بأكثر من ذلك، وعليك أنت أن تفهمي ما أعنيه!»
فهمت بالتكلم، ومدت يدها إليه وهي ترتجف فأمسكت يده ونظرت إليه باكية، ولكنه سرعان ما جذب يده من يدها نافرا، وابتدرها بالكلام قائلا: «لماذا تمدين يدك إلي؟ ألا تخافين رفضها؟»
قالت وقد علا بكاؤها: «ما هذا يا سليم؟ لماذا تخاطبني بمثل هذا الكلام؟ ما الذي جرى لك وماذا تضمر؟ إني أستحلفك بالمحبة أن تخبرني بحقيقة مرادك.»
فقال وقد اشتد غضبه: «أية محبة تعنين؟ دعي ذكر المحبة فقد كفى ما لحق بها!»
فلم تتمالك عواطفها، وشعرت بتخاذل قواها، فجلست على حجر هناك، وجعلت رأسها بين يديها وأخذت في البكاء والشهيق حتى كاد يغمى عليها.
فنزلت تلك العبرات على قلب سليم بردا وسلاما، وأخمدت ما كان متقدا في قلبه من نيران الغيرة والحنق، وعادت إليه عواطفه نحوها ناسيا ما سمعه عنها، وأمسك عما كان يريده من توبيخها وتعنيفها، وصار ينظر إليها نظره إلى ملاك طاهر، وقد ندم على ما فرط منه من الكلام، وهم بيدها فأمسكها وأنهضها، فابتلت يده بالدموع التي كانت تتساقط على خديها، ووقفت هي ساكتة تمسح عينيها بمنديلها الذي في يدها الأخرى.
فقال لها: «خففي عنك يا سلمى وكفي عن البكاء، فلست أطيق أن أراك باكية.»
فرفعت يدها عن عينيها ونظرت إليه بطرف قد كدرته الدموع فذبل وتكسرت أهدابه. فوقعت تلك النظرة في قلبه موقع السهم وهاجت فيه عاطفة الحب حتى ترقرقت الدموع في عينيه وقال: «عفوا يا عزيزتي، واعتبري ما حدث كأنه لم يكن، فإني ما أردت بما قلته إلا تجربة محبتك.»
فتنهدت سلمى تنهدا عميقا وقالت وهي غير واثقة بصدق ما يقول: «أما زلت في حاجة إلى تجربة محبتي لك؟ ألم تعلم بمكنونات قلبي من قبل؟ أما والله إنك لأول وآخر من طرق قلبي وأقام به. فهل عندك شك في ذلك يا سليم؟ آه ثم آه من قلوب الرجال ما أقساها!»
فلما سمع منها ذلك خفق قلبه؛ لأنه ذكره بحديث داود عنها، ولكن الحب كان قد تسلط على عواطفه فقال لها وقد وطد نفسه على حبها رغم كل شيء: «كوني كيف شئت وافعلي ما بدا لك، فإني قد ملكتك هذا القلب تصنعين به ما تريدين.»
فلم يعجبها ما تخلل عبارته من الشك في صدق محبتها وقالت له: «ألا تزال ترميني بنبال الكلام المموه يا سليم؟ قلت لك صرح بمرادك وأطلعني على حقيقة رأيك إذا كنت مرتابا في صدق طويتي أو داخلك شك في حبي لك.» قالت ذلك وتنهدت ثم انقطع كلامها وهي لا تقوى على الوقوف لشدة الانفعال، فحاولت الجلوس على ذلك الحجر فأمسكها بيدها وقال: «كلا يا سلمى، لست أشك في محبتك لي، ولا في محبتي لك، وإن قلبي لا يفتأ يحدثني بأنك تكنين لي مثل ما أكنه لك، فثقي بما أقول، ودعينا من هذا الحديث وهلم بنا لنلحق ببقية الجماعة فإنهم ولا شك قد استبطئونا، ولنقض بقية اليوم في التنزه والترفيه عن النفس، تاركين شكوى الغرام إلى فرصة أخرى.»
وانطلقا عائدين حتى أطلا على الفضاء الرملي المحيط بالأهرام، فإذا بحبيب قد عاد مع شقيقته وأدما، وجلس الجميع على أكمة من الحجارة كأنها أثر هرم صغير كان قائما هناك.
ولاحظت سلمى أن الخادمة جالسة القرفصاء بجانب الأهرام حيث كانا واقفين، وهى توقد نارا لإعداد الطعام الخفيف الذي جاءوا به معهم من القاهرة، فخشيت أن تكون الخادمة قد سمعت شيئا من حديثها مع سليم، ولكنها استبعدت ذلك، ومضت معه مظهرة الانبساط حتى وصلا إلى مجلس الجماعة فاستقبلوهما بالترحاب. وكانت والدتها تنظر إليهما وهما قادمان وتشكر الله على تآلف قلبيهما لعلمها أن المحبة الطاهرة من ألطف العواطف وأعودها بالفائدة على الأسرة والمجتمع.
وبعد قليل فرغت الخادمة من إعداد الطعام، فأكلوا جميعا، ثم أمضوا بقية الظهيرة يخطرون بين الأهرام وأبي الهول بين تنزه وحديث وكل منهم يغني على ليلاه.
وكان حبيب ينظر تارة إلى حبيبته أدما، وتارة إلى صديقه سليم وخطيبته سلمى، ويجول بأفكاره حينا فيما وفق إليه من تحقيق ظنه وحينا فيما عرفه من ارتباك صديقه سليم بسبب رسالة والدته وحنقها على الفتاة التي أحبها. وكان قد لحظ على وجهي سليم وسلمى آثار البكاء والاضطراب، لكنه تجاهل لعلمه أن تشاكي الغرام لا يخلو من مثل ذلك ولا سيما إذا خامره شيء من المصاعب والمعاكسات.
أما سليم فتجاهل ما سمعه عن علاقة سلمى بداود وحبيب، ووقر في ذهنه ألا صحة لذلك، ولا سيما بعدما ظهر له من صدق محبة سلمى له وشدة انفعالها ورقة عواطفها ولطيف عتابها.
وأما أدما فقد كان ذلك اليوم أسعد الأيام عندها، إذ تحققت آمالها وبلغت أمانيها، ولكنها ودت لو تتاح لها فرصة أخرى تخلو فيها إلى حبيب قلبها فتبثه لواعج حبها في صراحة حيث لا واش ولا رقيب.
وفي نحو الساعة الرابعة بعد الظهر، ركبوا العربات عائدين إلى القاهرة. ولما بلغوا باب اللوق عرج حبيب وشقيقته ووالدته إلى محطة حلوان، وواصلت المركبتان الأخريان سيرهما، بعد تبادل عبارات الوداع.
رسول السوء
كان داود الذي وشى بسلمى وحبيب إلى سليم رجلا دنيء الأصل، اكتسب ثروة كبيرة من تعويضات الإسكندرية زورا وبهتانا، فابتاع أرضا وبنى منزلا هناك، ثم جاء القاهرة وأقام بها دون عمل إلا التردد إلى أماكن اللهو. وكان إلى دناءة أصله فاسد الأخلاق شديد البخل رغم غناه، ولم يكن ليستنكف أن يبيع شرفه وذمته بدراهم معدودة.
وكان مقيما بالقرب من بيت الخواجة سليمان، وليس في قصته التي قصها على سليم شيء من الصدق إلا كونه كان مقيما هناك، فلم يكن يزورهم إلا قليلا، وكانوا يعاملونه معاملة الغريب كلما زارهم لاختلاف المشرب والتربية، ولم يزوروه قط. على أن نفسه الخبيثة كانت تحدثه بإمكان حصوله على سلمى بعد أن فتن بجمالها ولطفها، ولكنه لم يجرؤ على التصريح بشيء من ذلك، ولا سيما بعد أن لاحظ إخلاص سلمى لسليم، واحتقارها له هو وعدم اكتراثها له.
وكان يقيم بالقاهرة شتاء، ثم يعود إلى الإسكندرية فيقيم بمنزله في جهة محرم بك هناك.
واتفق ذات صيف وهو في الإسكندرية أن سكنت في المنزل المجاور لمنزله سيدة من أهل المدينة كانت على شاكلته من حيث دناءة الطبع وخسة النفس وسوء الخلق، فتوطدت العلاقات بينه وبينها، وكثر تردده لزيارتها، حتى تناقل أهل الحي أحاديث لا تسر عن وجود علاقة آثمة بينه وبين السيدة وردة جارته الجديدة.
وكانت وردة هذه قبل انتقالها إلى هذا المنزل تسكن منزلا في شارع المسلة قرب محطة الرمل، بجانب منزل فؤاد، شقيق سليم ولما كانت السيدة والدة فؤاد وسليم من أطيب الناس قلبا وأخلصهم طوية، فقد خدعتها مظاهر اللطف والرقة والغنى التي كانت تبدو على جارتها وأسرتها. وكان لوردة ابنة حسنة الخلقة بارعة الجمال تدعى «إميلي» تربت على يدي والدتها فاكتسبت منها الدهاء وسعة الحيلة والاستهتار. وتحدث أهل الإسكندرية بجمالها وخفتها وغناها، ولكنها لم تلق خاطبا حتى جاوزت الثلاثين من عمرها.
فلما تعرفت والدتها إلى والدة سليم، أخذت تظهر لها كل الميل وتبالغ في التقرب إليها، وكلما اجتمعت بها أكثرت من التحدث بجمال ابنتها إميلي وحسن تربيتها وكمالها، وكانت الفتاة بدورها تظهر الوداد والاحترام للسيدة والدة سليم.
واتفق في أثناء ذلك أن عاد سليم من أوروبا حيث كان قد توجه إليها لدراسة المحاماة، فأقام حينا بمنزل أخيه، وأعجبت به الفتاة ووالدتها كثيرا. أما هو فكان خلي الذهن من شواغل الحب لاهتمامه بأمر مستقبله واشتغاله بالمطالعة والتنقيب في الكتب.
على أن ذلك لم يمنع الفتاة وأمها من الاحتيال لإيقاعه في شباكهما، واستطاعت وردة إغراء والدته بمكرها ودهائها حتى حملتها على خطبة ابنتها له دون علمه، على أن تحببها إليه وتقنعه بأن يتزوج بها بعد حين.
ومضت وردة تكثر من تقديم الهدايا لوالدة سليم، وتبالغ هي وابنتها في إظهار الود والاحترام لها، حتى بعد سفر سليم إلى القاهرة وإقامته بها، وتعدانها بالسعادة الدائمة إذا تم اقتران سليم بإميلي.
أما فؤاد، شقيق سليم فكان مشغولا بمصالحه الخاصة، ولذلك لم يكن يتدخل في شئون والدته، ولا فيما دار بينها وبين وردة وابنتها من الحديث.
وكانت والدته لشدة إخلاصها لوردة لا تخفي عليها شيئا، فلما كتب إليها سليم من القاهرة بأنه أحب سلمى، واعتزم خطبتها تكدرت وذهبت بالكتاب إلى وردة وأطلعتها عليه، فأخذت هذه تقذف في حق سلمى مع أنها لا تعرف عنها شيئا وقالت لها: «إن الناس قلما يخلصون لأحد، وإن ولدك سليما يستحق فتاة تليق به، وسيان عندي تزوج ابنتي أم سواها، ولكني لا أرضى له مثل تلك الفتاة!»
ثم أشارت عليها بأن ترد على خطابه ذاكرة له أن العادة المتبعة تقضي بألا يتزوج الشاب وفق اختياره هو وحده ، وبأن عليه أن يترك أمر اختيار الزوجة لوالدته، ثم تحذره من المضي في صلته بسلمى.
ولم تكن أمه تعرف الكتابة، فكلفت وردة جارها داود أن يكتب ذلك الكتاب، فكتبه كما يشاء وبعث به إلى سليم.
ورد سليم على والدته بخطاب برهن فيه على صحة رأيه، وأخذ يمتدح سلمى وحسن خصالها، واستمرت المكاتبة بين سليم ووالدته حينا، وهو لا يزداد إلا ثباتا في الحب حتى كادت وردة أن تيأس من نيل مرامها، رغم ما دسته من الدسائس، ولفقته من الأقاصيص المختلفة.
فلما أعيتها الحيل خلت إلى شيطانها داود، واتفقت معه على أن يسعى لإفساد ما بين سليم وسلمى من العلاقات، على أن يكون له نصيب من «الدوطة».
فقال لها: «إني رهين إشارتك، وليس بيننا فرق فإن خدمتك واجبة علي.»
فقالت: «إن الأمر لا يخفى عليك، ولو لم أر في إميلي ميلا إليه ما أهمني أمره، ولا اضطررت إلى أن أحبه أنا أيضا مجاراة لها.»
ولاحظت في وجه داود انقباضا، لدى سماعه تصريحها بأنها تحب سليما، فتداركت الأمر، وتكلفت الضحك، ثم أمسكت يد داود وقالت له: «حذار أن تكون قد صدقت أني أحبه، فمهما يكن من الأمر، فإن حبي له لا يبلغ نقطة من بحر محبتي لك.»
فضحك داود فرحا، حتى غارت عيناه الصغيرتان وبرزت أسنانه السوداء، وكاد يستلقي على قفاه، ثم نظر إلى وردة وربت ظهرها قائلا: «بورك فيك يا عزيزتي، أنا أعلم ذلك جيدا، ولا شك عندي في صدق محبتك لي، وها أنا ذا إكراما لعينيك سأسعى جهدي في سبيل بلوغ الغاية التي تريدينها.»
فقالت له وهي تنظر إليه بعينيها نظرات الدلال: «هكذا تكون الشهامة والنخوة، وهكذا يكون المحبون، فامض إلى القاهرة ودبر الأمر بحكمتك وذكائك، وإني لفي انتظار ما يكون.»
فنهض داود واعدا بالتأهب للسفر فورا، فصافحته مودعة ووضعت في يده بضعة جنيهات قائلة: «هذه نفقات الطريق.» فقبض الجنيهات وخرج بها مسرورا.
ثم أغرت وردة والدة سليم صديقتها بكتابة خطاب إليه تخبره فيه بما يطابق الرسالة التي كلفت بها داود، فتأثرت والدته الطيبة القلب بإغرائها، وبعثت إليه بذلك الخطاب. •••
كانت لوردة خادمة قديمة عجوز اسمها سعيدة، تماثلها في المكر واللؤم والخسة، فدعتها وردة إليها بعد خروج داود من عندها، وأنقدتها جنيهين قائلة: «إن إخلاصك يستحق أكثر من هذه الهبة المتواضعة، ولكن الأيام بيننا.»
فعجبت العجوز لهذه العطية على غير انتظار، وعلمت لدهائها ومكرها أن سيدتها تريد منها أمرا، فهمت بيدها وقبلتها وقد انبسط وجهها، وأخذت تدعو لها بطول البقاء، وأن يتم الله نعمته عليها بتوفيق ابنتها إميلي إلى زوج يسعدها، فتنهدت وردة وقالت: «أنت تعلمين يا سعيدة أني ترملت منذ سنين وليس لي إلا هذه الفتاة.»
قالت: «نعم يا سيدتي، وأدعو الله أن يطيل عمركما، ويعوض صبركما خيرا.»
فقالت وردة: «إني زهدت الدنيا من أجلها، فهي تعزيتي الوحيدة في هذا العالم، ولا يخفى عليك ما هي عليه من الجمال واللطف والدلال، وقد خطبها كثيرون من خير شباب الإسكندرية، ولكنها لم ترض بأحد منهم، ولم أشأ أن أرغمها على القبول، وأخيرا رزقها الله بخطيب نال رضاها وإعجابها، فكانت فرحتي بذلك عظيمة. ولكن أولاد الحرام أغرو الشاب بحب فتاة أخرى في القاهرة، وعبثا حاولت والدته أن تنقذه من حب تلك الفتاة.»
فقالت سعيدة مغضبة: «لعنة الله عليها وعلى من أوقعوه في شراكها، ألم تعرفي شيئا عنها يا سيدتي؟»
قالت: «إنها تقطن في شارع شبرا بالقاهرة، واسمها سلمى، واسم أبيها الخواجة سليمان. ويبدو أنها وأهلها يشددون الخناق على سليم لكيلا يتركوا له فرصة للتروي والتفكير.»
فقالت سعيدة: «صدق من قال: أولاد الحرام لم يتركوا شيئا لأولاد الحلال، ولكن صبرا فسأعرف كيف أنقذه منهم بإذن الله، وسأسافر فورا إلى القاهرة ولن أرجع إلى الإسكندرية إلا وهو معي.»
قالت ذلك ومضت إلى غرفتها، فأخذت تعد ثيابها تأهبا للسفر، وتبعتها سيدتها لتودعها وأخذت توصيها بكتمان الأمر عن كل إنسان. وبعد أن أعدت سعيدة ما تحتاج إليه من الثياب في صرة، تناولت شيئا من الطعام ثم ودعت سيدتها وخرجت توا إلى المحطة فركبت القطار قاصدة إلى القاهرة، فوصلت إليها في المساء. وكانت تعرف طرقاتها لأنها ربيت فيها وخدمت في كثير من بيوتها، فقضت ليلتها في بيت بعض أقربائها، ثم بكرت في صباح اليوم التالي فارتدت ملاءتها وتبرقعت، وقصدت إلى بيت الخواجة سليمان في شارع شبرا، فاتفق وصولها إليها قبل ثلاثة أيام من رحلة الأهرام السالفة الذكر.
وقرعت الباب، ففتحته لها والدة سلمى بنفسها وسألتها عما تريد، فقالت: «إني امرأة مسكينة ليس لي من يعولني وقد طرقت أبواب الخدمة في المنازل بوساطة المخدمين فكانوا كلما خدمت في بيت يأخذون نصف أجري ظلما وعدوانا، وإلا عملوا على طردي من المنزل الذي أخدم فيه. وأخيرا اعتزمت أن أبحث بنفسي عن عمل أعيش منه، وما زلت أواصل البحث عن أسرة كريمة طيبة حتى دلني بعض أولاد الحلال على هذا البيت. وإني أحمد الله على أن وفقني إلى بيتكم؛ إذ يبدو لي أنك سيدة فاضلة كريمة. فإذا رأيت أن أكون خادمة عندك، فذلك ما أتمناه، وسترين مني ما يسرك بإذن الله.»
وكانت والدة سلمى قد عانت عذابا أليما بسبب الخدم والمخدمين، وكثيرا ما كانت تطلب من المخدم خادمة وتنقده أجره على ذلك مضاعفا، ولكنه لا يلبث بضعة أيام حتى يغري الخادمة بالخروج من عندها؛ لكي يلحقها بالخدمة في بيت آخر وينال أجرا جديدا، وهذه حالة يشكو منها أكثر أهل القاهرة، ولا سيما السيدات لاحتياجهن إلى الخدم. وكان في بيت الخواجة سليمان خادمة من هذا القبيل لا تكاد تحسن عملا من أعمال البيت؛ لهذا ما كادت والدة سلمى تسمع كلام سعيدة، مع ما عاينت فيها من الظواهر الحسنة حتى سرت بتلك الفرصة وهرولت إلى سلمى وأخبرتها بالأمر، فوافقتها على استخدامها بدلا من الخادمة القديمة، ولكنها قالت لها: «على أني أخشى أن تكون الخادمة الجديدة من المحتالات، وربما سرقت شيئا من البيت!»
فعادت أمها إلى سعيدة وسألتها عن اسمها، فلما نبأتها به قالت لها: «إن العادة جرت يا سعيدة بأن يأتي الخادمات بضمانة، فهل تستطيعين ذلك؟»
فتنهدت وقالت: «لقد صرحت لك يا سيدتي بما عانيته من المخدمين وضمانتهم، فلست أستطيع أن آتي بضمانة، ولكن عندي سوارا وقرطا ثمينين فاجعليهما عندك إلى أن تتحققي أمانتي.»
فاقتنعت بذلك، وألحقتها بخدمة البيت بدلا من الخادمة القديمة، فأخذت سعيدة تظهر من المهارة في الخدمة والنظافة ولطف الحديث ما جعلها موضع إعجاب سلمى ووالدتها، وحسبتا أنهما حصلتا على سعادة لم يحصل عليها أحد سواهما.
وكانت سعيدة تمتدح سلمى دائما، وتبالغ في التقرب إليها وإظهار التفاني في محبتها، فأحبتها سلمى وأشارت باصطحابها معهم في رحلة الأهرام.
أما داود فبارح الإسكندرية بالقطار السريع، وقضى معظم الطريق في إعداد القصة التي قصها على سليم، ثم عاد إلى الإسكندرية وفي ظنه أن قصته مع الخطاب الذي كتبته وردة إلى سليم على لسان والدته فيهما ما يكفي لعدوله عن حب سلمى.
وتربص الجميع هناك في انتظار رد سليم على خطاب والدته بعد مقابلة داود، فمضى أسبوع دون أن يصل إليهم أي شيء منه. على أن وردة كانت كبيرة الأمل في أن تنال بغيتها على يد سعيدة فلبثت تنتظر أخبارها على أحر من الجمر. •••
ركب حبيب القطار عائدا إلى حلوان مع والدته وشقيقته، وقد كان في متمناه ألا يفارق أدما، على أنه أشار إليها عند الوداع بما يدل على أنه فارقها مرغما، وسيلتقي بها عما قريب.
وكانت هي قد أحست عند وقوف العربات للوداع عند محطة حلوان، بأن قلبها سينتزع منها، ولكنها تعللت بقرب اللقاء لأن حبيبا تعود التردد على بيت أبيها من حين إلى حين.
وبقي حبيب في القطار صامتا سابحا في تيار من الهواجس التي لم يشعر من قبل بمثلها، لكنه رغم سروره بما تحققه من حب أدما، كان يشعر بانقباض داخلي لا يعرف له سببا.
ولاحظت والدته صمته وانقباضه فقالت له: «ما لي أراك صامتا يا حبيب بعد أن كنت مسرورا جدا في الأهرام، هل أنت متكدر من شيء؟»
فانتبه لنفسه بغتة وقال مبتسما: «لا يا والدتي ليس هناك ما يكدرني، بل أنا في غاية السرور من نزهة هذا اليوم، ولا أعلم لماذا يشعر الإنسان بعد مثل هذا السرور بالانقباض، ولعل هذا من قبيل رد الفعل، وعلى كل حال هذه ليست المرة الأولى التي شعرت فيها بمثل هذا الشعور، فإني كلما عدت من مجتمع سار أبقى مدة صامتا أراجع في مخيلتي ما شاهدته من المناظر وما سمعته من الأحاديث.»
فقالت شقيقته: «هذا صحيح، فأنا أيضا أشارك حبيبا في هذا الشعور، وها أنا ذا كنت صامتة مثله أفكر فيما سعدنا به اليوم في رحلتنا اللطيفة، خصوصا لوجودي مع صديقتي أدما.»
فلما سمع حبيب اسم أدما، خفق قلبه وعاد إلى هواجسه، فقالت والدته تخاطب شقيقته: «حقا يا شفيقة إن أدما عاقلة لطيفة قريبة من القلب كثيرا، وقد كنت تمدحينها أمامي كثيرا ولكنني عاينت منها فوق ما كنت أسمع.»
فسر حبيب لهذا الحديث، وأراد أن يستزيد من معرفة رأي والدته في أدما، فقال لها: «ألم تعرفيها قبل الآن يا أماه؟»
فقالت: «لا يا ولدي، ولكني كنت أسمع عنها مدحا كثيرا من شقيقتك منذ كانتا زميلتين في المدرسة في بيروت، وقد رأيتها قبل اليوم في زيارات سريعة لأسرتها. أما اليوم فقد قضينا معظم النهار معا فرأيت منها لطفا كثيرا وأدبا جما وأعجبني تهذيبها ولطف حديثها، كما سرني تعلقها بشفيقة وتعلق شفيقة بها.»
فقال: «إن أيام المدرسة تنمو فيها المحبة وتشتد.»
فقالت شفيقة: «صدقت يا أخي، ولكني أحببت أدما أكثر مما أحببت غيرها من رفيقاتي.»
فقال حبيب وقد ازداد سروره لمحبة والدته وشقيقته لأدما: «إنها حقا غاية في اللطف والتهذيب وجديرة بكل إعجاب وتقدير.»
وكانت والدته أثناء ذلك تفكر في خطبة أدما لحبيب، فأرادت أن تستطلع رأيه في ذلك ولكنها أمسكت عن ذلك لوجود ابنتها معهما على أن تنتهز فرصة أخرى لمخاطبته في هذا الشأن.
وهكذا انقطع الحديث حتى وصل القطار إلى حلوان.
كتاب من سلمى
بقي سليم في العربة حتى وصلت إلى بيت سلمى، فاستأذن في الانصراف، ولكن أبويها ألحا عليه في البقاء لتناول العشاء وقضاء بقية السهرة، ونظر إلى وجه سلمى فإذا هي تلتمس بقاءه أيضا فأطاع إشارة عينيها مذعنا، ودخل الجميع المنزل والخادمة سعيدة معهم. وبعد أن غسلوا وجوههم من آثار الغبار الذي تراكم عليها في الطريق، أخذت سعيدة معطف سليم لتنظفه من الغبار، ثم تظاهرت بأنها تبحث عن الفرشاة، ومضت بالمعطف إلى غرفة منعزلة، وهناك أخذت تفتش جيوبه، فعثرت في أحدها بورقة عرفت من لونها وهيئتها أنها هي التي كتبها داود إجابة لطلب سيدتها وردة وبعث بها إلى سليم على لسان والدته، فأخفتها في جيبها.
وجلس الجميع يتجاذبون أطراف الحديث بعد العشاء، وقد سرت سلمى بعودة البشر والملاطفة إلى وجه سليم، وكان قد وطن نفسه على التظاهر بالسرور أمامها، تاركا أمر المستقبل للأقدار.
وفي آخر السهرة انصرف سليم إلى الفندق الذي يسكنه، وبقي طول الطريق مستغرقا في التفكير، وما زال صوت سلمى يرن في أذنيه وهي تودعه وتنظر إليه في حب وحنان قائلة: «مع السلامة وإلى اللقاء قريبا.»
واشتدت به هواجسه إذ تصور المصاعب التي أحدقت به ولم يدر كيف يتخلص منها، وأشد تلك المصاعب حديث داود عن سلمى وحبيب، ثم تذكر رسائل والدته وما كتبته إليه أخيرا من إصرارها على تركه سلمى، وتصور مدى التضحيات التي قدمتها والدته في سبيل تربيته وتربية أخيه، فآثرت بقاءها أرملة بعد موت أبيهما؛ رغبة في راحتهما. وتذكر أنها طالما سهرت عليه وتعبت في سبيل إتمامه تعليمه، وأنها أصبحت أشد تعلقا به بعد زواج أخيه، ولا شيء يسليها عن ترملها وأحزانها إلا اهتمامها بمستقبله، وكيف أنها كانت تعد الدقائق والساعات لكي تزوجه وتفرح به وتقيم ببيته؛ لأنها كانت تؤثره على شقيقه لذكائه ولطفه. ثم نظر إلى ما هي فيه الآن وكيف أنها وقعت في وهدة اليأس من جراء مخالفته لها حتى أنها ربما تقضي أسى وحزنا ويكون هو السبب في كل ذلك.
فلما تصور هذه النهاية تحركت عواطفه واشتد الحزن حتى بكى وأخذ يناجي نفسه قائلا: «إن هذه المتاعب مصدرها سلمى، فتركها والتخلص منها ينقذني من جميع هذه الأحزان مرة واحدة، ولكن آه كيف أتركها وكيف أتخلى عنها وقد ارتبطنا معا برابطة المحبة، وقد وعدتها وعدا وثيقا بالاقتران، فماذا يكون من أمرها إذا أخلفت الوعد؟ بل كيف تفعل لو علمت أن هذا الأمر قد خطر ببالي؟! لا لا يا سليم ... لا أترك سلمى ويجب ألا أتركها لئلا أكون سببا لشقائي وشقائها! ولكنها تحب حبيبا، آه من هذا الحبيب! ولكن كيف يمكن أن تحبه وتخون عهدي؟»
ثم صمت برهة وعاد فقال: «أما إذا تحققت أنها تحبه فلا يتعب ضميري بتركها، لكن من يخبرني أنها تحبه أو لا تحبه ... ولكنني سمعت ذلك بأذني من رجل غريب لا أعرفه ولا يعرفني، وقد رأيتها بعيني جالسة إلى جانبه يضحكان وعلى وجهيهما آثار المحبة ولما رأياني داخلا بغتا وخجلا. أليس ذلك كافيا لإثبات ما سمعته عنها؟ إذن هي خائنة ... وإذا تركتها من يلومني؟ سلمى خائنة؟! لا لا ... سلمى لا تخون وكيف يمكن أن يكون ذلك الملاك خائنا؟ إنها ملاك طاهر نقي وقد عرفت ذلك باختبارها، إنها أطهر البشر، نعم إنها أطهر بنات جنسها ولا يمكن أن تعرف الخيانة والغدر.»
وفيما هو في هذه الهواجس وصل إلى باب المنزل وصعد إلى غرفته فدخلها وأضاء الشمعة وأشعل سيجارة وقد ذهب الرقاد من جفنه وضاق صدره، فأراد الجلوس ولكنه أحس كأن تلك الغرفة سجن مظلم، فانقبضت نفسه ولم يستطع الجلوس، فأخذ يذرع أرض الغرفة وهو سابح في هواجسه يردد تلك القصة في ذهنه، تارة يغضب وطورا يغار وتارة يحزن. فأخذت تتجاذبه جواذب الحب والغيرة والحزن والغيظ والحنق واليأس والحنو حتى ضاق ذرعا باحتمال ذلك، ولم يعد يستطيع البقاء في الغرفة فخرج منها، ونزل إلى الشارع للترويح عن نفسه فنادى مركبة ركب فيها وهو لا يدري إلى أين يريد الذهاب، فسارت العربة في شارع الفجالة وبعد أن مشت برهة سأله السائق عن الجهة التي يريدها فقال: «سر إلى العباسية.» فجرت المركبة وهو غافل عن كل شيء حوله، ولم يجذبه منظر الشارع المضيء بالغاز والأشجار تظلله وتحجب عنه ضوء القمر إذ كانت الليلة مقمرة؛ لأنه كان مشتغلا بسلمى وحبيب ووالدته عن كل شيء حوله. ولم ينتبه حتى وقفت المركبة إلى جانب المرصد، فتحول سليم منها إلى ذلك الفضاء الرملي الشاسع الأطراف يتخلله بناء المرصد من جهة وقشلاقات العباسية من جهة أخرى والسكون مستول على الفضاء، وضوء القمر يغمره والسماء نقية وليس فيها أثر للغيوم.
