الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الجزيرة
الجزيرة
تأليف
أولدس هكسلي
ترجمة
محمود محمود
مقدمة المترجم
بقلم محمود محمود
يسرني أن أقدم إلى قراء العربية هذه القصة التي اقترحت على لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة ترجمتها فتفضلت اللجنة مشكورة بالموافقة.
مؤلف هذه القصة هو الكاتب الإنجليزي المعاصر أولدس هكسلي الذي ولد في عام 1894م ومات في عام 1964م. وقد قضى حياته كلها بين الكتب يقرأ ويكتب في محاولة لإصلاح المجتمع بالنقد البناء ورسم صورة لعالم جديد تتوافر فيه السعادة والحرية للناس أجمعين.
وهو، من ناحية أبيه، حفيد توماس هنري هكسلي العالم الشهير، وينتمي من ناحية أمه إلى أسرة توماس أرنولد ناظر مدرسة رجبي المعروف في عالم التربية في بلاد الإنجليز. ومن بين أفراد أسرته من كان أستاذا، ومن كان عالما، أو شاعرا، أو روائيا. فهو من بيت علم وأدب، تأثر في نشأته بهذا الوسط الثقافي، وتزود بقسط وافر من المعارف وقدر كبير من الألفاظ المعبرة. ولما كان من الأدباء الموهوبين فقد كانت كتاباته دسمة تنطوي على فكر عميق وأسلوب رائع خلاب.
قاسى كثيرا في طفولته من ضعف بصره الذي كاد أن يفقده ويعيش ضريرا كفيف البصر، وقضى أياما كثيرة وحده في غرفة مظلمة لا يستطيع القراءة ولا تقع عيناه على شيء، فانقلب إلى دخيلة نفسه يفكر ويتأمل. وكان لهذه الفترة من حياته أثرها الكبير في كل ما كتب فيما بعد، بعدما زال عنه خطر العمى الكامل واسترد شيئا من قدرته على الرؤية؛ فهو يميل دائما إلى التفكير المستقل والتأمل الصوفي.
غير أن ما أصابه في عينيه لم يصرفه عن التعلم وإدمان القراءة. وقد بدأ حياته الأدبية شاعرا محتذيا في ذلك حذو أكثر الكتاب من جيله، ولبث شاعرا طوال حياته حتى عندما تحول من التعبير بالكلام المنظوم إلى النثر الفني يكتب به القصص والمقالات. فهو في نثره ينضح من الوجدان أكثر مما يبني على العقل والمنطق، يحلق في الخيال ويستخدم الطريف من التشبيه والاستعارة والكناية.
ولما أتم تعليمه الجامعي في أكسفورد رحل إلى لندن واشتغل بالصحافة، يكتب المقالات والقصص القصيرة.
ثم شرع بعد ذلك يكتب الروايات الطويلة متأثرا بمنهج الكاتب الروائي توماس بيكوك الذي عاش في القرن التاسع عشر، واشتهر بسعة الاطلاع وروح التهكم والخيال الجامح. وأخرج هكسلي العديد من الروايات التي اتخذ منها وسيلة لبث كثير من آرائه التي بشر بها.
وهو كاتب متنوع المواهب متنوع الموضوعات. يقول عنه أخوه العالم جوليان إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية حينما يقوم برحلة طويلة أو يطوف حول العالم، ولكنه - على الرغم من عمق ثقافته وغزارة علمه - لم يقصر نفسه على مجرد التفكير، بل كان يمارس كثيرا من الأعمال ويعاشر الكثير من الرجال، وكانت حياته الاجتماعية خصبة تمده بكثير من التجارب والخبرات.
يقول في إحدى قصصه التي كتبها في باكورة حياته الأدبية:
أكثر الناس يقبل على معركة الحياة يخوضها بآراء مسبقة عن كل شيء وله فلسفة جاهزة يحاول أن يخضع لها أمور هذه الدنيا بأسرها. وهذا وضع مقلوب، والصحيح هو أن يمارس المرء حياته أولا، ثم يحاول بعد الخبرة أن يصوغ فلسفته وآراءه التي تتفق مع الحياة كما عرفها.
وعلى هذا النهج سار هكسلي في حياته؛ يمارس العمل ويكتسب الخبرة قبل أن يصوغ الرأي، لا تكبله قيود المبادئ والأصول والتقاليد الموروثة؛ ومن أجل هذا كان ثائرا على المألوف. وكانت له آراء عجيبة لا يسيغها المجتمع، ولكنه وضع حريته في الرأي فوق استرضاء الجماهير.
وشغل نفسه طوال حياته بالعلاقة بين العلم والمجتمع، فكتب روايته الشهيرة «العالم الطريف» التي سبق لي أن نقلتها إلى اللغة العربية. وفي هذه الرواية عبر هكسلي عن خوفه من سيطرة العلم سيطرة كاملة على حياة الناس، وأشفق على المجتمع البشري من المغالاة في تطبيق العلم إلى الحد الذي تنتفي معه في حياته العاطفة والشعر وتقدير الجمال.
في مثل هذا العالم الذي يقوم على قواعد العلم دون غيرها تصبح الحياة آلية يتشابه فيها زيد مع عمرو وتتلاشى المميزات الخاصة لكل فرد.
كان هكسلي في كتابه هذا متشائما في مستقبل البشرية إلى أقصى الحدود. وبعدما مرت السنون أدرك أن هذا التشاؤم لا يؤدي إلى إصلاح أسباب المعاناة والشقاء، فأخرج كتابا آخر أسماه «عود إلى العالم الطريف» راجع فيه آراءه السابقة، وكان أكثر تفاؤلا وأشد ميلا إلى الفكر البناء، ودعا إلى المزيد من الديمقراطية والحرية، وإلى رفع مستوى المعيشة بضبط النسل وتنظيم الأسرة.
ولبث يفكر في تصوير عالم جديد تتوافر للمرء فيه الحرية والسعادة، وأخيرا انتهى إلى رسم صورة خيالية لهذا العالم في قصته «الجزيرة» التي أقدمها اليوم إلى القراء.
ولي مع هذا الكتاب قصة؛ فلقد كنت دائما شغوفا بكل ما كتب هكسلي أقرؤه وأتدبره وأنقل بعضه إلى العربية بنصه الكامل أحيانا وفي صيغة ملخصة أحيانا أخرى. حتى كان صيف عام 1962م حينما أتيحت لي فرصة لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وطفت بالعديد من ولاياتها. ولما بلغت سان فرانسسكو بولاية كاليفورنيا وقابلت هناك المسئولين عن تنظيم رحلتي، بادرني أحدهم بقوله إنهم يعلمون عني أني من المولعين بأدب هكسلي. ولما كان الرجل في ذلك الحين يقيم في بركلي على مقربة من مدينة سان فرانسسكو أستاذا زائرا في جامعة كاليفورنيا، يلقي على طلبتها محاضرات في الأدب المعاصر؛ فقد اتصلوا به يخطرونه بقدومي، وتفضل بدعوتي إلى زيارته بمنزله. ولبيت الدعوة بسرور بالغ لأنني وجدت فيها فرصة ألتقي فيها بهذا الكاتب العظيم، وأجري معه حديثا يزيدني علما وبصيرة بفكره ونظراته في الحياة.
ودهشت لبساطة المنزل، وتواضع الرجل، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث زهاء ساعتين، وأذهلني منه عمق ثقافته واتساعها وشمولها؛ فهو على دراية تامة بتقدم العلوم الطبيعية، وبالتاريخ السياسي وتاريخ الأديان، وبكثير من اللغات الحية واللغات البائدة، وآداب الشعوب، ومشكلاتها السياسية والاقتصادية، ونظريات التطور وعلم النفس الحديث، والفنون القديمة والحديثة بضروبها كافة، وعلوم الفلسفة والتربية ... ماذا أقول! إنني لا أكون مغاليا إذا قلت إن الرجل موسوعة علمية كاملة، امتزجت في شخصه مختلف المعارف والثقافات، وكون لنفسه من هذا المزيج فلسفته الخاصة التي أخرجها في كتب أدبية رائعة تتسم بروعة الأسلوب والأداء.
وراعني من الرجل خاصة وعيه لمشكلات هذه المنطقة من العالم التي نعيش فيها، منطقة الشرق الأوسط، مهبط الوحي والديانات، وعطفه على العروبة وآمالها، وميله إلى التصوف وتقديره له، وإيثاره التصوف الإسلامي على التصوف البوذي الهندي؛ لأن النوع الأول من التصوف منشئ بناء، في حين أن التصوف البوذي سلبي هدام، لا يحث على عمل، ولا يدفع إلى خلق أو ابتكار. وأخذ يروي لي أبياتا من الشعر بالإنجليزية هي ترجمة لشعر جلال الدين الرومي الذي أبدى إعجابا شديدا به. كما عبر عن أسفه الشديد لأنه لا يعرف اللغة العربية لكي يتمكن من أن ينهل من الثقافة الإسلامية من مصادرها الأصيلة.
وأردت أن أظفر من الرجل في نهاية الزيارة بحديث عن أحدث آرائه في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وتقدم العلوم والحضارة البشرية عامة، أنشره بعد عودتي لبلادي، فقال: خير من حديث مطول ربما لا يلم بكل أطراف الموضوع أن أهدي إليك آخر مؤلفاتي؛ لعلك واجد فيه بغيتك. ونهض إلى مكتبته وعاد منها بكتاب أمهره بعبارة إهداء لطيفة، فقبلته منه شاكرا، ثم انصرفت.
والكتاب الذي أهداني إياه هو قصة «الجزيرة» التي أشرت إليها من قبل في هذه المقدمة، ولعل هذه القصة هي آخر ما كتب قبل وفاته. وعكفت على الكتاب أقرؤه، وعزمت على أن أنقله إلى اللغة العربية، ومضت السنون دون أن أحقق ما اعتزمت حتى كانت هذه الفرصة الطيبة التي أتاحها لي المجلس الأعلى للثقافة.
والكتاب عبارة عن قصة حول جزيرة خيالية اسمها بالا تقع في بقعة نائية بالمحيط الهادي بعيدة عن حضارات الشرق والغرب، عاش أهلها مائة وعشرين عاما في مجتمع مثالي توافرت فيه كل أسباب الحرية والسعادة، لا يتقيد بما ألفنا من نظم، فلا هو بالمجتمع الرأسمالي، ولا هو بالمجتمع الشيوعي. أهله متصوفون يؤمنون بالعلم الحديث وإمكاناته، العلم الذي يتحرر به الإنسان، وليس العلم الذي يستعبد الإنسان. وإن كان العلم في قصة «العالم الطريف» قد جعل الحياة على الأرض جحيما؛ فالعلم ذاته في هذا العالم الجديد قد أقام على الأرض نعيما.
وقد تم هذا اللقاء بين الشرق والغرب، وهذا التزاوج بين العلم والإيمان عندما وفد إلى جزيرة بالا طبيب من أهل الغرب يمثل العلم الحديث استدعاه حاكم الجزيرة لمعالجته من مرض عضال ألم به وكاد أن يودي بحياته، وهذا الحاكم رجل بوذي مغرق في تصوفه، وأفلح الطبيب في علاج الرجل فنشأت بينهما صداقة قوية ترمز للجمع بين العلم والدين، واتخذ الحاكم طبيبه وزيرا له، وتعاهدا على إصلاح الأمور في مملكة بالا على هذا الأساس. وسرعان ما أخذ الناس جميعا بهذا الأسلوب الجديد من العيش الذي يجمع بين العلم والإيمان.
وبهذه الجزيرة ثروات طائلة من البترول والمعادن أثارت حسد العالم المحيط بها ومطامع المستعمرين وشركات الاستثمار في أوروبا وأمريكا. فرأى أحد مديري هذه الشركات الذي يملك كذلك الكثير من الصحف أن يبعث إلى بالا وكيلا عنه - هو ويل فارنبي - أحد المحررين في صحفه، ليستطلع مجالات الاستثمار في الجزيرة، ويلتقي بالمسئولين فيها يدرس معهم إمكان إبرام اتفاق مشترك شبيه بما يحدث عادة في بلاد الثروة البترولية.
ويصل ويل فارنبي بعد مشقة إلى الجزيرة ويجوس خلالها ويتعرف على أهلها وأمورها فيرى العجب الذي يستنكره أولا، ولكنه لا يلبث أن يقتنع به ويعتقد فيه.
ماذا رأى ويل فارنبي في جزيرة بالا؟
رأى قوما يأخذون بالصوفية البوذية مسلكا في حياتهم وبالعلم الحديث طريقا إلى التقدم والتطور.
والصوفية فوق هذه الجزيرة سبيل لتحرير النفوس من سلطان المادة، وطريق إلى بلوغ الاستنارة الكاملة والوعي الشامل بالتأمل العميق في الحياة ومغزاها.
وقد أفاض الكاتب في مواضع عدة من الكتاب في تفصيل الكلام عن البوذية وأشار إلى كثير من معالمها وأعلامها. وقد أوضحت في هوامش من عندي بنبذ قصيرة ما يشير إليه الكاتب من أسرار هذه العقيدة الدينية، كما حاولت في الهوامش كذلك أن أفسر ما قد يغمض على القارئ من الإشارات والأعلام التاريخية الكثيرة التي يوردها في سياق القصة بفرض أن القارئ على علم مسبق بها.
وأهل بالا يفيدون من قوة الإيحاء والتنويم المغناطيسي في تعليم الأطفال وعلاج المرضى، ويمكنهم بتأثير عقار يتعاطونه اسمه «الموكشا» أن يعيشوا في أحلام حلوة عذبة يتصلون فيها بالواحد الأحد ويتأملون في خلق السموات والأرض، ويتحدون مع الكون بمظاهره كافة؛ وذلك هدف من أهداف التصوف السامية.
ولأهل بالا فلسفتهم الخاصة في التربية وتنظيم الأسرة، وفي الاقتصاد والسياسة، وفي العلاقات الإنسانية، والفنون والثقافة، ونظرة الإنسان إلى الموت، والتكنولوجيا الحديثة، وكل شأن من شئون الحياة، متحررين تماما من العقد وقيود الماضي ومن الاستعمار البغيض.
وفي رواية «الجزيرة» مجال فسيح لعرض هذه الآراء وأمثالها في حوار ممتع؛ لأنها ليست قصة بالمعنى المألوف، فهي تكاد أن تخلو من العقدة، ولا تأبه بتحليل الشخصيات، إنما هي قصة لعرض الآراء والأفكار.
ولست أريد أن أسترسل في مقدمة الكتاب في بسط كل ما جاء به من طريف هذه الآراء والأفكار، وأوثر على ذلك أن أضع الكتاب بين يدي القارئ يستغرق فيه مع خيال الكاتب الذي آمل أن يجد فيه متعة ذهنية ولذة روحية.
ولم يكن هكسلي في كتابه هذا متفائلا كل التفاؤل بسيادة النظام الجديد؛ لأن العالم ما تزال به كثير من الشرور التي تفتك بمحاولات التقدم وبما تحرزه الشعوب من نعمة الحرية والاستقرار والاستقلال.
