الفصل الأول
الباب
شاع القول إن السيد أترسون اتسم بالهدوء الشديد على غير عادة المحامين. وكان يسر قلبه أن ينصت إلى الناس أكثر مما يتحدث. ولم يكن يتفاخر أو يزهو بعمله أو ينشغل بنفسه. ببساطة، كان رجلا نادرا ومحط إعجاب.
كان موكلوه ممن ينبذهم المجتمع ويخرقون القانون. مع ذلك لم يكن السيد أترسون يتدخل فيما لا يعنيه أبدا وكان يحفظ نفسه بمنأى عن كل هذا، فهو يزاول عمله فحسب؛ إذ كان مضطلعا بإعداد الوصايا وتدبير الأمور المادية، ويغض الطرف عن كل شيء سوى ذلك. وكان حريصا كل الحرص على ألا يتورط في شيء. كان السيد أترسون رجلا يحب النظام والحياة النمطية، وعلى ما يبدو لم يسبق له أن فعل أي شيء يمت للإثارة بصلة لا من قريب ولا من بعيد. بل كان ينتابه شعور بعدم ارتياح إذا وجد أي شيء في غير موضعه. أما جدول مواعيده فلا يتغير؛ فهو ينفر من فكرة التغيير. أحب أترسون المسرح، لكنه لم يذهب إليه طيلة عشرين عاما، وأحب لعبة البريدج لكنه لم يلعبها أبدا. في حقيقة الأمر اعتبره كثيرون شخصا كئيبا وغامضا وباردا.
مع كل هذا كان السيد أترسون شخصا محبوبا للغاية؛ فقد رأى أصدقاؤه جانبا مختلفا من شخصيته، رأوا بريقا مميزا في عينيه، وعهدوه رجلا طيبا، مهموما بالآخرين ويعتني بهم. وكان ضيفا محبوبا في حفلات العشاء، ويعول عليه دائما في الإنصات إلى المشكلات وتقديم النصائح السديدة، وكل من عرفه اعتبره صديقا عزيزا جديرا بالثقة.
كان أصدقاؤه إما ذوي قرابة أو رجالا عرفهم لسنوات طويلة. ولم يبحث عن أصدقاء جدد خارج دائرة معارفه المحدودة، الأمر الذي توافق مع حاجته إلى الترتيب والنظام. من ثم واظب السيد أترسون على اصطحاب ابن عمه السيد إينفيلد في نزهة سيرا على الأقدام كل أحد بلا انقطاع، إذ كانا يلتقيان من أجل التنزه يوم الأحد لسنوات كثيرة بحق حتى إنهما نسيا عددها.
لا بد أنهما بدوا ثنائيا غريبا في ناظري كل من مر بهما؛ فقلما تحدث أحدهما إلى الآخر أثناء سيرهما جنبا إلى جنب. كانا يسيران في صمت، وأيديهما في جيوبهما، كل يؤرجح عكازه إلى جانبه. وما إن يريا صديقا عبر الدرب، حتى تبدو عليهما البهجة الشديدة نظرا لهذا التغيير الطارئ، ودائما كانا يحثان هذا الصديق على أن ينضم إليهما في نزهتهما. غير أن المظاهر يمكن أن تكون خادعة؛ فقد استمتع الرجلان بنزهاتهما يوم الأحد أيما استمتاع ورفضا أن يدعا أي شيء يعطلهما عنها.
حدث في نزهة من النزهات أن السيد أترسون والسيد إينفيلد وجدا أنفسهما في جزء مزدحم من لندن حيث الشوارع تعج بالناس، وبدا كلاهما مستمتعا باليوم المشمس. انعطف السيد أترسون وابن عمه إلى أحد الشوارع الجانبية الهادئة. عادة كان يعج هذا الشارع بالناس، لكن المتاجر تغلق أبوابها في أيام الأحد. من ثم كاد الشارع يخلو من أي إنسان سواهما. وعلى خلاف بقية المناطق المجاورة، التي كانت متهالكة، كان هذا الشارع وقاطنوه في حالة جيدة؛ إذ كانت المباني رائعة ونظيفة، مصاريع أبوابها مطلية حديثا وزخارفها النحاسية مصقولة جيدا، وفيما واصل السيد أترسون والسيد إينفيلد سيرهما عبر الشارع راقت لهما المنازل والمتاجر.
وقبل نهاية المبنى بمنزلين برز منزل مختلف عن باقي المنازل؛ كان له ممر متهالك يؤدي إلى فناء. وقد تقشر طلاء الباب وأوشك مزلاجه أن ينفصل عنه. كان المنزل مكونا من طابقين. وبناء على ما استطاعا رؤيته من مكانهما في الشارع، كان المنزل في حالة سيئة حيث بدا مهملا ومهجورا. ولم تكن هناك نوافذ في الجدار المواجه للرجلين، إنما الباب فحسب بدون حتى جرس أو قارعة.
كانا يقفان على الجانب المقابل للمبنى عندما رفع السيد إينفيلد عكازه وأشار به إلى المنزل ثم سأل ابن عمه السيد أترسون: «ألحظت هذا المنزل من قبل؟» أجاب السيد أترسون بالإيجاب، فاستطرد السيد إينفيلد قائلا: «إنه يذكرني دائما بقصة غاية في الغرابة.»
صفحة غير معروفة