فمشى بين أشجار السنط المتفرقة على جوانب المرصد، محاولا التشاغل بالنظر إليها وإلى ما حوله من الفضاء الواسع، والسائق ينظر إليه ويعجب من انفراده هناك في منتصف الليل.
وأخيرا، جلس سليم على حجر وجده خلف شجرة هناك بحيث لا يراه السائق، وأخذ يتأمل حاله، ويفكر فيما أحدق به من الشواغل والعواطف المتضاربة، وتصور سلمى في تلك الساعة راقدة في فراشها وقد استغرقت في النوم فلا تدري شيئا عن اضطرابه وتردده، ثم تصور والدته وقد جلست حزينة، كئيبة باكية، فارتعدت فرائصه وتساقطت عبراته وأخذ في البكاء محاذرا أن يسمعه أحد، وكان لشدة اضطرابه يخيل إليه أن تلك الأشجار أشباح رقباء يرونه ويسمعون شهيقه. وما زال بين بكاء وخوف حتى أنهكه التعب فخارت قواه وذبلت أجفانه، فأسند رأسه إلى تلك الشجرة، وما لبث قليلا حتى أخذه النوم وهو على تلك الحال.
ورأى في منامه كأن سلمى قادمة إليه، ووجهها يفيض نورا، وعليها رداء أبيض ناصع تجرره وراءها، وهي باسمة الثغر، وعيناها السوداوان تنظران إليه في توسل وعتاب. ولما دنت منه جثت أمامه وقالت له والعبرات ملء عينيها: «سامحك الله يا سليم على إساءتك الظن بي، وإني والله لبريئة من تلك التهم، وما كان لي أن أدنس شرفي أو أخون عهدك بعد أن وقفت قلبي وعواطفي على حبك، فهلا أشفقت على هذا القلب الكسير الذي لم يعرف الحب لأحد سواك؟»
فاستيقظ بغتة وقد ارتعدت فرائصه وصاح قائلا: «سلمى حبيبتي سلمى، روحي وقلبي، لا عاش من ظن بك سوءا.»
ثم التفت حوله فإذا هو في قفر لا شيء أمامه إلا الأشجار الشائكة والخلاء الواسع، فندم على يقظته وود لو يعود النعاس إلى جفنيه فيرى حبيبته في ذلك الثوب الملائكي ويتمتع بطلعتها الباهرة، ولكنه لم يستطع فعاد إلى البكاء وأخذ يناجي نفسه قائلا: «إن خيالك يا حبيبتي أصدق شاهد على إخلاصك، وبياض ردائك دليل على نقاوة ذلك القلب الذي ما عرفت فيه إلا الطهارة والنقاء. قبح الله ذلك الواشي قبيح الوجه، إن وجهه لدليل على ما في قلبه من السوء، وما أنت إلا طاهرة لا عيب فيك. آه لو كنت تعودين إلي فأتزود منك نظرة ثانية! إني ثابت في حبك ثبات الجبال الراسيات.»
ومرت بذهنه صورة والدته ورسائلها، لكن حبه لسلمى طغى على ما عداه. ثم نهض ومضى إلى حيث كانت العربة في انتظاره، وقد أخذ منه برد الليل كل مأخذ، فأحس بالتعب وخشي أن يكون قد أصيب بمرض، ولكنه عاد فود لو يكون مرضه حقا فيشغله عن تلك الهواجس.
ومضت به المركبة عائدة إلى القاهرة وهو يفكر في ذلك، فتصور أنه أصيب بمرض عضال، وأنه اشتد عليه حتى قارب الوفاة، فأجفل وقال يحدث نفسه: «لا، لا أريد الموت الآن حتى لا أكون سببا لشقاء سلمى.»
ثم رجع إلى صوابه فرأى أنه أصبح عبدا لعواطفه ولم يترك لعقله فرصة للعمل، فقال مناجيا نفسه: «ما هذا يا سليم؟ خذ الأمر بالصبر، وتدبر الأمور بالحكمة! نعم يجب أن أصبر:
وأصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمر من الصبر!»
ولاح له أن يكاشف أحد أصدقائه بأمره، ولكنه حار ولم يدر أيهم يكاشف؟ وتذكر أن مصدر شقائه كان هو حبيب أعز أصدقائه فتأوه وعادت الدموع تنهمر من عينيه، لكنه تجلد وقال: «من أدراني أنه كما بلغني عنه ذلك الشيطان؟ أعوذ بالله من شر كل شيطان!»
وما زالت المركبة ماضية به حتى بلغت الفندق فنزل منها، ودفع للسائق أجرته، ثم صعد إلى غرفته ودخلها وقد أخذ التعب والبرد منه مأخذا عظيما فبدل ثيابه ونام. •••
استيقظ سليم في صباح اليوم التالي على قرع باب غرفته، فنهض وفتح الباب فإذا بخادم الفندق يحمل إليه كتابا ليس عليه خاتم البريد قائلا: «جاءت بهذا الخطاب لك منذ ساعة امرأة عجوز، وقد انصرفت بعد أن أوصتني بأن أسلمه إليك حين تستيقظ.»
فأخذ سليم الكتاب، وما كاد نظره يقع على العنوان حتى اختلج قلبه في صدره؛ لأن الخط الذي كتب به يشبه خط سلمى، فدخل الغرفة وفض الخطاب فإذا هو بخطها وعليه توقيعها، فازداد خفقان قلبه، وجلس على سريره وأخذ يقرأ الخطاب، فإذا فيه:
حبيبي ومنية فؤادي سليم
أكتب إليك هذا الخطاب، ولعله آخر ما أكتب إليك، وهذه هي يدي ترتجف، وهذا قلبي يخفق، بينما دموعي تتساقط على الورق، وأنا في حال لم أشعر من قبل بمثلها، ولكنني أستحلفك بما أكنه لك من محبة طاهرة خالصة من كل دنس أن تحفظ ما تقرؤه سرا لا يطلع عليه سواك، وأن تعيره أذنا صاغية وتعتبره صادرا عن قلب يتقد حبا وإخلاصا، قلب لم يكن يعرف الخفقان قبل أن عرفك، ولا عرف القلق أو السهاد إلا منذ حللت فيه.
إنني أكتب إليك الآن وقد انتصف الليل وهجع الناس مطمئنين، وأنا وحدي الساهرة المعذبة أسيرة القلق والاضطراب.
وإني لأشكر الله على أن وقفت أخيرا على سبب متاعبك، بعد أن أخفيته علي كرما منك ورحمة بي. نعم أشكر الله على أني عرفت الداء وصرت قادرة على وصف الدواء، وكما أنك تحملت العناء في سبيلي، يجب أن أتحمل في سبيلك مثل هذا العناء.
لقد وقع في يدي اتفاقا خطاب والدتك إليك في شأني، وقد فهمت منه أنك تقاسي أمورا مضنية من أجل حبي، وتكافح مكافحة الأبطال لكي تفي بعهدك لي، فأكرم بك من محب صادق وصديق مخلص!
أما التهم الموجهة إلي في هذا الكتاب، فلا أريد أن أبين بطلانها الظاهر، ولكن أكتفي بأن أقول: «إن والدتك طيبة القلب وقد عانت كثيرا في سبيل تربيتك وزهدت مباهج الدنيا من أجلك، ووضعت كل آمالها فيك، فأقل ما تنتظره منك أن تكون تعزيتها في شيخوختها.»
ولا شك في أنك إن أصررت على عزمك وخالفتها، ستكون سببا لشقائها. ولما كنت أعلم أن العهود التي بيننا هي مصدر متاعبك، لاعتبارك إياها عهودا مقدسة لا يسمح لك شرفك بنكثها، وأكرم به من شرف أثيل! فقد لاح لي أن أكتب إليك مذكرة إياك بأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأقول لك وكلي أسف إني قد رأيت من الواجب علي أن أجعلك في حل من تلك العهود، لتكون حرا تختار لنفسك الزوجة التي ترضيك وترضى عنها والدتك.
فنحن منذ الآن، كما كنا قبل عشر سنين، لا عهود بيننا ولا روابط.
آه يا سليم! إني أكتب هذا وقلبي يقطر دما، ويداي ترتجفان، وعيناي لا تريان ما أكتب لما حال بينهما وبين هذا القرطاس من الدموع، ولكن عزائي الوحيد أني أضحي في سبيل راحتك وسعادتك.
فإذا قرأت هذا فبادر بالكتابة إلى والدتك جابرا كسر قلبها، وإنها لأحق مني بالرثاء. وقد يهون عليك أن تعود بتصوراتك إلى ما كنت عليه منذ عشر سنين يوم لم يكن لسلمى صورة في ذهنك. أما والدتك فلن تستطيع نسيانها ولا يليق ذلك بك، وهي التي حملتك وأرضعتك ووقفت حياتها على تربيتك. وثق بأني لذلك أحبها وأؤثر راحتها على راحتي.
ولا بد لي قبل الختام من أن أودعك الوداع الأخير فربما لا أراك بعد الآن، وإن كانت صورتك لن تبرح هذا القلب الذي ملكتك وحدك إياه. وحسبي أن تذكرني في ساعات صفوك سواء أكنت بين الأحياء أم بين الأموات، فإني على الحالين لن أنسى هواك، وسأبقى إلى الأبد أحب محبيك وأبغض مبغضيك، وأرجو أن تصفح عن جرأتي هذه، ودم سعيدا سالما للمخلصة الوفية ...
سلمى
وما انتهى سليم من قراءة الخطاب حتى كان قد بلله بالدموع واشتد به الوجد والحزن فاستلقى على السرير وأطلق لنفسه عنان البكاء. وكان وهو يقرأ الخطاب قد لاح له أن يتفقد خطاب والدته الذي أشارت إليه سلمى، ولكن الحزن والهيام أنسياه ذلك، فبقي ممعنا في النحيب حتى جفت دموعه وجف ريقه في حلقه وكاد يختنق، ثم أحس بقشعريرة فالتحف بالغطاء وكان لا يزال متعبا لطول سهره بالأمس وشدة الهيام وكثرة البكاء، فأخذته سنة من النوم. •••
فلنترك سليما نائما، لعله يستريح من تلك الجواذب والدوافع، ولنرجع إلى حبيب وما تم له بعد وصوله مع والدته وشقيقته إلى البيت.
فإن والدته كانت أثناء سير القطار، وحديث شفيقة يدور مع أخيها حول أدما، تتردد في ذهنها خواطر من هذا القبيل، على أنها سرت لما رأت في حبيب ميلا إلى أدما. ولما وصلوا إلى البيت وغيروا ثيابهم، واغتسلوا من الغبار، كان الخادم قد أعد لهم طعام العشاء، فتناولوه وسارت شفيقة إلى فراشها عاجلا كجاري عادتها لأنها كانت خالية البال ساكنة العواطف، لا هم لها سوى مساعدة والدتها في تدبير أمر البيت والترتيب واللبس والطعام، وإذا انتهت من ذلك لا يبقى أمامها سوى النوم.
فلما توجهت تلك الليلة إلى فراشها خلت والدة حبيب به، وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، وكل منهما يفكر في أدما بغير علم الآخر.
فقالت الوالدة، وقد رأت حبيبا صامتا كأنه يفكر في أمر: «ما لي أراك منشغل البال يا حبيب؟ ألعلك تشكو من شيء؟»
فانتبه حبيب، وانتصب جالسا، وقال: «لا يا أماه، لست أشكو شيئا وإني بفضل دعائك ورضائك علي بكل خير وعافية.»
قالت: «سلمت يا ولدي وعسى أن يبقيك الله لي سالما، وشقيقتك لكي أفرح بك وأزوجك!» قالت ذلك ونظرت إليه كأنها تنتظر ما يبدو منه، وكانت كلما خاطبته في أمر الزواج قبل ذلك اليوم ينكر عليها أمره، ويأخذ في إقناعها بأن الزواج متعب، وأن البقاء بدون زواج أفضل وأكمل وأسعد، وكانت تستاء من ذلك وتتوسل إليه ألا يقول ذلك؛ لأن الزواج أمر لابد منه، إن عاجلا أو آجلا، وهو يقول أن لا مأرب له فيه، وأنه سعيد بمعيشته مع والدته وشقيقته.
أما تلك الليلة فإنه لم يجبها، بل بقي صامتا. وتذكر الفرق بين حاله في الأمس واليوم، فقد كان خاليا لا هم له سوى إتمام عمله ومرضاة والدته، والاشتغال بالمطالعة والكتابة ساعات الفراغ، والقلب خال والعواطف هادئة والحياة هنية سهلة لا يكدرها اضطراب ولا يشوبها قلق ولا تعترضها غيرة أو شوق، والعقل حر يجول في الموضوعات العلمية والفكاهية والأبحاث الممتعة، فأصبح اليوم منشغلا تتنازع في نفسه العواطف بين الحب، والشوق، والاهتمام. فلما خاطبته والدته ولم يجبها، ظنته في شاغل مزعج يريد إخفاءه عنها، فعاودته السؤال قائلة: «كيف تقول إنك غير منزعج وأراك صامتا لا تتكلم؟!»
فارتبك في أمره لا يدري بماذا يجيب، وقد صعب عليه التصريح بما يخالج نفسه من ناحية الفتاة، وهو يتردد بين الحياء والارتباك، فغلب عليه الحياء فقال: «قلت إني بخير ولا شاغل لي، ولكنني أفكر فيما رأيناه اليوم في الأهرام من المناظر البديعة، وما تمتعنا به من الهواء النقي.»
قالت: «أظنك تفكر في شيء آخر؛ لأن وجهك منقبض، وفي نفسك شيء تريد إخفاءه عني، فإذا كنت تواجه شيئا يزعجك، لماذا لا تصرح به لي، وإذا كنت تخفي ذلك عني فلمن تبوح به؟»
فحاول الدفاع عن نفسه عبثا حتى رأى والدته قد علا وجهها الانقباض والحزن، وكادت تبكي، فقال وهو بين الإحجام والإقدام: «إذا كان في نفسي شيء فأنت أحق الناس بمعرفته.»
قالت: «قل إذن يا حبيبي!» وهمت إليه وضمته إلى صدرها وقبلته، وقد كادت تتساقط العبرات من عينيها.
فقال: «لا حاجة بك إلى الخوف يا أماه فإن الذي في نفسي لا يحزنك بل هو سبب كبير لفرحك.»
فأشرق وجهها وأبرقت أسرتها وازداد قلقها لاستطلاع أفكاره، وقالت بلهفة: «قل بالله! قل يا حبيبي لتسري عني وتخفف آلامي.»
قال: «أنت تعلمين أن أول شيء أسعى إليه في هذه الدنيا هو فرحك.»
قالت: «قل إذن قل! أستحلفك بربك أن تصرح بما في نفسك.»
فقال وقد علا وجهه الاحمرار: «إن في قلبي مثل ما في قلبك، والذي أريده هو الذي تأمرينني بإجرائه.»
قالت: «وما هو ذلك؟ ألعلك اعتزمت أن تتزوج كي تحقق لي أمنيتي!»
قال: «وأكثر من ذلك أيضا.»
قالت: «ألعلك أحببت أدما التي أحببناها نحن!»
فأبرقت عيناه وخفق قلبه عند ذكرها وقال: «نعم يا أماه إني أحبها، ولا سيما حين تحققت أنكما تحبانها.»
فابتهجت وغلب عليها السرور حتى دمعت عيناها، وهمت إلى ولدها تقبله وقالت : «هذا هو مبعث سعادتي يا ولدي، وهذه هي الساعة التي قضيت عمري في انتظارها، فأشكر الله على ما وفقنا له ودبره بحكمته الأزلية.»
فقال حبيب: «ولكن هل المسألة موقوفة على رضانا نحن وحدنا؟ من يدري، لعل الفتاة لا توافقنا على ذلك!»
قالت: «إنني واثقة من رضائها، لأنها على ما يظهر لي تحب مبادئك وتميل إلى من كان مثلك، ولا أظنها تطمع في أحسن منك، وهي ليست من الثروة على أكثر مما أنت فيه.»
فعاد حبيب إلى تعقله وفكر في أمر مستقبله، وتذكر أنه كان منذ حين يخشى استغناء الحكومة عن خدمته، فقال لوالدته: «هبي أنها وافقت، أفلا ترين أن زواجها بموظف مثلي معرض للفصل كل يوم، مما يعرضها للخطر؟»
قالت: «إن الله هو الرزاق يا ولدي، وهو يرزق الموظفين وغيرهم. ثم إنك الآن لست في حاجة إلى أكثر من إعلان الخطبة، وإلى أن يحين موعد الاقتران يفعل الله ما يشاء.»
فلم يقتنع حبيب بكلام والدته، ولكن حبه لأدما جعله يوافق دون اقتناع.
فقال: «صدقت يا أماه! وما دام الأمر كذلك، فإن إتمامه سهل بإذن الله. ولكن أمهليني قليلا قبل أن تعلن الخطبة لكي أعد لها عدتها.»
فقالت: «افعل ما بدا لك، ولنحفظ هذا الأمر مكتوما حتى يتم بإذن الله.» ثم ذهب كل منهما إلى فراشه، وبقي حبيب حتى اقترب الفجر مسهدا يفكر في أدما وخطبته لها، وفيما دار بينه وبين والدته في شأنها. وكان على شدة تعلقه بها يشعر بإحجام داخلي وتخوف من الإقدام على خطبتها، فأخذ يبحث عن وسيلة لعلاج ذلك الأمر، ولما أعياه البحث دون نتيجة، قرر أن يكاشف بأمره صديقه سليما، لعله يشير عليه بالعلاج المفيد.
كشف السر
نهض حبيب من فراشه في صباح اليوم التالي وهو ما زال قلقا حائرا، ثم استقل القطار إلى القاهرة، حيث توجه إلى مقر منصبه، وبقي يعمل حتى الساعة الثانية عشرة، وانتحل عذرا أبداه لرئيسه، فسمح له بالخروج من الديوان قبل الميعاد المحدد.
ومضى لفوره إلى مكتب سليم، فعلم أنه لم يحضر إليه في ذلك اليوم، فقلق عليه وانطلق إلى الفندق الذي يسكنه، فوجد باب غرفته مفتوحا، وما كاد يدخل حتى وجده ممددا في سريره وقد استغرق في النوم، فعجب لرقاده حتى تلك الساعة، ولاحت منه التفاتة فإذا بورقة ملقاة على السرير بجانب سليم، ولاحظ أن خطها يشبه خط سلمى وكان يعرفه، فازداد تعجبه وأراد إيقاظ سليم، لكنه آثر التريث حتى يرى ما في تلك الورقة، فتناولها ويده ترتجف لعلمه بما في الاطلاع عليها من منافاة للآداب العامة، لكنه برر فعلته هذه بأنه على علم بأمر سليم مع والدته بسبب سلمى، وبأن اطلاعه على تلك الورقة بغير علمه قد يعاونه على أن ينفعه بشيء.
ولكنه خشي أن يستيقظ سليم فجأة فيراه وهو يقرأ الورقة، فأعادها إلى حيث كانت بجانبه على السرير، مكتفيا بالنظر إليها وهو واقف بإزائه فوقعت عينه على الفقرة التي ذكرت فيها سلمى أنها تحل سليما مما بينهما من العهود، وأنها تفعل ذلك مضحية بقلبها وسعادتها في سبيل إنقاذه من تردده وحيرته بينها وبين والدته. ولم يستطع لاضطرابه أن يقرأ بقية ما في الورقة، ولكنه فهم مضمونها، وأعجب كل الإعجاب بإخلاص تلك الفتاة وتضحيتها.
ثم لاح له أن سليما قد نام والرسالة في يده وباب الغرفة مفتوح عن غير قصد منه، وهو لذلك قد يغضب ويخجل إذا استيقظ ورآه بجانبه، فتقهقر خارجا من الغرفة وهو يحاذر أن يحدث صوتا يوقظه، وكان خدم الفندق مشغولين بمهامهم فلم ينتبهوا لدخوله وخروجه، ولكنه خشي أن يدخل أحد غيره غرفة سليم ويرى مثل ما رأى، فأغلق الباب وراءه وانسل راجعا من حيث أتى وهو يفكر في أمر صديقه ومتاعبه، وقد نسي ما جاء من أجله.
ولم يشأ أن يرجع إلى حلوان قبل أن يراه ثانية ويفهم منه شيئا عن حاله، فتوجه إلى مقهى قريب وجلس فيه ساعة وهو على مثل الجمر، ثم عاد إلى غرفة صديقه وطرق الباب، فسمع سليما يقول بصوت ضعيف: «ادخل» ففتح الباب ودخل فإذا بسليم ما يزال في سريره وقد كلل العرق وجهه وتوردت وجنتاه كأنه محموم.
وما كاد سليم يشاهده حتى هاجت عواطفه وأشجانه، فدمعت عيناه وهو يرد تحيته في صوت ضعيف مضطرب حزين ويشير إليه بأن يجلس بجانبه، فانفطر قلب حبيب لهذا المنظر المؤثر، وترقرقت الدموع في عينيه، ثم انحنى على صديقه في سريره وأمسك يده يجسها فإذا هي تتقد سخونة، فعلم أنه مصاب بالحمى، لكنه تجاهل وقال له: «ما لي أراك في الفراش يا عزيزي حتى هذه الساعة؟ هل تشكو من شيء؟»
فقال: «لا شيء يا عزيزي إلا أني أشعر بانحطاط قواي وارتفاع حرارة جسمي، ولعلي مصاب بالحمى.»
قال: «لا بأس عليك، وهل شعرت بذلك اليوم فقط؟» فقال: «نعم، ولكني شعرت أمس ببعض التعب وأرقت قليلا، فأصبحت اليوم كما ترى ولم أستطع الخروج، ثم اشتد بي التعب وشعرت بالحمى فأخذتني سنة من الكرى ولم أفق إلا منذ قليل.»
وتذكر سليم كتاب سلمى ومجيء حبيب إليه في تلك الساعة على غير المعتاد.
ولاح له أن العبارات التي قرأها في كتاب سلمى، رغم ما تتجلى فيها من الشهامة وعزة النفس، لا تخلوا من الاحتيال، ولعل سلمى هي التي أرسلت إليه حبيبا ليستطلع فكره وأثر ذلك الكتاب في نفسه.
على أنه ما لبث قليلا حتى طرد هذه الخواطر من مخيلته، مستبعدا تواطؤ سلمى وحبيب ضده، ثم حاول إخفاء ما يعتلج في صدره من الغيرة والشك، وبقي صامتا متعللا بانحراف صحته.
أما حبيب فراح ينظر إليه نظرة المحب الصادق المخلص الذي يفتدي أصدقاءه بنفسه، وحدثته نفسه مرارا بأن يستطلعه حقيقة حاله، لكنه خشي أن يذكره بأمر يود نسيانه لما هو فيه من المرض.
فلبثا حينا صامتين وكل منهما مشغول بهواجسه، ثم قال حبيب: «كيف حالك يا عزيزي، لعلك أحسن الآن؟»
فقال سليم بصوت مختنق: «أحس صداعا شديدا في رأسي وكأن نارا تتقد في جسمي.»
فقال: «هل أدعو لك الطبيب؟»
قال: «لا أرى حاجة إلى الطبيب الآن، ولكن ربما أحتاج إليه بعدئذ.»
قال: «هل أدعو الخادم ليأتيك بشيء من المرق أو شراب الليمون، كي تبل معدتك؟» قال: «لا بأس من ذلك.»
فدعا حبيب الخادم وأمره بإحضار قدح من شراب الليمون، فلما جاء به تناوله سليم بعد أن أنهضه حبيب وأسنده جالسا في السرير، وشرب جانبا منه، ثم وضعه على المنضدة المجاورة للسرير وعاد إلى التوسد والعرق قد بلل ثيابه.
وهنا أشار عليه حبيب بأن يغير ملابسه المبتلة، فقبل، وشعر على أثر ذلك ببعض الراحة، فمضى يجاذب حبيبا أطراف الأحاديث، ويجاهد لإبعاد الهواجس التي عاودته، في شأن علاقة حبيب بسلمى. وكلما نظر إلى حبيب ازداد غيرة وحيرة وتفكيرا في سبب مجيئه في تلك الساعة على غير المعتاد، وعقب وصول كتاب سلمى. وما زالت هذه الهواجس تلح عليه حتى تمكن منه الاعتقاد بتواطؤ حبيب وسلمى ضده فأراد أن يحتال لتحقق ذلك، وفاجأ حبيبا بأن قال له: «أليس مريبا أن تجيء إلي اليوم على غير المعتاد، فتجدني في هذه الحال؟ فهل ترى كان مجيئك اتفاقا، أم أن قلبك حدثك بأني مريض؟»
فقال حبيب: «الواقع أني لم يخطر ببالي أن تكون مريضا، وقد فارقتك أمس عند عودتنا من رحلة الأهرام وأنت في عافية وسرور، وقد جئت إليك اليوم مصادفة، معتقدا أني سأجدك معافى مسرورا كما تركتك.»
ولم يشأ أن يذكر سبب مجيئه؛ لئلا يقوده الحديث إلى ذكر سلمى لعلاقتها بأدما فيثير بذكرها أشجان صديقه المريض.
ولكن تكتمه هذا رجح ظن سليم، إذ كيف يمكن أن يكون مجيئه لزيارته في غرفته مصادفة، مع علمه بأنه لا يكون بها في مثل الوقت الذي جاء فيه؟ وعلى هذا وقر في ذهنه أن حبيبا يحتال عليه ولم يصدقه، ولكنه تجاهل وكظم عواطفه مؤثرا الصمت.
وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أحس حبيب بالجوع، فاستأذن سليما في الانصراف، ومضى إلى أحد المطاعم فتناول غداءه وفكره ما زال مشغولا بأمر صديقه وخطيبته. وأخيرا رأى أن يتوجه إلى منزل الخواجة سليمان لعله يستطيع الوقوف على بعض ما غمض عليه من أمر سلمى وسليم، وكيف وصل إليها كتاب والدته إليه.
واستقبلته الأسرة مرحبة، ولكنه لم ير سلمى بينهم فسألهم عنها فقالت والدتها: «إنها شعرت ببعض التوعك هذا الصباح، فبقيت في الفراش.» فاكتفى بأن تمنى لها عاجل الشفاء، ولم يذكر أي شيء عن سليم لئلا يشغل بالهم عليه. وبعد أن قضى عندهم بعض الوقت ودعهم وانصرف إلى محطة باب اللوق حيث استقل القطار إلى حلوان، عائدا إلى منزله، فاستقبلته والدته ولاحظت على وجهه آثار الانقباض، فقلقت وخافت أن يكون لذلك سبب يتعلق بأدما، فابتدرته بالسؤال عن انقباضه، فلما أخبرها بأن صديقه سليما مريض، سألته في لهفة: «وماذا به يا ولدي، شفاه الله وعافاه؟»
فقال: «أصابته الحمى، وقد خفت حدتها قليلا والحمد لله حين فارقته منذ قليل.»
قالت: «هل تركته وحده في غرفته؟»
فقال: «نعم يا أماه وهذا ما يقلقني عليه؛ إذ ليس عنده من يقوم بخدمته.»
قالت: «كيف تتركه وحده وهو غريب لا أهل له في القاهرة، ولو أن والدته علمت بمرضه لسارعت إليه كي تخدمه وتمرضه، ولكنها بعيدة عنه وا أسفاه!»
قال: «لا شك أنها لو علمت بمرضه لجاءت من الإسكندرية على عجل، ولكن لا داعي لإزعاجها بنبأ مرضه، وعلينا نحن قياما بواجب الصداقة أن ننظر في أمر خدمته وتمريضه حتى يتم شفاؤه بإذن الله.»
قالت: «صدقت يا بني، هذا واجب علينا، وأرى إذا عاودته الحمى غدا أن ندعوه ليقيم معنا بضعة أيام ريثما ينقه منها.»
قال: «غدا أذهب إليه لتدبير الأمر والاتكال على الله.»
قالت: «سأذهب معك ليطمئن قلبي عليه، فهو بمثابة ولدي. ولكن هل علمت أسرة الخواجة سليمان بمرضه؟»
قال: «لا، وكنت عازما على إبلاغهم ذلك، لكني وجدت سلمى مريضة أيضا فلم أخبرهم به خشية اشتداد مرضها؛ لأنها مخطوبة له كما تعلمين، وهي تحبه محبة عظيمة.»
قالت: «إذن نذهب إليه نحن غدا كما اتفقنا.» •••
كانت الخادمة العجوز سعيدة قد أدركت في الأيام القليلة التي عاشرت فيها سلمى أنها عزيزة النفس أبيتها، لا ترضى بالذل ولا تحب التزلف، وأيقنت أنها إذا اطلعت على ما كتبته والدة سليم إليه في شأنها فلا بد من أن تضحي بقلبها في سبيل الإبقاء على محبة أمه له ورضاها عنه.
وكانت قد عرفت مضمون الكتاب قبل مجيئها من الإسكندرية؛ لأن سيدتها وردة هي التي كانت تتولى أمر كتابة الخطابات إلى سليم على لسان والدته، بوساطة داود. وقد اجتمعت بهذا في القاهرة فأخبرها بما فعله مع سليم، واعتقدت أن الطريق قد مهد للتفريق بينه وبين سلمى. ثم انتهزت فرصة تنظيفها معطف سليم حين وجوده في المنزل عقب رحلة الأهرام، وسرقت منه خطاب والدته لكي تطلع سلمى عليه، ثم ذهبت بالخطاب إلى غرفة سلمى وألقته خفية بجانب سريرها. فلما أوت إليه سلمى بعد العشاء، لمحت الخطاب فتناولته وقرأته، وأدركت أنه سبب كدر سليم. وقضت ليلتها مسهدة تفكر في أمره ولا تدري ماذا تفعل، ثم غلبت عليها طيبة قلبها وعزة نفسها، فكتبت إلى سليم ذلك الخطاب الذي أحلته فيه من خطبتها، وبعثت به مع خادمتها سعيدة.