وفي قمة هذه الشرور نقمة المطامع المادية والاستعمار؛ ولذلك نرى هكسلي يتخيل في نهاية القصة بأن الطامعين من أهل الغرب يحيكون مع أحد الحكام المستبدين في بلد مجاور لبالا مؤامرة للاستيلاء عليها، فيدخل هذا الحاكم المستبد الجزيرة غازيا ليحكمها حكما مطلقا ويمنح المستثمر الأجنبي امتيازات يستولي بها على ثروة البلاد. وبهذا تنتهي القصة وتخضع أرض الأحلام إلى الواقع المرير.
ومما شجعني على القيام بترجمة هذا الكتاب هو تلك الدعوة التي ينطوي عليها إلى الأخذ بالعلم والإيمان، وإلى الجمع بين فلسفة الشرق الروحية وفلسفة الغرب المادية في كيان واحد، وهو ما نهدف إليه في نهضتنا الجديدة، وما يتطلع إليه المفكرون والمصلحون في العالم الحديث.
عندما نضع مثلا أعلى، لنا أن نفترض ما نشاء على أن نتجنب المستحيلات.
أرسطو
الفصل الأول
- انتباه!
بهذه الكلمة صاح المنادي، وكأن مزمارا قد نطق فجأة بصوت واضح. - انتباه، انتباه!
هكذا أخذ الصوت يكرر النداء بنفس النغمة العالية الرتيبة التي تخرج من الأنف.
وكان ويل فارنبي مستلقيا بين أوراق الأشجار الذابلة وكأنه جثة هامدة، شعره مشعث، ووجهه ملطخ بصورة بشعة، به كدمات ورضوض، وثيابه رثة ملوثة بالوحل، عندما تيقظ من غفوته مذعورا.
وكأن مولي قد نادته صائحة: لقد آن أن تنهض وترتدي ثيابك لكي لا تتأخر على موعدك بالمكتب.
فاعتدل قائما وقال لها: شكرا لك يا عزيزتي.
وأحس ألما حادا بركبته اليمنى، وبصنوف أخرى من الألم في ظهره، وذراعيه، وجبهته. - انتباه!
أخذ الصوت يردد هذه الكلمة دون أدنى اختلاف في النغم. فاتكأ فارنبي على أحد مرفقيه، وتلفت حواليه، ولشد ما كانت حيرته عندما لم تقع عينه على الحائط المكسو بالورق الرمادي، وعلى السجف الصفراء التي تغطي غرفة نومه في لندن، وإنما وقعت على أرض فضاء وسط الأشجار، وعلى الظلال المستطيلة والأضواء المائلة التي تظهر في الغابة في الصباح الباكر. - انتباه!
لماذا قالت: انتباه؟
ولكن الصوت أخذ يردد القول: انتباه، انتباه! بشكل يدعو إلى العجب ويخلو من المعنى!
وتساءل: مولي؟ مولي؟
وكأن هذا الاسم قد فتح في داخل رأسه نافذة. وفجأة وبذلك الشعور الرهيب بالذنب الذي يحسه المرء في أعماقه شم رائحة «الفورمالدهايد»، ووقعت عينه على تلك الممرضة النحيلة خفيفة الحركة وهي تخب في السير أمامه على طول الدهليز الأخضر، وطرقت أذنه خشخشة ردائها المنشى، وكانت تكرر قولها: رقم 55. ثم توقفت، وفتحت بابا أبيض اللون، فولجه، ورأى مولي فوق سرير مرتفع أبيض، مولي بالضمائد تغطي نصف وجهها، فاغرة فاها.
وناداها: مولي، مولي ...
وتهدج صوته، وأخذ يبكي ، ويناشدها: حبيبتي! وليس من مجيب. ومن فمها المفتوح صعدت زفرات خافتة متلاحقة بغير معنى، وهو يكرر النداء: حبيبتي، حبيبتي ...
وعندئذ دبت الحياة فجأة وللحظة قصيرة في اليد التي كان يمسك بها، ثم عادت إلى السكون.
وقال: هذا أنا، أنا ويل.
ومرة أخرى اهتزت أصابعها. وفي بطء زائد وبجهد باد أطبقت على يده، وضغطت عليها لحظة، ثم أرخت أصابعها ثانية ولا حراك فيها.
وصاح ذلك الصوت غير الإنساني: انتباه، انتباه!
وسارع إلى إقناع نفسه بأنها لم تكن سوى حادثة؛ فلقد كان الطريق مبتلا، وانزلقت العربة عبر الخط الأبيض، وهو أمر يتكرر حدوثه، والصحف مليئة بأمثاله، وما أكثر ما أبلغ عن أشباهها، فروي مثلا «أن أما وأطفالها الثلاثة قد لاقوا حتفهم في تصادم عنيف ...»
ولكن هذا لا يهم الآن، وإنما المهم هو أنها عندما سألته إن كانت تلك هي النهاية حقا، رد عليها بالإيجاب. المهم أنه في أقل من ساعة زمن بعدما خرجت تحت المطر من تلك المقابلة الأخيرة المخجلة كانت «مولي» في عربة الإسعاف تلفظ أنفاسها الأخيرة.
ولم يكن قد أعارها التفاتا عندما أولته ظهرها لكي تنصرف. بل ولم يجرؤ على ذلك؛ فإن نظرة أخرى إلى ذلك الوجه الشاحب الذي يعاني الألم قد تفوق قدرته على الاحتمال وكانت قد نهضت من مقعدها وتحركت ببطء شديد تذرع الغرفة من جانب إلى جانب، بل تحركت ببطء لتختفي من حياته. فهل يسترجعها، ويطلب عفوها، ويقول لها إنه ما زال يحبها؟
وللمرة المائة ناداه المزمار بصوت واضح إلى الانتباه!
وهل أحبها فعلا في أي وقت مضى؟
وعادت به ذاكرته إلى همستها وهي تتلفت خلفها عند عتبة الباب قائلة: تصحبك السلامة يا ويل. ولقد كانت «هي» التي قالت: إنني ما زلت أحبك يا ويل، على الرغم من كل ما حدث. بصوت هامس يخرج من أعماق القلب.
وبعد هنيهة انغلق باب الغرفة خلفها دون أن يحدث صوتا مسموعا، ثم كانت طقطقة المزلاج التي توارت بعدها عن الأنظار.
وقفز من مكانه وانطلق نحو الباب الخارجي وفتحه واستمع إلى خطوات تراجعها على الدرج، وكأنها شبح عند منبلج الصباح خلف وراءه عطرا خفيف الرائحة مألوفا أخذ يتلاشى في الهواء. وأغلق الباب مرة أخرى وأخذ يجول في غرفة النوم الرمادية والصفراء وتطلع من النافذة. وبعد بضع ثوان رآها وهي تعبر الطريق وتركب السيارة. واستمع إلى صوت مفتاح التحريك وهو يدور بصوت عال، دفعة أولى، ثم دفعة ثانية. وبعدئذ استمع إلى طنين المحرك، فهل يفتح النافذة؟ وأصغى إلى نفسه وهو يصيح في خياله: مهلا يا مولي، مهلا!
وظلت النافذة مغلقة، وبدأت السيارة في التحرك، ودارت عند الناصية، وأصبح الطريق خاليا. وفات الأوان، واستمع إلى صوت ساخر أجش وهو يكرر القول: الحمد لله، لقد فات الأوان! ومع ذلك فقد كان الإحساس بالذنب في صميم الفؤاد، وتأنيب الضمير يجز في نفسه، ولكنه استطاع برغم هذا التأنيب أن يشعر بشيء من السرور؛ فلقد كان هناك شخص وضيع فاسق همجي، شخص غريب بغيض - ولكنه يعبر في الواقع عما في نفسه - تساوره الفرحة بأنه لم يعد أمامه الآن ما يعوقه عن الظفر بما يريد، وما يريد هو عطر آخر؛ هو الدفء والمرونة ينبعثان عن جسم أكثر نضارة وشبابا.
ثم نادى المزمار: انتباه!
نعم، انتباه! انتباه إلى مخدع بابز الذي يفوح بالمسك، والذي يتوارى في فجوة قرنفلية اللون كالفراولة، لها نافذتان تطلان على شارع تشارنج كروس يتسرب من خلالهما طوال الليل وميض خاطف يصدر عن لوحة مرتفعة عالية تعلن عن «بورترجين» وتقع على الجانب الآخر من الطريق. وكلمة «جين» قرمزية اللون؛ وقد أمست الفجوة لعشر ثوان قلبا مقدسا، ولعشر ثوان معجزة. تلألأ الوجه المتورد - الذي كان يلاصقه - وكأنه وجه صاروفيم. وقد صاغته نار الحب الدفينة في صورة أخرى. ثم حدث بعد ذلك تحول أشد عمقا في ظلام الليل. ودقت الساعة دقة أولى، وثانية، وثالثة، ورابعة ... ربي اجعلها تدق أبد الآبدين! وعندما دقت الساعة الكهربائية دقتها العاشرة تبدت له رؤية أخرى؛ رؤية الموت والفزع الأكبر؛ ذلك أن الأضواء هذه المرة كانت خضراء وتحولت فجوة بابز الوردية لعشر ثوان مقيتة إلى بؤرة من الوحل، واستحالت بابز إلى ما يشبه الجثة التي أصابها صرع بعد الموت. وعندما اتخذ إعلان «الجين» اللون الأخضر تعذر نسيان ما حدث وحقيقة الإنسان الذي كان. ولم يعد بوسعه إلا أن يغمض عينيه ويغوص - إن استطاع - بدرجة أشد عمقا في العالم الآخر، عالم الشهوات الحسية، وأن يغوص بعنف، وعن عمد، في تلك النوبات التي تطير بصوابك، وهي نوبات كانت مولي المسكينة غريبة عنها تماما؛ انتباه! مولي التي هي الآن في ضمائدها. وفي مثواها الرطب في هايجيت.
ولقد كانت هايجيت - بطبيعة الحال - هي السبب الذي يجعله يغمض العين كلما سقط الضوء الأخضر على بابز وهي عارية فيحيلها إلى لون الجثة. ولم تكن مولي وحدها هي ما جال بخاطره؛ فلقد رأى ويل من خلف جفنيه المطبقين أمه شاحبة اللون كالكاميو (حجر كريم) روحانية الوجه مستسلمة للألم، يداها في صورة بشعة وقد أصابهما التهاب المفاصل فهبط بهما إلى مستوى دون مستوى البشر، كما رأى أخته مود واقفة خلف كرسي المقعدين الذي كانت تعتليه الأم وقد كساها الشحم واهتز جسمها كما يهتز الهلام واستولت عليها المشاعر التي لم تعبر عنها قط تعبيرا صحيحا بالحب الذي يبلغ ذروته. - كيف تستطيع ذلك يا ويل؟
ورددت مود العبارة قائلة: نعم، كيف تستطيع؟ بصوتها الرنان المرتعش والدمع يساقط من عينيها.
ولم يحر جوابا، أي جواب في ألفاظ يستطيع أن يتفوه بها في حضورهما، وإن استطاع فإن هاتين الشهيدتين - الأم التي استشهدت في زواج غير سعيد، والأخت التي استشهدت في برها بأمها - لا يمكن أن يفقها قوله. لا جواب، اللهم إلا أن كان في لفظ أشد ما يكون موضوعية علمية فاحشة، وفي صراحة مرفوضة، يسألانه كيف استطاع أن يفعل ذلك؟ لقد استطاع، بل لعله أرغم عمليا على ذلك؛ لأن لبابز خصائص بدنية معينة لم تكن من صفات مولي، كما كانت في بعض اللحظات تسلك سلوكا لا يمكن أن يتطرق إليه ذهن مولي.
وسادت فترة طويلة من الصمت، ثم - وعلى غير انتظار - عاد الصوت الغريب يردد قوله : انتباه، انتباه!
انتباه إلى مولي، وانتباه إلى مود وإلى أمه، وانتباه إلى بابز، وفجأة برزت من ضباب الغموض والاضطراب ذكرى ثانية؛ فلقد أوى إلى ركن بابز القرنفلي ضيف آخر، وارتعش جسمها نشوة من عناقه، فشعر - بالإضافة إلى الإحساس بالذنب - بهم في قلبه وغصة في حلقه. - انتباه!
اقترب الصوت، ونادى من مكان ما جهة اليمين، وأدار ويل رأسه، وحاول أن ينهض حتى يشهد المنظر بصورة أوضح. غير أن الذراع التي كان يستند إليها بدأت ترتعش، ثم هوت وسقط بين أوراق الشجر. ولما كان مجهدا إلى حد لا يستطيع معه استرجاع الماضي فقد استلقى مكانه لفترة طويلة محدقا إلى أعلى من خلال جفنين نصف مغمضين نحو عالم من حوله لم يدرك له كنها. أين هو؟ وكيف وصل إلى هذا المكان؟ ولم يكن ذلك مهما في حد ذاته، إذ لم يكن يهمه في تلك اللحظة سوى ما يحس من ألم ومن ضعف قاتل، ومع ذلك فقد دفعه اهتمامه العلمي إلى ...
هذه الشجرة - مثلا - التي ألفى نفسه (لسبب ليس يعرفه) ملقى تحتها، وهذا الجذع المرتفع بقشرته الرمادية، وبأعلاه عقدان متقاطعان من الأغصان المرقشة بضوء الشمس؛ هذه الشجرة على هذه الصورة لا بد أن تكون من أشجار الزان، ولكنها إن كانت كذلك فإن أوراقها لا يصح أن تكون دائمة الخضرة كما بدت؛ وهنا أعجب ويل بنفسه لوضوح منطقه. ولماذا ترفع شجرة الزان جذورها كالأكواع فوق سطح الأرض على هذا النحو؟ وهذه الدعامات الخشبية العجيبة التي تستند إليها الشجرة الشبيهة بشجرة الزان ما مكانها من الصورة؟
وما أعجب هذه الفراشات التي تنقض هناك في ضوء الشمس الشديد. لماذا هي في هذا الحجم الكبير، لازوردية بشكل غير مألوف أو سوداء كالمخمل، واسعة العينين بها كلف غير معهود؟ والأرجوان يطل من الكستناء، والفضة منثورة فوق الزمرد، وفوق التوباز (حجر كريم)، وفوق الياقوت الأزرق! - انتباه!
وصاح ويل فارنبي بصوت ظنه عاليا مزعجا: من هناك؟ في حين أن كل ما خرج من فيه لم يكن سوى صوت منخفض رفيع مرتعش .
ثم ساد سكون طويل ومخيف للغاية فيما بدا. وبرزت من الفجوة التي تقع بين دعامتين خشبيتين من دعامات الشجرة حشرة لها أربع وأربعون رجلا، ضخمة سوداء اللون، وظهرت للعيان لحظة، ثم أسرعت مبتعدة وهي تجري بأرجلها العديدة القرمزية واختفت في فجوة أخرى.
