وقال الصبي: أنا آسف. وأعقب ذلك صمت طويل مشحون بالمعاني.
وأغمضت الراني عينيها، وأسقط مستر باهو نظارته ثم أغمض عينيه وأمسى صورة لسافونارولا وهو يصلي في صمت. ماذا كان يجري خلف هذا القناع، قناع استجماع النفس الصارم والذي يكاد أن يتجرد من المادة؟ تعجب ويل لما شاهد وأخيرا قال: هل يجوز لي يا سيدتي أن أسأل كيف بدأت السير في الطريق؟ مؤكدا لفظة «الطريق».
ولزمت الراني الصمت ثانية أو ثانيتين، واكتفت بجلوسها مغمضة العينين، تنفرج شفتاها عن ابتسامة بوذا التي تنم عن سعادة غامضة، وأخيرا أجابت بقولها: العناية السماوية كشفت لي عن الطريق. - صحيح، لكن لا بد أن تكون هناك مناسبة، ومكان، وأداة بشرية.
قالت: سوف أخبرك. وفتحت جفنيها وألفى نفسه مرة أخرى محط النظر من هاتين العينين الجاحظتين اللتين لمعتا في حملقة لا تحيد يمنة أو يسرة.
حدث ذلك في لوزان في السنة الأولى من تعليمها السويسري. وكانت الأداة البشرية المختارة هي مدام بولوز المحبوبة الصغيرة، وهي زوجة الأستاذ بولوز المحبوب الكبير. والأستاذ بولوز هو الرجل الذي عهد إليه رعايتها والدها المرحوم سلطان راندنج. وكان الأستاذ في السابعة والستين من عمره، يعلم الجيولوجيا، بروتستانتيا ينتمي إلى طائفة متزمتة، ولولا أنه كان يتعاطى كأسا من النبيذ مع العشاء، ويؤدي صلاته مرتين فقط في اليوم، ويلتزم بالزواج بامرأة واحدة لحسبته من المسلمين. وتحت هذه الرعاية يتفتح ذهن أميرة راندنج، وتبقى بغير تأثر من الناحيتين الخلقية والعقائدية. ولكن السلطان لم يحسب لزوجة الأستاذ حسابا. كانت مدام بولوز في الأربعين فقط من عمرها، بدينة، عاطفية، فوارة في حماستها، اعتنقت أخيرا مذهب الصوفية وتحمست له بشدة، وإن تكن من الناحية الرسمية من مذهب زوجها البروتستانتي. وفي حجرة في أعلى بيت مرتفع قريبا من ميدان ريبون اتخذت لها مكانا للتعبد تأوي إليه سرا لتقوم بتدريباتها على التنفس، وتمارس التركيز، وتستحضر كنداليني، كلما توافر لها الوقت. كانت تدريباتها عنيفة. ولكن جزاءها كان عظيما بدرجة حدود العقل. وعند الفجر ذات ليل من ليالي الصيف بينما كان الأستاذ الطيب مستلقيا يغط في نومه غطيطا متواترا تحت المصلى بطابقين، تجلى لها السيد كوت هومي وشعرت بوجوده معها.
وهنا توقفت الراني عن الحديث بشكل مؤثر.
وقال مستر باهو: هذا أمر غير عادي.
وبدافع الواجب ردد العبارة وراءه ويل وقال: أمر غير عادي.
واستأنفت الراني روايتها. وكانت مدام بولوز قد أحست بسعادة لم تستطع إخفاءها فأفشت سرها. وصدرت عنها إشارات غامضة، وتدرجت من الإشارات إلى الثقة، ومن الثقة إلى دعوة لزيارة المعبد وتلقي التعاليم. وبعد فترة وجيزة من الزمن أخذ كوت هومي يخص الطالبة الجديدة بأفضال تفوق ما كان يقدمه لمعلمتها.
واختتمت الراني حديثها قائلة: ومنذ ذلك اليوم ظل السيد يعاونني على المضي قدما. وأكدت على كلمتي «المضي قدما».
صفحة غير معروفة