على أنها شعرت بالندم على تسرعها بكتابة ذلك الخطاب، وحدثتها نفسها بأن تنادي سعيدة وتأخذه منها، ولكن هذه كانت قد توارت عن نظرها، فشق عليها الأمر وازداد قلقها؛ لأنها كتبت الخطاب وهي شديدة التأثر، فلما خف تأثرها أخذت تلوم نفسها على كتابة تلك العبارات، وكلما تصورت أنها ضحت بسعادتها وآمالها في المستقبل بحرمانها من سليم شعرت بأبلغ الأسى والأسف، وارتعدت فرائصها وبكتها ضميرها، فأصبحت من جراء ذلك دائمة القلق خائرة القوى، فلازمت الفراش تسكينا لما بها وإخفاء لعواطفها، ولكن اعتكافها أقلق والديها لأنها وحيدتهما، وكانا إلى شدة محبتهما لها معجبين بذكائها ولطفها، وما كانا ليقبلا خطبة سليم لها لولا ما لمساه من محبتها له، ومن اتصافه بالشهامة وكرم النفس والاستعداد لمستقبل عظيم. •••
بكر حبيب في اليوم التالي فاستقل أول قطار غادر حلوان إلى القاهرة، وما وصل إليها حتى أخذ طريقه إلى غرفة سليم ليعوده ويطمئن عليه قبل الذهاب إلى الديوان.
ووجده مستيقظا في فراشه، وعلى وجهه آثار الضعف والهزال، فحياه وجلس بجانبه يواسيه ويرفه عنه بمختلف الأحاديث إلى أن قال له: «لقد أسفت والدتي كثيرا حين علمت بمرضك، وكانت تعتزم المجيء معي الآن لتراك وتطمئن عليك، ثم اتفقت معها على أن آتي بها بعد الظهر.»
فقال سليم: «جزاها الله خيرا، لا داعي لتعبها.»
ولاحظ حبيب أن في نظرات سليم وعباراته ما ينم عن التبرم والجفاء، فعجب من ذلك ثم عزاه إلى اضطراب سليم وقلقه بسبب المرض والوحدة، وواصل ملاطفته ومواساته قائلا: «إنك اليوم أحسن حالا منك أمس، ولعلك سعدت بنوم عميق هنيء!»
فتنهد سليم أسفا وقال: «لم أنم إلا فترات قصيرة متقطعة، تخللتها أحلام مزعجة، وقد أرسلت الخادم منذ قليل ليأتيني بمسهل أتناوله اليوم، كما أوصيته بإعداد بعض المرق لأتغذى به.»
فقال حبيب: «حسنا فعلت يا عزيزي، وأرجو أن أراك بعد الظهر وقد تم لك الشفاء!» ثم أعطاه بعض الصحف ليتسلى بمطالعتها، وودعه منصرفا إلى مقر عمله.
فلما خلا سليم إلى نفسه، عادت إليه هواجسه في شأن سلمى، وود لو يعلم حالها بعد أن بعثت إليه بخطابها الأخير، وكأن قلبه دله على أنها مريضة مثله. ثم تذكر ما كان فيه من النعيم بقربها، وما آلت إليه حاله فلم يتمالك عواطفه وغلبه البكاء. وما زال يطلق لدموعه العنان حتى عاد الخادم بالدواء المسهل، وقرع باب الغرفة مستأذنا في الدخول به، فمسح سليم عينيه وأذن له في الدخول، ثم تناول منه الدواء وشربه، وأخذ يتشاغل بمطالعة الصحف التي تركها له حبيب، بينما انصرف الخادم لإعداد المرق الذي طلبه.
وفي الساعة الأولى بعد الظهر، عاد إليه حبيب فوجده ممددا في سريره، وجس يده فإذا بنبضه يتسارع وحرارته عادت إلى الارتفاع، فأدرك أن الحمى عاودته ولا تلبث أن تشتد وطأتها كأمس، لكنه تجاهل وسأله: «كيف حالك الآن يا عزيزي؟»
فقال سليم بصوت ضعيف: «كنت في الصباح أحسن حالا مني الآن.»
فأخذ يغالطه ناسبا ذلك إلى تأثير المسهل الذي تناوله، ثم قال له: «إن هواء حلوان نقي جاف منشط، ويا حبذا لو ذهبت معي للإقامة معنا أياما هناك لتبديل الهواء!»
فاعتذر سليم من عدم استطاعته ذلك شاكرا، وقال: «لا داعي إلى مغادرة الفراش والانتقال الآن.» ثم أصر على الامتناع برغم إلحاح حبيب، فرأى هذا أن لا سبيل إلى إقناعه إلا بأن يأتي إليه بوالدته لتتولى إقناعه بنفسها. فاستأذن في الانصراف، وسارع إلى منزله في حلوان مستقلا قطار الساعة الثانية بعد الظهر، حيث أنبأ والدته بما حدث، فوافقته على الذهاب معه لإحضار سليم، وبعد أن تناولا الغداء، غادرا المنزل إلى المحطة حيث استقلا القطار إلى القاهرة، فوصلا إلى غرفة سليم وقت الأصيل، وكانت الحمى قد اشتدت وطأتها عليه فأخذ يئن ويتوجع.
وما رأته والدة حبيب في هذه الحالة حتى تناثرت الدموع من عينيها حنانا وإشفاقا، فمالت عليه وقبلته قائلة: «لا بأس عليك يا ولدي!» ثم أخذت تواسيه وتهون الأمر عليه.
ولم يتمالك سليم عواطفه إزاء حنانها وعطفها، إذ تذكر والدته فأخذت الدموع تنهل من عينيه، وتمتم قائلا: «آه يا أماه!»
فازدادت والدة حبيب تأثرا، وانحنت عليه وهي لا تستطيع إمساك دموعها، وأخذت تمسح العرق المتصبب من وجهه قائلة: «أنت بخير يا ولدي، فاطمئن وثق بأني لك كوالدتك، فأنت مني بمنزلة حبيب.»
فاشتد هياج أشجان سليم، وأمعن في البكاء برغم محاولته التجلد، وود لو أنه لم يفارق والدته، ولم يعرف الحب الذي أقصاه عنها وحملها على اتهامه بالعقوق. بينما واصلت والدة حبيب تهدئة روعه. أما حبيب فلم يتمالك عن البكاء هو الآخر، لكنه حول وجهه عن سرير صديقه حتى لا يلحظ بكاءه فتزداد أشجانه.
وأخيرا مالت والدة حبيب على وجه سليم وقبلته قائلة: «إنني أسألك بحق والدتك عليك أن تكف عن البكاء، وأن تذهب معنا إلى حلوان، فمنزلنا هو منزلك، وكلنا في خدمتك حتى يتم شفاؤك قريبا بإذن الله.»
وقالت والدة حبيب لسليم: «اطمئن وثق بأني لك كوالدتك؛ فأنت مني بمنزلة حبيب.»
وحاول سليم أن يرد عليها، فخنقته عبراته ولم يستطع التكلم؛ إذ تذكر أن والدته غير راضية عنه. ثم استطاع التجلد قليلا بعد حين وقال وكأنه يحدث نفسه: «إنني أستحق هذا الذي أنا فيه، بل أستحق أكثر منه، فهكذا يكون جزاء العقوق ونكران الجميل.»
فعجبت والدة حبيب، ولم تفهم مراده لخلو ذهنها مما بين سليم ووالدته. وخشي حبيب أن تلح والدته في سؤال سليم عن مراده فيصرح لها هذا بسره الذي يحرص على كتمانه. فأشار إليها بأن تكف عن الحديث مع سليم لأنه في بحران الحمى، ثم قال لها: «سأذهب الآن لأحضر طبيبا يفحصه ويقرر ما ينبغي له من العلاج، فامكثي أنت بجانبه ريثما أعود.»
ثم غادر الفندق على أثر ذلك، وتوجه إلى أقرب طبيب من هناك ودعاه إلى مرافقته لفحص سليم وعلاجه، وفي طريقهما إلى الفندق طلب إليه حبيب أن ينصح لسليم بتبديل الهواء في حلوان، ليقيم بمنزله هناك لأنه غريب عن القاهرة، فوعده الطبيب بذلك، وبعد أن فحص سليما قال له: «لا خوف عليك من هذه الحمى، ويكفي لشفائك منها أن تلتزم الراحة وتبدل الهواء بالإقامة في مكان جوه جاف، ومع هذا سأصف لك دواء يعاونك تناوله على سرعة الشفاء.»
فسأله سليم: «هل ترى أن لا بد من تبديل الهواء والانتقال من هنا؟»
فقال الطبيب: «نعم لا بد من ذلك، ويحسن أن تقصد حلوان لجودة هوائها وهدوئها، على أن يكون انتقالك إليها بعد زوال نوبة الحمى.»
فسكت سليم موافقا وهو يقول لنفسه: «لا بأس بإقامتي أياما بمنزل حبيب في حلوان، فلعلي أستطيع هناك الوقوف على شيء يكشف لي حقيقة علاقته بسلمى، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.»
وبقي حبيب ووالدته مع سليم في غرفته حتى انقشعت عنه نوبة الحمى، ثم ساعده حبيب في ارتداء ثيابه، وبعث في طلب عربة مغلقة لنقله فيها إلى المحطة لركوب القطار منها إلى حلوان. وما زال هو ووالدته يتعاونان على خدمته والمحافظة عليه من البرد حتى وصلوا إلى المنزل، وخصصوا لإقامته أحسن غرفة فيه. وتنافس حبيب ووالدته وشقيقته في الترحيب به وتعهده بالغذاء والدواء والغطاء، حتى داعب النوم جفنيه وما لبث أن غط في نوم عميق، ولم يستيقظ إلا في الصباح، وقد شعر بأنه استرد بعض قواه وتحسنت حالته. •••
أمضى حبيب ليلته مسهدا يفكر في أمر صديقه سليم بعد أن اطمأن عليه وتركه نائما، وهداه تفكيره إلى أن يسافر بنفسه إلى الإسكندرية فيقابل والدة سليم ويشرح لها أمره، فلا بد أن قلبها سيرق لفلذة كبدها حين تعلم بأنه مريض. وقد يكون غضبها وإنكارها عليه خطبة سلمى تأثرا بوشاية بعض الحساد، فيسهل إقناعها بالعدول عن رأيها وتحقيق رغبة سليم؛ وبذلك يكون قد أدى له خدمة جليلة.
ثم تذكر حبيب أن اليوم التالي يوم جمعة، فاغتبط كثيرا لأن خلوه من العمل في هذا اليوم مما يسهل أمر سفره إلى الإسكندرية.
وفي صباح اليوم التالي، خلا إلى والدته وأنباها بما اعتزمه من أمر السفر والغرض منه، وأوصاها بأن تكتم ذلك عن سليم كل الكتمان، ثم صحبها لرؤيته في غرفته فوجداه مضطجعا في سريره وعليه دلائل البشر والعافية؛ فاغتبطا بذلك وجلسا بالقرب منه يلاطفانه ويسليانه بمختلف الأحاديث.
وبعد قليل، نهض حبيب وغادر الغرفة مشيرا لأمه بطرف عينيه أنه مسافر في المهمة التي اتفقا عليها، فلحقت به وودعته داعية له بالسلامة والتوفيق. ثم عادت إلى سليم في غرفته، ولحقت بها ابنتها شفيقة، وجلستا تجاذبانه الحديث وتقدمان له ما يحتاج إليه من الطعام والشراب والدواء.
ومضت ساعة وسليم يبدو باسم الثغر منشرح الصدر، ثم تجهم وجهه فجأة وظهرت عليه دلائل الانقباض الشديد؛ إذ تذكر خطاب والدته وحكاية داود عن سلمى وحبيب. على أنه ما لبث أن تجلد وتكلف الابتسام حتى لا ينكشف أمره أمام مضيفتيه، ثم تظاهر بالتلفت حوله وسأل: «أين حبيب؟»
فانطلت عليهما حيلته، وقالت أم حبيب: «سيكون هنا بعد قليل، فقد ذهب إلى القاهرة لإنجاز بعض المهام.»
فعجب سليم من ذهاب حبيب إلى القاهرة دون أن يخبره، وعاودته الهواجس فخيل إليه أن لذهاب حبيب إلى القاهرة علاقة بسلمى، ولا سيما أن اليوم يوم جمعة والأعمال معطلة في دور الحكومة، وكان المنتظر أن يبقى معه طول اليوم لو أنه كان مخلصا في صداقته له وليس متواطئا مع سلمى عليه.
واشتدت به الوساوس حتى اعتقد أن حبيبا ما دعاه إلى الإقامة بمنزله في حلوان، إلا ليبعده عن القاهرة، فيخلو جوها لسلمى وله ويتساقيان كئوس حبهما الآثم وهما آمنان مطمئنان!
ولاحظت والدة حبيب أن غيابه أقلق سليما وأزعجه إلى حد ملحوظ، فأرادت أن تشغله عن ذلك والتفتت إلى ابنتها وقالت لها: «هلا أحضرت يا شفيقة كتابا أو رواية لطيفة مما عند حبيب لكي يتسلى عزيزنا سليم بالمطالعة إذا شاء؟»
فنهضت شفيقة وخرجت من الغرفة ثم عادت بعد قليل وقالت وهي تشير إلى بضعة مفاتيح صغيرة في سلسلة بيدها: «الحمد لله لقد وجدت كل كتب حبيب ورواياته في خزانته الخاصة التي يحرص دائما على إغلاقها والاحتفاظ بمفاتيحها معه، لكنه لحسن الحظ لم يرتد معطفه، وهذه هي وجدتها فيه، فأي أنواع الكتب أو الروايات أحضرها؟»
فالتفتت والدتها إلى سليم وسألته: «ألا تحب مطالعة القصص؟»
فقال: «لا بأس ففي مطالعتها تسلية.» قال هذا وهو يجاهد لإخفاء ما به.
فهرولت شفيقة إلى خزانة كتب حبيب، ثم عادت بعد قليل وفي يدها رواية إفرنجية وقالت: «لا بد من أن تكون هذه الرواية جميلة مشوقة، فمنذ أسبوع رأيتها في يد حبيب يطالعها في شغف عظيم، وأمضى ليلة كاملة ساهرا في غرفته حتى أتم قراءتها.»
فقالت والدتها: «وأنا أيضا رأيته مشغولا بقراءتها عند فجر تلك الليلة.»
فتناول سليم الرواية، وأخذ يقلب صفحاتها متظاهرا بالمطالعة. وخرجت شفيقة وأمها من الغرفة ليتركا سليما يطالع الرواية في هدوء، ويشرفا على شئون البيت. •••
أخذ سليم يقلب صفحات الرواية، وفكره مشغول بسفر حبيب إلى القاهرة على غير انتظار، وفيما هو في ذلك وقعت عينه على ورقة مطوية بين الصفحات، وما كاد يتأملها حتى لاحظ أنها مكتوبة بخط يشبه خط سلمى، فازداد اشتعال نار الغيرة في قلبه، وتصور حبيبا جالسا مع سلمى يتبادلان أحاديث الحب والهيام، فندم على مجيئه إلى منزله. ثم أخذ يقرأ ما في الورقة، وهو يختلس النظر إلى باب الغرفة محاذرا أن يراه أحد وهو يقرؤها، فإذا بها حافلة بعبارات الحب والاشتياق والصبابة؛ فلم يبق لديه شك في خيانة سلمى وحبيب، وتحقق صحة ما سمعه عنهما من داود، فاشتد خفقان قلبه، وأخذ ينتفض في سريره كأنما عاودته الحمى. ثم لم يتمالك عواطفه فقفز من السرير ثائرا، وأخذ يخطر في جوانب الغرفة قلقا حائرا مضطربا، والورقة في يده يعاود قراءتها ويناجي نفسه قائلا: «تبا لها من خائنة ماكرة محتالة! بل تبا لي من مغفل ساذج إذ انطلت علي حيلتها فاعتقدت أنها ملاك طاهر، في حين أنها ليست سوى شيطان رجيم!»
وسكت قليلا إذ سمع وقد أقدام خارج الغرفة، فلما ابتعدت الأقدام، استأنف مناجاته لنفسه قائلا: «أهذه هي المحبة الطاهرة التي كانت تستحلفني بها؟ أهذا جزاء إخلاصي ووفائي وعقوقي لوالدتي في سبيل حبك يا سلمى؟ لقد طالما كذبت ما سمعته عنك، وعاينت في ذلك ما لا طاقة به لقلبي؛ حرصا على مودتك، وإيمانا بطهارتك وعفتك ووفائك. ولكن آه! ها أنا ذا الآن قد تحققت صحة اتهامك، ولمست خيانتك، وإني لأشكر الظروف التي هيأت لي الوقوف على ذلك، لأنبذك نبذ النواة يا خائنة.»
ثم عاد إلى تأمل الورقة، فلاحظ اختلافا يسيرا بين خطها وخط سلمى، لكنه هز رأسه مستخفا بهذه الملاحظة، وعاد يقول: «إنه خطها ما في ذلك شك، ولكنها كتبت هذه الورقة منذ عهد بعيد؛ أي إن حبها الآثم لحبيب ليس جديدا، وقد استطاعا خداعي والتمويه علي كل هذا العهد الطويل. على أني لا ألومه بقدر ما ألومها على ذلك؛ لأني ملكتها قلبي ووهبتها روحي وأغضبت لأجلها والدتي المسكينة ... آه يا والدتي! أين أنت الآن؟ ألا رحماك بولدك المسكين، واصفحي عنه، فقد كفى ما لقيه من الحزن والمرض وخيبة الآمال؛ جزاء عقوقه لك، وركونه إلى وعود فتاة خادعة محتالة، وإلى نفاق عدو في ثياب صديق!»
ولاح له أن يبادر بارتداء ثيابه ويغادر المنزل فورا ليستقل القطار إلى القاهرة، ثم يستأنف السفر منها إلى الإسكندرية حيث يقابل والدته ويقبل يديها مستغفرا نادما. لكنه شعر بأنه في حالة من المرض والتعب لا يقوى معها على السفر، وقد تعاوده الحمى وهو في الطريق فيحدث ما لا تحمد عقباه، فلم يتمالك نفسه واستلقى على السرير آخذا في البكاء لفرط يأسه وغيظه وأساه.
وفيما هو كذلك، دخلت عليه والدة حبيب، وهي تحمل في يدها إناء فيه شيء من مرق اللحم أعدته له، فبالغ بالتدثر بالغطاء متظاهرا بأنه شعر بالبرد حتى لا تلاحظ عليه شيئا ينم عما هو فيه، فحسبته نائما ووقفت بإزاء السرير ثم أخذت تدعوه باسمه متلطفة، فمسح دموعه عن وجهه قبل أن يكشفه متظاهرا بالاستيقاظ من النوم، والتفت إليها وهو ما زال ممدا في الفراش، فقالت له: «لقد حان وقت الظهر يا ولدي، ويحسن أن تتناول قليلا من المرق.»
فقال لها: «شكرا لك يا سيدتي، لا حاجة لي بأي طعام الآن.»
فقالت: «إن الطبيب أشار بأن تتناول شيئا من المرق؛ لأنه يعاون على استرداد قواك.»
فاكتفى بأن أشار إليها بيده مصرا على الرفض، ولكنها لم تيأس من إقناعه، ووضعت الإناء الذي تحمله على المنضدة المجاورة للسرير، ثم انحنت عليه وأخذت تربت على وجهه متلطفة وقالت له في حنان: «إن المرق خفيف على المعدة، وسيفيدك تناوله فائدة كبرى بإذن الله.»
فتململ في مرقده ضجرا، ولم يتمالك نفسه فقال لها: «لماذا لم يعد حبيب حتى الآن؟ أليس اليوم يوم الجمعة ولا عمل له في القاهرة؟»
فقالت: «لقد أخبرني بأنه ذاهب في مهمة خاصة، ولعل بعض زملائه أخروه هناك كي يتغدى معهم، ولا يلبث أن يعود إلينا بعد قليل.»
فحدثته نفسه بأن يرد عليها قائلا: «بل هو الآن مع سلمى»، لكنه أمسك وسكت، فعادت هي إلى حمل إناء المرق بيدها، وقدمته له قائلة: «بالله يا ولدي إلا قبلت رجائي وتناولت هذا المرق الخفيف!» ثم مدت يدها الأخرى إليه بالملعقة، فلم يسعه إلا أن يمد يده لتناولها من يدها متأثرا بعطفها وحنانها، ثم هم بالنهوض ليتناول الإناء من يدها الأخرى، وما كاد يحمله بعد أن استوى جالسا حتى ارتجفت يده واهتز الإناء فانسكب جانب من المرق على حافة السرير، فاحمر وجهه خجلا وأسفا. لكن السيدة سارعت إلى تهدئة خاطره قائلة: «لا بأس يا ولدي!» ومسحت حافة السرير المبتلة بالمنشفة، وجاءته بمنشفة أخرى وضعتها على ركبتيه، وقالت: «بالهناء والشفاء يا ولدي، سآتيك بقطعة صغيرة من اللحم المشوي لتتغذى بها وفق مشورة الطبيب.»
فحاول أن يعتذر من عدم استطاعته تناول أي طعام آخر، لكنها سرعان ما انطلقت إلى المطبخ ثم عادت وهي تحمل إناء به بعض اللحم المشوي، فوضعته على المنضدة. ثم فتحت خزانة بجانب السرير وأخرجت منها ملاءة بيضاء نظيفة لتضعها على السرير بدلا من الملاءة المبتلة بعد أن يفرغ سليم من تناول الطعام. ولم تتركه حتى شرب المرق وتناول شيئا من اللحم، فأبدلت ملاءة السرير، وبقيت بجانبه تسليه وترفه عنه بالأحاديث حتى رأته يغمض جفنيه وكأن النوم يداعبه، فنهضت وتسللت خارجة من الغرفة تاركة إياه لينام.
على أنه في الحقيقة لم يكن يريد النوم، بل تظاهر بذلك كي يخلو إلى نفسه، ويعاود التفكير في أمر سفره إلى والدته، وفي أمر سلمى وحبيب. وكلما مضت ساعة دون أن يرجع هذا من القاهرة، اشتدت الغيرة بسليم، وهاج حنقه عليه وعلى سلمى، حتى إن نفسه حدثته أكثر من مرة بأن ينهض ويغادر المنزل كي يستقل القطار إلى القاهرة ويفاجئهما في خلوتهما هناك، ثم ينتقم منهما شر انتقام.
ولما جاء المساء دون أن يرجع حبيب، لم يعد سليم يقوى على تحمل ما يساوره من الوساوس والهموم. وكان إلى ذلك يشعر بأنه أشد تعبا وتخاذلا منه بالأمس، ويتوقع أن تعاوده الحمى أشد مما كانت. وعبثا حاولت شفيقة ووالدتها أن ترفها عنه، وضاق هو بمحاولتهما فتظاهر بحاجته إلى النوم، حتى اضطرهما إلى تركه وحده.
في الإسكندرية
وصل حبيب إلى الإسكندرية بالقطار السريع الذي يصل إليها في الساعة الأولى بعد الظهر، فاستقل عربة توجه فيها من فوره إلى منزل والدة سليم في شارع المسلة. وكان يعرفها من قبل وبينه وبين ابنها فؤاد شقيق سليم صداقة ومحبة، وسبق له أن زار المنزل أكثر من مرة وهو يصطاف في الإسكندرية.
ولما بلغ المنزل وطرق الباب، فتحته له سيدة لا يعرفها متوسطة العمر مكتنزة الجسم تنم ثيابها وزينتها عن الغنى وحب الظهور. فلما وقع بصره عليها حسب أنه أخطأ المنزل أو أن من كانوا فيه انتقلوا منه إلى غيره؛ فاعتراه الخجل وقال للسيدة التي استقبلته متلعثما: «أليس هنا مسكن الخواجة فؤاد؟»
قالت: «نعم، ولكنه ليس هنا الآن.» وظهرت على وجهها أمارات الارتباك.
فقال حبيب: «وهل السيدة والدته غائبة أيضا؟»
فقالت: «لا يا سيدي بل هي هنا.» ثم تنحت عن الباب ودعته إلى الدخول، فدخل مترددا وجلس في حجرة الاستقبال، بينما مضت السيدة لتدعو والدة سليم.
وبعد قليل، سمع وقع أقدام خارج الحجرة، ثم دخلت عليه والدة سليم وهي في ثوب بسيط ووجهها يفيض بالتقى والورع وإن بدا فيه شيء من الانقباض، وما كادت تراه حتى عرفته فترقرقت الدموع في عينيها، وهمت به مرحبة فضمته وقبلته قائلة: «أهلا وسهلا بولدنا العزيز حبيب.»
فقبل يدها وهو يغالب البكاء تأثرا بلطف استقبالها إياه ولما أدرك من أن سبب بكائها هو تذكر ولدها سليم، لكنه تجلد وتجاهل وسألها: «كيف حالك يا سيدتي، وكيف حال أخي فؤاد وبقية الأسرة؟»
فقالت: «كلهم بخير، والحمد لله على سلامتك.» ثم تنهدت وأردفت قائلة: «وكيف حال سليم، ولماذا لم يأت معك؟»
فارتبك حبيب قليلا ثم أجاب بقوله: «هو بخير والحمد لله ولا ينقصه غير مشاهدتك. وقد جئت إلى الإسكندرية فجأة قبل أن أقابله، ولولا ذلك لجاء معي.»
فتنهدت مرة أخرى وأطرقت ولم تجب.
وأدرك حبيب سر إطراقها وسكوتها فازداد ارتباكه، ولم ينقذ الموقف إلا دخول السيدة التي فتحت له الباب، وقد وضعت قبعتها على رأسها متهيئة للخروج، وقالت لأم سليم: «اسمحي لي أن أنصرف الآن؛ إذ لا بد لي من ذلك، وسأتمم الأمر الذي اتفقنا عليه نيابة عنك، فكوني مطمئنة.»
فقالت والدة سليم: «بورك فيك يا عزيزتي ولا حرمنا الله من فضلك.» ثم نهضت وودعتها حتى الباب الخارجي، وعادت بعد ذلك إلى حبيب، وأخذت تكرر تحيته والترحيب به إلى أن قالت: «لعلك قادم من السفر الآن فقط؟» فقال : «نعم، وقد جئت من المحطة إليكم رأسا.»
فسكتت وأطرقت مفكرة، كأنها تحاذر أن تقول شيئا. ثم رفعت رأسها فإذا بالدموع تنهمر من عينيها، وقالت: «وماذا صنع سليم مع فتاته وأهلها؟»
فتجاهل وقال: «أية فتاة يا سيدتي؟»
فقالت: «الفتاة التي أحبها وكتب إلي بأن أوافيه في القاهرة لإتمام خطبتها.»
فقال وهو يجاهد لإخفاء ارتباكه: «وهل اعتزمت إجابة طلبه؟»
فقالت: «كلا. بل كتبت إليه بأنني غير موافقة على خطبة تلك الفتاة.»
فقال: «ولماذا؟ هل عرفت الفتاة من قبل؟»
فتنهدت وقالت: «لم أرها ولا أحب أن أراها، وكفى ما سمعته عنها ممن عرفوا دخائلها ووقفوا على سيرتها. ولولا أن قيضهم الله لإخباري بأمرها وأمر أسرتها في الوقت المناسب لانسقت مع سليم في تيار خداعهم واحتيالهم.»
فأدرك حبيب صدق ما ظنه من أن عدم موافقتها على خطبة سلمى لسليم لم يكن إلا لوشايات كاذبة، وأراد أن يعرف من هم أصحاب هذه الوشايات فقال لها: «لكن يا سيدتي أنت تعرفين تعقل سليم وأنه ليس ممن ينخدعون بسهولة. فلعل ما سمعته عن الفتاة وأهلها من سواه غير صحيح.»
فقالت: «كلا يا بني، إن السيدة وردة التي رأيتها هنا الآن هي التي تفضلت مشكورة فكشفت لي حقيقة ذلك الأمر، وهي سيدة عريقة الأصل وتحبنا محبة صادقة، ولولا تعزيتها لي، وملازمتها إياي منذ وقع الجفاء بيني وبين سليم بسبب تشبثه بخطبة تلك الفتاة، رغم نصحي له بتركها، لقضيت حسرة وغما.»
وكان حبيب قد نفر قلبه من وردة منذ وقع نظره عليها وهي تفتح الباب له، لما لاحظ عليها من التبرج والخلاعة، فأدرك أنها سبب كل ما حل بسليم وسلمى من الشقاء، وأنها لا بد قد رمت بوقيعتها ونميمتها إلى غرض خاص. ثم أراد أن يتحقق ذلك فقال: «هل السيدة وردة هذه من القاهرة؟»
فقالت: «إنها تقيم بالإسكندرية منذ سنين، ولكنها تعرف كثيرا من العائلات في القاهرة، ولها أملاك هناك ورثتها عن المرحوم زوجها هي وابنتها الوحيدة.» قالت ذلك وتنهدت، فرجح حبيب أن وردة سعت في إفساد علاقة سليم بسلمى، لكي تزوجه بابنتها، وقال لوالدته: «هل ابنتها هذه متزوجة أم لم تبلغ سن الزواج بعد؟»
فعادت والدة سليم إلى التنهد، وقالت: «هي شابة في غاية الجمال والكمال، وقد خطبها كثيرون من أبناء العائلات الكبيرة الغنية، لكن والدتها كانت عند حسن ظني بصداقتها وإخلاصها لنا فلم تقبل أحدا منهم.»
فتحقق حبيب صدق ظنه ولكنه تجاهل، وقال: «ولماذا لم تقبل زواج ابنتها من أولئك الشبان الأغنياء أبناء العائلات الكبيرة، وما علاقة هذا بصداقتها وإخلاصها لكم؟»
فقالت: «لا أخفي عليك أنها كانت قد تفضلت ووعدتني بقبول سليم زوجا لابنتها، وأنت تعلم أن سليما ليس له إيراد إلا ما يأتيه من عمله في المحاماة، وهو ما زال مبتدئا فيها، فزواجه من إميلي ابنة السيدة وردة يجعله صاحب التصرف في ثروتهما الكبيرة فيريحه هذا من عناء الاهتمام بأمر المعيشة ويصبح من الوجهاء. وقد كنت معتزمة مخاطبته في هذا الأمر بعد أن تحققت محبة الفتاة ووالدتها له، ولكنه فاجأنا بأمر تعلقه بتلك الفتاة الأخرى التي وقع في حبائلها. وكتبت إليه محذرة منذرة لكي يقطع صلته بها مبينة له ما علمته عن سيرتها السيئة ودناءة أصلها، لكنه وا أسفاه! لم يستمع لنصحي وتحذيري، ونسي جهادي في سبيل تربيته وإخلاصي في السعي لإسعاده، وقد آليت على نفسي ألا أرضى عنه ما لم يرجع إلى رشده ويترك تلك الفتاة، ويقترن بإميلي التي لن يظفر بزوجة في مثل جمالها وعراقة أصلها وغناها، فضلا عن اتفاقي مع والدتها على ذلك ورفضها عشرات الخطاب الآخرين مراعاة لهذا الاتفاق.»