وبصوته الخفيض صاح مرة أخرى: من هناك؟
وسمع خشخشة في الأشجار التي كانت على يساره، وفجأة ظهر طائر أسود ضخم في حجم الغراب - وليست بي حاجة إلى القول بأنه لم يكن غرابا - وكأنه وقواق قد أطل من ساعة حائط، وصفق بجناحين أطرافهما بيضاء، ثم اندفع في الفضاء الذي يفصله عن ويل، واستقر فوق أدنى أغصان شجرة صغيرة ذابلة تبعد أقل من عشرين قدما عن المكان الذي كان يرقد فيه. ولاحظ ويل أن منقار الطائر برتقالي اللون، وتحت كل عين بقعة صفراء جرداء، وأن له ألغادا صفراء فاتحة تغطي رأسه ومؤخرته، مع لمة كثيفة من اللحم العاري. وهز الطائر رأسه في خيلاء وحدق فيه بعينه اليمنى أولا ثم بعينه اليسرى بعد ذلك، وبعدئذ فتح منقاره البرتقالي، وصفر عشر مرات أو اثنتي عشرة مرة بنغم منخفض على المستوى الخماسي من السلم الموسيقي، وصدر عنه صوت شبيه بالغواق، وفي كلمات غنائية بنغمة «دو دو سول دو» صاح قائلا: الآن، وفي هذا المكان يا قوم، الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
وكأن هذه الكلمات قد ضغطت على زناد، وفجأة تذكر كل شيء. هنا بالا؛ الأرض المحرمة، المكان الذي لم يزره صحافي قبل اليوم. ولا بد أن يكون هذا الوقت هو الصباح الذي تلا ذلك المساء الذي فقد فيه رشده فأبحر وحده خارج ميناء راندنج لوبو. تذكر كل شيء: الشراع الأبيض الذي انتفخ بالريح فاتخذ شكل ورقة المنغوليا، والماء يتدفق عند مقدم السفينة، وبريق الماس على قمم الأمواج، والقنوات التي تشبه اليشم المجعد، وعبر المضيق شرقا تلك السحب، وعجائب ذلك اللون الأبيض المنحوت الذي يعلو براكين بالا. وفي جلسته عند ذراع الدفة تنبه إلى نفسه فإذا به يغني ويشعر بسعادة لا تشوبها شائبة وبدرجة لا يتصورها العقل.
وحملت الرياح فوق موج البحر الصاخب نشيده الذي تغنى فيه بوحدته الموحشة.
وليست بنا حاجة إلى القول بأن ما حذر منه كل الملاحين الحذرين المجربين قد حدث؛ العاصفة الهوجاء تهب من أين لا يدري، والريح العاتية والمطر والموج تثور فجأة مسعورة مجنونة ...
وتغنى الطائر: الآن، وفي هذا المكان يا قوم، الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
وخطر له أنه من العجيب حقا أن يكون هنا تحت الأشجار ولا يكون هناك في قاع مضيق بالا، بل - وهو أسوأ من ذلك - ألا يكون حطاما عند سفح الجبل؛ لأنه حتى بعد أن استطاع بمحض المعجزة أن يقود سفينته الغارقة خلال الموج ويرسيها على الشاطئ الرملي الوحيد بين تلك الأميال من سواحل بالا الصخرية؛ حتى مع ذلك لم تكن النهاية. فلقد كانت التلال شامخة؛ ولكن في أعلى مكانه المنخفض كان هناك واد ضيق يجري فيه تيار من الماء تقطعه مساقط شفافة متتابعة. وكانت هناك أعشاب وأشجار تنمو بين جدران من الجير الرمادي؛ ستمائة أو سبعمائة قدم من الصخر عليه أن يتسلقها، في حذاء حفيف كحذاء لعبة التنس. وكل مواقع الأقدام زلقة تغمرها المياه. وفوق ذلك تلك الأفاعي، وإحداها سوداء تلتف فوق الغصن الذي كان يتشبث به. وبعد خمس دقائق تكورت الأفعى الخضراء الضخمة هناك فوق صخرة ناتئة في المكان الذي كان يتأهب ليخطو عليه. فزع يتلوه فزع أشد. وقد انخلع قلبه لمرأى الأفعى وسحب قدمه بشدة. وأفقدته توازنه هذه الحركة المفاجئة التي لم يحسب لها حسابا. ومرت به برهة طويلة من الغثيان وهو موقن في جزع شديد أن هذه هي نهايته. وترنح عند الحافة ثم هوى، الموت، الموت، الموت! وبعدئذ ألفى نفسه - وفي أذنيه صوت الخشب يتطاير شظايا - معلقا في أغصان شجرة صغيرة، وجهه مخدوش، وركبته اليمنى مجروحة تسيل منها الدماء، ولكنه ما برح على قيد الحياة. فتابع تسلقه في عناء شديد. وقد آلمته ركبته وأوجعته، ولكنه واصل التسلق، ولم يكن له عن ذلك بديل. ثم أخذ النور يتلاشى. وفي النهاية كان يتسلق في شبه الظلام، يدفعه الإيمان واليأس القاتل.
وصاح الطائر: الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
غير أن ويل فارنبي لم يكن في هذه الآونة ولا هذا المكان. بل كان هناك فوق الصخور وفي لحظة السقوط المفزعة، وخشخشت الأوراق الجافة تحت قدميه وأخذته الرعشة، فكان يرتجف في عنف شديد وعلى غير إرادته من قمة رأسه إلى أسفل قدميه.
الفصل الثاني
وفجأة لم يعد الطائر واضح العبارة، وبدأ يصيح، وطرق أذنيه صوت بشري حاد يقول: المينة (طائر آسيوي). وأضاف بعد ذلك شيئا في لغة لم يفهمها ويل. ثم استمع إلى صوت خطى فوق أوراق الشجر الجافة، أعقبتها صيحة ذعر. وساد الصمت بعد ذلك. وفتح ويل عينيه فرأى طفلين رائعين يتفرسانه وعيونهما تحملق في دهشة وفزع مريع، أصغرهما صبي نحيل الجسم ربما كان في الخامسة أو السادسة من عمره لا يستره سوى إزار أخضر اللون. وإلى جواره تقف فتاة صغيرة تكبره بأربع أو خمس سنوات تحمل فوق رأسها سلة من الفاكهة. وكانت ترتدي ثوبا قرمزي اللون يكسوها من خصرها حتى عقبيها. أما ما فوق الخصر فقد كان عاريا. بشرتها تتلألأ في ضوء الشمس فتتخذ لون النحاس الباهت المطلي بلون وردي، ووجه ويل نظرته من طفل إلى آخر. ما أجملهما! وما أكملهما! وما أشد ما هما عليه من أناقة! وما أشبههما بالسلالة الأصيلة! أما الصبي فهو مخلوق رائع الحسن قوي متكور وجهه كالملاك، والفتاة مخلوقة أخرى رائعة الجمال، دقيقة الملامح، وجهها صغير الحجم مستطيل جاد النظرات تحوطه ضفيرتان من الشعر الأسود.
ثم كانت صيحة أخرى مباغتة، والطائر في مجثمه فوق الشجرة الذابلة يتلفت في عصبية يمنة ويسرة، وبعد صيحة أخيرة من الذعر انطلق في الفضاء. ومدت الفتاة يدها لمصافحة ويل دون أن ترخي نظرتها إلى وجهه. أما الطائر فرفرف جناحيه، ثم استقر، واهتز هزة كبرى، اتزن بعدها، وبعدئذ طوى جناحيه وشرع فورا في فواق متواصل. وشخص إليه ويل بغير دهشة؛ فأي شيء كان حينذاك ممكن الوقوع، حتى الطيور الناطقة التي تجثم فوق إصبع طفل صغير. وحاول ويل أن يبسم لهما، غير أن شفتيه كانتا لا تزالان ترتعشان. وقد قصد بابتسامته أن يتودد إليهما ولكنها بدت كأنها حركة في الوجه تدعو إلى الخوف. واختفى الصبي خلف أخته.
وكف الطائر عن الفواق وبدأ يكرر لفظة لم يفهم ويل لها معنى. هل كانت هذه اللفظة «رونا»؟ كلا. كانت «كارونا» بالتأكيد.
ورفع يدا مرتجفة وأشار إلى الفاكهة في السلة المستديرة: المنجة والموز ... وسال اللعاب من فمه الجاف.
وقال: أنا جائع. ثم أحس أن الطفل في مثل هذه الظروف الغريبة قد يكون أكثر تفهما له إذا هو اصطنع اللهجة التي يتحدث بها رجل صيني يلعب دورا في ملهاة موسيقية، فغير من عبارته وجعلها كحديث الأجنبي عن اللغة.
وفي لغة إنجليزية سليمة قال الطفل: هل تريد أن تأكل؟
فرد علي بقوله: نعم، آكل، آكل.
فهزت الطفلة رأسها وقالت للمينة: ابتعدي. وصدر عن الطائر صوت احتجاج وعاد إلى مجثمه فوق الشجرة الذابلة، ورفعت الطفلة ذراعيها الصغيرتين النحيلتين بحركة كحركة الراقصة ورفعت السلة من فوق رأسها ووضعتها فوق الأرض، وانتقت إصبع موز وقشرته، وبمزيج من الإحساس بالخوف والشفقة تقدمت نحو الرجل الغريب، وبلغة غير مفهومة صاح الطفل منذرا وتشبث برداء أخته. ونطقت الطفلة كلمة تدل على الاطمئنان، ثم وقفت على مبعدة من المخاطر ورفعت إصبع الموز وسألت الرجل: هل تريده؟
ومد ويل فارنبي يده وهي ما تزال ترتعش، وبحذر شديد تقدمت الفتاة ثم وقفت، ثم قبعت، وتطلعت إليه في إمعان شديد.
وقال وقد نفد صبره: أسرعي.
ولكن الفتاة الصغيرة لم تتعجل، وظلت تحدق في يده تحاول أن تتبين إن كانت بها أدنى إشارة إلى حركة مريبة، ثم انحنت إلى الأمام، ومدت ذراعها في حذر شديد.
وتوسل إليها قائلا: لله!
وباهتمام مباغت كررت الفتاة قوله: الله؟!
وسألته: أي إله، فهناك آلهة كثيرة؟
وأجابها وقد نفد صبره: من تشائين منهم.
وأجابته: إنني في الواقع لا أحب أيا منهم، إنما أنا أحب الواحد الرحيم.
وتوسل إليها قائلا: إذن فكوني رحيمة بي وأعطيني هذا الإصبع من الموز.
وتغير تعبيرها، وقالت معتذرة: آسفة.
ونهضت منتصبة القامة وخطت إلى الأمام خطوة سريعة وأسقطت الفاكهة في يده المرتعشة.
وقالت: هاكها. ثم قفزت إلى الخلف بعيدا عن مناله كالحيوان الصغير الذي يتفادى المصيدة.
وصفق الصبي الصغير بيديه وضحك ضحكة عالية. فالتفتت وقالت له شيئا ما، وأومأ برأسه المستدير قائلا: ليكن ذلك يا سيدتي. وهرول بعيدا متسللا وقد شق طريقه خلال جسر من الفراشات الزرقاء والكبريتية، وتوغل بين ظلال الغابة في الجانب البعيد من الوادي.
وفسرت موقفها للرجل قائلة: قلت لتوم كريشنا: اذهب وعد ومعك شخص ما.
وأكل ويل إصبع الموز وطلب إصبعا ثانية وثالثة. ولما تخفف من ألم الجوع أحس الحاجة إلى إشباع رغبته في الاستطلاع.
وتساءل: كيف تتحدثين الإنجليزية بهذه الفصاحة؟
قالت: لأن كل إنسان يتحدث الإنجليزية. - كل إنسان؟
قالت: أقصد عندما لا يتحدثون لغة أهل بالا.
ولما كان الموضوع لا يشوقها أدارت وجهها ولوحت بيد صغيرة سمراء، وأخذت تصفر.
ومرة أخرى أخذ الطائر يردد: الآن، وفي هذا المكان يا قوم. ثم هبط من مجثمه فوق الشجرة الذابلة واستقر فوق كتف الفتاة التي أخذت تقشر موزة أخرى أعطت ويل ثلثيها وقدمت ما تبقى للمينة.
وسألها ويل: هل هذا طائرك؟
وهزت رأسها.
وقالت: المينات كالضوء الكهربائي لا تخص أحدا دون الآخر. - ولماذا يتفوه بهذا الكلام؟
وأجابته صابرة: إنه تعلمها. وكأنها بنغمة حديثها تقول له: يا حمار! - ولماذا علموه هذا الكلام: «انتباه، والآن، وفي هذا المكان»؟
وأخذت تفكر في اللفظ الصحيح الذي تعبر به لهذا الأبله العجيب عن الأمر الواضح فقالت: لأن ذلك ما ينساه المرء. أليس كذلك؟ أقصد أنك تنسى أن تتنبه إلى ما هو حادث، وهو ما يعني أنك لست هنا ولا في هذا الزمان. - والمينات تطير هنا وهناك لتذكركم؛ أليس كذلك؟
فأومأت برأسها بالإيجاب؛ لأن تلك بطبيعة الأمر هي الحال، ثم ساد الصمت.
وسألته: ما اسمك؟
وعرفها ويل بنفسه. - واسمي ماري ساروجيني ماك فيل. - ماك فيل؟ غير معقول!
وأكدت له أن اسمها ماك فيل. - وأخوك الصغير اسمه توم كريشنا؟
وأومأت بالموافقة. - يا للعجب! - وهل أتيت إلى بالا بالطائرة؟ - جئت من البحر. - من البحر؟ وهل لديك سفينة؟ - كانت لي سفينة. وتمثلت في ذهن ويل الأمواج وهي تتكسر فوق حطام السفينة التي جنحت إلى الشاطئ، واستمع في أذنه الباطنية إلى صوت اصطدامها؛ وأخذت توجه إليه الأسئلة فيروي لها ما حدث: العاصفة، والتجاء السفينة إلى الساحل، ومخاطر التسلق المزعجة، والأفاعي، وفزعه من السقوط ... ثم أخذ يرتعش مرة أخرى بدرجة أشد من أي وقت مضى.
وأصغت إليه ماري ساروجيني باهتمام وبغير تعليق.
ولما خفت صوته ثم سكت بعد ذلك تقدمت نحوه والطائر ما يزال جاثما فوق كتفها، وركعت إلى جواره.
وقالت وهي تضع يدها فوق جبهته: اسمع يا ويل، علينا أن نتخلص من هذا الفزع. وكانت تتكلم بنغمة الخبير وهدوء الواثق من أمره.
واصطكت أسنانه وقال: خبريني، كيف يكون ذلك.
فقالت: كيف؟ بالطريقة المألوفة طبعا. اذكر لي ثانية قصة الأفاعي وكيف سقطت.
وهز رأسه قائلا: لا أحب ذلك.