فقال حبيب: «أرجو أن تصغي جيدا لما سأقوله يا سيدتي، وأن تحكمي عقلك لا عاطفتك؛ فالأمر جد خطير كما سأبين لك.»
فدققت النظر إليه مندهشة، وقالت: «إني مصغية إليك يا ولدي، فقل ما تريد.»
قال: «إنك ارتبطت مع صديقتك السيدة وردة في شأن خطبة ابنتها لسليم دون أن يعلم بشيء من ذلك. وكما أنك تستنكفين ألا تتم هذه الخطبة، لا شك في أنه يستنكف ألا يفي بوعده للفتاة التي أحبها، ولا سيما أنه ارتبط بوعده لها وهو لا يعلم شيئا مما اتفقت عليه في شأن الفتاة الأخرى.»
فقالت: «لقد كتبت إليه بما علمته من أمر الفتاة التي وقع في شراكها، وكان عليه أن يستمع لمشورتي؛ لأني أمه ولا يمكن أن أشير عليه إلا بما فيه خيره وسعادته.»
قال: «لا أريد أن أقول إنك كتبت إليه بعد أن تمكن الحب من قلبه وصار من الصعب عليه أن يتخلص من ذلك الحب. ولكني أقول إن صديقتك السيدة وردة لم تكن خالية من الغرض حين أوغرت قلبك على الفتاة التي أحبها سليم، فمن مصلحتها طبعا ألا يستمر هذا الحب لكي يتم ما اتفقتما عليه من زواج سليم بابنتها.»
قالت: «إن إميلي جميلة مثقفة غنية وأمامها عشرات الخطاب كما ذكرت لك، وهم جميعا أغنى وأحسن مركزا من سليم. فلو أن صديقتي السيدة وردة كانت لا تبغي سوى مصلحتها ومصلحة ابنتها، لانتهزت الفرصة وزوجتها من أحد أولئك الخطاب الوجهاء الأغنياء، ولكنها في الواقع حرصت على مصلحة سليم، وتعبت كثيرا في سبيل إنقاذه من تورطه في حب فتاة القاهرة، وهي التي تولت إرسال الخطابات إليه باسمي في ذلك الشأن لأني لا أعرف الكتابة. وأسأل الله أن يجزيها عنا خير الجزاء فهي حقا مثال المروءة والوفاء.» •••
كانت الخادمة قد جاءت بالقهوة وقدمتها لحبيب، فشربها ثم قال لوالدة سليم: «اسمعي يا سيدتي، إني مثلك لا أريد إلا ما فيه الخير والسعادة لسليم، وما جئت من القاهرة اليوم إلا لأبحث معك هذا الأمر. وأنا أؤكد لك أن كل ما سمعته عن الفتاة التي أحبها في القاهرة وسوء سيرتها ووضاعة أصلها ليس له من الصحة أدنى نصيب، وإنما هو محض كذب وافتراء، فهي من أطهر الفتيات وأطيبهن عنصرا، ولم يحبها سليم إلا لما لمسه فيها من الخلال الحميدة. وسأطلعك الآن على سر وقعت عليه مصادفة دون علم سليم، وفيه ما يكفي دليلا على شرف تلك الفتاة وعزة نفسها ونبل أخلاقها.»
فقالت: «ما هو هذا السر؟»
قال: «إن سليما لم يطلعها على الخطابات التي أرسلتها إليه في شأنها، أو أرسلتها إليه السيدة وردة باسمك. ولكنها وقع في يدها اتفاقا أحد تلك الخطابات، فعلمت أنك غير راضية عنها، وأنك لن ترضي عنه إن استمر في علاقته بها، فهل تعلمين ماذا صنعت بعد ذلك؟»
قالت: «لا أعلم طبعا، فماذا صنعت؟»
قال: «كتبت إليه مؤكدة له أنها رغم شدة حبها إياه، لا يسعها قط أن تكون سببا لوقوع الجفاء بينه وبين والدته، ولا سيما بعدما علمت منه بما عانيت في سبيل تربيته؛ ولذلك أحلته من جميع العهود والوعود التي ارتبطا بها، لتتيح له النزول عند رغبتك.»
فعجبت والدة سليم من ذلك الأمر وكادت ألا تصدقه، فقالت له: «أحق ما تقول يا حبيب؟»
فقال: «أقسم لك يا سيدتي أني لم أقل لك إلا الحق، فتصوري الآن كيف ضحت الفتاة بسعادة قلبها في سبيل إعادة المياه إلى مجاريها بينك وبين سليم، ثم قارني بين تضحيتها ونبلها وعزة نفسها، وبين تهافت السيدة وردة على تزويج ابنتها من سليم، رغم ما تزعمه من كثرة خطابها وأنهم جميعا من الوجهاء الأغنياء، ورغم علمها بأنه يحب فتاة أخرى غير ابنتها.»
فسكتت والدة سليم قليلا ريثما أدارت الأمر في ذهنها، وقرأ حبيب في وجهها أمارات التردد، ثم قالت له: «ألا يجوز أن تكون الفتاة قد كتبت إليه ذلك الخطاب إمعانا في المكر والخداع، لتبرهن له على شدة إخلاصها في محبته ورغبتها فيما يسعده ويرضيه؛ كي يزداد تعلقا وهياما بها؟ لقد سمعت أنها بارعة في الحيلة والدهاء!»
فقال: «ما هذا الذي تقولين يا سيدتي؟ إن المكر والدهاء والاحتيال وما إلى هذه الصفات لا يمكن إلصاقها بفتاة نقية طاهرة كهذه، ضحت بسعادتها ومستقبلها حتى لا تفرق بين حبيبها ووالدته. وإنما الأولى بهذه الصفات من تطلق لسانها بغير الحق وتنهش أعراض الناس بالباطل، لكي تحقق أطماعها الخاصة.»
فتنهدت وأطرقت قليلا، ثم رفعت رأسها ومسحت بمنديلها دمعة ترقرقت في عينيها، وقالت: «إنني حائرة يا ولدي، وقد زدتني حيرة بما سمعته منك الآن. والحق أني كنت قد يئست من إقناع سليم بترك الفتاة التي أحبها. وخاطبت السيدة وردة في ذلك حين جاءتني اليوم، فأشارت علي بإرسال خطاب آخر إلى سليم تدعوه فيه إلى الحضور إلى هنا في أقرب وقت، لعلنا نستطيع إقناعه بالحديث معه وجها لوجه. وقد انصرفت على أن تتولى كتابة هذا الخطاب وإرساله إلى سليم بالنيابة عني كعادتها، وأحسب أنها أتمت هذه المهمة عقب خروجها.»
فقال: «فلتكتب إليه ما شاءت، فهو لن يحضر الآن.»
فدهشت وسألته: «ولماذا لا يحضر؟»
قال: «لأنه لا يستطيع ذلك بسببك يا سيدتي.»
فازدادت دهشتها وقالت: «بسببي أنا؟ لعله لا يريد أن يراني حتى لا يغضب حبيبته؟!»
فقال: «كلا يا سيدتي، إن لقاءك أعز أمنية له ولا شك، ثم هو لم يقابل الفتاة منذ تلقى خطابها الأخير، ولو أنه كان لا يعنيه رضاك، ما أتعب نفسه في محاولته إقناعك بوجهة نظره وببطلان التهم التي وجهتها إلى الفتاة، وقد كان في استطاعته أن يعقد خطبتها رسميا قبل ذاك.»
قالت: «إذن لعله مشغول ببعض القضايا التي لا يمكن تأجيلها؟»
فهز حبيب رأسه أسفا وقال: «ليس هذا أيضا ما يمنعه من الحضور، ولكنه ...» وسكت دون أن يتم عبارته.
فأجفلت وتجلى القلق في وجهها وقالت: «لعله مريض؟»
فقال: «نعم يا سيدتي هو الآن طريح الفراش، ولكن ليطمئن قلبك فلا خطر عليه، وهو عندنا بمنزلنا في حلوان، ووالدتي وشقيقتي تتعهدانه بكل رعاية وعناية.»
فلم تتمالك من النهوض من مقعدها ودقت صدرها بيدها فزعا وجزعا وقالت باكية: «سليم ولدي مريض؟ وا حسرتاه!»
فنهض حبيب، وأمسك بذراعيها داعيا إياها إلى الجلوس قائلا: «لا داعي للجزع يا سيدتي، فهو لا يشكو سوى حمى خفيفة أصابته بسبب كدره وحيرته بينك وبين خطيبته. وقد أفاده الدواء الذي وصفه له الطبيب ولا يلبث أياما حتى يسترد عافيته كاملة.»
فجلست إجابة لطلب حبيب، ولكنها لم تنقطع عن البكاء والنحيب وهي تردد قولها: «سليم مريض؟ آه يا ولدي العزيز!»
وأخيرا نهضت فجأة وهي تقول: «هلم بنا إلى القاهرة، لا تؤاخذني يا عزيزي حبيب فأنت بمنزلة ولدي ، ولا بد لي من السفر.»
وسكتت هنيهة مفكرة ثم قالت: «لقد ذهب فؤاد وقرينته للغداء عند أسرتها. ولا شك في أنه سيتأثر كثيرا حين يعلم بحضورك وسفرك دون مقابلته، ولكن يكفي أن تترك له ورقة تنبئه فيها بحالة سليم وبأننا عجلنا بالسفر للاطمئنان على صحته.»
فقال حبيب: «إنني سعيد جدا باعتزامك السفر معي لرؤية سليم؛ لأن هذا سيعجل شفاءه ويرد إليه مرحه وسعادته. وسنستقل قطار الليل إلى القاهرة بإذن الله. وإلى أن يحين موعد السفر أكون قد أنجزت بعض المهام في المدينة وعدت إلى هنا لمقابلة أخي فؤاد ثم اصطحابك إلى القاهرة.»
ثم نهض وقبل يدها مكررا تأكيده أن صحة سليم لا تدعو إلى أي قلق، وخرج مشيعا بدعواتها الطيبات.
ولما عاد بعد حوالي ساعتين كان فؤاد قد عاد إلى المنزل فتعانقا وتبادلا التحيات. ثم جلسا يتحدثان في شأن سليم وغير ذلك حتى حان موعد العشاء، فتناولوه جميعا، ثم أعدت والدة سليم حقائبها للسفر مع حبيب، واستقلا عربة من المنزل حتى المحطة مودعين من فؤاد وقرينته ووردة بأطيب التمنيات.
وعلم حبيب من والدة سليم وهما في القطار أن وردة أظهرت جزعا شديدا حين أنبأتها بمرض سليم واعتزامها السفر إلى القاهرة لرؤيته والاطمئنان عليه. وطلبت إليها أن تخفي نبأ مرضه على ابنتها إميلي زاعمة أنها ربما تموت حزنا وغما إذا علمت بذلك.
من سليم إلى سلمى
بقيت سلمى معتكفة في فراشها وهي تغالب تأثرها الشديد، وتفكر فيما يكون من أمر سليم بعد أن يطلع على خطابها. وقد اشتد ندمها على كتابتها هذا الخطاب، وشعرت بأنها أخطأت في حق سليم، وكان عليها أن تتأنى ولا تنساق مع عواطفها المهتاجة فتقضي بجرة قلم على علاقتها بعد أن توطدت وارتبط قلباهما.
وكانت تتوقع أن يأتي سليم لمقابلتها على أثر اطلاعه على خطابها، فبقيت حتى عصر ذلك اليوم وهي كلما سمعت طرقا على باب المنزل حسبت أنه هو القادم، فيشتد خفقان قلبها وتضطرب أعصابها. فإذا تبينت أن القادم غيره عاودها اليأس ولاح لها أنها فقدت حبيبها إلى الأبد، فيزداد جزعها وندمها على كتابة ذلك الخطاب إليه.
ولم تكن تستطيع أن تفرج عن نفسها بالبكاء؛ لأن أبويها كانا يلازمان غرفتها، ولا يتركانها إلا فترات يسيرة لمقابلة زائر أو إنجاز عمل في المنزل. كما أن سعيدة الخادمة الماكرة العجوز حرصت على أن تبقى قابعة بالقرب من سريرها، متظاهرة بشدة جزعها وتفانيها في خدمتها وتلبية مطالبها.
وكان أبواها يتوقعان أيضا أن يجيء سليم كعادته عند الأصيل، فلما ولى النهار دون أن يجيء، قلقا عليه، لكنهما لم يذكرا ذلك لسلمى مخافة أن يزيد هذا في توعكها وضعفها، وهما لا يعلمان شيئا من أمر خطابها إليه وخطاب والدته الذي وقع في يدها. كما أنهم جميعا لم يعلموا بأمر مرضه وملازمته الفراش؛ لأن حبيبا حين زارهم عصر ذلك اليوم لم يشأ أن يخبرهم بذلك، لما علمه من أمر مرض سلمى، وخشيته أن يزيدهم قلقا وانشغالا، فخرج من هناك مكتفيا بأن تمنى لسلمى عاجل الشفاء، ومضى إلى منزله في حلوان حيث أنبأ أمه بمرض سليم واتفقا على نقله إلى منزلهم للعناية به.
وأمضت سلمى ليلتها وهي على تلك الحال من القلق والاضطراب، ولم تنم إلا فترات متقطعة تخللتها الأحلام المزعجة. وأصبحت وهي أسوأ حالا منها بالأمس. فدعا والدها الطبيب لفحصها، وداخلهما بعض الاطمئنان حين قرر أن مرضها يسير لا يلبث أن يزول بالراحة والاستجمام، ووصف لها دواء يعاون على التعجيل بالشفاء.
على أنها في الواقع لم تكن في حاجة إلا لما يعيد إلى قلبها ما فقده من الأمل والسعادة بتبادل الحب مع سليم. فلم يجدها تناول الدواء نفعا، وبقيت تتقلب في فراشها حائرة مضطربة ولا تجد شهية للطعام أو الشراب، إلى أن حان وقت الأصيل، فعاودها الأمل في أن يجيء سليم كعادته، واضطجعت في سريرها متشاغلة بمطالعة أحد الكتب، وهي ترهف السمع لعلها تسمع صوته أو وقع خطاه حين وصوله.
وأخيرا، سمعت طرقا على باب المنزل، فاشتدت دقات قلبها، ولم تتمالك نفسها فألقت بالكتاب على الوسادة بجانبها، ولبثت ترتقب معرفة الطارق بعد أن خرجت والدتها بنفسها لفتح الباب.
وكانت أدما هي التي طرقت الباب، وقد جاءت لحاجة في نفسها تتعلق بحبيب، وهي لا تدري شيئا عن مرض سلمى. فلما علمت بذلك من والدتها، بدا عليها الوجوم والاضطراب، وسارعت إلى الدخول عليها في غرفتها متعثرة الخطا. وما كادت سلمى تراها حتى تذكرت ما بها من المرض والضعف بسبب الحب ومتاعبه فلم تتمالك عواطفها وأجهشت بالبكاء. فهمت بها أدما وقبلتها، وجلست بجانبها على السرير، محاولة مواساتها والترفيه عنها، ولكن لسانها لم يكن يقوى على الكلام لشدة ما هي فيه من الارتباك.
وكانت سلمى تحب أدما وتأنس إلى حديثها وتثق بإخلاصها لها، فحدثتها نفسها أن تخلو إليها وتكشف لها عن سبب مرضها وضعفها. ولكنها عادت فآثرت الكتمان، واكتفت بأن نظرت إليها وتنهدت متحسرة على أنها ليست مثلها خالية القلب من الحب وما يجر إليه من تعب وشقاء. ولم تكن تدري بالحب المتبادل بين أدما وحبيب، ثم قالت لها: «هنيئا لك يا أدما، إني أغبطك على ما أنت فيه!»
فوقعت هذه العبارة وقوع السهم على قلب أدما، إذ تذكرت السبب الذي جاءت من أجله، ولاح لها أن سلمى عالمة بأمر علاقتها بحبيب، وأنها تغبطها على ذلك، ثم همت بأن ترد عليها في صراحة، لكنها خجلت من ذلك فتجاهلت وقالت: «على أي شيء تهنئينني يا عزيزتي؟! إن حالتي لأحق بالتعزية.»
فهمت سلمى بأن تصرح لها بأنها تهنئها على خلو قلبها من شواغل الحب، ولكن الحياء أمسكها، فبدا عليها التردد، ثم قالت وفي صوتها ما ينم عن أنها لا تقول ما تعتقد: «إنما أردت تهنئتك على ما أنت فيه من صحة وعافية.»
فتحققت أدما صدق ظنها، وأن سلمى على علم بما بينها وبين حبيب من الحب، ولا تريد أن تظهر ذلك.
ومضت فترة وهما صامتتان، وكل منهما مشغولة بالتفكير في شأنها الخاص. ثم مضت أدما مستأذنة في الانصراف وودعت سلمى متمنية لها عاجل الشفاء، ثم عادت إلى منزلها وقلبها يحدثها بأنها ستجد حبيبا هناك. لكنها لم تجد في المنزل أحدا غير والدتها، فأظلمت الدنيا في عينيها، وأمضت بقية يومها في قلق وارتباك ما عليهما من مزيد. •••
كانت أدما بعد العودة من رحلة الأهرام تتوقع أن يجيء حبيب لمقابلتها في اليوم التالي؛ ليستأنفا ما بدآه هناك من حديث الحب وما إليه.
ولبثت تنتظر مجيئه منذ ظهر ذلك اليوم وهي لا تكاد تحول نظرها عن ساعة الحائط الكبيرة، تعد الدقائق الباقية على موعد انصرافه من الديوان إلى منزلها، وتكاد لفرط شوقها إلى لقائه تهم بعقارب الساعة فتقدمها عمدا لتقرب موعد اللقاء.
وبقيت حتى الساعة الثانية بعد الظهر وهي تارة تعود بذاكرتها إلى مناجاتهما بالأمس بجوار أبي الهول، وتارة تتخيله قادما إليها وهو يبتسم فلا يسعها إلا أن تقابل ابتسامته بمثلها، ثم تدرك أنه لم يأت بعد، فتأخذ في إعداد العبارات المنمقة لتعبر له بها عن شعورها نحوه متى جاء. كل هذا ووالدتها مشغولة عنها ببعض شئون المنزل، ولا علم لها بما يعتمل في صدرها من عوامل الوجد والهيام.
وازداد قلق أدما، ونفد صبرها منذ أخذت الدقائق تمضي بعد ذلك دون أن يحضر حبيب. ولم تعد تستطيع الاستقرار في مكانها، فأخذت تنتقل من غرفة إلى غرفة، ومن شرفة إلى شرفة، وعيناها شائعتان تحملقان في أشباح الغادين والرائحين في الطريق إلى المنزل، وكلما لمحت شخصا في مثل قامة حبيب، أو يرتدي بذلة قريبة اللون من بذلته، تسارعت دقات قلبها، ثم لا تلبث قليلا حتى تتبين أن القادم ليس هو، فتصعد الزفرات، وتعود إلى غرفتها متخاذلة، لتعاود الوقوف أمام المرآة، لتتحقق أن عينه لن تقع على شيء فيها لا يرضيه، وفي بعض الأحيان كانت تصادف والدتها في إحدى تلك الغرف، فلا يسعها إلا التظاهر أمامها بأنها تبحث عن ورقة أو كتاب، لتخفي عليها ما يشغلها ويقلقها.
ومضت ساعتان، كأنهما لطولهما سنتان، وأدما على هذه الحال، وكلما عادت إلى الساعة، حاسبة أن عقاربها أتمت دورة كاملة منذ رأتها لآخر مرة، وجدت أنها لم تقطع سوى دقائق معدودات.
وأخيرا، وفيما هي مطلة من إحدى النوافذ ، إذا بها ترى حبيبا مقبلا نحو المنزل، فخفق قلبها، وارتعشت ركبتاها، وبردت أطرافها. ثم أبرقت أسرتها، وهان عليها أن تلقي بنفسها من النافذة بين يديه في الطريق، ولا سيما حين رأته يختلس النظر إلى شرفة غرفتها. ثم همت بأن تمضي إلى تلك الشرفة لتطل عليه منها، لكنها فوجئت بأن رأته وقد انعطف فجأة عن الطريق المؤدي إلى المنزل، ثم اتخذ سبيله في العطفة المجاورة التي بها منزل سلمى؛ فأخذتها الدهشة ولم تصدق عينيها أول الأمر، ثم حسبت أنه ضل الطريق ولا يلبث أن يرجع. فلما طال انتظارها دون أن تراه راجعا، تحولت عن النافذة وساقاها لا تكادان تقويان على حملها، وأخذت الهواجس تتقاذفها، ولم تملك عواطفها فارتمت على أول مقعد صادفها واعتمدت رأسها بيديها آخذة في البكاء.
وبعد قليل، سمعت وقع أقدام بالقرب منها فانتبهت لنفسها، وأدركت أن أمها على قيد خطوات منها، فمسحت عينيها ونهضت متجلدة حتى لا تلحظ عليها أمها شيئا. على أن فكرها ما زال مشغولا بحبيب وسبب توجهه إلى منزل سلمى.
ولاح لها أن تلحق به إلى هناك كي تقف على ذلك السبب، غير أنها لم تجرؤ على ذلك، واكتفت بأن تسللت من المنزل إلى المنزل الملاصق له، وتظاهرت بالسؤال عن صديقة لها من الساكنات فيه، في حين أنها كانت تقصد أن تطل على منزل سلمى من نافذة هناك.
وما كادت تطل من هذه النافذة حتى وقعت عيناها على حبيب خارجا من منزل سلمى، فخفق قلبها بشدة، ورجح لديها أنه دخل هناك عن غير قصد ثم انتبه لنفسه فعاد أدراجه إلى منزلها. وسرعان ما تحولت عن نافذة منزل الجيران وعادت إلى منزلها حيث وقفت تطل على الشارع من شرفة غرفتها في انتظار وصول حبيب.
وكانت دهشتها أشد حين رأته يخرج من العطفة التي بها منزل سلمى، ثم يلقي على منزلها هي نظرة خاطفة، وينثني عائدا إلى المدينة دون أن يعرج عليه، وهمت بأن تناديه ولكن الحياء غلب عليها فأمسكت، وبقيت واقفة تنظر إليه من الشرفة حتى توارى عن نظرها، فأحست كأن قطعة من قلبها فصلت منه بسكين، وازداد اضطرابها وامتقاع لونها، ثم تحاملت على نفسها متحولة عن النافذة إلى سريرها حيث ارتمت عليه متظاهرة بحاجتها إلى الراحة، وبقيت ملازمة سريرها والهواجس تتقاذفها. وهي تارة يعاودها الأمل في رجوع حبيب لمقابلتها بعد أن ينتهي من إنجاز المهام العاجلة التي شغلته عنها، وتارة يداخلها اليأس فترجح أنه لن يرجع، وأن ما صرح به أمس من مبادلتها الحب والإخلاص لم يكن إلا مجاراة لها. وهنا يأخذها الندم على تصريحها له بأنها التي أرسلت إليه ذلك الخطاب، بل تلوم نفسها كل اللوم على كتابته، وتعد ذلك عملا من أعمال النزق والطيش لم يكن يليق بمثلها أن تقوم به.
وعند العشاء، سمعت وقع أقدام على سلم المنزل، فاختلج قلبها، وقفزت من سريرها لتفتح باب غرفتها وتستقبل القادم الذي رجحت أنه حبيب. ولكنها ما لبثت أن سمعت صوت القادم فإذا هو أبوها، فعاودت الانقباض، وعبثا حاولت التجلد حتى لا يلحظ أبواها انقباضها وكدرها، فجلست معهما على مائدة العشاء دون أن تستطيع تناول شيء من الطعام، ولبثت بعد ذلك ساعة تتظاهر بالاستماع لحديثهما، وفكرها مشغول بما هي فيه. ثم فقدت كل أمل في مجيء حبيب، فنهضت وأوت إلى فراشها، وباتت ليلتها تتقلب فيه على مثل الجمر، وتتقاذفها عوامل اليأس والرجاء، والشك واليقين، إلى أن اقترب الفجر وكان ذهنها قد كل وتعب فأدركتها سنة من النوم، تخللتها أحلام مختلفة متقطعة، بعضها مفرح لأنه يعيد إليها موقف حبيب معها في منطقة الأهرام وهما يتناجيان بعبارات الحب، وبعضها محزن مزعج لأنه يعيد إليها صورته وهو يمر بمنزلها في طريقه إلى منزل سلمى وعودته منه دون أن يعرج لمقابلتها.
وأصبحت متعبة مكدودة، فلم تبرح فراشها، زاعمة لوالديها أنها تشعر بصداع شديد. ثم ضاقت بملازمتهما غرفتها للاطمئنان على صحتها، فتحاملت على نفسها ونهضت فجلست على مقعد في الشرفة متشاغلة بالتطريز تارة وبالمطالعة في بعض الكتب تارة أخرى.
ولما حان موعد الغداء، تناولت مع والديها قليلا من الطعام، ولبثت ساعة تترقب أن يجيء حبيب عقب انصرافه من الديوان. فلما لم يجئ، نهضت وارتدت ثوب الخروج، ثم خرجت بعد أن استأذنت والدتها لكي تزور صديقتها سلمى. وهي إنما أرادت بهذه الزيارة أن تبحث ما دعا إلى توجه حبيب إلى هناك بالأمس. ورغم وثوقها بأن سلمى مخطوبة لسليم كان الشك يساورها في وجود علاقة بينها وبين حبيب. ولكنها كانت تستبعد ذلك، وتحاول طرد هذه الوساوس من ذهنها، إلى أن وصلت إلى منزل سلمى ثم قابلتها بعد أن علمت من والدتها بأنها مريضة ملازمة فراشها، فقويت شكوكها ولا سيما بعد أن لاحظت أن سلمى تحاول أن تخفي عليها شيئا تضمره في قلبها. وعادت إلى منزلها وقد ازدادت ضعفا على ضعف، وما كادت تصل إلى غرفتها حتى ارتدت ملابس النوم وارتمت على سريرها حيث أخفت وجهها بالغطاء، وأطلقت لدموعها العنان، لعلها تفرج بعض ما تعانيه من الغم واليأس وضيعة الآمال.
وفي الصباح التالي، لاحظت والدتها انقباض وجهها وضعفها. فأشارت عليها بأن تخرج معها للتنزه قليلا في إحدى الضواحي، فوافقت على ذلك. وخرجتا معا من المنزل، وما زالتا تتمشيان حتى وصلتا إلى محطة السكة الحديدية، فوقفتا هناك قليلا وهما تتأملان جموع القادمين إلى القاهرة والمسافرين منها، وفيما هما كذلك، لمحت أدما حبيبا داخلا إلى المحطة مسرعا، فخفق قلبها لهذه المفاجأة، وتوقعت أن يراهما فيعرج عليهما، ولكنه انطلق في سبيله لا يلوي على شيء.
وكانت والدتها قد رأته هي الأخرى، فقالت: «ترى ما الذي جاء بحبيب إلى المحطة في هذا الصباح؟ لعله جاء لاستقبال صديق له قادم من الإسكندرية!»
فسكتت أدما ولم تجب لانشغال بالها بأمر حبيب، على أنها ظلت تنتظر مع والدتها حتى يخرج من المحطة وتقف منه على سبب مجيئه، وعلى ما أخره عن مقابلتها منذ رحلة الأهرام حتى ذلك الوقت. فطال انتظارهما حتى غادر القطار المحطة قاصدا الإسكندرية، وخرج منها جميع من كانوا في تشييع المسافرين فيه وليس فيهم حبيبا، فأيقنتا بأنه سافر فيه، وشغلهما أمر هذا السفر الذي لا تعلمان سببه . وكانت أدما أكثر قلقا بطبيعة الحال، لما في قلبها من الشواغل التي لا تعلم بها والدتها. فلم تعد تستطيع المشي ولا الوقوف، وجاهدت لإخفاء ما بها على والدتها متظاهرة بأن الصداع الشديد عاودها، ثم عادتا إلى المنزل في إحدى مركبات الأجرة، فتناولت أدما بعض الأدوية المسكنة، وأوت إلى سريرها للراحة والاستجمام، وهناك انتهزت فرصة انفرادها واشتغال والدتها عنها ببعض شئون المنزل، وأخذت في البكاء. •••
لبث سليم حتى العصر وهو ينتظر رجوع حبيب من القاهرة إلى منزله الذي نقله إليه في حلوان. فلما لم يرجع حبيب حتى ذلك الوقت، نفد صبره ولم يعد يستطيع البقاء في ذلك المنزل لحظة واحدة. ولم تكن الحمى قد فارقته بعد، ولكنه رغم ذلك نهض وارتدى بذلته معتزما الخروج.
وجاءت والدة حبيب إلى غرفة سليم لتطمئن عليه وهي تحسب أنه ما زال نائما كما تركته منذ حين، فلما رأته مرتديا بذلته أخذتها الدهشة ووقفت تنظر إليه متسائلة، فقال لها: «لقد رأيت أن أخرج للتنزه قليلا في حديقة حلوان.»
فهمت بأن ترد عليه مشيرة بالانتظار حتى يرجع حبيب من القاهرة ويصحبه إلى الحديقة، لكنها خشيت أن تذكره بغياب حبيب فيزداد تأثره، وآثرت أن تتركه يمضي وحده للترويح عن نفسه بعض الوقت في الحديقة. حتى إذا رجع منها استسلم للنوم بعد تناول طعام العشاء، ولا يستيقظ حتى يكون حبيب قد عاد من الإسكندرية ومعه والدة سليم، أو يعتذر إليه بما يراه.
وغادر سليم المنزل آخذا طريقه إلى الحديقة، وفيما هو يمر بمحطة السكة الحديدية هناك، رأى القطار قادما إليها من القاهرة، فوقف ينتظر هبوط الركاب منه لعل حبيبا أن يكون بينهم. فلما تحقق أنهم نزلوا جميعا وليس فيهم حبيب، اشتد سخطه عليه وغيرته منه على سلمى، ثم لاح له أن يستقل هذا القطار عائدا إلى غرفته بالقاهرة حتى لا يجشم نفسه عناء مقابلة حبيب بعد ما رابه من أمره. وكان القطار قد بدأ يتحرك فسارع إلى الركوب، وألقى بنفسه على أحد المقاعد فيه، وهو يتنفس الصعداء كأنما أزيح عن صدره حمل ثقيل.
ولما وصل إلى غرفته، خلع بذلته وارتدى ثوب النوم، ثم تمدد في سريره، وقد أنهكه التعب وآثار الحمى وارتيابه في علاقة سلمى بحبيب.
وعبثا حاول النوم ليريح جسمه وأعصابه، فبقي حينا يتقلب في سريره وكله قلق وحيرة واضطراب، ثم لاح له أن يكتب إلى سلمى خطابا ينبئها فيه بما كشفه من غدرها ونفاقها، فنهض وجلس إلى المنضدة التي إلى جوار السرير بعد أن أغلق باب الغرفة، وأخذ يكتب إليها ذلك الخطاب قائلا فيه:
إلى الآنسة سلمى
أكتب إليك هذا الخطاب ولست أدري هل أستطيع الاستمرار في الكتابة حتى أتمه، أم أنتقل من الدنيا إلى الآخرة قبل ذلك. فأنا أكتب الآن ونار الحمى تتقد في رأسي وبدني، ورعشتها تهز القلم في يدي. ولكن هذا كله ليس شيئا يستحق الذكر بجانب ما يعتمل في صدري وقلبي.
وقد حاولت أن أمسك عن الكتابة إليك، بعدما تحققته من أمرك، ولكني خشيت أن أقضي نحبي قبل أن أطلعك على معرفتي بخبيئة نفسك، وبكل ما حسبت أنه سيخفى علي.
آه يا سلمى! وا أسفاه على الأيام التي قطعتها معتقدا طهر حبك وإخلاصك، حريصا على أن أكذب ما أسمعه عنك برغم وضوح صحته، وقيام الأدلة والقرائن كلها ضدك.
حتى والدتي يا سلمى، عققتها لأجلك، ولم أستمع لما كررته من النصح لي بالابتعاد عنك، رغم إنذارها إياي بأنها لن ترضى عني أبدا ما دمت على صلة بك، وبأنها ستموت حسرة وغما إن أبيت إلا التعلق بحبائل هواك.
وقد ساقت إلي الأقدار رجلا لم أعرفه ولم يعرفني من قبل، فسمعت منه اتفاقا قصة علاقته السابقة بك، وكيف انخدع بما أظهرت له من الوفاء والإخلاص، ولم يدخر في سبيل رضاك جهدا ولا مالا، ثم إذا به يستكشف مصادفة أنك عالقة القلب بسواه. وشد ما أسفت وتحسرت حين كشف لي الرجل عن اسم غريمه ومنافسه فيك، فإذا هو صديق لي طالما اعتقدت وفاءه وإخلاصه، وأنزلته من قلبي منزلة الأخ الشقيق، غير عالم بأنه مثلك داهية في المكر والخداع والنفاق!
وأخيرا، وقعت في يدي بعد خطابك الأخير ورقة بخط يدك، تبثين فيها ذلك الصديق، بل ذلك العدو، ما تكنين له من شدة الحنين والاشتياق. فكان أن انكشف الغطاء عن عيني، وأدركت أن ما طالما سمعته منك، وما قرأته في خطابك الأخير، عن المحبة الطاهرة، وتضحيتك في سبيلها، لم يكن سوى خداع وتضليل!
وا أسفاه على خيبة الرجاء فيك يا سلمى! إني مرسل إليك مع هذا بالورقة المشئومة التي هي صك خيانتك ودليل خداعك ومكرك. تاركا لك أن تندبي المحبة الطاهرة التي طالما استحلفتني بها، وأن تذكري العبرات التي ذرفتها عند الأهرام، والعبارات التي نمقتها في خطابك الأخير لتظهري أمامي بمظهر الطهر والنبل والعفاف، ولتوهميني بأنك ما زلت الوفية الحافظة للعهود والمواثيق.
وا أسفاه على شدة إخلاصي وصدق محبتي لك يا سلمى! لقد أسلمت زمام قلبي لمن لا ترعى عهدا ولا ذماما!
ولكن هذا القلب لن يشقى ويتعذب بعد اليوم. فهذه هي الحمى تندلع نيرانها في جسمي، وما أحسبها إلا قاضية عليه القضاء الأخير عما قليل. وحينئذ يخلو لك الجو، ولا يبقى هناك ما يحملك على سكب العبرات وتنميق العبارات لتموهي بها على سليم الساذج الغر الذي أخلص لك الحب، وعق في سبيلك والدته الحنون، وكذب عينيه وأذنيه وقلبه ليبقى معتقدا أنك ملاك طاهر لا تعرفين المخاتلة والرياء.
آه يا سلمى! إن والدتي المسكينة لا علم لها بما أنا فيه الآن، ولا شك في أنها ناقمة غاضبة لمخالفتي نصحها وإرشادها. لكني على يقين من أنها لن تلبث قليلا بعد موتي حتى تلحق بي حسرة وحزنا. فإذا قدر لك أن تقابليها قبل ذاك فاستغفريها لذنبي وذنبك. ووداعا يا سلمى! وداعا إلى الأبد، وإلى غير لقاء!
سليم
وطوى سليم الكتاب، ثم وضعه في ظرف، ونهض من مقعده وقد شعر بدوار شديد فعاد إلى الاستلقاء في سريره، وأخذ يفكر في وسيلة يرسل بها الكتاب إلى سلمى.
ولبث مستلقيا كذلك حتى الغروب، ثم جاء الخادم فأضاء المصباح وسأله عما يريده من طعام للعشاء ، ولم يكن سليم يشعر بشهية لتناول أي طعام، لكنه طلب قليلا من المرق، ثم تناوله وهو ما زال شاعرا بدوار الحمى وحرارتها، وعاد إلى التمدد في سريره، والتفكير في أمره.
ولاح له أن متاعبه كلها لم تجئ إلا لوجوده غريبا وحيدا في القاهرة حيث خابت آماله في الحب والصداقة ولم يلق في مهنته النجاح الذي كان يرجوه، فأخذ يناجي نفسه قائلا: «آه لو أنني نجوت من هذه الحمى الطاغية القاتلة، إذن لسارعت من هذه البلدة الظالم أهلها، ونقلت مكتبي إلى الإسكندرية، وهناك أجد القلب الذي لا يمكن أن يكن لي إلا المحبة والحنان، قلب والدتي العزيزة!»
وفي منتصف الليل، زايلته الحمى، وشعر بأنه استرد بعض قواه، كما شعر بأن كتابته ذلك الخطاب إلى سلمى قد أزاحت عن صدره جانبا كبيرا من ثقل حيرته وتردده، وما لبث بعد ذلك قليلا حتى أخذه النعاس، فنام لأول مرة منذ مرضه نوما عميقا هادئا لا تتخلله الأحلام المزعجة.
واستيقظ في الصباح وهو أحسن حالا، فارتدى بذلته، ووضع في جيبه الخطاب الذي كتبه إلى سلمى، ثم هبط إلى الشارع وركب عربة مضى بها حتى بلغ أول العطفة المؤدية إلى منزل سلمى، فأمر السائق بالوقوف هناك، وكلفه أن يصعد إلى المنزل ويسأل عن الخادمة العجوز سعيدة ويدعوها إليه.
وبعد قليل جاءت سعيدة، فما كادت عيناها تقعان على سليم وهو جالس في العربة حتى خفت إلى استقباله مرحبة، وقبلت يده متظاهرة بالبشر والحبور لرؤيته. فقال لها: «لي عندك رجاء فهل أنت على استعداد لإجابته؟»
فقالت: «إنني خادمتك المطيعة يا سيدي، ورهن إشارتك في كل ما تطلب، ولو كلفني ذلك حياتي.»
فربت كتفها شاكرا، وأخرج من جيبه خطابه إلى سلمى وناولها إياه قائلا: «كل ما أرجوه منك هو أن توصلي هذا الخطاب إلى سلمى يدا بيد، دون أن يعلم بذلك أي أحد، وإذا سألك أحد من أبويها عمن خرجت لمقابلته الآن، فلا تذكري أي شيء عني، فهل فهمت؟»
ثم نفحها ببعض النقود، فتمنعت عن أخذها مؤكدة أن رضاه عنها هو كل ما تتمناه، لكنه أصر على أن تأخذ تلك النقود فأخذتها، وعاد هو في العربة من حيث أتى. فلما وصل إلى محطة السكة الحديدية، تذكر ما فكر فيه أمس من السفر إلى الإسكندرية، وخشي أن تعاوده الحمى بعد الظهر فتقعده عن تحقيق هذه الرغبة، فهبط من العربة ونقد سائقها أجره، ثم دخل المحطة فابتاع تذكرة سفر إلى الإسكندرية، ثم اشترى بعض الصحف وجلس يتسلى بمطالعتها في القطار.
قلبان يحترقان
كانت سعيدة منذ مرض سلمى تبالغ في التقرب إليها والتظاهر بالتفاني في خدمتها، وهي على يقين من أن مرضها ليس إلا نتيجة لانقطاع سليم عن زيارتها. وكانت تتوقع أن تكاشفها سلمى بأمرها بعد أن وثقت بها، وحينئذ تنتهز الفرصة لتحملها على إغفال شأن سليم وقطع علاقتها به إلى الأبد، لتمهد بذلك لتحقيق رغبة سيدتها وردة في تزويجه بابنتها إميلي.
على أن سلمى رغم ثقتها بسعيدة واستئناسها بالتحدث معها بقيت حريصة على كتمان أمرها مع سليم، ومضت الأيام وسعيدة لا تجد الفرصة للتحدث معها في شأنه.
فلما جاء سليم وأعطاها ذلك الخطاب لتسلمه لسلمى، خشيت أن يكون فيه ما يعيد العلاقة بين الحبيبين إلى ما كانت عليه من الصفاء، ولا يبقى لها بعد ذلك سبيل إلى النجاح في مهمتها، فلما عادت إلى المنزل، أبقت الخطاب معها دون أن تسلمه لسلمى. ثم غادرت المنزل بعد قليل، وتوجهت مسرعة إلى منزل داود صديق سيدتها وردة لكي تطلعه على ذلك الخطاب وتستشيره فيما تصنع به.
ولاحظت سعيدة على داود دلائل القلق والارتباك منذ وقعت عيناها عليه بعد وصولها إلى منزله، وسألته في ذلك فقال لها: «نعم إني في قلق شديد، لأني تلقيت الآن خطابا من الإسكندرية بوساطة البريد، فلما فضضته وجدته موجها إلى سليم من والدته، تدعوه فيه إلى موافاتها في الإسكندرية في أقرب وقت مستطاع.»
فقالت سعيدة: «إن سيدتي وردة هي التي تكتب بخطها خطابات والدة سليم، فهل هذا الخطاب ليس بخطها؟»
قال: «إنه بخطها من الداخل والخارج كالمعتاد، وهذا هو الذي يقلقني.»
فلم تفهم سعيدة مراده واستوضحته الأمر فقال لها: «إنني أخشى أن تكون سيدتك قد كتبت خطابين في وقت واحد، أحدها لسليم باسم والدته وهو هذا الذي تلقيته الآن، والآخر لي لكنها أخطأت أيضا ووضعته في الظرف الذي كتبت عليه عنوان سليم. ولعل فيه من الأسرار ما كان يجب ألا يعلم به سليم.»
فقالت سعيدة له: «هذه ظنون ووساوس لا ينبغي الاسترسال فيها، ولن تمضي أيام معدودة حتى يتضح الأمر ونقف على حل هذا اللغز. ومن يدري فلعل سيدتي أرسلت إليك صورة من الخطاب الذي أرسلته إلى سليم باسم والدته لتكون على علم به. وعلى كل حال قد جئتك الآن بما هو أهم، فدع تلك الظنون والأوهام جانبا؛ لكي تشير علي بما يجب أن أصنعه.»
ثم أخرجت الخطاب الذي تسلمته من سليم وقالت: «لقد جاء سليم منذ ساعة في عربة وقف بها قرب منزل سلمى، ثم أرسل السائق يدعوني إليه وسلمني هذا الخطاب كي أسلمه لسلمى يدا بيد، وحذرني أن أذكر عنه شيئا لأي أحد سواها. ثم انصرف في العربة التي جاء فيها وعلى وجهه آثار الضعف والانقباض.»
فتناول داود الخطاب وفضه وأخذ في قراءته، وما أتمه حتى تنهد وتهلل وجهه فرحا وقال لسعيدة: «لقد ساق إلينا الحظ بهذا الخطاب أكبر خدمة، ولا يكاد يصل إلى يد سلمى وتطلع على ما فيه حتى يتحقق ما نرجوه من نجاح مهمتنا، ولا يبقى هناك أي أمل في عودة العلاقات الودية بين سلمى وسليم.» ثم شرح داود لسعيدة ما تضمنه خطاب سليم، وأعاد الخطاب إليها بعد أن لصق ظرفه كما كان، وأمرها أن تعجل بتسليمه إلى سلمى. •••
كانت والدة سلمى قد لاحظت خروج سعيدة من المنزل، فلما وجدت أن غيبتها طالت أكثر من العادة قلقت عليها، وما كادت تراها عائدة بعد ساعة حتى سألتها عن سبب خروجها وغيابها، فتنهدت سعيدة وقالت لها: «إن المخدم أرسل يدعوني إليه، وأخذ يتهددني لأني التحقت بالخدمة في منزلكم دون علمه، فذكرت له أني لا أعمل خادمة عندكم ، ولكنكم رثيتم لحالي وعطفتم على شيخوختي فآويتموني في داركم وأوسعتموني برا وإحسانا. لكنه لم يصدقني وعاد يهددني بأنه يعرف كيف ينتقم مني. فلم أعبأ بتهديده، وتركته يسب ويتوعد ورجعت إلى المنزل مسرعة لأكون في خدمة سيدتي سلمى وخدمتكم جميعا.»
فصدقتها والدة سلمى وأعجبت بإخلاصها وحسن تخلصها من المخدم، وقالت لها: «هكذا كل المخدمين، ولكن لا يهمك هذا الأمر.»
ثم سارعت سعيدة إلى غرفة سلمى، فوجدتها مضطجعة في سريرها وقد امتقع لون وجهها وذبل جمالها، وعيناها مغرورقتان بالدموع. فأدركت أن هذا بسبب مقاطعة سليم لها وعدم رده على خطابها الأخير إليه، لكنها تجاهلت وأخذت تعتذر من تخلفها عن خدمتها بعض الوقت وتسألها عن صحتها فقالت سلمى: «أشعر بأني أسوأ حالا مما كنت، والحمد لله على كل حال.»
فتظاهرت سعيدة بالتأثر الشديد، ثم أخذت تجاذبها الحديث إلى أن قالت لها: «يلوح لي يا سيدتي أن مرضك ليس كأمراض أكثر الناس.» وتنهدت.
فعجبت سلمى من هذه العبارة ونظرت إليها متسائلة، فقالت سعيدة: «لو أنه كان مرضا عاديا لأفاد الدواء في علاجه، ولعله مرض نفساني سببه القلق واضطراب الفكر.»
فخفق قلب سلمى وكادت تبكي لانطباق هذا الوصف على حالتها، غير أنها أمسكت نفسها وقالت متجاهلة: «إن الشفاء بيد الله يا خالتي، وما قلقي واضطراب فكري إلا بسبب مرضي.»
فمالت سعيدة عليها وربتت وجهها متلطفة وهمست في أذنها قائلة: «لست ألومك على تكتمك يا بنيتي، فهكذا كل الفتيات المهذبات العاقلات. ولكنك لا تجهلين أننا معشر العجائز لنا من خبرتنا وتجاربنا ما ليس لغيرنا. كما أنك تعلمين مدى محبتي لك ورغبتي في سعادتك، فلو أنك كشفت لي سبب قلقك واضطرابك، فقد أستطيع أن أنفعك بمشورتي.»
فتنهدت سلمى، وهمت بأن تصرح بحقيقة أمرها لسعيدة، ثم غلب عليها حياؤها فأمسكت وسكتت.
وانتهزت سعيدة هذه الفرصة فواصلت همسها قائلة: «إن ما يراه الفتيات شيئا خطيرا يدعو إلى الحزن واليأس، قد يكون في كثير من الأحيان شيئا تافها لا يدعو إلى شيء من ذلك. وقد طالما وقعنا في مثل ذلك في عهد الشباب، فكانت الدنيا لا تسع إحدانا لفرط فرحها وسرورها حين يصرح لها أحد الشبان بأنه أحبها وعلق بها آماله في المستقبل، ثم تروح على هذا الأساس تبني بخيالها قصورا عالية، وتكرس وقتها كله للتفكير في فتى أحلامها المختار الذي ساقته إليها الأقدار، وما هي إلا أيام أو شهور ثم تنكشف لها الحقيقة، فإذا بها كانت ضحية للوهم والخيال، وإذا بذلك المحب المدنف الولهان قد تخلى عنها لأتفه الأسباب، أو لأسباب مختلقة يلفقها لكي يتخلص من عهوده معها ووعوده لها، ليعيد تمثيل الرواية مع فتاة أخرى.»
وكانت سلمى تصغي إلى كلام سعيدة إصغاء تاما، وتراه منطبقا كل الانطباق على علاقة سليم بها. وبرغم ثقتها بإخلاص سعيدة وتعقلها، لم تستطع أن تتغلب على حيائها لتكاشفها بأمرها، واكتفت بتصعيد الزفرات.
وفيما هما كذلك سمعتا طرقا على باب المنزل، فأجفلت سلمى إذ تذكرت زيارات سليم السابقة، وإن كان أملها ضعيفا في أن يكون هو القادم. وخرجت سعيدة لترى من الطارق. ثم عادت بعد قليل إلى سلمى وقالت لها: «لقد جاءت الآنسة أدما ومعها أبوها وأمها، وهم الآن مع سيدتي والدتك في حجرة الاستقبال.»
ثم اقتربت منها وهمست في أذنها قائلة: «وهناك زائر آخر حسبته قدم معهم، ثم تبينت أنه جاء وحده ولم يشأ الدخول بل اكتفى بأن أعطاني خطابا لأسلمه لك يدا بيد.» قالت ذلك وهي تخرج خطاب سليم وتتلفت نحو باب الغرفة كأنها تحاذر أن يراها أحد.
فجف ريق سلمى في حلقها، وشعرت بأن قلبها يكاد يقفز من موضعه، وطفح العرق غزيرا من جبينها، وتناولت الخطاب من سعيدة بيد مرتجفة، وقالت لها والدموع تنهمر من عينيها: «إنه من سليم، أليس كذلك؟» قالت: «نعم.»
ثم تسللت سعيدة خارجة من الغرفة وأغلقت بابها من الخارج، فأدركت سلمى أنها صنعت ذلك لتتيح لها قراءة الخطاب قبل أن تدخل عليها أدما وأمها لعيادتها. وازدادت إعجابا بذكائها وتقديرا لإخلاصها، غير عالمة بما تدبره لها من المكايد في الخفاء. •••
ما كادت سلمى تطلع على خطاب سليم حتى اشتد ضعفها واضطرابها، فبردت أطرافها وأخذتها الرجفة حتى سقط الخطاب من يدها على الوسادة، وطارت الورقة الصغيرة الملحقة به ووقعت على الأرض، وهي الورقة التي وجدها سليم بين صفحات الرواية في منزل حبيب بحلوان، وحسب أنها مرسلة إليه من سلمى.
ولم تتمالك عواطفها المهتاجة فانفجرت باكية وأخذت تلطم وجهها قائلة: «وا فضيحتاه! وا أسفاه! ويل للمحتالين الخادعين الملفقين!»
وكانت سعيدة واقفة بباب الغرفة من الخارج، فسارعت إلى فتحه ودخلت متظاهرة بالارتياع وهي تقول: «ماذا بك يا سيدتي؟ لا بأس عليك!»
فانتبهت سلمى لنفسها، وارتمت على سريرها وهي تواصل التأوه والأنين، فقالت لها سعيدة: «هدئي روعك يا سيدتي وخفضي من صوتك حتى لا يسمع في غرفة الاستقبال وفيها والدتك مع أدما وأبويها.»
ولكن سلمى لم تستطع إمساك نفسها عن البكاء والعويل لفرط تأثرها، ثم أخذت الخطاب الملقى على الوسادة ووضعته في الظرف دون أن تفطن إلى الورقة الأخرى التي سقطت على الأرض، وبعد أن تأملته قليلا دسته تحت حشية السرير، ثم تلفتت نحو باب الغرفة فلما وجدته مغلقا، وسعيدة واقفة بجانب السرير وعليها أمارات التأثر الشديد، استوت جالسة فيه، وأخذت تمسح دموعها وتعض على نواجذها من الغيظ قائلة: «آه يا سليم! أهكذا آخرة الإخلاص والوفاء؟!»
فبادرت سعيدة بالانحناء عليها وأخذت تربت وجهها وكتفيها متظاهرة بأنها تغالب الدموع وقالت: «هوني عليك يا سيدتي، إن صحتك في حاجة إلى الهدوء.» ثم جاءتها بكوبة ماء وطلبت إليها أن تشرب قليلا، ففعلت واضطجعت في سريرها وهي تغالب عواطفها، فهمت بها سعيدة وقبلتها قائلة: «إن من كانت في مثل عقلك ونضجك لا ينبغي لها أن تنساق مع تيار العواطف، وتقتل نفسها كمدا وحزنا.» ثم جلست على حافة السرير عند قدمي سلمى، وواصلت مواساتها والترفيه عنها محاولة خلال ذلك أن تحملها على اليأس من حب سليم، والاعتقاد بأن الشبان جميعا لا أمان لهم ولا وفاء.
وفيما هما في ذلك طرق باب الغرفة، ففتحته سعيدة. ودخلت أدما وأمها لعيادة سلمى، وقد عجبا لما لاحظاه عليها من النحول والذبول واصفرار الوجه كأنها مريضة منذ أعوام. فقبلتها كل منهما، ثم جلستا على مقعدين بجانب سريرها، وأخذتا تجاذبانها أطراف الأحاديث عن أعراض مرضها وأسبابه ومدى أثر الدواء الذي وصفه لها الطبيب، وما إلى ذلك، وهي متوسدة لا يظهر غير وجهها من تحت الغطاء. «وما كادت سلمى تطلع على خطاب سليم حتى اشتد اضطرابها وسقط الخطاب من يدها.»
ولاحت من أدما التفاتة إلى ما تحت المنضدة المجاورة للسرير، فوقعت عينها على ورقة يشبه لونها لون الورقة التي كانت قد كتبتها وأرسلتها إلى حبيب في البريد. فخفق قلبها، وانتهزت فرصة خروج سعيدة من الغرفة وانشغال أمها وسلمى بالحديث والتقطت تلك الورقة خفية، فما كادت عيناها تقعان على الخط الذي كتبت به حتى كادت تصرخ من الدهشة والجزع إذ تبينت أنها هي خطابها السالف الذكر إلى حبيب. وصورت لها وساوسها أن حبيبا هو الذي جاء بخطابها إلى سلمى وتركه عندها، فاشتعل قلبها غيرة، وأنبها ضميرها على التسرع بمكاتبة حبيب وعلى تصديق دعواه في الحب والإخلاص. ولم تتمالك نفسها فأخفت الورقة في جيبها، ثم اعتمدت رأسها بيديها وأخذت تجهش بالبكاء.
وحسبت أمها أن بكاءها ليس إلا تأثرا برؤية صديقتها سلمى مريضة. وكذلك اعتقدت سلمى نفسها، فدمعت عيناها والتفتت إلى أدما قائلة: «أتبكين يا أدما؟ لا لا، لا ينبغي أن تبكي. إن حالتي تستحق الرثاء، وأنا أشكر لك عاطفتك الرقيقة هذه. ولكن عليك أن تتجلدي وتصبري فليس في البكاء من فائدة!»
فلم تزدد أدما إلا بكاء وغيرة، إذ فهمت من عبارة سلمى هذه ما رجح ظنها.
وفيما هي كذلك سمعت طرقا على الباب الخارجي للمنزل، ثم فتح باب الغرفة ودخلت أم سلمى وخلفها حبيب، فما كادت تراه وهي في تلك الحال حتى علا وجهها الاحمرار، وبردت أطرافها ولم تقو على النهوض لتخاذل ساقيها وارتجافها، ولم يكن هو يتوقع أن يجدها هناك فبدت الدهشة في وجهه وارتبك فلم يجد ما يقوله لها، واكتفى بأن حياها تحية خاطفة، ثم انصرف بوجهه عنها إلى سلمى وأخذ يسألها عن صحتها ويواسيها متمنيا لها عاجل الشفاء.
وهنا لم يبق لدى أدما شك في أنه لا يحبها، وأنه كان يسخر منها حين أوهمها بذلك، فازداد اضطرابها وغيظها ولم يسعها إلا أن تتحامل على نفسها وتتسلل خارجة من الغرفة والدموع تنهمر من عينيها.
ولم تشأ أن تدخل غرفة الجلوس إذ تذكرت أن أباها في انتظارها ووالدتها هناك، وخجلت أن تبدو أمامه وهي في مثل تلك الحال من الجزع والاضطراب، فجلست على مقعد أمام الغرفة، وأطلقت لدموعها العنان، وقلبها تتنازعه عوامل الحب والغيرة والندم والغيظ وحب الانتقام.
وبعد قليل، خرج حبيب من الغرفة ومعه والدة سلمى. ومرا بها دون أن يشعرا بوجودها هناك، وانتحيا ناحية وقفا يتهامسان فيها، فزادها ذلك شكا في براءة العلاقة بين حبيب وسلمى. ولم تطق البقاء في مجلسها فنهضت محنقة ودخلت غرفة الجلوس، وجلست متجلدة في ناحية منها تجاه أبيها، دون أن تنبس بكلمة.
ولم تمض دقائق حتى وافتهما والدتها، ثم والدة سلمى ومعها حبيب، وجلس الجميع يتبادلون الحديث عن مرض سلمى وتمنياتهم لها بعاجل الشفاء. ثم نهض حبيب وانصرف بعد أن حياهم مودعا. ولاحظت أدما أنه لم ينظر إليها ولم يوجه لها أية كلمة، فتحققت صحة ظنونها واتهاماتها؛ فغلا الدم في عروقها، ولم تستطع صبرا على كبت غيظها وحزنها، فتظاهرت بتوعك صحتها واستأذنت والديها في أن تسبقهما إلى المنزل لتعتكف وتستريح، ثم حيت والدة سلمى وانصرفت مسرعة لا تلوي على شيء. •••
كان حبيب قد وصل إلى منزله في حلوان ومعه والدة سليم، ففوجئا بأن سليما غادر المنزل عند الأصيل ليتمشى بعض الوقت في الحديقة العامة، لكنه لم يعد.
ونزلت المفاجأة نزول الصاعقة على قلب أمه وعلى قلب حبيب، وعبثا حاولت والدته وشقيقته أن تهونا الأمر على والدة سليم، وأن تقنعاها بأنه عوفي من مرضه ولعله عاد إلى القاهرة لأمر عاجل يتعلق بعمله ولا يلبث أن يعود. وأخيرا رضيت أن تنتظر هناك ريثما يعود حبيب إلى القاهرة ويأتي بسليم منها.
وسارع حبيب إلى القاهرة، وتوجه إلى غرفة سليم فلم يجده فيها، لكنه علم بأنه أمضى فيها الليلة السابقة، فانصرف من هناك إلى البحث عنه، فلم يجده في المكتب ولا في غيره من الأمكنة التي يغشاها. ثم لاح له أن يسأل عنه في منزل سلمى، فمضى إلى هناك وهو في منتهى القلق والاضطراب، وحسبت والدة سلمى أنه جاء ليسأل عن صحتها، وقادته إلى غرفتها كي يعودها، ففوجئ بوجود أدما، ولم يستطع لشدة اضطرابه أن يحسن لقاءها، فتشاغل بالحديث مع سلمى والاستفسار عن صحتها. ثم انتهز فرصة خروج أدما وخرج ومعه والدة سلمى مودعة، فسألها عن سليم ولما علم بأنه لم يزرهم منذ أيام، لم يشأ أن يخبرهم بأمر مرضه واختفائه لئلا يزيد في قلقهم، وزعم أنه يبحث عنه لشأن خاص، ولعله سافر إلى خارج القاهرة لعمل يتعلق بمهنته. ثم غادر المنزل لمواصلة البحث عن سليم وقد اشتد قلقه عليه خشية أن يكون يأسه قد دفعه إلى الانتحار. ولم تكن أدما تدري شيئا من ذلك كله فتوهمت أن حبيبا تعمد تجاهلها واتخذت من ذلك قرينة تعزز اتهامها إياه.
ولما يئس حبيب من وجود سليم في القاهرة، عاد إلى حلوان راجيا أن يجده سبقه عائدا إلى هناك، لكنه ما كاد يصل إلى المحطة حتى لمح والدته ووالدة سليم في انتظار القطار، فسقط في يده. ولم يجد هو ووالدته تعليلا مقنعا لاختفاء سليم. وخيل لوالدته أن حبيبا ووالدته يعلمان سبب اختفاء ولدها لكنهما يكتمانه إشفاقا عليها، فازداد جزعها ولم تعد تستطيع صبرا وتجلدا، فأخذت تلطم وجهها وتصرخ مولولة لعظم فجيعتها بفقده، وهمت بيد حبيب محاولة تقبيلها وهي تقول: «لا تكتم عني شيئا، قل إن سليما مات أو انتحر. آه يا ولدي وفلذة كبدي! لقد كنت أنا سبب فقدك، فليتني مت قبل هذا، أو ليتني لم أعارض رغبتك.» والتف حولهم جمهور كبير من الهابطين من القطار والصاعدين إليه. واستمرت في لطمها وندبها وعويلها حتى تحرك القطار عائدا إلى القاهرة فتعلق به حبيب وهو يقول لها: «ها إني راجع إلى القاهرة للبحث عنه ولن أرجع إلا وهو معي إن شاء الله.»
ولم يسع والدة سليم إلا أن تعود إلى منزل حبيب مع والدته في انتظار ما يكون. ولكنها لم تنقطع عن النواح، ولم ترض أن تذوق أي طعام. •••
وصل سليم إلى الإسكندرية وهو في حالة يرثى لها من الضعف والاضطراب، وكان كلما حاول أن يتناسى سلمى وتصور ما وقف عليه من علاقتها بصديقه حبيب هاجت أشجانه وسخط على الحب والصداقة، غير أنه كان لا يلبث قليلا حتى يعود بذاكرته إلى سابق عهده بسلمى وحبيب، وما لمسه فيهما من التفاني في المودة والوفاء. وهكذا لبث طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية نهبا لهذه العوامل المتضاربة حتى كاد عقله أن يطير من رأسه لفرط تحيره وتردده.