قالت: بالتأكيد أنت لا تحب. ولكن عليك أن تفعل. أصغ إلى ما تقوله المينة.
وكان الطائر ما فتئ ينصح بقوله: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم.
واستطردت قائلة: إنك لا تستطيع أن تكون هنا وفي هذه الآونة إلا أن تخلصت من هذه الأفاعي، قص علي قصتها.
وكادت عيناه أن تدمعا وهو يقول: لا أريد، لا أريد.
فأضافت ماري ساروجيني قولها جادة: إذن لن تتخلص منها أبدا. وستظل تزحف داخل رأسك دائما. وأنت تستحق هذا الجزاء.
وحاول أن يتحكم في رعشته، ولكن جسمه لم يعد ملكا له. وكأن شخصا آخر كان صاحب الأمر، وقد عقد العزم على إذلاله بنية سيئة بغية إيقاع الأذى به.
وقالت ماري ساروجيني: تذكر ما حدث لك وأنت طفل صغير. ماذا صنعت أمك عندما ألحقت بنفسك أذى؟
وكانت أمه عند ذاك قد احتضنته وقالت له: ولدي العزيز، طفلي العزيز.
وفي نغمة تنم عن الدهشة والذهول قالت ماري: هل فعلت ذلك؟! يا للفظاعة! إنها بذلك تضاعف الإيذاء. وكررت القول في شيء من السخرية: ولدي العزيز، لست أحب إلا أن الإيذاء قد لازمك ساعات متواصلات، وأنك لن تنساه.
ولم يعلق على ذلك ويل فارنبي بشيء، بل استلقى مكانه في صمت، وهو يرتعد في رجفة لا يستطيع كبتها. - إذا أنت لم تفعل، فلا بد لي من أن أفعل ذلك أنا بنفسي. اسمع يا ويل: كانت هناك أفعى كبيرة لونها أخضر. كدت أن تدوسها، فأصابتك بذعر أفقدك توازنك فسقطت، والآن قل هذا الكلام بنفسك؛ هيا.
وفي صوت خافت طائع قال: كدت أن أدوسها، ثم ... ولم يستطع أن يكمل العبارة. وأخيرا استطاع أن يخرج من بين شفتيه قوله: «ثم سقطت»، بصوت يكاد لا يسمع.
وعندئذ استرجع حالة الفزع؛ غثيان الخوف، وهزة الذعر التي أفقدته توازنه، ثم ازدياد المخاوف، والثقة المروعة بأن تلك هي نهايته. - قلها مرة أخرى. - كدت أن أدوسها، ثم ...
واستمع إلى نفسه وهو ينشج. - حسن يا ويل، اصرخ! اصرخ!
وتحول النشيج إلى أنين. ولما شعر بالخجل ضغط على أسنانه وكف عن الأنين.
وصاحت به: لا تفعل ذلك. أخرج أنتك إن كانت تريد أن تنطلق. واذكر تلك الحية يا ويل، وتذكر كيف سقطت.
وخرج الأنين من فيه مرة أخرى وبدأ يرتعش بصورة لم يعهدها من قبل. - والآن اذكر لي ما حدث. - إنني أستطيع أن أرى عينيها، وأستطيع أن أرى لسانها وهي تخرجه وتدخله. - نعم إنك تستطيع أن ترى لسانها، وماذا حدث بعد ذلك. - فقدت توازني وسقطت. - قل ذلك مرة أخرى يا ويل. وكان يتنهد باكيا.
وأصرت على أمرها: قل ذلك مرة أخرى. - سقطت. - مرة ثانية.
فقال: سقطت. وهو يكاد يتمزق إربا إربا. - مرة ثانية يا ويل، مرة ثانية. وقالت ذلك في عناد شديد. - لقد سقطت، سقطت، سقطت ...
وكف عن النحيب شيئا فشيئا، وخرج اللفظ من فيه في يسر، وخفت آلام الذكرى التي أثارتها الكلمات.
وكرر قوله: لقد سقطت. للمرة المائة.
وهنا قالت له ماري ساروجيني: ولكنك لم تسقط سقطة كبرى. - نعم، لم أسقط سقطة كبرى.
وقالت الفتاة: ففيم إذن هذه الضجة؟
ولم يكن في نغمتها حقد أو سخرية، ولا أقل إشارة إلى ملامة، إنما كانت توجه إليه سؤالا سهلا صريحا يتطلب ردا سهلا صريحا، أجل، فيم كانت كل هذه الضجة؟ إن الحية لم تلدغه، وعنقه لم يندق. ومهما يكن من أمر فكل ما حدث قد وقع بالأمس. أما اليوم فهناك هذه الفراشات، وهذا الطائر الذي يدعو إلى الانتباه، وهذه الفتاة التي تحدثت إليه مؤنبة ناقدة، وبدت كالملاك مما جاء ذكره في الأساطير العجيبة وعلى بعد خمس درجات من خط الاستواء، واسمها - صدقت أم لم تصدق - ماك فيل.
وضحك فارنبي بصوت عال.
وصفقت الفتاة بيديها وضحكت هي الأخرى. وبعد لحظة شارك الطائر القابع فوق كتفها في الضحك وكأنه شيطان ملأ الوادي بجلجلة صوته الذي رددت صداه الأشجار وكأن العالم بأسره قد انشطر نصفين من هذه المهزلة الكبرى؛ مهزلة الوجود.
الفصل الثالث
وفجأة سمع ويل فارنبي صوتا عميقا يعلق على ما حدث ويقول: يسرني أن كل ما وقع إنما يدعو إلى الضحك.
وتلفت ويل خلفه ورأى رجلا صغير الحجم نحيلا في زي أوروبي ويحمل حقيبة سوداء، وابتسم الرجل لويل. وقدر ويل أن الرجل في أواخر خمسينياته. وكانت فوق رأسه قبعة من القش تخفي تحتها شعرا أبيض غزيرا، وأنفه عجيب الشكل يشبه المنقار، وعيناه زرقاوان لا تتفقان مع وجهه الأسمر.
ونادته ماري ساروجيني صائحة: جدي!
وتلفت الرجل الغريب من ويل إلى هذه الطفلة.
وسألها: مم تتعجبين؟
وبدأت ماري تتكلم ثم سكتت عن الكلام برهة لتجمع أفكارها، ثم قالت: كان في سفينة بالأمس وهبت العاصفة فتحطمت السفينة ولجأ إلى الشاطئ هناك، فكان عليه أن يتسلق الجبل. وكان فوق الجبل بضعة أفاع، ثم سقط، ولكن لحسن حظه كانت هناك شجرة ولذلك فلم يحدث شيء سوى إصابته بدرجة من الرعب، الذي سبب له رعشة شديدة؛ ولذلك أعطيته بعض الموز، وحثثته على أن يكرر ما حدث ألف ألف مرة. وبغتة أدرك أن الأمر لم يستحق ما أحسه من ذعر. أقصد أن كل شيء قد مضى وانتهى مما جعله يضحك ، ومع ضحكه ضحكت ، وبعدئذ ضحكت المينة.
وقال الجد موافقا على ما فعلت: حسنا جدا.
والتفت إلى ويل فارنبي وخاطبه بقوله: والآن بعد الإسعاف السيكولوجي دعني أفحص ما يمكنني أداؤه لأخينا هذا الحمار المسكين. وبهذه المناسبة أقول لك: أنا الدكتور روبرت ماك فيل، فمن أنت؟
وقبل أن يحير الرجل جوابا قالت ماري ساروجيني: اسمه ويل، واسمه الآخر فار... لست أذكر بقية هذا الاسم الثاني. - فارنبي. على وجه الدقة: وليام إسكويث فارنبي. وكان والدي - كما تتوقعون - من الأحرار المتحمسين، حتى وهو مخمور، بل وبخاصة وهو مخمور. وصدرت عنه ضحكة ساخرة عالية لا تشبه في شيء تلك الضحكة المرحة التي ملأ بها شدقيه وعبر بها عن ترحيبه بما تنبه إليه من أنه لم يحدث في الواقع شيء يستحق ما أثار من ضجة.
وسألته ماري ساروجيني باهتمام شديد: وهل أحببت والدك؟
وأجابها ويل: ليس بالقدر الذي ينبغي.
وأفهم الدكتور ماك فيل الفتاة أن ما يعنيه هو أنه كان يكره أباه. ثم أضاف عرضا: إن كثيرين يكرهون آباءهم.
ثم جلس القرفصاء وشرع يفك أحزمة حقيبته السوداء، وقال مخاطبا ويل: أظن أنك أحد رجالنا الإمبرياليين السابقين.
وقال فارنبي مؤكدا: ولدت في بلومزبري.
فاستنتج الدكتور أنه من الطبقة العليا، ولكنه ليس فردا من فئة الجيش أو أعيان المقاطعة.
وعاد فارنبي إلى الحديث فقال: هذا صحيح. ولقد كان والدي محاميا وصحافيا سياسيا، وذلك عندما لم يكن مشتغلا بتعاطي الخمور. أما أمي؛ فقد لا تصدقون أنها ابنة رئيس الشمامسة، إي والله رئيس الشمامسة! وضحك مرة أخرى كما ضحك من قبل على حب والده للبراندي.
وحدق الدكتور ماك فيل في الرجل لحظة، ثم التفت مرة أخرى إلى أحزمة حقيبته.
وبنغمة العالم الموضوعي قال: عندما تضحك بهذا الشكل يصبح وجهك قبيحا بدرجة عجيبة.
وأخذ ويل بهذه الملاحظة وحاول أن يخفي اضطرابه بشيء من التظرف، فقال: إنه قبيح دائما. - بل على العكس إنه جميل من وجهة نظر بودلير، إلا عندما يعن لك أن تصدر أصواتا كعواء الضبع. لماذا تحدث هذه الأصوات؟
وقال ويل: أنا صحافي ، مراسل خاص، يؤجر على تجوله في أنحاء العالم ليروي ما يشاهد من أسباب الفزع الشائعة. أي صوت آخر كنت تتوقع مني؟ كوكو؟ بلا بلا؟ ماركس ماركس؟ وضحك مرة أخرى، ونطق بإحدى طرائفه التي أتقنها، وقال: أنا رجل من الرافضين لكل شيء.
وقال الدكتور ماك فيل: حسنا، حسنا جدا، والآن دعنا نباشر العمل. وأخرج من حقيبته مقراضا وشرع يمزق الجانب المهلهل الملطخ بالدماء من السروال الذي كان يكسو ركبة ويل الجريحة.
وحدق فيه ويل وتعجب إلى حد بقي هذا الرجل أسكتلنديا على أصله وإلى حد استحال إلى بالانيزي (من أهل بالا). عيناه زرقاوان وأنفه بارز ولا شك. أما بشرته السمراء، ويداه الدقيقتان، ورشاقة حركته فهي بالتأكيد من مكان يقع جنوبي تويد (في أسكتلندة) ويبعد عنها كثيرا.
وسأله: هل ولدت هنا؟
وهز الدكتور رأسه إيجابا: في شيفابيورام، في يوم وفاة الملكة فيكتوريا.
وبعد قصة أخيرة من المقراض وقع جانب السروال وانكشفت ركبة ويل. وفحصها أولا بدقة الدكتور ماك فيل وقرر أنها «ملطخة». ثم أضاف: ولكن لا أظن أن الجرح خطير. والتفت إلى حفيدته وقال لها: أريدك أن تعودي إلى المحطة وتطلبي إلى فيجايا أن يحضر إلى هذا المكان ومعه أحد الرجال الآخرين، وقولي لهم أن يأخذوا نقالة من المستشفى.
وأومأت ماري ساروجيني برأسها ونهضت دون أن تنبس ببنت شفة وأسرعت مهرولة في الوادي.
وتابع ويل بنظرته هذه الفتاة ذات الجسم الصغير؛ ونظر إلى ردائها السفلي الأحمر وهو يتأرجح من جانب إلى آخر، وإلى جذعها ذي البشرة الملساء وقد تلألأ في لون ذهبي وردي في ضوء الشمس.
وقال للدكتور ماك فيل: حفيدتك رائعة حقا.
وبعد فترة من الصمت قال الدكتور: كان أبوها أكبر أبنائي. وقد مات منذ أربعة أشهر في حادث وهو يتسلق الجبل.
وتمتم ويل معزيا، ثم كانت فترة أخرى من الصمت.
وفتح الدكتور ماك فيل زجاجة الكحول، ثم مسح يديه.
وقال لويل محذرا: سيؤلمك هذا قليلا، وأقترح أن تصغي إلى الطائر. ولوح بيده في اتجاه الشجرة الذابلة التي عادت إليها المينة بعد رحيل ماري ساروجيني. - أنصت إليه جيدا، وركز الإنصات، وسوف أصرف ذهنك عن الألم.
وأصغى ويل فارنبي، وعادت المينة إلى موضوعها الأول.
وكان المزمار الناطق ينادي: انتباه، انتباه!
وسأل ويل: انتباه إلى ماذا؟ آملا أن يظفر بجواب شاف أفضل من الجواب الذي تلقاه من ماري ساروجيني.
قال الدكتور ماك فيل: إلى الانتباه! - انتباه إلى انتباه؟ - طبعا.
وتغنت المينة بلفظة «الانتباه»، وكأنها تؤكد قولها ساخرة. - هل لديكم العديد من هذه الطيور الناطقة؟ - لابد أن يكون هناك ألف منها على الأقل يحلق طائرا فوق الجزيرة، تلك كانت فكرة راجا العجوز. كان يظن ذلك في مصلحة الناس. وربما كان الأمر كذلك، وإن كان في ذلك شيء من الظلم على المينات المسكينة. غير أن الطيور لحسن الحظ لا تفهم حديث البشر، حتى إن كان الحديث من القديس فرنسيس.
1
واستطرد قائلا: تصور أن تكون الموعظة لأنوع مختلفة من الطيور الطيبة! أي ادعاء هذا؟! لماذا لم يسكت ويدع الطيور تعظه هو؟ وأضاف قائلا بنغمة أخرى: يحسن بك الآن أن تصغي إلى صاحبتنا التي في الشجرة، فأنا سوف أنظف جراحك. - انتباه! - ها هي ذي.
وجفل الرجل وعض على شفته. - انتباه، انتباه، انتباه!
نعم لقد صدق، فإن أنت أمعنت في الإصغاء، خف عنك الألم. - انتباه، انتباه ...
وقال الدكتور ماك فيل وقد أخذ يضمد الجرح: إنني لا أتصور كيف حاولت أن تتسلق هذا الجبل.
واستطاع ويل أن يضحك، وقال: أذكر بداية قصة أريون
2 (الأرض المجهولة)؛ فقد جاء فيها: ومن حسن الحظ أن العناية السماوية كانت إلى جانبي.