واستقل عربة أوصلته إلى المنزل الذي تقطنه والدته مع شقيقه فؤاد وقرينته. فلما قرع الباب فتحته خادم لا يعرفها وسألته عمن يريد، فحسب أن والدته وشقيقه انتقلا من ذلك المنزل، وسأل الخادم: «أليس هذا منزل الخواجة فؤاد؟» فقالت: «نعم، ولكنه خرج منذ قليل ولن يعود قبل ساعتين.»
فقال لها: «أليست والدته أو قرينته هنا الآن؟»
فسكتت قليلا وهي تمعن النظر فيه، ثم قالت: «إن سيدتي قرينته هنا.»
وما أتمت جملتها حتى كانت قرينة فؤاد قد جاءت لترى من الطارق الذي أطالت الخادم الحديث معه، فلم تعرف سليما أول الأمر لشدة ضعفه وتغير هيئته. ثم عرفته فبادرت باستقباله مرحبة والدهشة تكاد تعقد لسانها، فدخل المنزل وساقاه لا تقويان على حمله وسألها: «أين والدتي؟ أليست هنا؟»
فدعته إلى الجلوس كي يستريح، وقالت له: «إنها سافرت إلى القاهرة لكي تراك، وهذا أنت قد جئت لكي تراها. أليس هذا من عجائب الاتفاق؟»
فأخذته الدهشة وقال: «سافرت إلى القاهرة لتراني؟ كيف ذلك؟ ومتى سافرت؟»
فقالت: «سافرت الليلة الماضية مع صديقك حبيب.»
قال وقد ازدادت دهشته: «أي حبيب؟ هذا غير ممكن! ما الذي يجيء بحبيب إلى الإسكندرية الآن؟»
فقالت: «لقد عدنا إلى المنزل مساء أمس أنا وفؤاد، فوجدناه هنا مع والدتك، وعلمنا منه أنك كنت مريضا وما زلت في طور النقاهة. وبعد أن تناولنا العشاء جميعا، اصطحب والدتك وعاد بها إلى القاهرة في قطار نصف الليل.»
فسكت سليم حائرا، ولم يستطع الاهتداء إلى سبب مجيء حبيب. وأخيرا دعته قرينة أخيه إلى النهوض لغسل رأسه وتبديل ثيابه. فنهض لذلك متثاقلا وهو لا يستطيع إخفاء ما به من الدهشة والشك. وما كاد ينتهي من ذلك حتى عاد شقيقه فؤاد من عمله لتناول الغداء في المنزل. فتعانقا طويلا، ثم جلسوا إلى المائدة جميعا، وهم يتبادلون الحديث حول ذلك الاتفاق العجيب، وسليم أشد دهشة لأنه لم يكن يتوقع أن تزوره والدته في القاهرة بعد أن أنذرته بمقاطعته إلى الأبد في خطابها الأخير؛ ولأنه لم يهتد إلى سبب مجيء حبيب إليها دون علمه واصطحابه إياها إلى القاهرة.
وبعد الغداء، طلب فؤاد إلى سليم أن يتمدد قليلا في الفراش للراحة من عناء السفر. فوافق على ذلك لكي يخلو إلى نفسه ويعاود التفكير في الأمر.
وقبيل المغرب، دخل فؤاد عليه غرفة النوم لإيقاظه، فإذا بالحمى قد عاودته فارتفعت درجة حرارته، وأخذته الرعشة، وتصبب عرقه غزيرا. فجلس بجانبه يسأله عما به ويهون عليه الأمر. ثم دعا زوجته وطلب إليها أن تكلف السيدة وردة باستدعاء طبيبها المعروف ببراعته لفحص سليم ومعالجته، فسارعت إلى إجابة هذا الطلب.
وبعد قليل، عادت زوجة فؤاد ومعها الطبيب وسيدتان لم يعرفهما سليم، فاقتربت كبراهما منه وهي في ثياب تنم عن الثراء والتبرج، وقبلته بحنان قائلة: «لا بأس عليك يا ولدي. لقد جزعنا جميعا حين علمنا بأنك مريض في القاهرة، وكنت مصرة على مصاحبة والدتك في سفرها للاطمئنان عليك.» ثم التفتت إلى الطبيب وكان قد شرع في فحص سليم وقالت له: «أرجو يا دكتور أن تبذل أقصى عنايتك بعزيزنا سليم، فهو عندي في معزة إميلي ابنتي.» قالت ذلك وهي تشير إلى الفتاة التي دخلت معها. فعلم سليم أنها ابنتها، وعجب لمبالغتها في الاحتفاء به، ومعاملته كأنها تعرفه منذ عهد بعيد.
وبعد أن انتهى الطبيب من فحص سليم، التفت إلى تلك السيدة وقال: «اطمئني يا سيدتي، إنها حمى بسيطة لا خطر منها، ولكن يحسن أن يصحب تناول الدواء الذي سأصفه الآن، العناية بتبديل الهواء، أو الإقامة بمكان هواؤه نقي منعش مثل منطقة الرمل.»
فقالت: «هذا أمر سهل جدا يا دكتور، وأنت تعرف أن منزلنا في الرمل يمتاز بحسن الموقع. وبما أن والدته ليست هنا، فإن واجبي أن أقوم مقامها، وسأنتقل معه إلى منزلنا ذاك لأشرف على خدمته وتمريضه حتى ترجع والدته من القاهرة بسلامة الله.»
ثم التفتت إلى قرينة فؤاد وقالت لها: «إن منزلي ومنزلكم واحد كما تعلمين، وأنت مشغولة بالأولاد وتربيتهم، أما أنا فأستطيع تخصيص وقتي كله للقيام بهذه المهمة.»
فأعجب سليم بلطف تلك السيدة وإخلاصها وكرمها، ثم رآها تودع الطبيب وتشير إلى ابنتها أن تكلف بعض الخدم بإعداد منزل الرمل للانتقال إليه بعد قليل، فخاطبها لأول مرة قائلا وفي وجهه علامات التأثر الشديد: «إننا جميعا عاجزون عن شكرك يا سيدتي، وليس في الأمر ما يدعو إلى تعجيل الانتقال.»
فقالت له: «إنني لم أقم إلا ببعض الواجب علي، فوالدتك أعز علي من أخت شقيقة، وأنت عندي بمنزلة وحيدتي هذه (وأشارت إلى ابنتها إميلي). وكن على يقين من أن وجودك عندنا هو أسعد ما نتمناه. ومتى عادت والدتك بالسلامة فستخبرك كما يخبرك عزيزنا فؤاد وقرينته بأنه ليس بيننا أي تكليف.»
ولم يسع فؤاد وقرينته إلا أن يشكراها بدورهما على صدق مودتها ومروءتها، تاركين أمر الانتقال أو البقاء لرغبة سليم، فقال موجها الكلام إلى وردة: «إنني ولا شك يسعدني أن ألبي هذه الدعوة الكريمة المشكورة، ولكني الآن ما زلت في نوبة الحمى، وربما كان في الانتقال ما يزيد وطأتها، فننتظر إلى غد، ثم يفعل الله ما يشاء.»
فقالت وردة: «لقد سألت في ذلك صديقنا الطبيب، فأكد لي ألا خطر من الانتقال الآن على أن يكون في عربة مغلقة.»
ثم التفتت إلى ابنتها وقالت لها: «هل كلفت الخدم بإعداد منزل الرمل؟»
فقالت: «نعم، وقد ذهب أحدهم لإحضار مركبة مغلقة حسب أمر الطبيب.» ثم أطرقت وقد توردت وجنتاها خفرا وحياء. فلم يجد سليم وجها للمعارضة، وسكت متنهدا إذ ذكرته رؤية إميلي بسلمى وما كان من إعجابه بكمالها وأدبها وحيائها. وكادت الدموع تنحدر من عينيه تأثرا لولا أن جاء أحد خدم وردة وقال لها: «إن المركبة بالباب يا سيدتي.» فنهضت، وتعاون الجميع على توصيل سليم إلى المركبة وإدخاله فيها، حيث جلس بين شقيقه فؤاد والسيدة وردة، وسارت المركبة، وخلفها مركبة أخرى فيها إميلي وزوجة فؤاد.
وبعد حوالي نصف ساعة وقفت المركبتان أمام منزل جميل فخم، يقع على مرتفع مشرف على البحر، فنزل الجميع ودخلوا وسليم بينهم، حيث جلسوا بعض الوقت في غرفة فخمة الأثاث والرياش معدة للاستقبال، ثم أشارت وردة بالانتقال إلى الغرفة التي خصصت لنوم سليم، فانتقلوا إليها، وأمضوا وقتا آخر محيطين بسريره، يلاطفونه بمختلف الأحاديث، ما عدا إميلي فقد بقيت ساكتة يبدو عليها الاستحياء، وإن لاحظ سليم أنها تختلس النظر إليه بين آونة وأخرى ثم تعاود إطراقها أو تتشاغل بالإشراف على أعمال الخدم وهم يعدون العشاء.
وأخيرا، انصرف فؤاد وقرينته عائدين إلى منزلهما بعد تناول العشاء. ولم يبق مع سليم في غرفته سوى وردة وابنتها، وكانت نوبة الحمى قد زايلته وشعر بتجدد قواه، فأخذ يسرح طرفه في الأفق من النافذة المطلة على البحر أمامه، متحاشيا النظر إلى إميلي كيلا يزيد في خجلها، ولئلا يثير أشجانه بتذكر سلمى.
وفيما هو في ذلك نهضت وردة من مقعدها بجانب السرير، وأمسكت زجاجة الدواء الموضوعة على منضدة فخمة تحت النافذة المذكورة، فصبت قليلا منها في قدح، وعادت تحمله إلى سليم، فتناوله من يدها وشرب ما فيه ثم رده لها شاكرا، فقالت: «إذا شئت أن تزيد في سعادتنا وسرورنا لوجودك معنا، فلا تعد مرة أخرى إلى مثل هذه العبارات. فأنت هنا في منزلك مع والدتك وشقيقتك، وليس عليك إلا أن تأمر وعلينا السمع والطاعة.»
فاغرورقت عيناه بالدموع لفرط تأثره بهذه المجاملة، ولاحظت إميلي أن العرق يتصبب من وجهه، فنهضت وجاءت بمنديل كبير من الحرير الأبيض، وأخذت تمسح به وجهه في ترفق وحنان، فضاعف هذا تأثره ولم يستطع إمساك دمعة انحدرت على خده، وخشي أن يتكلم ليشكرها فتخنقه عبراته، فاكتفى بأن ضمن نظراته إليها كل معاني الشكر والاعتراف بالجميل، ثم عاد إلى تحاشيه النظر إليها لما لاحظه من ازدياد خجلها حتى تضرجت وجنتاها بالحمرة.
على أنها ما لبثت قليلا حتى جاءت بمروحة لطيفة ووقفت تروح بها على وجهه، فاحمر وجهه هو حياء، ونظر إليها وعلى فمه ابتسامة الشكر قائلا: «لا داعي لتعبك يا عزيزتي.»
فقاطعته والدتها قائلة: «إن إميلي بمنزلة شقيقتك، فدعها تقم بالواجب عليها؛ لأن هذا يسعدها ولا شك.»
ولم يسعه إلا السكوت، وأخذ يصغي لما تحدثه به وردة عن علائق المودة الخالصة التي تربطها وابنتها بوالدته، وعن تمنياتهن الطيبة المشتركة له قبل رجوعه من القاهرة، بينما قلبه يخفق بشدة، ولا سيما حين كانت تحين منه التفاتة إلى إميلي وهي تروح له فتقع عيناه على يدها البضة تزينها الأساور الذهبية المرصعة بالماس، أو على وجهها المتورد وقد ازدادت حمرته خجلا من نظراته، وتأثرا بحركة يدها المستمرة في الترويح له.
وكانت صورة سلمى تراود خياله خلال ذلك، فلا يسعه إلا أن يجاهد نفسه كي يبعدها، مستنكفا أن يفسح لها مكانا بجانب صورة إميلي التي أسرته بتواضعها ولطفها وتفانيها في خدمته رغم أنه لم يرها من قبل.
ومضى الوقت دون أن يشعر بمضيه إلا حين دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فأراد أن يستأذنهما في أن تتركاه مشكورتين لينام، لكنه خجل وسكت. وإذا بإميلي تقول: «أظن أنه يستحسن أن نتركك الآن لتأخذ حاجتك من النوم؟»
فأعجب بفطنتها وظرفها وقال: «الواقع أني لا أريد أن تفارقاني لحظة واحدة، ولكني أشعر بأني أتعبتكما كثيرا.»
فافتر ثغرها عن ابتسامة كبيرة ونظرت إليه وقالت: «إننا لم نشعر بأي تعب، بل شعرنا على عكس ذلك بمنتهى الغبطة والسعادة لاطمئناننا على صحتك. ولولا خشية أن يثقل عليك وجودنا أثناء نومك، ما فارقناك قط. على أننا سنبقى قريبا منك في الغرفة المجاورة.»
ثم أشارت وردة إلى إميلي فنهضت وعاونتها على تنظيم سريره وتغطيته ثم همت به فقبلته وقالت: «تصبح على خير يا بني.» وخرجت تتبعها إميلي. وقبل أن تغلق هذه باب الغرفة خلفها، تريثت قليلا وهي تنظر إليه، فلما نظر إلى هذه الجهة وتلاقت نظراتهما ابتسمت له وأحنت رأسها مودعة، ثم أغلقت الباب بهدوء.
حب جديد
استيقظ سليم في صباح اليوم التالي، بعد نوم عميق مريح، وقد شعر بأنه استعاد صحته. وما كاد يفتح عينيه حتى وقعتا على إميلي وهي واقفة بجانب سريره، وهي بثياب البيت، وفي يدها المروحة التي تروح له بها. فلما تلاقت نظراتهما ابتسمت له وقالت: «صباح سعيد يا عزيزي. كيف حالك الآن؟»
فاحمر وجهه حياء، واستوى جالسا في السرير، ثم مد يده وأخذ المروحة من يدها قائلا: «سعد صباحك يا عزيزتي، إنني ما عشت لن أنسى لك ولوالدتك العزيزة هذا الجميل.» ثم أطرق وتشاغل بالترويح على وجهه بيده. فإذا بإميلي تمسك يده في ترفق وتلطف وتقول وعيناها تلمعان ببريق ساحر جذاب: «أترى يدي كانت ثقيلة عليك؟» ثم ضغطت يده بخفة ورشاقة وهي تبتسم، فتمشت الرعدة في مفاصله وتسارعت دقات قلبه، وعادت به ذاكرته إلى اليوم الأول لتبادله الحب مع سلمى، فوجم وخشي أن يكون قد نجا من شر ليقع في شر أعظم، فلم يسعه إلا جذب يده من يدها بلطف، وأطرق ساكتا والهواجس تتقاذفه.
فاشتد احمرار وجهها، وبدت فيه آثار الخجل والكدر معا، وتأخرت خطوة إلى الوراء وساقاها لا تقويان على حملها لفرط تأثرها. فأثر في نفسه ضعفها وأنف أن يسيء إليها وإن لم يقصد ذلك بعد أن أحسنت إليه وسهرت هي وأمها في رعايته وخدمته، وبالغتا في إكرامه والعطف عليه. فمد يده وأمسك يدها وضغطها مترفقا وقال بصوت مختنق: «إنني لن أنسى يدك ما دمت حيا.»
فنظرت إليه في عتاب وقالت هامسة: «ولماذا رفضتها إذن؟»
فقال: «أنا أرفض يدك؟ وهل مثل هذه اليد يقدر على رفضها أحد؟»
فتوردت وجنتاها، واغرورقت عيناها بالدموع وانكسرت أهدابها ثم رفعت عينها ورمقته بنظرة نفاذة مؤثرة وقالت: «أرجو ألا تندم على أنك طلبتها بعد أن رفضتها.» قالت هذا وركزت نظراتها في عينيه منتهزة الفرصة السانحة لإيقاعه في شباكها.
فقال متلعثما: «حاشا وكلا، ولكني أخشى ألا أكون أهلا لبلوغ هذه الغاية.» ثم فطن إلى أنه أوشك أن يقع في الحب مرة أخرى، وهو ما زال يعاني آثار الحب الأول. فأمسك عن الكلام متظاهرا بأنه يشعر بصداع خفيف، وفطنت هي بدورها إلى قصده، لكنها تجاهلت وسارعت إلى إحضار دواء مسكن أذابت قليلا منه في ملء نصف كوب من الماء، وقدمته له في أدب ودلال يشوبه الحياء، فشربه ثم شكرها بلسانه بعد أن شكرها بعينيه وبلمس يدها وهو يرد إليها الكوب بعد تناول الدواء.
وبعد قليل جاءت والدتها فحيته تحية الصباح، وقالت: «إنني أحمد الله على أن استجاب دعواتي لك طول الليل، فهذا أنت قد أصبحت معافى بادي النشاط والمرح.»
ثم التفتت إلى إميلي ابنتها وقالت لها: «أليس كذلك يا إميلي؟»
فقالت: «صدقت يا والدتي وقد صرحت له بهذه الحقيقة منذ قليل، لكنه لم يصدقني إلا بعد أن أظهرت له استعدادي لأن أقسم له مؤكدة ذلك.» ونظرت إلى والدتها بطرف عينها.
ففهمت وردة أن ابنتها بدأت تطبيق التعليمات التي أصدرتها إليها لاجتذاب سليم، غير أنها تظاهرت بالسذاجة والبساطة وهمت بسليم فقبلته وقالت: «إننا نشكر الله على أن هيأ لنا هذه الفرصة الطيبة للنيابة عن الصديقة العزيزة الكريمة السيدة والدتك.» ثم ضحكت بصوت مرتفع وقالت: «أي فرحة عظيمة ستغمر قلبها حين تراك اليوم بعد عودتها من القاهرة. ولا شك في أن فرحتها ستكون مضاعفة حين تجدك في منزلنا هذا. لكن قل لي يا عزيزي سليم: هل جئت من القاهرة إجابة لطلبها في خطابها الأخير، أم أن هذا الخطاب لم يصل إليك.»
فشعر بأنها تسأله هذا السؤال الأخير، لتلهيه عن صوغ عبارات الشكر بالإجابة عنه. وأعجب كل الإعجاب بنبلها وأريحيتها، ولم يسعه إلا أن ينزل على رغبتها الكريمة، فقال: «لم أتلق خطابها هذا مع الأسف لأني كنت في حلوان وجئت إلى هنا دون أن أمر بالبريد لتسلم الخطابات الواردة إلي. ويا حبذا لو كتبت إلى إدارة البريد الآن كي ترسل إلي خطاباتي إلى هنا!»
فقالت: «حسنا تفعل!» ثم أشارت إلى إميلي، فغادرت الغرفة في خفة ورشاقة وهدوء، وعادت بعد قليل ومعها دواة وقلم وأوراق، فوضعتها على المنضدة ثم قربتها إلى سليم وعادت إلى وقفتها بالقرب منه والمروحة في يدها استعدادا للترويح له، فنظر إليها وابتسم، ثم أمسك القلم وكتب خطابا بذلك المعنى إلى إدارة البريد في القاهرة ووضع الخطاب في الظرف ثم عاد فأخرجه، وناوله لإميلي قائلا: «هل لك أن تسدي إلي يدا أخرى بكتابة عنوان المنزل هنا؟»
فقربت وجهها من وجهه وأخذت تملي عليه العنوان في همس رقيق ود لو أنه لم ينته.
وما أتم كتابة العنوان حتى سارعت إميلي إلى تناول الخطاب من يد سليم، ثم أرسلته مع أحد الخدم، ليضع عليه طابع البريد ثم يضعه في أقرب صندوق للخطابات البريدية. ووقفت تشرف على بقية الخدم وهم يعدون طعام الإفطار، فلما انتهوا من ذلك وأعدت المائدة انتقل إليها سليم وجلست إميلي أمامه ووالدتها عن يمينه وأخذوا في تناول الطعام وتبادل مختلف الأحاديث. •••
عاد سليم وإميلي ووالدتها إلى الغرفة المخصصة لنومه؛ لكي يستريح قليلا بعد الغداء. وفيما هم هناك جاء أحد الخدم مهرولا يقول: «لقد حضرت السيدة والدة سيدي سليم.»
فخفق قلب سليم وارتعدت فرائصه وأخذته الحيرة فلم يدر أي شيء يفعل. على أن حيرته لم تطل فسرعان ما دخلت والدته راكضة. وما كاد نظرها يقع عليه وهو يهم بالنهوض من الفراش لاستقبالها حتى أسرعت ورمت بنفسها عليه محتضنة إياه، ثم ما زالت تعانقه وتقبله ودموعها تتساقط من عينيها، حتى شعر ببرودة يدها وتصبب العرق منها وهو يقبلها فرفع وجهه إلى وجهها وذراعاها حول عنقه فإذا به يجدها مسبلة العينين، ورأسها يترنح للسقوط، فهم بها ومددها على السرير، وبادرت وردة وإميلي فرشتا وجهها بالماء. فلما أفاقت وانتبهت لنفسها ولمن حولها عادت إلى معانقة سليم وتقبيله وهي تواصل البكاء والشهيق قائلة: «آه يا ولدي! آه يا حبيبي! أهكذا تترك حلوان والقاهرة دون أن تخبر أحدا. ولقد بحثنا عنك هناك في كل مكان يمكن أن تكون فيه، وكاد قلبي يحترق جزعا وتلهفا عليك، ولولا أن جاءني صباح اليوم خطاب أخيك فؤاد فاطمأن قلبي عليك ما قدرت لي الحياة حتى الآن.»
فهم سليم بيديها فقبلهما كما قبل رأسها وقال: «كنت متضايقا من مرضي إلى أبعد حد. وعلى أية حال أنا أعتذر إليك وأحمد الله إذ أراني وجهك الكريم. ولا يفوتني أن أخبرك بأن ما كنت أشعر به من المرض والهم قد زال والحمد لله، والفضل في ذلك يرجع أولا إلى كرم أهل هذا المنزل ولطفهم وتواضعهم وتحملهم التعب في سبيل راحتي ومعالجتي.»
فهمت والدته بوردة وإميلي فقبلتهما شاكرة ما أبديتاه من المودة والعطف والعناية بولدها وفلذة كبدها. وعادت إميلي فقبلت يد والدة سليم بخشوع. ثم جلس الجميع يتحدثون ويضحكون فرحا مستبشرين باجتماع الشمل، وإميلي أشدهم فرحا لوثوقها من أن حيلتها قد انطلت على سليم. •••
كان سليم منذ علم بوصول والدته قد هاجت أشجانه وتذكر عقوقه إياها ومخالفته نصيحتها من أجل سلمى التي تبين فيما بعد خيانتها وخداعها، وحدثته نفسه أكثر من مرة بأن يخاطب والدته في هذا الشأن ويستغفرها عما سبب لها من المتاعب والأكدار. على أنه آثر أن يؤجل ذلك إلى أن يخلو إليها، فلم تتح له فرصة لذلك إلا عند فجر اليوم الثالث، أو بعده بقليل حين استيقظ من النوم بعد سهرة طويلة، فإذا يجدها جالسة إلى جواره وهي ترتب شعره وتنظم غطاءه، فنهض وقبل يديها وجلس يجاذبها أطراف الحديث إلى أن قال: «كم أنا نادم يا أماه على ما فرط مني وعلى ما سببته لك من التعب والكدر بحماقتي وجهلي!»
فأدركت أنه يعني إصراره على خطبته سلمى، وقالت له: «لا بأس عليك يا بني، إن أول ما يهمني الآن هو أن أراك في خير صحية وعافية، على أن معارضتي لك لم تكن إلا عن جهل مني أيضا، فقد كنت أظن أنك وقعت في حب تلك الفتاة مخدوعا بمكرها ودهائها، وأن إصرارك على خطبتها ليس إلا استنكافا منك أن تخلف ما وعدتها. ولكن لما أخبرني حبيب بجلية الأمر، وأكد لي أنك لم تحبها وتصر على خطبتها إلا بعد طول روية واختبار، لم يسعني إلا السفر معه إلى القاهرة لأطمئن على صحتك، ولأخبرك بأني راضية بأي فتاة تختارها.»
فلم سمع سليم حديث والدته عن حبيب وسلمى تحقق خيانتهما لأن معارضة والدته خطبة سلمى لم يكن لحبيب علم بها، فلا بد من أن تكون سلمى هي التي أطلعته عليها وطلبت إليه أن يسافر إلى الإسكندرية ويقابل والدته لإقناعها بالعدول عن معارضتها. غير أنه لم يصرح لوالدته بذلك حتى لا يصغر في عينيها واكتفى بأن قال لها: «إن علاقتي بتلك الفتاة أصبحت في خبر كان. وثقي بأني لن أعود إليها أبدا، وإنني باق بجانبك هنا في الإسكندرية، ولن أخطو أية خطوة في سبيل الخطبة أو الزواج إلا بمشورتك.»
فعجبت والدته من أمر هذا الانقلاب الغريب، ولاح لها أنه يجاريها بما قاله ابتغاء مرضاتها، فقالت له: «على أية حال، كن على يقين من أني لم أقل لك إلا الحق، وإنني موافقتك على كل ما تقرره في شأن زواجك، فإذا كنت تريد خطبة سلمى فأنا على استعداد لأن أخطبها لك بنفسي وأكون لها خادمة بقية حياتي إكراما لك.»
فقال: «حاش لله يا أماه! إنما أنا وأية فتاة تختارينها زوجة لي رهن إشارتك وطوع بنانك، وأكرر لك أن علاقتي بسلمى قد انقطعت تماما ووطدت العزم على ذلك.»
فقالت: «على كل حال، أنت الآن ما زلت في طور النقاهة من مرضك، ومتى تم شفاؤك بإذن الله، نعود إلى بحث هذه المسألة، ولا يكون إلا ما ترضاه.»
وكانت الشمس قد أشرقت واستيقظت وردة وإميلي، فجاءتا للسؤال عن صحة سليم، وجلستا بجانب والدته تهنئانها بتماثله للشفاء، وتتسابقان إلى إرضائهما بمختلف الوسائل. •••
بقيت إميلي حتى موعد الغداء وهي تترقب أن تسنح لها فرصة تخلو فيها إلى سليم لتستأنف معه حديث الأمس وتتم حيلتها لاجتذابه إليها وحمله على المبادرة بخطبتها. ولكنها لم تتمكن من ذلك لأن والدته لبثت مرابطة بجانب سريره لم تفارقه لحظة واحدة.
وبعد الغداء، أوى الجميع إلى الفراش للقيلولة، وحاولت إميلي وأمها إبعاد والدة سليم من غرفته إلى غرفة نومها، على أن تتسلل إميلي خلال ذلك إلى غرفته، ولكنها لم تغادر غرفته إلا بعد أن رأته يتثاءب والنوم يداعب جفنيه. وما كادت تخرج حتى نهض من سريره وأغلق باب الغرفة من الداخل ثم عاد إلى السرير واضطجع فيه، ثم أطلق لنفسه عنان التفكير في أمره، وقد شعر بأن إعجابه بإميلي ليس إعجابا عاديا، ولكنه أقرب ما يكون إلى الحب أو الشروع فيه.
وفيما هو كذلك سمع طرقا خفيفا على باب الغرفة، فنهض وفتح الباب فإذا بإميلي هي الطارقة وبادرته قائلة في دلال: «عفوا يا عزيزي، إذا كان في وجودي هنا الآن ما يثقل عليك.»
فتلجلج ولم يدر كيف يجيب، ولاحظت هي من نظراته ثم إطراقه وسكوته ما بشرها بنجاح الخطوات الأولى من تدبيرها المشترك مع والدتها. فأرادت انتهاز هذه الفرصة لإتمام الخطوة الباقية ودخلت الغرفة متظاهرة بتبديل أغطية السرير بنفسها دلالة على شدة عنايتها براحته، لكنها ما كادت تنتهي من ذلك وتهم بالجلوس على أقرب مقعد من السرير، حتى جاء أحد الخدم، وقدم مجموعة من الخطابات ذاكرا أنها جاءت في بريد الصباح، وفاته أن يأتي بها إليه حينذاك.
فصل الخطاب
أخذ سليم يقلب ظروف الخطابات الواردة إليه، فوقعت عينه على ظرف من بينها عرف لأول وهلة أنه بخط سلمى، فبغت وخفق قلبه. لكنه تجلد حتى لا تلاحظ إميلي تأثره واضطرابه، ثم تظاهر بحاجته إلى النوم، ووضع الخطابات كلها دون أن يفضها على المنضدة التي بجانب السرير، فانطلت حيلته على إميلي، ونهضت للانصراف وانتظار فرصة أصلح لاستئناف حديثها معه على حدة.
ورأى هو أن يطيب خاطرها بكلمة تنم عن مبادلتها مثل شعورها نحوه فقال لها: «يلوح لي أني سأكون في المساء أشد حاجة إلى يدك اللطيفة يا عزيزتي.»
فخفق قلبها ونظرت إليه لترى ماذا يقصد بهذه العبارة، فإذا به يبتسم وينظر إليها بطرف عينه كأنه يعجب من أنها لم تفهم مراده، ثم قال لها: «سأحاول بعد النوم قليلا أن أقرأ هذه الخطابات التي جاءتني من القاهرة، ولا شك في أن الرد عليها بخط يدك سيكون أسرع وأبدع، ولا سيما أن يدي ما زالت ضعيفة من أثر المرض. فما قولك؟»
فابتسمت وقالت: «إني رهن إشارتك، ويسعدني جدا أن أتولى عنك هذه المهمة.» ثم استأذنت وانصرفت إلى حيث انضمت إلى والدتها ووالدته في الغرفة المجاورة وجلسن يقطعن الوقت بالحديث متهامسات، مبالغة في توفير الهدوء والراحة لسليم.
وما خلا إلى نفسه في غرفته حتى سارع إلى مجموعة الخطابات الواردة إليه، وفض الخطاب الذي كتب طرفه بخط سلمى، فإذا هو بخطها من الداخل أيضا، وقد كتبت فيه تقول:
أبعين مفتقر إليه نظرتني
فأهنتني وقذفتني من حالق؟
لست الملوم، أنا الملوم لأنني
أنزلت آمالي بغير الخالق!