وطرقت أذنه أصوات صادرة عن الجانب الآخر من الوادي، فأدار ويل رأسه ورأى ماري ساروجيني وهي تخرج من بين الأشجار، إزارها يتأرجح وهي تخطو، وسار من خلفها رجل ضخم كالتمثال البرنزي عاريا إلى خصره ويحمل فوق كتفه أعمدة من الخيزران وقماشا ملفوفا لنقالة خفيفة، ويتبع هذا العملاق شاب مراهق نحيل القوام، أسمر البشرة، يرتدي سروالا قصيرا أبيض.
وعندما اقترب الرجل الشبيه بالتمثال البرنزي قال الدكتور ماك فيل: هذا فيجايا باتاشاريا، وهو مساعدي . - في المستشفى؟
وهز الدكتور ماك فيل رأسه وقال: في حالات الطوارئ فقط؛ إذ إنني لم أعد أمارس الطب. هذا الرجل وأنا نعمل معا في محطة للتجارب الزراعية. أما موروجان مالندرا (ولوح بيده مشيرا إلى الفتى الأسمر) فهو معنا مؤقتا، يدرس علم التربة وتربية النبات.
وانتحى فيجايا جانبا ووضع يده الضخمة على كتف زميله، ودفعه إلى الأمام. ونظر ويل إلى ذلك الوجه الغض العابس، وعرف فورا بشيء من الدهشة والذهول أنه ذلك الشاب أنيق الملبس الذي التقى به منذ خمسة أيام في راندنج لوبو، والذي ركب معه سيارة الكولونيل ديبا المرسيدس البيضاء وطاف بها أرجاء الجزيرة. وابتسم، وانفرجت شفتاه للكلام ولكنه تحكم في إرادته، وهز الفتى رأسه بشكل غير ملحوظ ولكن بصورة تؤكد لويل ما طاف بخاطره.
ولمح ويل في عينيه تعبيرا عن توسل المكروب. وتحركت شفتاه دون أن يحدث بهما صوتا وكأنه قال: أرجوك، أرجوك ... وأعاد ويل انضباط وجهه.
وقال في نغمة تنم عن المعرفة عن العارضة الرسمية. - أهلا بك يا مستر مالندرا.
وتنفس موروجان الصعداء وقال: أهلا. وانحنى قليلا إلى الأمام.
وتلفت ويل حواليه ليرى إن كان الآخرون قد لاحظوا ما حدث. أما ماري ساروجيني وفيجايا فقد كانا مشتغلين بالنقالة، وأما الدكتور فكان يعيد أدواته إلى حقيبته السوداء. وتم أداء المهزلة القصيرة بغير مشاهدين. وواضح أن موروجان الصغير كان لديه ما يدعو إلى رغبته في إخفاء أنه كان في راندنج؛ فلقد كان الكولونيل ديبا أكثر من والد للفتى الذي كان يرعاه. كما كان موروجان أكثر من ابن طائع؛ كان يقدس الكولونيل تقديسا. فهل كانت العلاقة مجرد إعجاب طالب برجل قوي قام بتفجير ثورة ناجحة، صفى فيها المعارضة ونصب نفسه دكتاتورا؟ أم هل كانت هناك مشاعر أخرى تساوره؟ هل كان موروجان يؤدي دور أنطونيوس لهذا الهادريان
3
صاحب الشارب الأسود؟ ربما كان هذا هو شعوره نحو أعضاء العصابة العسكرية من رجال في منتصف العمر، وربما كان هادريان يحب الفتيان الوسيمين. وتصور ويل أن ذلك ربما كان السبب في امتناع الكولونيل ديبا عن أن يقدم إليه موروجان تقديما رسميا؛ فكل ما ذكره عنه عندما سمح للفتى بالدخول في مكتب الرياسة هو قوله: هذا هو مورو، صديقي الصغير مورو. ثم نهض ووضع يده على كتف الفتى وسار معه إلى الأريكة وجلس إلى جواره. وسأله موروجان: هل تسمح لي بقيادة المرسيدس؟ وابتسم الدكتاتور ابتسامة الرضى وهز رأسه ذا الشعر الأسود الناعم. وكان في ذلك دليل آخر على الظن بأن العلاقة العجيبة بينهما هي أكثر من مجرد صداقة. وكان موروجان كالمسعور أمام عجلة القيادة في سيارة الكولونيل الرياضية. ولا يمكن أن يسمح أحد بقيادة السيارة لمثل هذا السائق وهو مطمئن على نفسه إلا عاشق مفتون، فما بالك والراكب ضيفه. وقد بلغ مؤشر السرعة العشرة بعد المائة مرتين في السهل الذي يقع بين راندنج لوبو وحقول البترول. ثم كانت الحالة أسوأ كثيرا من ذلك على الطريق الجبلي بين حقول البترول ومناجم النحاس. وفي الطريق كانت هناك فجوات غائرة. وعلا صوت عجلات السيارة وهي تدور عند النواصي، وخرجت العجول المائية من غابات الخيزران وكانت على بعد أقدام قليلة أمام السيارة، وهبطت اللوريات التي تبلغ حمولة كل منها عشرة أطنان وهي تزأر مخطئة في جانب الطريق. واستجمع ويل شجاعته وسأل الشاب: ألست في حالة عصبية إلى حد ما؟ ولكن الشاب كان مخلصا كما كان مفتونا فقال: إذا عرف المرء أنه إنما ينفذ مشيئة الله - وأنا أعرف ذلك - يا مستر فارنبي فليس ثمت ما يدعو إلى أن يكون عصبيا. عندئذ تكون العصبية نوعا من الكفر بالله. وحاول موروجان أن يتفادى عجلا في الطريق فانحرف في مسيره، وفتح العلبة الذهبية للسجائر وقدم إلى ويل واحدة من تبغ البلقان.
ونادى فيجايا قائلا: مستعدون!
وأدار ويل رأسه ورأى النقالة ملقاة على الأرض إلى جانبه.
وقال الدكتور ماك فيل: حسنا! دعنا نحمله عليها، ولنكن جد حريصين ...
وبعد دقيقة واحدة كان الموكب يشق طريقه في طريق ضيق يقع بين الأشجار. وقد ركبت العربة ماري ساروجيني، وجاء جدها في المؤخرة، وسار بينهما موروجان وفيجايا على طرفي النقالة.
وتطلع فارنبي من سريره المتحرك واخترق بنظره ظلمة الأشجار الخضراء وكأنه في قاع البحار، وفوق رأسه وعند السطح استمع إلى خشخشة أوراق الشجر، وإلى صوت القردة. ثم رأى عددا من طير أبي قردان يتوثب هنا وهناك، وهي أشبه بكائنات من خلق الخيال المضطرب، وكأن الطير يسبح في سحب من الأعشاب.
وسأله فيجايا وقد انحنى لينظر في وجهه وهو جزوع: هل تشعر بارتياح؟
ورد عليه ويل بابتسامة وقال: أنا مرتاح راحة الترف.
وطمأنه الآخر بقوله: ليس المكان بعيدا، وسوف نبلغه بعد بضع دقائق. - وأين هو المكان؟ - محطة التجارب. إنها أشبه بروثامستد. هل زرت روثامستد عندما كنت في إنجلترا؟
وقد سمع ويل طبعا بالمكان غير أنه لم يزره قط.
واستطرد فيجايا قائلا: إن العمل يدور به منذ أكثر من مائة عام.
وقال الدكتور ماك فيل: منذ مائة وثمانية عشر عاما على وجه التحديد. وقد بدأ لوز وجلبرت العمل في المخصبات في عام 1843م، وجاء أحد تلاميذهما إلى هذا المكان في أوائل الخمسينيات لمساعدة جدي في تشغيل المحطة. وكانت الفكرة إيجاد روثامستد في المناطق الحارة؛ فيها ومن أجلها.
وشاع الضوء في الخضرة الداكنة وبعد دقيقة واحدة خرجت المحفة من الغابة إلى الوهج الشديد الذي يتميز به ضوء الشمس في المناطق الحارة. ورفع ويل رأسه وتلفت حواليه. وقد باتوا على مقربة من أرض مدرج ضخم. وعلى عمق خمسمائة قدم امتد واد فسيح تتخلله الحقول الخضراء، وتنتشر فوقه مجموعات من الأشجار ومن البيوت المتلاصقة. وفي الناحية الأخرى كانت السفوح تتصاعد آلاف الأقدام متجهة صوب نصف دائرة من الجبال. ومن الوادي إلى القمم التي بدت كالحائط تشقه الشرفات امتدت حقول الأرز على مسطح واحد من الأرض في شكل مصاطب تمتد فوق مصاطب أخرى ذهبية اللون أو خضراء، مما أظهر في وضوح كل ارتفاع أو انخفاض في المنحدر وكأن الصورة قد صممت عن قصد وبذوق سليم. إن الطبيعة هنا لم تعد مجرد طبيعة، والمنظر الطبيعي هنا قد صمم ورد إلى أصوله الهندسية وقام بأدائه مصور وهب معجزة البراعة الفنية فرسم هذه الخطوط المتعرجة وهذه الأشرطة من الألوان البراقة الصافية.
وبعد صمت طويل شق سكونه الدكتور روبرت بسؤاله: ماذا كنت تصنع في راندنج؟ - أجمع المادة لمقال عن نظام الحكم الجديد. - أظن أن الكولونيل جدير بالإخبار عنه.
وضحك ويل وهو يقول: أنت مخطئ؛ فهو ليس إلا دكتاتورا «عسكريا»؛ ومعنى ذلك أن الموت يلوح في الأفق. والموت دائما خبر من الأخبار. حتى رائحة الموت التي تفوح من بعيد خبر من الأخبار؛ ولذلك طلب إلي أن أمر بهذه الجزيرة وأنا في طريق عودتي من الصين.
وكانت هناك أسباب أخرى آثر ألا يتعرض لذكرها؛ فالصحف ليست إلا هما واحدا من هموم اللورد ألديهايد. وإنما هو من ناحية أخرى يمثل شركة بترول جنوب شرقي آسيا، كما يمثل شركة النحاس الأجنبية الإمبريالية المحدودة. ومن الناحية الرسمية جاء ويل إلى راندنج ليشتم رائحة الموت في جوه العسكري. غير أنه كلف كذلك بالتعرف على آراء الدكتاتور بالنسبة لرأس المال الأجنبي، ومدى استعداده لتخفيض الضرائب، وأية ضمانات يقدمها لعدم التأميم، ومقدار الأرباح التي يسمح بتصديرها؟ وكم من التقنيين والإداريين الوطنيين يجب استخدامهم، ومجموعة أخرى من التساؤلات العديدة. ولكن الكولونيل ديبا كان في الواقع دمثا للغاية ومتعاونا؛ ومن ثم كانت تلك الرحلة بالسيارة التي قادها موروجان بسرعة رهيبة إلى مناجم النحاس. لا تزال بدائية يا عزيزي فارنبي، وبحاجة ماسة كما تلمس بنفسك إلى المعدات الحديثة. وتذكر الآن ويل أنه كان قد اتفق على لقاء آخر في نفس هذا الصباح، وتصور الكولونيل جالسا إلى مكتبه وأمامه بلاغ من رئيس الشرطة بأن المستر فارنبي قد شوهد أخيرا وهو يبحر في قارب صغير وحيدا في مضيق بالا، وبعد ساعتين هبت عاصفة شديدة ... والمفروض أنه قد لاقى حتفه. ولقد كان الأمر غير ذلك؛ فها هو حي يرزق فوق الجزيرة المحرمة.
وكان جو ألديهايد قد ذكر له في آخر مقابلة لهما: إنهم لن يسمحوا لك بتأشيرة دخول. ولكنك ربما تستطيع أن تتسلل إلى الشاطئ متنكرا؛ فالبس بورنسا أو ما يشبهه كما فعل لورنس العرب.
ووعده ويل جادا: سوف أحاول. - على أية حال إذا أنت استطعت أن تطأ بقدمك أرض بالا فتوجه رأسا إلى القصر. فراني - وهي الملكة الأم هناك - صديقة لي من زمن بعيد. وقد قابلتها للمرة الأولى منذ ست سنوات في لوجانو. وكانت تقيم هناك مع فوجيلي العجوز وهو صاحب بنك الاستثمار، وصديقته مهتمة بالروحانيات وقد أعدت لي جلسة روحانية. الوسيط بوق، والصوت مباشر حقيقي؛ إلا أن الكلام لسوء الحظ كان بالألمانية. وعلى كل حال - بعدما أعادوا الإضاءة - تبادلت معها حديثا طويلا. - مع البوق؟ - لا، لا، مع راني، فهي امرأة رائعة، تتزعم حملة صليبية للإشادة بدور الروح. - وهل هذه الحركة من اختراعها؟ - قطعا، وأنا شخصيا أوثرها على حركة «إعادة التسلح الخلقي». وهي مفضلة في آسيا. ولقد تحدثنا عنها ذلك المساء، ثم تحدثنا بعد ذلك عن البترول، وبالا مليئة به. ولقد حاولت شركة بترول جنوب شرقي آسيا لعدة سنوات أن تستولى عليه. وكذلك فعلت جميع الشركات الأخرى. ولكن دون جدوى، فلم تعط في هذا السبيل امتيازات لأي فرد، وهذه هي سياستهم الثابتة. ولكن راني لا توافق عليها، فهي تحب أن ترى للبترول أثرا طيبا في العالم، كأن يمول الحملة الصليبية للروح مثلا؛ ولذلك فكما قلت لك: إذا هبت إلى بالا فتوجه رأسا إلى القصر، وتحدث معها، لتصل إلى حقيقة أمر الرجال الذين بيدهم إصدار القرارات. واكشف لنا إن كانت هناك قلة تحبذ الإفادة من البترول، واسأل كيف نستطيع أن نعاونهم على الاستمرار في جهودهم الطيبة.
وفي نهاية حديثه وعد ويل بمكافأة مجزية إذا توجت جهوده بالنجاح، مكافأة تكفيه أن يتفرغ عاما كاملا: لا أريد منك بعد اليوم تقارير، لست أريد إلا فنا رفيعا، أريد فنا. وضحك ضحكة عالية داعرة كأنه لم يقل «فنا»، وإنما قال كلمة بذيئة. يا له من مخلوق غير معقول! ولكنه على الرغم من ذلك كان يكتب لصحف تافهة يملكها مخلوق غير معقول، وكان على استعداد أن يرتشي لكي يؤدي عملا قذرا لرجل وضيع. والآن لا يستطيع أن يصدق أنه فوق أرض بالا. إن العناية السماوية لحسن حظه كانت حليفته لكي يرتكب - لغرض هام بالتأكيد - مهزلة عملية خبيثة مما تكرس السماء لها إرادتها.
وردته إلى الواقع الراهن ماري ساروجيني بصوتها الحاد إذ قالت له: ها نحن قد وصلنا.
ورفع ويل رأسه مرة أخرى، وأدرك أن الموكب الصغير قد انحرف عن الطريق وسار من خلال ثغرة في جدار أبيض يكسوه الجص. وعلى يساره، وفوق مصاطب مرتفعة متتالية رأى صفا من المباني المنخفضة تحوطها الأشجار. وأمامه مباشرة طريق واسع على جانبيه أشجار النخيل ينحدر نحو بركة لوتس يقبع على أبعد أطرافها تمثال حجري ضخم لبوذا. ولما اتجهوا يسرة أخذوا يتسلقون إلى أعلى مصطبة بين الأشجار المزهرة وخلال العطور المختلطة. وخلف أحد الجدران وقف عجل ذو سنام ناصع البياض لا يتحرك منه سوى فكيه وهما يجتران الطعام، متأله بجماله الهادئ غير المفهوم. وعندئذ تراجع عاشق أوروبا
4
إلى الماضي، وشهد ويل زوجا من طيور يونو تجرر ريشها فوق العشب، وفتحت ماري ساروجيني مزلاج باب حديقة صغيرة.
وقال الدكتور ماك فيل وقد التفت إلى موروجان: هذا بيتي ذو الطابق الواحد، اسمح لي أن أعاونك على صعود السلم.
الفصل الرابع
توجه توم كريشنا وماري ساروجيني إلى جيرانهما من أطفال البستاني ليسترخيا بعد الظهر. أما سوزيلا ماك فيل فقد جلست وحيدة في غرفة المعيشة المظلمة في بيتها تسترجع ذكريات سعادتها التي ولت وآلام ثكلها الحاضر. ودقت ساعة المطبخ منتصف الساعة، وآن لها أن تخرج، وتنهدت ثم نهضت وانتعلت صندلها وسارت في الوهج الشديد الذي يسود المناطق الحارة بعد الظهر، وتطلعت إلى السماء ورأت سحبا كثيفة في أعلى البراكين تصعد نحو سمت رأسها. وعرفت أن المطر سوف يسقط بعد ساعة، وتنقلت من بقعة ظليلة إلى أخرى وشقت طريقها على الطريق الذي تقع على جانبيه الأشجار. وانطلق من فوق إحدى الأشجار الباسقة سرب من الحمام محدثا بريشه قعقعة مسموعة، وطار الحمام صوب الغابة بأجنحته الخضراء ومناقيره المرجانية وصدوره التي يتغير لونها في الضياء كعرق اللؤلؤ. ما أجمل الحمام وما أشد روعته! وأوشكت سوزيلا أن تعود لترى لمحة السرور البادية على وجه ديوجولد، ولكنها تحكمت في إرادتها وصوبت نظرها نحو الأرض؛ فلقد ولى ديوجولد إلى الأبد، ولم يبق لها سوى الألم الذي يشبه التألم الذي يلح على خيال المرء، بل وإحساسه، من عضو من أعضاء الجسم قد تم بتره ولم يعد إلا وهما من الأوهام، وأخذت تحدث نفسها وتقول: البتر، البتر ... وامتلأت عيناها بالدموع، ثم كفت فجأة عن البكاء؛ فالبتر ليس عذرا للأسى. وعلى الرغم من موت ديوجولد فإن الطيور ما برحت على جمالها، وأطفالها وكل الأطفال الآخرين بحاجة قصوى إلى المحبة والعون والتعلم. وإذا كان غيابه حاضرا على الدوام في ذهنها، فإنما ذلك لتذكر أنها منذ لحظة الوفاة يجب أن تحب ولديها وأن تعيش من أجلهما، وتفكر فيهما، كما ينبغي لها أن تتصور الأمور وتتفهمها لا بعينيها وعقلها فحسب بل بما كان له كذلك من عقل وعينين، هما كذلك عقلها وعيناها - قبل الكارثة - فلقد كانا يتحدان في السرور وفي التفكير.
وبلغت بيت الدكتور، وصعدت السلم، وعبرت الشرفة وولجت غرفة المعيشة، وألفت حماها جالسا قرب النافذة يحتسي الشاي البارد من كأس من الفخار ويقرأ «مجلة الفطريات»، ورفع بصره حينما اقتربت، واستقبلها بابتسامة الترحيب. - كم أنا سعيد يا عزيزتي سوزيلا لأنك استطعت الحضور.
وانحنت وقبلت خده الخشن.
وسألته: ما هذا الذي بلغني من ماري ساروجيني. هل صحيح أنها وجدت رجلا ملقى على الشاطئ؟ - من إنجلترا، ولكن عن طريق الصين وراندنج. وقد تحطمت سفينته، وهو صحافي. - ما شكله؟ - شكله كالمسيح المنتظر، ولكنه أكثر فطنة من أن يعتقد فيه أو في رسالته. وهو أرهف حسا - حتى إن آمن بها - من أن ينفذها، عضلاته تريد الحركة ومشاعره تريد الإيمان. ولكن أطراف أعصابه ومهاراته لا تسمحان له بذلك. - أحسب إذن أنه بائس جدا. - بلغ من بؤسه أنه يضحك كالضبع. - وهل يدرك أنه يضحك كالضبع؟ - نعم يدرك، وهو بهذا فخور، بل ويتغنى به فيقول: أنا رجل أرفض كل شيء.
وسألت: وهل أصابه أذى شديد؟ - ليس شديدا، بيد أن حرارته قد ارتفعت، وقد أعطيته مضادات للجراثيم، وعليك الآن أن تضاعفي مقاومته بالعلاج الطبيعي. - سأبذل جهدي. وبعد فترة من السكون قالت: لقد ذهبت وأنا في طريق العودة من المدرسة إلى لاكشمي. - وكيف وجدتها؟ - تقريبا كما هي. كلا، بل ربما كانت أسوأ قليلا مما كانت عليه بالأمس. - هذا ما أحسسته عندما رأيتها هذا الصباح. - من حسن الحظ أن آلامها لا تسوء كما يبدو. ونستطيع أن نعالجها نفسيا. وقد عالجنا اليوم الغثيان، واستطاعت أن تتناول شرابا، ولا أظن أنها في حاجة بعد ذلك إلى السوائل تتعاطاها عن طريق الأوردة.
قال: الحمد لله! فإن الحقن التي كانت تتعاطاها كانت مصدرا للعذاب، ما أحوج المرء إلى شجاعة كبرى لمواجهة أي خطر حقيقي. ولكن عندما تكون الحقنة تحت الجلد أو في العرق فالفزع مدقع غير معقول.
وعاد بذاكرته إلى أيام الزواج الأولى، حينما فقد أعصابه ذات مرة ووصفها بالجبن لأنها أثارت ضجة كبرى. وكانت لاكشمي قد صرخت واستسلمت لاستشهادها وتوسلت إليه أن يعفو عنها فأشعلت في قلبه نارا. وصاح: لاكشمي، لاكشمي ... وبعد بضعة أيام سوف تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد سبعة وثلاثين عاما، ثم سأل بصوت مرتفع: فيم كنتما تتحدثان؟
وأجابته سوزيلا: في لا شيء بالذات. ولكنهما في الواقع تحدثا عن ديوجولد، وأنها لم تستطع أن تستعيد ما حدث بينهما. وقالت الأم في همس وهي تموت: هذا وليدي الأول، لم يطرأ على ذهني أن الأطفال يمكن أن يكونوا على هذه الصورة الجميلة. وتلألأت عيناها الفائرتان في محجريهما، وابتسمت شفتاها اللتان هربت منهما الدماء، وواصلت الكلام بصوتها الضعيف الخشن: ما أصغر يديه، وما أحوج فمه الصغير إلى الطعام! وبيد مرتعشة عجفاء لمست موضع ثديها الذي كان يعلوه قبل العملية التي أجريت لها في العام السابق، وكررت قولها: لم أعرف ذلك قط من قبل. وكيف كان يتسنى لها أن تعرف قبل الحادث؟ لقد كان كشفا جديدا، رؤية مارستها باللمس والمحبة. - هل تدركين ما أعني؟ وأومأت سوزيلا برأسها. وبطبيعة الحال كانت تدرك ؛ أدركت ذلك من علاقتها بطفليها، أدركته في رؤى أخرى من اللمس والمحبة أحست بهما مع ديوجولد الرجل وقد استحال صغيرا يداه دقيقتان وفمه جائع شره. وهمست المرأة وهي في فراش الموت: كنت أخشى عليه، فلقد كان قويا، مستبدا، يستطيع أن يوقع بغيره الأذى وأن يهدد وأن يحطم. ولو أنه تزوج من امرأة أخرى ... ولكني أحمد الله أنك كنت له زوجا! وتحركت يدها العجفاء من المكان الذي كان موضعا لثديها ولمست بها ذراع سوزيلا، وأحنت رأسها وقبلتها، وأخذا يبكيان.
وتنهد الدكتور ماك فيل، ونظر إلى أعلى، وهز بدنه هزة خفيفة وكأنه رجل خرج من الماء، وقال: اسم الرجل الذي كان ملقى على الشاطئ فارنبي، ويل فارنبي.
وكررت سوزيلا قولها: ويل فارنبي؟ يحسن بي أن أذهب إليه وأرى ماذا أستطيع أن أصنع له. ثم استدارت بجسمها وانصرفت.
وتابعها الدكتور ماك فيل بالنظر، ثم مال إلى الخلف في كرسيه وأغمض عينيه. وفكر في ولده، وفكر في زوجته، لاكشمي التي تذبل رويدا رويدا حتى تنتهي. فكر في ديوجولد وكأنه شعلة مضيئة مشتعلة انطفأت فجأة. فكر في تتابع التغيرات والمصادفات غير المعقولة التي تتألف منها الحياة. فكر في كل ما هو جميل ومفزع وعبث، الذي يتآلف فيخلق نموذجا لمصير الإنسان لا يمكن تفهمه ولكنه مع ذلك له خطورته المقدسة. وقال محدثا نفسه وقد تذكر وجه سوزيلا عندما أخطرها بما حدث لديوجولد: يا لها من امرأة بائسة! ثم ذكر المقال الخاص بالنبات الفطري المخدر الذي نشرته «مجلة الفطريات»؛ وهذا أمر آخر ناشز يتخذ له مكانة على صورة ما في نموذج الحياة. ووردت على ذهنه الكلمات التي جاءت في إحدى القصائد القصيرة العجيبة التي نظمها راجا العجوز:
كل شيء،
لا يأبه أبدا بغيره،
ولكن الأشياء جميعا،
تعمل في تكامل،
وإن تباعدت،
لخير يتجاوز خيرنا،
ولكائن أكثر خلودا مع زواله،
وأكثر أبدية مع تضاؤله،
من المعبود في علاه.
وسمع ويل للباب صريرا، وبعد لحظة استمع إلى وقع خطوات خفيفة وإلى خشخشة ثياب، ثم أحس يدا فوق كتفه وسمع صوت امرأة، منخفضا موسيقيا ، يسأله عن حالته.
وأجاب دون أن يفتح عينيه: حالتي سيئة.
ولم ينم صوته عن الأسى على حاله، أو على طلب الحنان؛ ولا يحس السامع فيه إلا غضب الرواقي من الأمر الواقع، وكأنه رجل سئم أخيرا مهزلة الكتمان فأفصح مستاء عن الحقيقة. - حالتي سيئة.
وامتدت إليه اليد مرة أخرى، واستمع إلى صوت يقول: أنا سوزيلا ماك فيل أم ماري ساروجيني.
وأدار ويل رأسه وفتح عينيه على مضض. وإذا بصورة مكبرة لماري ساروجيني أشد منها سمرة تجلس إلى جوار سريره تبتسم له في قلق ينم عن المودة، ولو أنه بادلها ابتسامة بابتسامة لكان ذلك عليه جهدا كبيرا، فاكتفى بقوله: كيف حالك؟ ثم شد ملاءة السرير قليلا إلى أعلى وأغمض عينيه مرة أخرى.
ونظرت إليه سوزيلا في صمت، نظرت إلى الكتفين برزت عظامهما، وإلى القفص الصدري المختفي تحت بشرة شحوبها النوردي جعله يبدو في عينيها البالانيتين ضعيفا بدرجة عجيبة عرضة للأمراض، ونظرت إلى وجهه الذي لفحته الشمس وقد تحددت ملامحه كأنه تمثال منحوت لا يرى إلا على مبعدة؛ وهو مع ذلك شديد الحساسية وقد أصابته رعشة جعلتها - أكثر من وجهه العاري - تراه وكأنه رجل سلخ جلده وترك لآلامه.
وأخيرا قالت له: سمعت أنك من إنجلترا.
وتمتم ويل منفعلا: لا يهمني من أين جئت ولا إلى أين أنا ذاهب. وليكن من الجحيم إلى الجحيم.
واستطردت قائلة: كنت في إنجلترا بعد الحرب مباشرة طالبة. وحاول ألا يصغي. غير أن الآذان ليست لها جفون، ولم يكن هناك مهرب من الصوت المتطفل.
وقال هذا الصوت: كانت لي زميلة في قسم علم النفس، يعيش أهلها في ولز، وطلبت إلي أن أعيش معهم في الشهر الأول من عطلة الصيف. هل تعرف ولز؟
وكان بالطبع يعرفها، فلماذا تضايقه بذكرياتها السخيفة؟
واستطردت سوزيلا قائلة: كنت أحب المشي هناك بجوار الماء، أنظر عبر الخندق المائي إلى الكاتدرائية. وبينما كانت تنظر إلى الكاتدرائية فكرت في ديوجولد وهو على ساحل البحر تحت النخيل، فكرت فيه وهي يعطيها الدرس الأول في تسلق الصخور ويقول لها : أنت على الحبل، في أمان تام، ولا يمكن أن تسقطي ... وكررت هذه العبارة: «لا يمكن أن تسقطي»، في مرارة شديدة؛ ثم تذكرت مبدأ «الآن، وفي هذا المكان»، وتذكرت أن عليها واجبا يجب أن تؤديه، وتذكرت - وهي تلقي نظرة أخرى على الوجه محدد الملامح المسلوخ - أن أمامها إنسانا يتألم، واستطردت قائلة: ما أروعها، وما أشد هدوءها!
وأصبح الصوت كما خيل لويل فارنبي أكثر موسيقية وأشد بعدا بشكل عجيب. وربما كان ذلك السبب في أنه لم يعد يستنكر تطفله. - إحساس بالهدوء غير عادي. شانتي، شانتي، شانتي. إنه هدوء لا يتصوره العقل.
وكأن الصوت كان يتغنى ويأتي من عالم آخر فيما يبدو. وتغنى الصوت قائلا: إنني أستطيع أن أغمض عيني وأرى كل شيء في وضوح. أستطيع أن أرى الكنيسة؛ إنها ضخمة، وأكثر ارتفاعا من الأشجار الباسقة التي تحيط بقصر الأسقف. أستطيع أن أرى العشب الأخضر والماء وضوء الشمس الذهبي وهو يسطع فوق الحجر، والظلال المائلة بين التلال. ثم أنصت! إنني أستطيع أن أسمع الأجراس، الأجراس والغربان، الغربان في البرج؛ هل تسمع الغربان؟
نعم، إنه يستطيع أن يسمع الغربان في وضوح تماما كما يسمع الآن تلك الببغاوات في الأشجار التي تقع خارج نافذته؛ فلقد كان هنا، كما كان في نفس الوقت هناك؛ هنا في هذه الغرفة المظلمة الحارة الرطبة قريبا من خط الاستواء، ولكنه كذلك كان هناك، في العراء في ذلك المنخفض البارد على حافة منديبس، حيث الغربان تصرخ من فوق برج الكاتدرائية، وصوت الأجراس يتلاشى في صمت الخضرة.