قرأت خطابك الأخير أكثر من عشرين مرة، لعلي أستطيع أن أهتدي إلى تعليل معقول لما تضمنه من تهم خطيرة وأدلة ومستندات ملفقة، ولكني لم أجد سببا يمكن الركون إليه إلا أنك رغم ذكائك تورطت في تصديق بعض الحساد وذوي الأغراض.
وقد حاولت أكثر من مرة أن أرجع تلك الاتهامات الباطلة إلى رغبتك في التخلص مني لحاجة أخرى في نفسك، ولكني تذكرت أني صرحت لك في خطابي الأخير بأني وإن كنت لم أحب ولن أحب سواك، لا يسعني إلا أن أضحي بسعادتي كلها مادامت تتعارض مع ما يجب عليك لوالدتك الحنون من طاعة وبر وإحسان، فأحللتك من عهودك لتكون حرا تخطب وتتزوج ممن ترضى عنها والدتك. فهل جزاء من تقدم على مثل تلك التضحية أن تتهمها بالخيانة والغدر والنفاق؟
وليت شعري كيف رضيت لنفسك، وأنت رجل صناعتك المحاماة وتمييز الحق من الباطل، أن تعدل عما كنت تعتقده في من الطهر والإخلاص، ثم ترميني بشر ما ترمى به فتاة، لا لشيء إلا أن رجلا لا تعرفه زعم لك أني أوقعته في حبي ثم اكتشف أني عالقة القلب بصديق لك كنت تنزله منزل الأخ الشقيق؟
وأخيرا، ما هذه الورقة التي ذكرت أنها وقعت في يدك اتفاقا، فكانت صك خيانتي ودليل مكري وخداعي وتضليلي؟ إنني لا أريد أن أصدق أبدا أنك عنيت ما قلت عن هذه الورقة ولا عن ذلك الصديق، فأنا لم أكتب هذه الورقة ولا علم لي بشيء مما فيها، بل أنا لم أكتب طوال حياتي أي خطاب لرجل سواك. وقد عرضت جميع أصدقائك الذين أعرفهم فلم أجد بينهم أحدا يمكن أن يصدق فيه ذلك الاتهام!
وأخيرا، قدر لي أن أقف على حقيقة كنت أجهلها وهي أنك اعتزمت خطبة فتاة من أهل الإسكندرية، وصدقني يا سليم إنني لم أحقد على هذه الفتاة قط، بل على عكس ذلك دعوت الله أن يبارك لها فيك ويبارك لك فيها لتعيشا سعيدين بمنجاة من متاعب الوشاة والحساد. وليس هذا لأني لم أتيقن بعد من أنك رميتني بتلك التهم الكاذبة وأنت على يقين من كذبها؛ ولكن لأني رغم ذلك كله ما زلت أرى قلبي أطهر وأنبل من أن ينبذ حب أول من طرق بابه وتربع فيه.
ومهما يكن من أمر، فلا تحسب أني أكتب إليك هذا الخطاب طامعة في أن تعود إلى ما كنا فيه، أو لأحملك على الندم والأسف لمقابلة تضحيتي وإخلاصي بالجحود والنكران وتلفيق التهم والأباطيل؛ ذلك لأني وطدت العزم على اعتزال العالم، وقضاء ما بقي لي من العمر في دير أو صومعة أتعبد فيها لخالقي وهو الخبير بما تكن الجوانح والصدور، وإليه ترجع الأمور.
سلمى
لم يأت سليم على آخر خطاب سلمى حتى هاجت عواطفه وتناثر الدمع من عينيه، وأخذ يعيد قراءته في تدبر وإمعان، ثم تذكر ما لمسه في سلمى من صدق المحبة والوداد وكمال الخلق والعقل، ثم يقارن ذلك بالأسباب التي بنى عليها اتهامها واتهام حبيب، فلاح له أنه ظلمهما، وأن داود القبيح الوجه لا يمكن أن تحبه فتاة مثل سلمى، كما أن دعواه ضدها وضد حبيب، باعترافه هو نفسه، ليس في يده عليها أي دليل !
وأخذ يتذكر الورقة التي وجدها في رواية حبيب، فلاح له أيضا أن خطها مختلف عن خط سلمى قليلا. فاستبدت به الوساوس وبقي وقتا غير قصير وهو شارد الذهن حائره. ثم أفاق من ذهوله وهم بقراءة خطاب سلمى مرة أخرى، لكنه أشفق على رأسه أن يتصدع من تضارب العوامل المختلفة فيه، فطواه ووضعه في جيبه، ثم تناول من بين الخطابات خطابا آخر كتب بخط يشبه الخط الذي كتبت به خطابات والدته إليه، فتذكر أن السيدة وردة أخبرته بأن والدته كانت قد أرسلت إليه خطابا طلبت إليه فيه الحضور من القاهرة. وما كاد يفضه ويقرأ أول سطر فيه حتى أخذته الدهشة، إذ وجد أنه موجه إلى شخص آخر سواه. فأعاد النظر إلى العنوان المكتوب على الظرف فإذا هو عنوانه كاملا غير منقوص.
ثم لاحظ أن الشخص الموجه إليه الخطاب من الداخل اسمه داود، فتذكر ذلك الرجل القبيح الوجه الذي علم منه بخيانة سلمى وحبيب. ومضى يقرأ الخطاب لعل فيه ما يكشف سر إرساله إليه فإذا فيه:
عزيزي الأجل الماجد الخواجة داود
بعد السؤال عن صحتك الغالية، نخبرك بأننا تلقينا خطابك الذي أرسلته عقب وصولك إلى القاهرة، وسررنا كثيرا لنجاح حيلتك اللطيفة مع الشخص المعروف، حتى إنه صدق الحكاية التي اخترعتها عن خيانة الفتاة، وبدت في وجهه أمارات الغيظ والقلق.
كما أننا تلقينا خطابك التالي الذي بشرتنا فيه بنجاح سعيدة في سرقة الخطاب الذي أرسلناه إليه باسم والدته محذرة إياه أن يستمر في علاقته بالفتاة وتتهمها وأسرتها بالمكر والخداع. ثم نجاح سعيدة في إطلاع الفتاة على ذلك الخطاب، الأمر الذي أثارها وحملها على مقاطعته وإحلاله مما بينهما من العهود.
ولكن مضت مدة غير قصيرة دون أن تتلقى أم صاحبنا أي رد على خطاباته إليه، وأنت تعلم أن الانتظار يكلفنا مشاق ونفقات جسيمة في التقرب إلى والدته وغير ذلك، ولولا أن إميلي ميالة إليه ما تكبدنا كل ذلك العناء. وعلى كل حال أخبرك بأنني أغريت والدته بالكتابة إليه لكي يحضر إلى هنا. وقد كتبت بنفسي مع خطابي هذا إليك خطابا إليه على لسانها، فعليك أن تستمر في مراقبته لترى ما يصنع بعد أن يتلقى خطاب والدته المذكور. ولك أزكى تحياتي وأشواقي وحبي ...
وردة
انقشعت الغشاوة بعد ذلك عن عيني سليم، ووقف على سر المؤامرة التي دبرتها وردة مع داود وسعيدة للتفريق بينه وبين سلمى. ولم يتمالك عواطفه بعد ذلك، فانهمرت دموعه حزنا وندما على ما جعله يفرط في حق سلمى ويتهمها ظلما وعدوانا. ثم انقطع فجأة عن البكاء وأخذ في الضحك بصوت عال فرحا بظهور براءة سلمى وحبيب، ونجاته من الفخ الذي نصبته لإيقاعه وردة وصاحبها اللعين داود.
وفيما هو كذلك، دخلت عليه والدته، فما كاد يراها حتى قال لها: «أغلقي باب الغرفة من الداخل وتعالي.»
فعجبت لذلك الطلب، ولكنها أغلقت الباب وسارعت إليه متسائلة، فأشار إليها أن تجلس بجانبه على السرير. ثم أخذ يشرح لها هامسا جميع الأسرار التي وقف عليها، ومؤامرة وردة من أولها إلى آخرها، فكادت لا تصدقه لغرابة الأمر ولطيبة قلبها، لولا أن قرأ عليها كتاب وردة التي أرسلته بخطها إلى داود ثم أخطأت ووضعته في الظرف الذي كتبت عليه عنوانه هو لتضع فيه الخطاب الآخر الذي كتبته باسمها إليه.
واغرورقت عينا والدة سليم بالدموع وقالت: «ويل لكل خائن غدار! وويل لي أنا أيضا لأني كنت سببا لشقاء سلمى المسكينة! ولكن عذري أني كنت مخدوعة ولا أعلم أنها ملاك طاهر وأن وردة وابنتها من الشياطين الملاعين!»
فقال سليم: «ليس الذنب ذنبك يا أماه، ولكنه ذنب تلك الفاجرة اللئيمة التي دبرت دسيستها القذرة، واشترك معها في تنفيذها ذلك الشيطان داود، وخادمتها الخبيثة العجوز، للإيقاع بسلمى البريئة، والتفريق بيني وبينها، وإن نفسي لتحدثني بأن أنتقم لها منهم شر انتقام.»
قالت: «يجب أن نخرج من هنا أولا، دون ضجة، ثم ننظر في الأمر بعد ذلك.»
وسمعا وقع أقدام وأصواتا خارج الغرفة، فقال سليم لوالدته: «سأتظاهر بورود كتاب إلي من القاهرة يدعوني إلى السفر إليها حالا لعمل عاجل، ثم أذهب إلى منزلنا حيث تلحقين بي بعد أن أكتب إلى حبيب صديقي الوفي المظلوم، ليذهب إلى سلمى، ويبلغها أننا سنزورها بعد يوم أو يومين لتصفية الجو وإعادة المياه إلى مجاريها.»
فوافقته والدته على ذلك، ونهضت لتفتح الباب، بينما نهض هو وأخذ في ارتداء بذلته استعدادا للانصراف.
فرحة لم تتم
كانت سلمى قد كتبت خطابها الأخير إلى سليم وبعثت به إليه، بعد أن أقنعتها سعيدة العجوز الماكرة بسوء نية سليم، وبأنه ذهب إلى الإسكندرية عقب إرساله خطابه الأخير إليها بوساطتها، لكي يعقد قرانه بفتاة هناك.
وكان داود هو الذي أخبر سعيدة بذهاب سليم إلى الإسكندرية؛ إذ علم بذلك من خطاب تلقاه من سيدتها وردة.
وقد شعرت سلمى منذ تلك اللحظة بأنها فقدت كل أمل في علاقتها بسليم؛ لأنها كانت شديدة الثقة بإخلاص سعيدة لها وتفانيها في خدمتها، فازداد حزنها وضعفها، وكثيرا ما كانت نفسها تحدثها بالانتقام من سليم على تغريره بها ثم رميه إياها بالخيانة والغدر والخداع في حين أنه أولى بأن تلصق به هذه الصفات.
وحدث أن تفقدت خطابه الأخير ذات يوم لتعيد قراءته وتتأمل تلك الورقة التي زعم أنها كتبتها بخطها إلى شخص آخر تعترف له فيها بأنها تحبه، ولكنها لم تجد تلك الورقة رغم طول بحثها عنها. وذلك لأن أدما كانت قد عثرت بها ملقاة بجانب سرير سلمى وهي تعودها، وعرفت أنها الورقة التي كتبتها إلى حبيب، فاحتفظت بها معتقدة أن حبيبا هو الذي جاء بها إلى سلمى؛ لكي يسخرا منها ويضحكا من سذاجتها وتصديقها أن حبيبا يحبها.
وشغلت سلمى بمرضها وحزنها عن مواصلة البحث عن تلك الورقة. أما أدما فإنها لم تطق صبرا على البقاء في منزل سلمى بعد ما تبين لها من تآمرها عليها مع حبيب، فسارعت إلى منزلها حيث خلت إلى نفسها في غرفتها وأخذت تعض على نواجذها غيظا وندما. ثم لحق بها أبوها وأمها إلى المنزل، فلما شعرت بقدومهما أخفت الورقة، ثم غسلت وجهها حتى لا تبدو آثار الدموع في عينيها، وتظاهرت بانحراف صحتها ولزمت الفراش، وقد نال اليأس منها كل منال.
وعلى الرغم من أنها كانت تود لقاء حبيب لتوبخه أو تعاتبه على سخريته منها، كان قلبها يخفق بشدة ولا تتمالك نفسها من البكاء كلما صور لها اليأس والحزن وسوء ظنها به أنه لن يستنكف أن يخاطبها بما يشينها ويحقرها ويحط من كرامتها. فبقيت كذلك حتى ظهر اليوم التالي، دون أن تتناول أي طعام، أو يراود الكرى جفنيها، ولم تكن تنقطع عن البكاء إلا عند وجود والديها أو أحدهما في الغرفة. وهما لا يعلمان من أمرها إلا أنها متوعكة الصحة منحرفة المزاج.
وفيما هي مستلقية على سريرها، ووالدتها مشغولة ببعض أعمال المنزل، وأبوها خارج المنزل، تذكرت تلك الورقة التي كانت سبب بلائها وشقائها، فأخرجتها من مخبئها، وأخذت تتأملها وتعيد تلاوتها، وصور لقائها بحبيب في رحلة الأهرام تتتابع على لوحة مخيلتها، ثم تعقبها صورته مع سلمى وهما يتأملان خطابها إليه ويضحكان ساخرين. وهنا لم تتمالك نفسها فانفجرت باكية وعلا شهيقها حتى خشيت أن تسمعه والدتها، لكنها مع ذلك استمرت فيه لعله يخفف بعض ما تعانيه. •••
سمعت أدما بعد قليل طرقا على الباب الخارجي للمنزل، فعادت إلى ذهنها صورة حبيب حين كان يأتي للزيارة، فأخذتها الرجفة واشتد خفقان قلبها. ثم سمعت الباب يفتح وصوت والدتها ينطلق بعبارات التحية والترحيب. وما لبثت قليلا حتى دخلت عليها أمها ومعها والدة حبيب وشقيقته، فلم تتمالك عواطفها عند رؤيتهما وأخذت في البكاء والنحيب، فهمت بها شفيقة وراحت تحتضنها وتقبلها قائلة: «ما هذا يا عزيزتي، أتبكين هكذا كالأطفال لشعورك بصداع أو برد خفيف؟ لا لا، إن عزيزتي أدما أشجع من هذا كثيرا، فهيا دعي عنك هذه الأوهام، واجلسي لنتمتع بحديثك اللطيف كالمعتاد!»
وقبلتها والدة حبيب بدورها وأخذت تواسيها وتشجعها بمثل تلك العبارات. فلم يسعها إلا أن تمسح دموعها وتجلس في فراشها متجلدة لتجاذبهما الحديث. ثم قالت لشفيقة شقيقة حبيب وهي تتكلف الابتسام: «ترى ماذا جرى حتى خطرنا ببالك وجئت لزيارتنا بعد ذاك الغياب الطويل؟»
فردت عليها شفيقة وعلى فمها ابتسامة تنم عن طيبة قلبها وبساطتها وقالت: «إننا لا غنى لنا عن زيارتكم، ولكنا منذ افترقنا بعد رحلة الأهرام اللطيفة كنا في شغل شاغل خطير، وقد انتهى بخير والحمد لله.»
فلما سمعت أدما ذكر رحلة الأهرام هاجت أشجانها وكادت تعاود البكاء، لكنها جاهدت لتغالب دموعها وتكبت عواطفها وقالت: «ماذا كان ذلك الشغل الشاغل، خيرا إن شاء الله؟»
قالت: «إن الخواجة سليم أصابته حمى على أثر تلك الرحلة، ونظرا إلى أنه يقيم وحده بالقاهرة؛ لأن أسرته في الإسكندرية كما تعلمين، نقله أخي حبيب إلى منزلنا بحلوان لنقوم بتمريضه وخدمته حتى يشفى. ثم حدث في اليوم التالي أن سافر حبيب إلى الإسكندرية دون أن يخبره بذلك لكي يجيء من هناك بوالدته لتراه. فلما كان عصر ذلك اليوم، غادر سليم المنزل على أن يتمشى قليلا في حديقة حلوان العامة لكنه لم يعد إلى المنزل ولم يخبرنا بالمكان الذي قصد إليه. فلما عاد حبيب ووالدة سليم في صباح اليوم التالي، سقط في أيدينا جميعا، وحسبت والدة سليم أنه مات أو انتحر يأسا من الشفاء، فانقلب جو المنزل إلى مثل جو المآتم. وزاد الطين بلة أن حبيبا مضى إلى القاهرة مرتين للبحث عنه ولكنه لم يقف على أي أثر له. وهكذا أمضى حبيب يومين متتاليين وهو يعاني متاعب السفر والبحث هنا وهناك، وضاعت كل محاولاتنا لتهدئة روع والدة سليم. فلبثنا في ذلك الشغل الشاغل الخطير حتى صباح أمس إذ تلقى حبيب من سليم خطابا من الإسكندرية أخبره فيه بسفره إليها اتفاقا وبعلمه من شقيقه هناك بأنه كان هناك في اليوم السابق وعاد ومعه والدته، ثم طلب إليه أن يعيدها إلى الإسكندرية ففعل. وما كدنا نشعر ببعض الراحة من كل ذلك العناء حتى جئنا لزيارتكم، فهل هناك بعد ذلك أي تقصير من جانبنا لا سمح الله؟»
فسري عن أدما قليلا لوقوفها على سر تردد حبيب إلى منزل سلمى وسفره إلى الإسكندرية وانصرافه عنها. لكنها بقيت في حيرة من أمر وجود خطابها الخاص إليه في غرفة سلمى. وأحبت أن تعلم لماذا لم يأت مع والدته وشقيقته ما دام قد اطمأن على صحة صديقه سليم وأعاد والدته إلى الإسكندرية، لكن الحياء أمسكها عن السؤال عنه. فاكتفت بأن تنهدت وقالت: «لقد أسفت جدا لمرض الخواجة سليم، فالحق أنه من خير الشبان المهذبين الأوفياء، لكن هل مرضه كان لعلمه بمرض سلمى؟ أم أنها هي التي مرضت لعلمها بمرضه؟»
فلم تفطن شفيقة لنكتة أدما، وقالت في دهشة: «كيف يكون هذا؟ أيمرض أحد لعلمه بمرض آخر؟ أم أنت تقصدين انتقال العدوى؟»
فابتسمت أدما وقالت: «ألا تعلمين أنهما خطيبان، وبينهما محبة متبادلة؟»
فقالت: «أعلم هذا، ولكن مرضهما لم يكن بسبب العدوى لأنهما لم يتقابلا منذ رحلة الأهرام.» ثم غيرت مجرى الحديث فجأة وقالت لأدما: «ما بالك لا تسألين عن حبيب وعدم مجيئه معنا؟»
فبغتت أدما، وخفق قلبها واحمر وجهها، ثم تجلدت إذ فطنت إلى أن شفيقة خالية الذهن لا تعلم شيئا عن علاقتها بشقيقها، وردت عليها بقولها: «لم أسأل عنه لأنه لا بد أن يكون مشغولا بما لديه من أعمال.»
وكانت والدتاهما تسمعان تحاورهما ولا تفقهان أكثره لانهماكهما في حديث آخر. فاقتربت شفيقة من أدما وهمست في أذنها قائلة وهي تبتسم: «إنه اليوم خال من العمل وقد تركناه في المنزل وحده.»
فلم تفهم أدما من هذه العبارة إلا إصرار حبيب على هجرها والاستهانة بها، وعاودها حنقها عليه فقالت وهي تجاهد لإخفاء شعورها: «وهل من الضروري أن يتوجه معكما حيث تتوجهان؟»
فقالت شفيقة: «كلا، ولكنه لم يتخلف عن المجيء معنا إلا لأمر مهم!»
فأجفلت أدما، ولم تعد تستطيع كتمان ما بها، فأشاحت بوجهها وقالت: «هو حر على كل حال، وليس هناك ما يقتضي الاعتذار من تخلفه.»
فضحكت شفيقة وقالت: «الواقع أنه لم يتخلف إلا بسبب ما جئنا لزيارتكم اليوم خصيصى لأجله.» ثم عادت إلى الضحك.
فازدادت أدما حيرة وارتباكا، ثم قالت متضجرة: «ما لك تتكلمين بالألغاز يا عزيزتي، وما الذي يضحكك هكذا على غير عادتك؟»
فأغرقت شفيقة في الضحك، ثم التفتت إلى والدتها ووالدة أدما، فإذا بهما قد غادرتا الغرفة ، فقالت: «ألم أقل لك؟ إنهما الآن ولا شك تتكلمان في الشأن المهم الذي جئنا للكلام فيه.»
فقالت أدما وقد نفد صبرها: «أهناك سر لا يجوز لي أن أطلع عليه، أم ماذا هناك؟» واغرورقت عيناها بالدموع.
فقالت شفيقة: «ليس في المسألة إلا ما يسرك ويسرنا جميعا، ولا أستطيع أن أصرح لك الآن بأكثر من هذا، على أنك بذكائك المعهود تستطيعين أن تدركي كل ما هناك.»
قالت: «صدقيني يا عزيزتي إني لم أفهم أي شيء.»
فبدت الدهشة في وجه شفيقة، وتلفتت نحو باب الغرفة كأنها تحاذر أن يسمع أحد كلامها، ثم همست قائلة: «لقد جاءت والدتي لتخطبك لحبيب، فهل فهمت؟»
فلما سمعت أدما ذلك، غلب عليها الحياء وخفق قلبها سرورا، لكنها لم تصدق النبأ، أو رأت التظاهر بأنها لا تصدقه، فقالت: «دعينا بالله من مثل هذا المزاح، فليس هذا وقته، ولا هو مما يليق بنا.»
فقالت شفيقة جادة: «وهل عهدتني أمزح بمثل ذلك؟ إني ما قلت لك إلا الحقيقة. ولولا ما تعلمين من محبتي لك ما صرحت لك بشيء قبل أن تتم المحادثة في هذا الشأن بين والدتي ووالدتك.»
فتحققت أدما أن الأمر جد ولا هزل، وكادت الدنيا لا تسعها لفرط سرورها، لكنها آثرت التجاهل وقالت: «اسمحي لي أن أصرح لك بأني غير مستعدة لتصديق ذلك. وعلى كل حال يحسن أن ندع هذا الحديث الآن.» ثم مدت يدها وأخذت تفحص نسيج الثوب الذي ترتديه شفيقة وقالت: «إنه نسيج بديع ولا شك من أين اشتريته؟»
فهمت بها شفيقة وقبلتها ثم قالت وهي تنظر في عينيها: «إنك لا تتصورين كم أنا سعيدة بخطبتك لحبيب، فأنا أحب كليكما كل الحب، وهذا ما كنت أتمناه مخلصة لكل منكما منذ عهد بعيد.»
فلم تتمالك أدما نفسها من البكاء فرحا بهذه البشرى المفاجئة، وهمت بشفيقة فقبلتها بدورها وهي تقول: «إن إخلاصك مما لا شك فيه.»
وبعد قليل عادت والدتاهما إلى الغرفة ووجهاهما يتألقان بشرا وسعادة، وجلسن يتحدثن في مختلف الشئون العادية، ثم نهضت والدة حبيب وشقيقته فقبلتا أدما ، وودعتاها وأمها وانصرفتا مشيعتين بعبارات المودة والاحترام. •••
كان حبيب بعد أن ارتاح باله واطمأن على صديقه سليم، قد عاد إلى الحديث عن أدما مع والدته، ثم اتفقا على أن تمضي هي وشقيقته لمحادثة والدتها في أمر خطبتها له، فإذا وجدتا منها قبولا، ذهب هو لمقابلة أبيها وخطبها منه وأعلنا الخطبة رسميا.
فلما عادت والدته وشقيقته من مهمتهما، وجدتاه في انتظارهما بالمنزل نافد الصبر وعلى وجهه آثار القلق والانقباض، فبشرته والدته بأن والدة أدما رحبت بخطبتها له مؤكدة أنها سعيدة بذلك لما عهدته فيه من الأدب والكمال والنشاط في عمله. كما أكدت أن الخواجة سعيد والد أدما لن يكون أقل منها ترحيبا وسرورا بهذه الخطبة.
فأشرق وجه حبيب ابتهاجا، ولكنه قلق لما سمعه من أن أدما منحرفة الصحة وكانت معتكفة في فراشها حين زارتها والدته وشقيقته، ولم يهدأ باله إلا بعد أن أكدتا له أنها بخير، ولا تلبث قليلا حتى تسترد عافيتها كاملة. ثم استشار والدته في أن يمر بمنزل أدما في اليوم التالي بعد خروجه من الديوان لعيادتها، فقالت له: «إن العادة جرت بأن يمسك الشاب عن زيارة الفتاة التي شرع في خطبتها حتى يتم عقد الخطبة رسميا.» فتكدر لذلك رغم أن والدته أكدت له أن حرمانه من رؤية أدما لن يستمر أكثر من أيام معدودة ريثما يتم شفاؤها ثم مقابلته لأبيها والاتفاق معه على خطبتها.
وفي اليوم التالي ذهب إلى مقر عمله في القاهرة كعادته، وفيما هو يفكر في أدما ومرضها وعدم استطاعته زيارتها إلا بعد أيام، جاءه خطاب سليم من الإسكندرية يقول فيه:
أخي الحبيب وصديقى الحميم حبيب
عندي لك حديث طويل أرجئه إلى أن نجتمع قريبا بمشيئة الله، وإنما كتبت إليك هذا الخطاب لكي تبادر بمقابلة سلمى وتبلغها فيما بينك وبينها أني شفيت من مرضي، وكل ما أتمناه أن تكون هي في خير وعافية، وأن تصفح عن ذنوبي الكثيرة لديها صفح الكرام.
هذا وإني لكبير الأمل في أن تبذل أقصى جهدك في إقناعها بزوال ما اعترض سبيل خطبتنا من عقبات، وأن تواصل تعزيتها والترفيه عنها حتى أعود إلى القاهرة وألتقي بكما بعد أيام، وحينئذ أسمعكما معا ذلك الحديث الطويل الذي أشرت إليه في أول هذا الخطاب. وهو حديث طريف ينطوي على قصة ليس هناك ما هو أعجب منها، حتى أنها لتفوق كل ما تخيله كتاب الروايات.
ولكم جميعا أزكى تحياتي وأشواقي. ودمت لصديقك.
المخلص: سليم
فلما أتم تلاوة خطاب سليم عجب لما تضمنه من الإشارة إلى ذلك الحديث الغريب، وأخذ يفكر فيما عساه أن يكون، فرجح أنه يتعلق بما كان من معارضة والدة سليم في خطبته لسلمى. وسر لنجاح مساعيه لديها في هذا السبيل، كما سر لقرب عودة صديقه سليم.
وما عاد إلى منزله في حلوان بعد انتهائه من عمله حتى خلا إلى والدته وأخبرها بالمهمة التي كلفه سليم أن يقوم بها وقال لها: «إنني أخشى ألا تتاح لي فرصة أخلو فيها إلى سلمى لأبلغها رسالة سليم؛ ولهذا أرجو أن تعاونيني على إنجاز هذه المهمة، فما قولك؟»
قالت: «هذا أمر سهل، وغدا أمضي أنا وشقيقتك معك إلى القاهرة لزيارة أسرة سلمى، ثم نبذل جهدنا أنا وشقيقتك في أن نشغل والديها بالحديث لنتيح لك فرصة تبليغها رسالة سليم دون أن يشعر أحد.»
فاستحسن رأي والدته وشكرها على عنايته بحل تلك المشكلة. •••
كان اليوم التالي يوم جمعة ولا عمل لحبيب بالديوان، فاصطحب والدته وشفيقة إلى المحطة في ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم، وما وصل بهم القطار إلى القاهرة حتى توجهوا من فورهم إلى منزل سلمى، ففتحت لهم والدتها الباب ورحبت بهم وأدخلتهم غرفة الجلوس فسألتها والدة حبيب عن صحة سلمى فقالت: «إنها ما زلت ملازمة فراشها وصحتها تزداد سوءا رغم تناولها الدواء بانتظام، وأملنا في الله كبير، وهو القادر على أن يشفيها.»
وبعد قليل، وقفت شفيقة وقالت لها: «هل أستطيع الدخول على صديقتي سلمى في غرفتها الآن.» قالت: «نعم.»
وقبل أن تغادر شفيقة غرفة الاستقبال، استوقفها حبيب، ثم التفت إلى والدة سلمى وقال: «هل أستطيع أن أصحب شفيقة لرؤية سلمى والاطمئنان عليها؟»
فقالت: «ولم لا يا بني؟ إنها ستسر برؤيتكما ولا شك.»
فنهض ومضى مع شقيقته ودخلا غرفة سلمى، فإذا هي ممددة في سريرها وقد هزل جسمها وامتقع لونها وغارت عيناها، وما كادت تراهما حتى انفجرت باكية لفرط تأثرها وتذكرها ما كان من أمر سليم معها. فهمت بها شفيقة وقبلتها وأخذت في تسليتها والترفيه عنها محاولة بث الأمل في الشفاء التام العاجل في نفسها، فازدادت سلمى بكاء وقالت: «إن ضعفي يشتد يوما بعد يوم، وأحسب أني لن أغادر هذا الفراش إلا بعد أن أغادر الدنيا كلها.»
فلم تتمالك شفيقة من البكاء، وكاد حبيب يبكي معهما لولا أن تذكر المهمة التي جاء لأجلها، وأن في إبلاغ سلمى رسالة سليم ما قد يخفف من ضعفها وحزنها، فتجلد ولبث ينتظر أن تسنح له فرصة لأداء تلك المهمة. ثم سمعت شفيقة والدتها تناديها فنهضت ومضت إليها وهي في غرفة الاستقبال مع والدة سلمى لترى ما تريد، فقالت لها والدتها: «إن خالتك - أي والدة سلمى - متعبة ولا شك لكثرة ما لديها من الأعمال المنزلية، ولكنها أصرت على أن نشرب القهوة عندها، فاشترطت عليها أن تصنعي القهوة أنت. فهيا يا بنيتي إلى المطبخ واصنعي لنا القهوة المطلوبة.» فأشارت شفيقة برأسها موافقة، وانصرفت للقيام بهذه المهمة.
وفيما هي في المطبخ لاح لها أن تتسلل إلى البيت المجاور الملاصق لبيت أدما لتناديها وتأتي بها لتفاجئها بمقابلة حبيب، وسرعان ما نفذت هذه الفكرة. •••
عادت شفيقة إلى منزل سلمى ومعها أدما، ثم دخلت بها فورا غرفة سلمى وهي تضحك مقدما مما تصورته من موقف شقيقها وخطيبته خلال لقائهما المفاجئ الذي دبرته. وكان حبيب قد أخرج خطاب سليم إليه وتلاه على سلمى فلم تتمالك عواطفها وانفجرت باكية، وتأثر هو ببكائها فبكى بدوره وأخذ يهمس في أذنها بعبارات التعزية والتشجيع. فما وقعت عليهما عينا أدما وهما في هذه الحال حتى بغتت، وخيل لها أن حبيبا ما زال عالقا بسلمى كما رجحت ذلك من قبل، وأن سعي والدته في خطبتها له لم يكن بإرادته وعلمه، فأخذها الغضب، ووقفت ترتجف من الغيظ، ثم حاولت التجلد وحيت سلمى مستفسرة عن صحتها، وهنا نهض حبيب واقترب منها بعد أن أفاق من ذهول المفاجأة، ومد يده لتحيتها فترددت في مد يدها إليه، ثم صافحته في برود من غير أن تنظر إليه أو ترد عليه كلامه. وما لبثت أن غادرت الغرفة مسرعة نافرة، فانطلقت شفيقة في أثرها وهي تضحك، وذهنها خال من حقيقة ما يعتلج في قلب أدما، فلما رأتها تغادر المنزل فورا عائدة إلى منزلها، أخذت تناديها مستوقفة إياها، ولكن أدما لم ترد عليها ومضت في سبيلها لا تلوي على شيء وقد أخذت الغيرة منها كل مأخذ. «فلما وجدته جالسا بجانب سرير سلمى أخذها الغضب، ووقفت ترتجف من الغيظ.»
فعادت شفيقة إلى غرفة سلمى مندهشة من تصرف أدما، فأخذ حبيب يعنفها ويتهمها بالغباء والجهل وانعدام الذوق لإدخالها أدما بغير استئذان، ولما علم منها أن أدما انصرفت غاضبة، وعادت إلى منزلها فورا، اشتد غضبه وسألها عما جعل أدما تنصرف هكذا، فقالت: «لعلها غضبت من برود استقبالك لها.»
فلم يملك نفسه وصاح بها قائلا: «اغربي من وجهي عليك اللعنة، ألم أقل لك إنك بلهاء لا تفهمين شيئا ولا تحسنين صنعا قط؟!»
فخرجت دامعة العينين، وقلبها يكاد ينفطر غما وحسرة. ثم لاح لها أن تلحق بأدما في منزلها لتقف على سر غضبها، فما كادت تصل إلى المنزل حتى وجدتها قد خلت إلى نفسها في غرفتها وراحت تبكي بصوت مرتفع، وأمها في شغل عنها ببعض أعمال المنزل، فدخلت عليها وقالت لها: «شكرا لك يا أدما، أعلمت أن حبيبا وبخني وأهانني لأنك دخلت عليه دون استئذان؟»
فردت عليها غاضبة وقالت: «وهل هذا ذنبي؟ إنما الذنب عليك أنت التي أدخلتني عليهما وهما في خلوة يبكيان ويتشاكيان.»
فغضبت شفيقة بدورها لهذا الاتهام الذي لم تكن تتوقعه وقالت: «أية خلوة تعنين؟ وأي بكاء؟ أتغارين على حبيب إلى هذا الحد؟ أين عقلك يا عزيزتي؟»
فصاحت أدما قائلة بلهجة التهكم والاستخفاف: «إنني مجنونة لا عقل لي يا سيدتي، ولهذا لا أراني أصلح لمعاشرة أمثالكم من العقلاء!»
فوجمت شفيقة، وكفت عما كانت فيه من البكاء منذ طردها شقيقها من غرفة سلمى، وأخذت تجاهد نفسها لتنسى ما شعرت به من الإهانة. لكنها ما لبثت أن سمعت أدما تستأنف كلامها قائلة: «أكان من العقل يا سيدتي أن أفاجئ الشاب الذي خطبني يتناجى مع فتاة أخرى في غرفة مغلقة ليس فيها معهما أحد، وهما يبكيان ويتشاكيان، ثم إذا وجدته قد أذهلته المفاجأة وارتبك ولم يدر كيف يخفي الورقة التي كان يتلوها على فتاته المفضلة، تقدمت فركعت بين يديه، وقبلت قدميه متذللة مستعطفة كي يغفر لي ما ارتكبته من جرم فظيع بتعكير صفو تلك الخلوة الجميلة؟ لا، لا يا سيدتي إنني لا أقبل أبدا مثل هذا الوضع، ولا يمكن أن أضحي بكرامتي وأرضى لنفسي مثل هذا الخطيب ولو كان أجمل من يوسف وأغنى من قارون.»
وهنا لم تعد شفيقة تملك أعصابها فقابلت ثورة أدما بمثلها وصاحت بها قائلة: «كفاك سخرية وتهكما يا سيدتي، إننا ما زلنا على البر، ولم تعقد خطبتك لأخي بعد، وما دمت لا ترينه أهلا لك فأنت حرة، ولك أن تختاري من هو كفؤ لك وأجدر منه بحبك واحترامك.»
وكانت والدة أدما قد سمعت صراخهما فأقبلت لترى ما هناك وقالت لهما: «ما هذا؟ ماذا جرى؟»
فقالت أدما: «اتركيني يا أماه، إني لا أريد ذلك الرجل أبدا والموت خير لي من ...»
فقاطعتها شفيقة قائلة: «وهو أيضا لا يريدك فاطمئني.» ثم غادرت المنزل غاضبة باكية، وما كادت تصل إلى العطفة المؤدية إلى منزل سلمى حتى لقيت والدتها وشقيقها خارجين منها، فروت لهما الحكاية من أولها إلى آخرها وهي تبكي وتنتحب. فثارت ثائرة حبيب لاستهانة أدما به ومصارحتها شقيقته بأنها تؤثر الموت على معاشرته، وتتهمه بأنه كان في خلوة مريبة مع سلمى، فقال لشقيقته: «كفى بكاء يا شفيقة، إنني ما رغبت في خطبة هذه الفتاة إلا مندفعا بإعجابك بأخلاقها وأدبها. وما دامت هذه حالها فلا رغبة لي فيها.»
ثم التفت إلى والدته وقال لها: «هل سمعت؟ وهل أدركت الآن لماذا كنت راغبا عن الزواج كل ذلك الوقت.»
فقالت: «على رسلك يا بني، إن الفتيات كثيرات، ولك علي ألا تمضي أيام حتى أخطب لك من هي أجمل وأغنى وأجدر بك.» •••
مضت فترة غير قصيرة ساد فيها السكوت، ثم التفتت والدة حبيب إليه فجأة وقالت له: «يخيل إلي أن هناك سوء تفاهم لم نقف بعد على تفصيله وأسبابه، فأنت تعرف كما أعرف أن العلاقة بين شفيقة وأدما كانت على أتم ما يكون من الصفاء وتبادل المودة والتقدير، ولم يحدث بينهما قبل ذلك أي شيء يبرر ما حدث. هذا إلى أنه حدث في منزل أدما، وكانت شفيقة بمثابة ضيفة عليها هناك، ولم تجر العادة بأن يهين أحد ضيوفه. وعلى كل حال لا بد من وقوفنا بعد قليل على أسباب ما حدث.»
فسكت حبيب ولم يجب، لاشتغاله بالتفكير في ذلك الأمر العجيب، أما شقيقته شفيقة فنظرت إلى والدتها معاتبة ثم قالت والدموع تكاد تخنقها: «ما هذا الذي تقولين يا أماه؟ ألا تكفي الأسباب التي أبدتها دليلا على أنها لا يمكن أن تصلح زوجة لحبيب؟ أم تريدين بعد هذا كله أن نتذلل لها ونترامى على أقدامها لعلها تتنازل وتتفضل بقبول خطبة حبيب والتغاضي عن الاتهامات التي ألصقتها به، كأنما الدنيا كلها ليس فيها من ترضى الزواج به غيرها؟!»
فأخذت والدتها في تهدئة خاطرها، والنصح لها بالصبر حتى تتكشف الحقيقة بعد قليل.
وما زالوا في مثل هذا الحديث حتى وصلوا إلى المحطة واستقلوا القطار عائدين إلى منزلهم في حلوان.
على الباغي تدور الدوائر
حاولت والدة أدما أن تلحق بشفيقة بعد خروجها غاضبة، لكنها لم تستطع اللحاق بها، ولم تستمع هذه لندائها. فعادت إلى أدما وأخذت تسألها عما حدث وأدى إلى تلك القطيعة. فلم تجب أدما واستمرت في بكائها حتى تفتت قلب والدتها شفقة عليها، وهمت بها فقبلتها قائلة: «لماذا لا تصارحينني بالحقيقة، ألست والدتك؟»
فقالت: «نعم أنت والدتي وليس لي في الحياة من هو أعز منك ، ولهذا أؤكد لك أنني لم أعد أريد حبيبا هذا ولا سواه.»
فقالت: «لكن ماذا جرى؟ ولماذا لا تريدينه وهو يحبك وقد أرسل والدته وشقيقته لخطبتك له؟»
قالت: «إنه لا يحبني، بل يحب سواي، وقد تحققت ذلك بنفسي.»
فقالت: «عجيبة! ومن هي تلك التي يحبها، وكيف عرفت ذلك؟»
فسكتت أدما، ولكن والدتها ما زالت تلح عليها حتى علمت منها أنها لاحظت من قبل تردده على منزل سلمى، ولاح لها أن بينهما محبة متبادلة، لكنها لم تلق بالا إلى ذلك. ولما علمت بأنه أرسل يخطبها هي رجحت أنها كانت واهمة في محبته لسلمى، ولكنها فاجأتهما مصادفة منذ ساعة وهما في خلوة يبكيان ويتشاكيان ويد كل منها في يد الآخر، ورأت من بغتتهما وارتباكهما ما أكد لها تلك الحقيقة.
وعبثا حاولت والدتها أن تقنعها بأنها قد تكون واهمة؛ لأن سلمى مخطوبة لسليم صديق حبيب منذ عهد بعيد وإن لم تعلن الخطبة رسميا، ولأن حبيبا لو كان يحب سلمى ما أرسل والدته وشقيقته لخطبتها هي، إلى أن قالت لها: «وعلى كل حال، لنفرض أنه أحب سلمى من قبل، فإنه لا يلبث بعد عقد خطبتكما وعقد خطبتها رسميا لسليم، أن ينسى ذلك الحب.»
وأخيرا، تم الاتفاق بينهما على ترك الحديث في هذا الشأن، وألا تذكرا شيئا منه أمام أبيها، في انتظار ما يكون. •••
كانت وردة قد تآمرت مع ابنتها إميلي على أن تخلو إلى سليم وتجتهد في حمله على وعدها بالاقتران بها وإعلان خطبتهما في أقرب فرصة. وتم الاتفاق بينهما على أن تخرج وردة مع والدة سليم للنزهة خارج المنزل بعد الغداء، ليخلو الجو لإميلي.
فلما انتهوا من تناول الغداء، وجلسوا في الشرفة يشربون القهوة ويتحادثون، قال سليم: «إني أشعر باكتمال صحتي والحمد لله، وقد جاءني خطاب من وكيل مكتبي في القاهرة يتعجل عودتي لمباشرة إحدى القضايا المهمة، وأرى أن أجيب هذا الطلب، وإن كنت أود من صميم قلبي ألا أفارقكم.»
فبغتت إميلي ووالدتها لهذه المفاجأة، وهما لا تعلمان ما دار من الحديث في شأنهما بين سليم ووالدته. واكتفت إميلي بأن تظاهرت بالبكاء جزعا من ذلك الفراق، بينما ابتدرته والدتها قائلة: «إن صحتك يا بني أغلى وأهم من كل شيء، والأحسن أن تتريث حتى يتم شفاؤك، ثم تعود إلى القاهرة بعد يومين أو ثلاثة.»
فقالت إميلي لوالدتها وهي تصوب سهام عينيها إلى سليم: «لا تلحي عليه يا أماه فلعله مل الإقامة بيننا.»
فردت عليها والدته بقولها: «إن الإقامة معكم لا يمكن أن تمل ويا حبذا لو أنها دامت إلى الأبد!»
وقال سليم: «ما أظن أن الأبد يكفي.»
فقالت وردة: «لو كان هذا صحيحا، ما رغبت في التعجيل بالرحيل، ولكن ماذا نصنع في حظنا؟ إن المحبة لا تكون (بالنبوت)!»
فأخذ سليم يعتذر من تعجيل سفره بأن الضرورة الملحة هي التي اقتضته، وحرص على أن يظهر لوردة وابنتها أنه لا يمكن أن ينسى فضلهما ولطفهما، إلى أن اقتنعتا بإصراره على السفر، فقالت وردة: «إذن يحسن أن نقضي اليوم في النزهة على شاطئ البحر، كي يعاونك هواؤه النقي على استعادة قواك.»
فقال سليم: «إنها نزهة جميلة ولا شك، ولكني أرى أن أنام قليلا بعد الغداء؛ إذ إنني متعود ذلك.»
فوافقته وردة على أمل أن تخرج هي ووالدته في تلك النزهة ويخلو الجو لإميلي كي تظفر من سليم بما تريدان من مكاشفتها بحبه إياها ورغبته في الاقتران بها.
على أن والدته اعتذرت من عدم استطاعتها الخروج، ولم تفارق غرفة سليم حتى استيقظ من نومه بعد ساعة، متظاهرة بإعداد حقائبه للسفر في الغد. وما كاد يستيقظ حتى أعرب عن رغبته في أن يمضي ليلته بمنزل شقيقه فؤاد؛ كي يودعه وقرينته قبل سفره بقطار الصباح، فلم تجد وردة وإميلي بدا من النزول على رغبته بعد أن أصر عليها قياما بواجبه نحو شقيقه العزيز، ولأن منزله أقرب إلى المحطة. •••
أبت والدة سليم إلا أن تصحبه إلى القاهرة لكي ترى سلمى وتعتذر لها مما سببته لها من المتاعب والآلام. وكان حبيب في استقبالهما على المحطة إذ أبرق إليه سليم بموعد وصولهما، فعانق سليم مهنئا إياه بالشفاء، وقبل يد والدته مرحبا بها ودعاهما إلى الإقامة بمنزله في حلوان، فشكراه وأجلا ذلك إلى ما بعد زيارة سلمى. فقال: «إذن أمضي لأحضر والدتي ونذهب جميعا في هذه المهمة.» فوافقا على ذلك.
وما حان العصر حتى كان قد جاء بوالدته إلى غرفة سليم بالفندق، فعانقت والدة سليم وقبلته مهنئة إياه بالسلامة، واعتذر إليها من مغادرته منزلها دون علمها، فقالت له: «ليس بيننا ما يدعو إلى الاعتذار.» ثم جلست تتحدث هي ووالدته حديث المودة في مختلف الشئون. بينما انتحى سليم وحبيب ناحية، فقص الأول حكايته مع سلمى، وقص الثاني حكايته مع أدما، ثم أخذا يتضاحكان لما تخلل القصتين من سوء تفاهم أدى إلى ما وقعا فيه من مشكلات لم ينتهيا من حلها بعد، واعتزما الانتقام من داود وسعيدة العجوز الماكرة على مساعيهما الدنيئة لحساب وردة وابنتها.
ثم نهضا واصطحبا والدتيهما إلى منزل سلمى، فلما بلغوا منزل أدما في الطريق إليه اشتد خفقان قلب حبيب وتطلع إلى شرفة غرفة أدما، فإذا هي مطلة منها، فم يعد يقوى على السير ووقف في مكانه جامدا لا يستطيع رد بصره عن التطلع إليها، وحانت منها التفاتة إليه فلم تصدق أنه هو أول الأمر، ثم رأته يشير إليها بالتحية ويومئ إليها أن تلحق به إلى بيت سلمى. فأخذت تنظر إليه ذاهلة، ثم تحققت الأمر بعد أن تكررت إشاراته لها ووقعت عيناها على سليم بجانبه ولم تكن لذهولها وارتباكها قد تنبهت إلى وجوده. فلم يسعها إلا أن تومئ إليه بأنها ستلحق به إلى هناك، وانثنت داخلة من الشرفة حيث خفت إلى والدتها وأنبأتها بما حدث والبشر باد في محياها قائلة: «ماذا ترين يا أماه؟ لعله عاد إلى صوابه وندم على ما فرط منه كما كنا نؤمل!»
فوافقتها على هذا الرأي، وقالت لها: «سأذهب معك إلى هناك.» ثم تركت ما كانت تقوم به من الأعمال المنزلية، وسارعت إلى ارتداء ثوب الخروج وقلبها لا يقل فرحا عن قلب ابنتها بهذا الاتفاق السعيد.
أما سليم فلم يقو على مواجهة سلمى مفاجأة، لشدة خجله وندمه على ما فرط في حقها، فاقترح أن تدخل والدته عليها أولا مع والدة حبيب لتقوم بمهمة التعارف بينهما، والتمهيد لمقابلته إياها. •••
كانت سلمى بعد أن زارها حبيب وتلا عليها خطاب سليم قد أذهلتها المفاجأة، وكادت ألا تصدق رجوعه إلى حبها والإيمان بطهرها وعفافها ووفائها، ثم تحققت أن الخطاب بخطه الذي تعرفه كل المعرفة. فأشرق وجهها، وشعرت بتحسن كبير في صحتها وما كاد حبيب ينصرف من عندها حتى دعت إليها سعيدة خادمتها العجوز وقالت لها: «يلوح لي يا خالتي أن الله - جل شأنه - قد كتب لي الخلاص من الشقاء والمرض.»
فأدركت سعيدة بدهائها أن لهذا التعبير علاقة بسليم، ولا سيما بعد زيارة صديقه حبيب لسلمى، لكنها تظاهرت بالبشر والابتهاج وقالت: «خيرا يا بنيتي إن شاء الله، هل سمعت نبأ جديدا عن سيدي سليم؟»
قالت: «نعم، أخبرني حبيب الآن بأنه آت إلينا بعد يومين أو ثلاثة.»
فأجفلت سعيدة خشية على حبوط مساعيها الدنيئة وقالت: «وماذا صنع مع تلك الفتاة التي علق بها وذهب إلى الإسكندرية لخطبتها؟»
فقالت: «تخلص منها بعد أن تبين خطأه.»
فوجمت العجوز قليلا، ثم قالت: «وهل كتب لها خطابا اتهمها فيه بالغدر والخيانة كي يتخلص منها؟!»
فأحست سلمى بانقباض عند سماعها عبارة العجوز، إذ أدركت أنها تشير إلى خطاب سليم الذي حملته إليها، لكنها تجاهلت وقالت: «لا أدري كيف تخلص منها، وعلى كل حال متى حضر سنعرف كل شيء.»
فسكتت سعيدة وخرجت من الغرفة متظاهرة بإنجازها بعض الأعمال، ثم غادرت المنزل خلسة وتوجهت مسرعة إلى بيت داود، فقصت عليه ما سمعته، فقال لها: «هذا كله سببه حمق سيدتك وردة وتسرعها عليها لعنة الله. فهي التي فضحتنا وسببت فشلنا بإرسالها إلى سليم خطأ ذلك الخطاب الذي كتبته إلي، وجاءني بدلا منه الخطاب الآخر الذي كتبته باسم والدته تدعوه فيه إلى الحضور.»
ثم واصل حملته على وردة ونعتها بكل نقيصة متأثرا بضياع آماله في المكافأة التي وعدته بها. فلما طلبت إليه سعيدة أن يكف عن حملته على سيدتها، بادرها بالشتم ورفسها في بطنها رفسة قوية أوقعتها على الأرض، فصرخت من شدة الألم، وانطلقت تسبه وتلعنه مما زاد في ثورته وغضبه فاستأنف رفسها وهي توالي الصراخ حتى اجتمع عليهما الجيران والمارة، وخلصوها من بين يديه وهي مشرفة على الهلاك. ثم جاء رجال البوليس، فحملوها إلى القسم بين الموت والحياة، وقادوه مكبلا بالقيود للتحقيق معه في جريمة شروعه في قتلها.
اجتماع الشمل
تفقدت سلمى سعيدة بعد انصرافها من غرفتها فلم تجدها بالمنزل، وعلمت أنها غادرته دون علم والدتها، فقلقت لذلك، ثم اشتد قلقها حين جاء المساء دون أن تعود. وفيما هي كذلك سمعت طرقا على باب المنزل، ثم سمعت والدتها ترحب بالقادمين وهي تقودهم إلى غرفة الاستقبال. وخفق قلبها بشدة إذ طرق سمعها اسم سليم، وظنت نفسها واهمة، لكنها ما لبثت أن سمعت صوته هو نفسه فكاد يغمى عليها من فرط الفرح، وازداد خفقان قلبها وبردت أطرافها، فسارعت إلى استنشاق بعض الروائح العطرية، ولبثت ترهف سمعها فسمعت صوته وأصواتا أخرى عرفت من بينها صوت حبيب ووالدته، وعجبت لسماعها صوت سيدة أخرى لا تعرفها. ثم شعرت باقتراب الأصوات ووقع الأقدام في اتجاه غرفتها، فلم تعد ساقاها تقويان على حملها، وجلست على السرير محاولة التجلد. ثم فتح باب الغرفة ودخلت والدتها ووالدة حبيب ومعهما سيدة متوسطة العمر بسيطة الملابس يفيض وجهها بالطيبة والبساطة والوقار، فهمت سلمى بالوقوف لاستقبالهن فبادرتها هذه السيدة بالكلام قائلة: «لا تتعبي نفسك يا حبيبتي!» وهمت بها فقبلتها في حنان وهي تقول: «سلمت ألف سلامة، وسلم هذا الوجه اللطيف من كل سوء.» فقبلت سلمى يد السيدة شاكرة وعيناها تدمعان تأثرا، وما كادت تسمع والدتها تقول: «هذه خالتك العزيزة والدة عزيزنا سليم.» حتى ازداد تأثرها، وعادت إلى تقبيل يدها والدموع تنهمر من عينيها.
ثم تقدمت والدة حبيب وقبلتها بدورها، وقالت لها: «الحمد لله على سلامتك يا بنيتي.» ثم جلسن حول سريرها وأم سليم لا تني عن التطلع إليها في إعجاب ملحوظ، معربة عن أطيب تمنياتها لها بالشفاء التام والسعادة.
وبعد قليل قالت والدة حبيب لسلمى: «إن قلوبنا قد اطمأنت برؤيتك اللطيفة يا عزيزتي. ولكن قلب سليم لا يطمئن إلا إذا حظي برؤيتك هو الآخر، فهل أدعوه من غرفة الاستقبال؟» قالت ذلك ونهضت وهي تنظر إلى سلمى، فلما رأتها أطرقت حياء وسكتت، ومضت إلى غرفة الجلوس وعادت ومعها سليم، وما كادت عيناه تقعان على سلمى حتى هاجت أشجانه لما شاهد من نحولها وذبول خديها وتكسر أهداب عينيها، وهم بيدها فأمسكها مصافحا والعبرات تتساقط على خديهما وهما يرتجفان. وبقيا كذلك هنيهة وهما لا يستطيعان الكلام، ثم قال سليم وهو ما زال ممسكا يدها: «اصفحي عني يا سلمى، اصفحي عن ظلمي وجهلي وحماقتي، إني لا أستحق الصفح ولكنك ملاك طاهر رحيم، وعفوك أعظم من إساءتي مهما تكن قد سببت لك من الشقاء والعناء!»
وخنقته العبرات فعاد إلى سكوته وإطراقه، فشهقت هي الأخرى بالبكاء، وترنحت في وقفتها وازداد امتقاع لونها، فأجلسها مترفقا على السرير، وجاءتها والدتها بزجاجة بها رائحة عطرية رشت وجهها بقليل منها. فلما أفاقت نظرت إلى سليم وهو واقف أمامها في خشوع وقالت له: «إن الله يغفر الذنوب جميعا، وحسبي من الدنيا أنك عدت إلى اعتقادك بوفائي وإخلاصي.»
فشعر لدى سماعه ذلك منها بكثير من الارتياح، وتنهد ثم حاول الكلام ليشكرها فلم يستطع لفرط تأثره وبكائه. فهمت والدته بسلمى وربتت كتفها قائلة: «إن هذا لأكبر دليل على عراقة أصلك ونبل أخلاقك يا بنيتي. والحقيقة أني أنا المذنبة في حقك لا سليم؛ لأنني انخدعت بوشاية المغرضين.» ثم أخذت هي الأخرى في البكاء.
وهنا نهضت والدة حبيب، فأجلست والدة سليم بجانب سلمى، وأجلسته أمامهما بينها وبين والدة سلمى، وقالت: «الآن يجب علينا أن نحمد الله على اجتماع الشمل وحبوط مكايد الوشاة والحساد. فلنترك البكاء ولنتهيأ للأفراح.»
ثم غيرت مجرى الحديث إلى مختلف الشئون العادية، فجلسوا جميعا يتجاذبون أطرافه في صفاء وسرور.
وبعد قليل فوجئ الجميع بسماع ضحكات عالية في غرفة الاستقبال، ثم دخل حبيب ومعه أدما ووالدتها وفي وجوههم دلائل البشر والابتهاج، وبعد أن حيوا سلمى وهنئوها بالسلامة وبعودة سليم، انضموا إلى المجلس، واشتركوا في الحديث. •••
كان حبيب قد آثر الانتظار وحده في غرفة الاستقبال حين مضت والدته لدعوة سليم إلى مقابلة سلمى في غرفتها، ليفسح له المجال لإظهار عواطفه. وفيما هو كذلك جاءت أدما ووالدتها فوجدتا الباب الخارجي للمنزل مفتوحا، فدخلتا وفوجئتا بوجود حبيب وحده في غرفة الاستقبال، فنهض مرحبا بهما، وهم بيد أدما فأمسكها وأجلسها بينه وبين والدتها، ثم أخذ يشرح لهما حكاية سليم وسلمى من أولها إلى آخرها، ومساعيه لإعادة الوفاق بينهما، إلى أن وصل إلى زيارته الأخيرة لسلمى لتلاوة خطاب سليم عليها، وما تلا ذلك من دخول أدما مع شقيقته عليهما، ثم انصرافها غيرانة غاضبة. فاعترفت أدما بأنها تسرعت وأخطأت بما تفوهت به أثناء ثورتها أمام شفيقة. لكنها بقيت في حيرة من أمر خطابها إلى حبيب وكيف وصل إلى سلمى، فروى لها ما حدث من أن سليما هو الذي عثر بذلك الخطاب اتفاقا حين كان مريضا بمنزلهم في حلوان، فظن هو الآخر مثل ظنها وبعث الخطاب إلى سلمى وهو يحسبها كاتبته لمشابهة خطه خطها، متهما إياها بالغدر والخيانة مما سبب مرضها الذي ما زالت تعانيه.
وهكذا صفا الجو بين حبيب وأدما، ثم نهضوا وهم يتضاحكون ودخلوا غرفة سلمى مسلمين مهنئين.
وفيما هم جميعا هناك، جاء الخواجة سليمان، فرحب بالضيوف ولا سيما سليما ووالدته، وجلس يشاركهم الحديث بعد أن اطلع على ما حدث باختصار.
ثم قالت والدة سليم لوالدة حبيب: «إن كل ما أتمناه الآن أن نحتفل جميعا في وقت واحد بعقد خطبة سلمى لسليم وأدما لحبيب.»
فأطرقت سلمى وأدما خجلا، ووافق الجميع على ذلك، وقال حبيب: «لكي تتم فرحتنا، يجب أن ننتقم أولا من داود الدساس الكذاب وسعيدة العجوز الماكرة.»
فضحك الخواجة سليمان وقال: «لقد أراحنا الله منهما وانتقم منهما أعذب انتقام.»
فعجب الجميع لهذا النبأ، والتفوا حوله مستفسرين عما حدث لهما، فقال: «مررت منذ ساعتين بقسم البوليس فوجدت زحاما شديدا هناك، وعلمت أن رجلا حاول قتل امرأة عجوز، فقبض البوليس عليه رهن محاكمته على هذه الجريمة وعلى ما اتهمته به المصابة من أنه حصل على جانب من تعويضات الإسكندرية زورا وبهتانا. ثم رأيت بعض الجنود وهم يحملون العجوز المصابة إلى المستشفى وهي بين الموت والحياة، وما كدت أرى وجهها حتى تبينت أنها عجوز النحس سعيدة الماكرة الخبيثة. ولم أكن أعلم تفصيل ما وقفت عليه الآن من لؤمها وخبثها، وإن كنت لم أشعر بالارتياح إليها منذ التحاقها بالخدمة هنا، فحزنت على ما أصابها ولعلها قد انتقلت الآن إلى جهنم وبئس القرار.»
فقالت سلمى: «على الباغي تدور الدوائر.» وأمن الجميع على كلامها وهم يحمدون الله على أن كفاهم مئونة الانتقام من تلك العجوز وصاحبها الخائن الجشع المحتال.
وأخيرا دعتهم والدة أدما إلى تناول العشاء في منزلها القريب فقبلوا الدعوة، وانتقلوا جميعا إلى هناك حيث أمضوا السهرة مع الخواجة سعيد والد أدما، واتفقوا على تحديد يوم لعقد خطبة سلمى وأدما، ثم احتفل بزفافهما معا احتفالا شائقا شهده جميع الأقارب والأصدقاء. واكتفوا من الانتقام من وردة وابنتها بعد خيبة آمالهما بأن أرسلوا إليهما بطاقة من بطاقات الدعوة إلى الاحتفال بزفاف سلمى وسليم، فكان لهذه الدعوة وقع دونه وقع السهام المسمومة على قلبيهما، ولم تستطيعا تلبيتها طبعا حتى لا تزيد رؤية العروسين في أحزانهما وحسرتهما على خيبة آمالهما.
وكان نبأ ما حدث لسعيدة وداود قد جاءهما قبل هذه الدعوة بقليل.
وظل أهل القاهرة زمنا طويلا وهم يتحدثون بأبهة ذلك الاحتفال وفخامته، وبما قاساه المحتفل بهم من جهاد المحبين، إلى أن تكلل ذلك الجهاد بالنجاح.
صفحة غير معروفة