واستأنف الصوت قائلا: وهناك سحب بيضاء، والسماء الزرقاء بين سحابة وأخرى شاحبة، رقيقة، لطيفة للغاية.
وكرر هذه الكلمة «لطيفة». السماء الزرقاء اللطيفة في نهاية الأسبوع في شهر أبريل الذي قضاه هناك مع مولي قبل نكبة زواجهما. كانت هناك وسط العشب أزهار الربيع والدانديليا. وكانت هناك عبر الماء الكنيسة الضخمة تعلو شامخة وكأنها تتحدى جموح سحب أبريل الرطبة بهندستها الصارمة، تتحدى البرية وتكملها في الوقت نفسه وتتفق معها في انسجام تام. هكذا كانت الحال بينه وبين مولي، وهو ما ينبغي أن تكون عليه الحال. - والإوز العراقي ... وكأنه يصغي الآن إلى الصوت وهو يغني حالما.
نعم الإوز! الإوز الأبيض يتحرك عبر مرآة من اليشم والكهرمان الأسود؛ مرآة تعلو وتهبط وترتعد وكأنها تتنفس، حتى كانت صورها الفضية تتكسر ثم تلتئم، تتجزأ ثم تتكامل. - ما أشبهها بشعارات النبالة المنقوشة. رومانسية، جميلة بصورة تفوق التصديق؛ ومع ذلك فهي طيور حقيقية في مكان حقيقي. ما أقربها إلي الآن فإني لأكاد ألمسها، ومع ذلك ما أبعدها؛ فهي تبعد عني مئات الأميال. بعيدة جدا فوق تلك المياه الساكنة، وكأنها تتحرك بفعل السحر، في هوادة وفي عظمة ...
تتحرك في عظمة وجلال، تعلو بها المياه المظلمة وتهبط كلما تقدمت بصدورها المستديرة، تعلو المياه وتهبط ثم تتراجع في موجات صغيرة تأخذ في الاتساع وخلفها نبات يتألق كما تتألق رءوس السهام. وقد استطاع أن يرى الإوز وهي تتحرك عبر المياه المظلمة، واستطاع أن يسمع صوت الغربان وهي فوق البرج، واستطاع أن يشم - خلال رائحة المطهرات المختلطة بعبق الجاردينيا التي تحيط به - رائحة الخندق الغوطي الذي يشق ذلك الوادي الأخضر البعيد، تلك الرائحة الباردة الهادئة التي تحمل معها عبير الأعشاب. - إنها تطفو بغير جهد. «تطفو بغير جهد»، لقد أعطته هذه الألفاظ إحساسا عميقا بالرضى.
وقالت: كنت أجلس هناك، أنظر وأمعن في النظر، وبعد هنيهة أشعر كأنني كذلك أطفو، أطفو مع الإوز فوق سطح الماء الهادئ الساكن بين الظلمة من تحتي وحنان السماء الشاحبة من فوقي. وأطفو في الوقت ذاته فوق ذلك السطح الآخر بين هنا القريب وهناك البعيد، بين الحاضر والمستقبل. وفيما بين هذه السعادة التي عادت إلى ذاكرتها، وهذا الحاضر الغائب الملح الموجع كانت تجول بخاطرها، وقالت بصوت مرتفع: كنت أطفو على السطح بين الواقع والخيال، بين ما يأتينا من الخارج وما يأتينا من الداخل، من الأعماق السحيقة هنا.
ووضعت يدها على جبينه. وقد تحولت الألفاظ بغتة إلى الأشياء والحوادث التي ترمز لها، وأصبحت الخيالات وقائع؛ فلقد كان فعلا يطفو.
وألح الصوت في هدوء مرددا: أطفو، أطفو كالطائر الأبيض فوق سطح الماء، أطفو فوق نهر الحياة العظيم؛ نهر عظيم صقيل أملس يتدفق في سكون شديد حتى لتكاد تظنه مسترسلا في نوم عميق، نهر نائم، ولكنه يتدفق بشدة لا تقاوم. - تتدفق الحياة في سكون وبدرجة لا تقاوم وتصب في حياة أخرى أكمل، في هدوء حي أشد عمقا، وأكثر ثراء وأقوى وأتم؛ لأنها تدرك كل آلامك وأسباب تعاستك، تدركها وتضمها إليها وتدمجها في طبيعتها. وفي الهدوء تسبح الآن، تسبح فوق هذا النهر الأملس الساكن الذي ينام ومع ذلك فهو لا يقاوم، وهو لا يقاوم على وجه التحديد لأنه نائم، وأنا أطفو معه. وكانت توجه خطابها إلى هذا الرجل الغريب، ولكنها كانت تخاطب نفسها كذلك ولكن على مستوى آخر. أطفو بغير جهد، لا أقوم بأي عمل. إنما يكفيني أن أترك نفسي على سجيتها، وأسمح لنفسي بأن تسترسل، وأسأل نهر الحياة هذا النائم الذي لا يقاوم أن يحملني إلى حيث يتجه، وأنا على علم تام أنه يتجه إلى حيث أريد، إلى حيث ينبغي لي أن أتجه: إلى حياة أعمق، إلى هدوء حي، مع النهر النائم - بغير مقاومة - إلى الإذعان والقبول التام.
وعلى غير إرادة منه وعلى غير وعي تنهد ويل فارنبي تنهدا عميقا، ما أشد السكون الذي ساد العالم من حوله! يا له من سكون صاف عميق، على الرغم من أن الببغاوات كانت في حركة دائمة وراء نافذته، وعلى الرغم من أن الصوت الذي كان ينصت إليه ما برح يشدو إلى جواره! سكون وفراغ، ومن خلال هذا السكون وهذا الفراغ يتدفق النهر، نائما لا يقاوم.
وحدقت سوزيلا في الوجه المستلقي على الوسادة، وبدا لها فجأة كأنه وجه فتى صغير، كوجه الطفل في صفائه وسكونه. وقد اختفت تجاعيد التجهم التي كانت تخطط جبهته، وانفرجت الشفتان اللتان كانتا مطبقتين من شدة الألم، وخرجت الأنفاس في بطء وانسياب يكاد لا يحسها إنسان، وتذكرت بغتة الألفاظ التي ترددت في ذهنها حينما حدقت ذات ليل مقمر في البراءة التي بدت على وجه ديوجولد: إنها تعطيها النوم المحبوب.
وقالت بصوت مسموع: النوم، النوم.
وكأن السكون قد أمسى مطلقا والفراغ أشد عمقا.
وأخذ الصوت يقول: نائم على سطح النهر النائم، وفوق النهر، في السماء الشاحبة، ترى سحب ضخمة بيضاء. وعندما تخترق ببصرك السحب تحس كأنك تسبح متجها إليها، نعم تسبح نحوها؛ فالنهر الآن يجري في الهواء، وهو نهر لا يرى يحملك إلى الأمام وإلى أعلى، ثم يسمو بك ويسمو. إلى أعلى خلال الفراغ الصامت. ولقد أمست الصورة هي ذات الشيء والألفاظ هي الخبرة بعينها.
واستطرد الصوت قائلا: من الوادي الحار إلى الجبال الطلقة وبغير جهد.
نعم فلقد كان هناك «يونجفراو» ناصع البياض في زرقة السماء، وكان هناك «مونت روزا» ... - ما أنقى الهواء الذي تتنفسه، إنه صاف نقي مشبع بالحياة!
وتنفس بعمق فسرت في بدنه الحياة الجديدة. ثم هبت ريح خفيفة عبر الحقول التي كستها الثلوج، باردة على بشرته، لطيفة مستحبة، وقال الصوت وكأنه يردد ما يدور برأسه من أفكار ويصف ما يمارس من تجارب: البرودة، البرودة، النوم، ومن البرودة إلى مزيد من الحياة، ومن النوم إلى الرضى، إلى التكامل، إلى الهدوء الحي.
وبعد نصف ساعة عادت سوزيلا إلى غرفة الجلوس.
وقال لها حموها: خبريني، هل أفلحت؟
وأومأت برأسها بالإيجاب.
وقالت: حدثته عن مكان في إنجلترا، فطار إليه صوابه أسرع مما توقعت، وبعدئذ أعطيته بعض الإيحاءات عن حرارته ... - وعن ركبته كما أتعشم. - طبعا. - إيحاءات مباشرة؟ - لا، غير مباشرة؛ إنها دائما أفضل. وجعلته على وعي بصورة جسده، ثم جعلته يتخيل أن جسمه أضخم كثيرا مما هو عليه في واقع الحياة، وأن ركبته أصغر من حقيقتها. شيء صغير تافه يثور على ما هو أضخم منه وأفخم، ولم يعد هناك شك في من يفوز. ثم نظرت إلى ساعة الحائط وقالت: يا الله! لا بد أن أسرع وإلا تأخرت على طلابي في المدرسة.
الفصل الخامس
كانت الشمس في بداية شروقها عندما دخل الدكتور روبرت حجرة زوجته بالمستشفى، ووقعت عيناه على وهج برتقالي تقابله ظلال متعرجة للجبال المقابلة، واستحالت الرؤية فجأة إلى وهج على شكل قوس يخطف البصر يقع بين قمتين من قمم الجبال، ثم استكمل القوس شكل نصف الدائرة، واخترقت الحديقة التي تظهر من النافذة الظلال الطويلة الأولى، وأسهم النور الذهبية الباكرة. وعندما صوب نظره مرة أخرى نحو الجبال شهد الشمس المشرقة بكل بهائها الذي لا يحتمل.
وجلس الدكتور روبرت إلى جوار السرير، وأمسك بيد زوجته وقبلها. وابتسمت له ثم التفتت ثانية نحو النافذة.
وقالت هامسة: ما أسرع دوران الأرض! وبعد فترة من الصمت أضافت: وذات صباح سيكون شروق الشمس هو الأخير بالنسبة إلي.
ومن خلال الغناء الجماعي المضطرب من زقزقة الطيور ونقيق الحشرات، أخذت المينة تنشد: كارونا، كارونا ...
وأعادت لاكشي الكلمة: «كارونا»، ثم قالت: الرأفة ...
وألح في الحديقة صوت بوذا المزماري مرددا: كارونا، كارونا.
واستطردت قائلة: ولن أكون بحاجة إليها طويلا بعد ذلك. ولكن كيف تكون حالك أنت يا عزيزي روبرت؟
قال: إن المرء يجد القوة اللازمة بطريقة ما. - ولكن هل هي القوة الصحيحة، أم قوة الدروع، وقوة الاعتكاف، والقوة التي تلتمسها في عملك وأفكارك دون أن تعير التفاتا إلى أي أمر آخر؟ اذكر كيف كنت آتيك وأجذبك من شعرك لكي تتنبه؟ من يقوم بهذا بعدما أمضي؟
ثم دخلت إحدى الممرضات ومعها كوب من الماء المحلى بالسكر. ودس الدكتور روبرت إحدى يديه تحت كتفي زوجته ورفعها إلى وضع الجلوس. ولامست الممرضة بالكوب شفتيها، واحتست لاكشمي قليلا من الماء، وابتلعت الماء بصعوبة، ثم شربت مرة ثانية وثالثة، وأدارت وجهها من الكأس المقدمة إليها إلى الدكتور روبرت، وكسا وجهها الذابل نور يضيء بصورة عجيبة لا تتفق مع هذا الموقف الذي يثير الانزعاج.
وأخذت بصوتها الخافت الأجش تنشد ترنيمات تذكرها من عهد الطفولة. ثم صمتت قليلا وقالت: شيء مضحك هذا الذي يعود إلى ذاكرتي. ولكني كنت دائما مضحكة جدا. أليس كذلك؟
وحاول الدكتور روبرت أن يبادلها الابتسام وقال موافقا: نعم لقد كنت مضحكة جدا. - كنت تقول: ما أشبهك بالبرغوث! لحظة هنا ولحظة أخرى بعيدا هناك. ولا عجب أنك لم تستطع أن تعلمني!
ورد عليها مؤكدا : ولكنك علمتني. ولولا أنك كنت تجذبينني من شعري وتدعينني إلى أن أنظر إلى العالم وتساعدينني على فهمه، فكيف كانت تكون حالي اليوم؟ أعشى ضعيف الرؤية؛ على الرغم من كل ما تعلمت. ولكن لحسن حظي أني فكرت في الزواج منك، ولحسن الحظ كنت من الغفلة بحيث توافقين. وكانت لديك الحكمة والذكاء اللذين عالجتني بهما. وبعد سبعة وثلاثين عاما من التعلم على كبر كدت أصير إنسانا.
وهزت رأسها وقالت: ولكني لا زلت برغوثا. ومع ذلك حاولت، وبذلت الجهد، ولست أدري إن كنت قد أدركت ذلك يا روبرت. كنت دائما أخطو على أطراف أصابع قدمي، أجاهد في سبيل بلوغ المكان الذي كنت تحتله تؤدي فيه عملك وتفكر فيه وتطلع، على أطراف قدمي، أحاول أن ألحق بك، وأحاول أن أرقى إلى جانبك. ولقد كان ذلك وربي أمرا شاقا على نفسي! ولكم بذلت جهدا إثر جهد! وضاعت كل جهودي هباء؛ لأني لم أكن سوى برغوث أبكم أتوثب بين الناس والزهور والقطط والكلاب. إن حياتك الثقافية الرفيعة كانت أرقى من أن أصعد إليها، بله أن أغوص فيها. وعندما حدث هذا (ورفعت يدها ثانية ووضعتها مكان ثديها المقطوع) كففت عن المحاولة؛ فلا مدرسة ولا مذاكرة منزلية. وكان عندي لذلك عذر دائم.
وساد صمت طويل.
وأخيرا قالت الممرضة: هلا أخذت جرعة أخرى؟
واتفق معها الدكتور روبرت وقال: نعم يجب أن تتناولي المزيد.
وابتسمت له لاكشمي مرة أخرى وقالت: وأخالف التعاليم المقدسة؟ ومن خلال قناع الشيخوخة والمرض المميت شهد الدكتور روبرت بغتة الوجه الضاحك، الفتاة التي عام بها حبا منذ منتصف عمره، وكأنه عشقها بالأمس فقط.
وعاد الدكتور بعد ساعة إلى بيته.
وبعدما غير الضمادة التي كانت تلتف حول ركبة ويل فارنبي قال له: ستبقى اليوم وحيدا؛ إذ لا بد لي من أن أذهب في عربتي إلى شيفا بورام لاجتماع مجلس الشورى. وحوالي الثانية عشرة سوف تأتي إليك إحدى ممرضاتنا الطالبات لتعطيك الحقنة وتناولك الطعام. وبعد الظهر عندما تنتهي سوزيلا من عملها بالمدرسة تمر بك . أما الآن فلا بد لي من أن أنصرف. ونهض الدكتور روبرت ووضع يده لحظة فوق ذراع ويل وقال: حتى المساء.
وفي طريقه إلى الباب توقف وتلفت خلفه وقال: لقد كدت أنسى أن أعطيك هذا. وأخرج من أحد الجيبين الجانبيين لسترته المرتخية كتيبا صغيرا أخضر اللون وقال: هذه مذكرات راجا العجوز عن «حقيقة كل شيء وعن التصرف المعقول إزاء حقائق الأمور».
وقال ويل وهو يتناول الكتاب الذي قدم إليه: يا له من عنوان عجيب!
وأكد له الدكتور روبرت أنه سوف يحب كذلك محتواه: إنه يقع في بضع صفحات. ولكنك إن أردت أن تعرف حقيقة بالا فلن تجد ما يعرضها عليك خيرا مما فيه.
وبهذه المناسبة سأل ويل: ومن هو راجا العجوز؟ - بل الأصح أن تقول: من كان هو؛ فلقد مات سنة 38؛ بعدما حكم فترة أطول مما حكمتها الملكة فيكتوريا بثلاث سنوات. ومات ابنه الأكبر قبل موته، وخلفه حفيده، وكان غبيا غير أن حياته لم تطل، وراجا الحالي هو ابن الحفيد. - وهل لي أن أوجه إليك سؤالا شخصيا: كيف جاء في الصورة إنسان اسمه ماك فيل؟ - جاء إلى بالا ماك فيل الأول أيام حكم جد راجا العجوز؛ ونسميه راجا عهد الإصلاح. وفيما بينهما؛ جد راجا العجوز وجدي الأكبر، خلقا بالا الحديثة.
وعزز راجا العجوز عملها المشترك، وسار به شوطا آخر، ونحن اليوم نبذل الجهد لنحذو حذوه.
ورفع ويل كتاب «مذكرات عن حقيقة كل شيء». - وهل يعطيني هذا الكتاب تاريخ الإصلاحات؟
وهز الدكتور ماك فيل رأسه وقال: إنه يذكر فقط المبادئ الأساسية. اطلع عليها أولا. وعندما أعود من شيفا بورام في المساء أحكي لك شيئا عن التاريخ. وسوف تكون أكثر تفهما لما حدث فعلا إذا بدأت بمعرفة ما يجب عمله؛ ما ينبغي دائما وفي كل مكان أن يفعله أي إنسان لديه فكرة واضحة عن حقيقة كل شيء؛ ولذلك أقول لك: اقرأ هذا الكتاب، ولا تنس أن تشرب عصير الفاكهة المقرر لك في الحادية عشرة.
وراقبه ويل وهو ينصرف، ثم فتح الكتيب الأخضر وبدأ يقرأ.
أولا
ليس لأحد حاجة إلى أن يذهب إلى مكان آخر؛ فنحن جميعا - لو عرفنا - بالفعل هناك.
لو أني عرفت من أنا في الحقيقة لكففت عن التصرف وفقا لما أظن من أنا، فإذا كففت عن التصرف وفقا لما أظن من أنا إذن لعرفت من أنا.
أنا في الحقيقة - لو سمح لي المانوي
1 (الذي أظنني هو) أن أعرف - توفيق بين لا ونعم؛ أعيش حياتي في قبول تام وفي تجربة مباركة باللامثنوية.
كل الألفاظ في الدين مبهمة، ومن يتشدق باسم بوذا، أو الله، أو المسيح، يجب أن يتطهر أولا.
إن المانوي المنعزل، الذي أظن أنني هو، يحكم على نفسه بخيبة الأمل التي تتكرر إلى ما لا نهاية، وبالصراعات التي تتكرر إلى ما لا نهاية مع غيره من المانويين الطموحين الخائبين؛ وذلك لأن أمله في ألا يخلد سوى «نعم» في كل أمرين متعارضين لا يمكن - بحكم طبيعة الأشياء - أن يتحقق.
صراعات وإحباطات؛ ذلك هو موضوع التاريخ كله، بل وتقريبا موضوع تاريخ الأحياء كلها. قال بوذا كلمة واقعية وهي: إني أريكم الأحزان. ولكنه كذلك أرانا نهاية الأحزان: معرفة الذات، والقبول التام، وتجربة اللامثنوية المباركة.
2
ثانيا
إذا عرفنا من نحن في الحقيقة أدى بنا ذلك إلى الحياة الطيبة، والحياة الطيبة تؤدي إلى أصح أنواع العمل الطيب. ولكن العمل الطيب لا يؤدي في حد ذاته إلى الحياة الطيبة؛ فقد يكون المرء فاعلا للخير دون أن يعرف من هو في الحقيقة. والأحياء الذين يتصفون بفعل الخير ليسوا أناسا طيبين، وما هم إلا أعمدة المجتمع.
وأكثر الأعمدة كأعمدة شمشون؛ فهي قائمة ولكنها إن عاجلا أو آجلا تنهار. ولم يظهر مجتمع كان أكثر العمل الطيب فيه نتيجة للحياة الطيبة ولذلك كان صحيحا دائما. وليس معنى ذلك أنه لن يقوم مثل هذا المجتمع أو أننا في بالا مجانين لأننا نحاول أن نوجد هذا المجتمع.
ثالثا
الرواقي ومن يمارس اليوجا شخصان صالحان ينتهيان إلى نتائجهما الطيبة بدعواهما باطراد أنهما شخصان آخران. ولكنك لست بدعواك أنك شخص آخر - حتى إن كان هذا الشخص غاية في العمل الطيب والحكمة - بمستطيع أن تخرج من عزلتك المانوية إلى كونك إنسانا طيبا.
الحياة الطيبة هي أن تعرف من أنت في الحقيقة، ولكي تعرف من أنت في الحقيقة يجب أن تعرف أولا لحظة بلحظة من أنت فيما تظن، وما تدفعنا هذه العادة السيئة من التفكير إليه من إحساس وعمل. إن لحظة واحدة من المعرفة الصافية الكاملة لمن أنت فيما تظن - ولكنك لست به في الواقع - توقف لعبة الألفاظ المانوية لحظة من الزمن، فإذا أنت كررت لحظات الإدراك بمن لست به، حتى تصبح هذه اللحظات زمنا متصلا وجدت نفسك بغتة عالما من أنت في الحقيقة.
التركيز، والتفكير المجرد، والتدريب الروحي؛ العزلة المنتظمة في عالم الفكر، الزهد ومذهب المتعة، عزلة منتظمة في عالم الحس والشعور والألم. ولكن الحياة الطيبة هي في العلم بمن أنت في الحقيقة بالنسبة لجميع الخبرات. لتكن إذن واعيا؛ واعيا في كل موقف، وفي كل وقت، أيا كان ما تعمل أو تعاني معقولا كان أم غير معقول، سارا أم غير سار. هذه هي اليوجا الصحيحة، التدريب الروحي الوحيد الذي يستحق الممارسة. - كلما ازددت معرفة بالمفردات ازددت معرفة بالله. هكذا قال اسبينوزا. وإذا ترجمنا لغته إلى لغتنا يمكن أن نقول: كلما ازددت معرفة بنفسك بالنسبة لكل ضروب التجارب، زادت فرصتك في إدراكك - فجأة ذات صباح جميل - من أنت في الواقع.
صدق القديس يوحنا؛ فالكلمة في عالم مبارك صامت لم تكن «مع» الله، إنما كانت هي الله، شيئا يعتقد فيه. الله رمز لما يدور في الأفئدة، اسم مجسد لكلمة مجردة.
إن الإيمان شيء يختلف كل الاختلاف عن العقيدة. العقيدة هي أن تأخذ باطراد كلمات لم تحلل مأخذا جديا للغاية، سواء في ذلك كلمات بولس أو ماركس أو هتلر؛ فإن الناس يأخذونها مأخذا جديا مبالغا فيه، فماذا يحدث؟ إن ما يحدث هو تكافؤ المتناقضين في التاريخ بشكل غير معقول؛ السادية (حب إيذاء الآخرين) إزاء الواجب، أو (وهو أسوأ بدرجة لا تقارن) السادية باعتبارها واجبا، الورع يقابله جنون العظمة، الإحسان يواسون به ضحايا قضاة التحقيق المنتمين لكنيستهم والصليبيين المتعصبين لمذهبهم. أما الإيمان، فعلى نقيض ذلك؛ لا يمكن أن يؤخذ مأخذا جديا مبالغا فيه؛ لأن الإيمان هو الثقة - التي لها ما يبررها عمليا - في قدرتنا على أن نعرف من نحن في الحقيقة، وعلى أن ننسى المانوي الثمل ونستبدل به الحياة الطيبة، اللهم اعطنا اليوم إيمانا وخلصنا يا رب من العقيدة.
ثم سمع ويل طرقا على الباب، فرفع بصره عن الكتاب ونادى: من هناك؟
ورد عليه صوت أعاد إليه ذكريات بغيضة عن الكولونيل ديبا وعن الرحلة الخيالية بعربة المرسيدس البيضاء، وقال الصوت: هو أنا.
وفي صندل أبيض على قدميه، وسروال قصير أبيض، وساعة معصم من البلاتين تقدم موروجان نحو سرير ويل. - ما أجمل الشعور الذي دفعك إلى أن تحضر لرؤيتي!
ولو كان الزائر شخصا آخر غير موروجان لبادر بسؤاله: كيف أنت الآن؟ ولكن موروجان كان مشغولا بنفسه كلية مما يفقده القدرة حتى على أن يتظاهر بأدنى اهتمام بأي شخص آخر. وقال متبرما: أتيت إلى بابك منذ ثلاثة أرباع الساعة. ولكن الرجل العجوز كان ما يزال هنا؛ لذلك عدت إلى البيت، واضطررت إلى مجالسة أمي والرجل المقيم معنا وهما يتناولان الفطور ...
وسأله ويل: ولماذا تحرجت من الدخول عندي حينما كان الدكتور روبرت معي؟ هل في حديثك معي ما يتنافى وقواعد السلوك؟
فهز الفتى رأسه في قلق وقال: كلا بالتأكيد، إنما أردت ألا يعرف السبب في زيارتي.
وابتسم ويل وقال: السبب؟ إن عيادة المريض من عمل الإحسان، وهي أمر مستحب للغاية.
ولم يكن لسخريته أثر على موروجان الذي واصل تفكيره في شئونه الخاصة، وقال: أشكرك لأنك لم تذكر لهم أنك رأيتني من قبل. قال ذلك في اقتضاب يكاد يبلغ حد الغضب، وكأنه كان يستنكر الاعتراف بما ناله من فضل، وتميز غيظا من ويل لأنه أسدى إليه معروفا يستحق العرفان.
وقال ويل: كنت أدرك أنك لم ترد أن أقول شيئا عن ذلك ومن ثم تحاشيت الكلام.
وتمتم موروجان بين أسنانه قائلا: أردت أن أشكرك. بنغمة تكاد تنم عن قوله : يا لك من خنزير قذر!
وبأدب زائف قال ويل: عفوا.
يا له من مخلوق عذب! بهذا كان يفكر وهو يتطلع في شغف وابتهاج إلى جذعه الذهبي الأملس، وإلى وجهه الملتفت ناحية أخرى، متناسقا كالتمثال لم يعد أولمبيا ولا كلاسيكيا؛ وجه هليني، سهل الحركة إنساني إلى أبعد الحدود. إنه كالوعاء الجميل الذي لا نظير له؛ وماذا عسى أن يحتوي هذا الوعاء؟ وتحسر ويل على أنه لم يوجه هذا السؤال بصورة أكثر جدية قبل أن يتصل ببابز التي لا توصف. ولكن بابز كانت أنثى. ولما كان طبيعيا في علاقته الجنسية فإن هذا السؤال العقلي الذي يتساءله الآن لم يكن ذا موضوع، ولكنه سؤال في محله من غير شك بالنسبة إلى هذا المخلوق الصغير الحقود نصف الإله الذي يجلس في طرف السرير، خاصة إذا كان السائل حساسا نحو الغلمان.
وسأله: أفلم يعلم الدكتور روبرت أنك ذهبت إلى راندنج؟ - كان بطبيعة الحال على علم بذلك. كما كان كل امرئ على علم به. ولقد ذهبت إلى هناك لأعود بأمي. وكانت هناك مع بعض أقربائها، وذهبت إلى هناك لأعود بها إلى بالا. وكان الأمر رسميا مطلقا. - إذن لماذا لم تردني أن أذكر أنني التقيت بك هناك؟
وتردد موروجان لحظة، ثم حدق ببصره في ويل متحديا، وقال: لأنني لم أردهم أن يعلموا أنني قابلت الكولونيل ديبا.
تلك إذن هي حقيقة الأمر، وقال ويل بصوت مرتفع: إن الكولونيل ديبا رجل يدعو للإعجاب. وأراد بذلك أن يقول كلمة معسولة يستخلص بها ثقة موروجان.
ولما زالت عن موروجان ريبته ظهر في الحال ما كان يكنه في صدره. وتهلل بالحماسة وجهه العابس، وبغتة تجلى أنطونيوس بكل ما كان يتصف به من جمال جذاب، هو جمال مراهقته الغامضة. وقال: أي إنه رجل يدعو للإعجاب. ولأول مرة منذ دخل غرفة ويل بدا أنه أدرك وجوده وقدم له أكثر بسماته مودة؛ ذلك أن ذكر الكولونيل بالإعجاب حمله على أن ينسى ضغينته، ومكنه في ذلك الحين من أن يهب حبه كل مخلوق؛ حتى هذا الرجل الذي كان يدين له بالعرفان المرير، وأردف قائلا: انظر إلى ما قدم لراندنج!
وقال ويل دون التزام: لا شك أنه يفعل الكثير لراندنج.
ومرت سحابة بوجه موروجان المشرق، وقال مقطبا جبينه: ولكنهم لا يرون ذلك هنا، ويعدونه رجلا فظيعا. - من يظن ذلك. - كل إنسان تقريبا! - ولذلك لم يريدوا لك أن تقابله؟
وابتسم موروجان ابتسامة عريضة، وعلى وجهه مسحة التلميذ الشرير الذي انتهز فرصة التفات المعلم الذي ولاه ظهره وقال: ظنوا أنني مع أمي كل الوقت.
وانتهز هذه الفرصة ويل توا وسأله: وهل كانت أمك تعلم أنك كنت في مقابلة مع الكولونيل؟ - طبعا. - ولم تعترض؟ - بل أيدتني.
ومع ذلك فإن ويل كان على ثقة تامة من أنه لم يخطئ عندما ظن أن موروجان مع ديبا كان أشبه بأنطونيوس مع هادريان. هل كانت المرأة كفيفة البصر؟ أم هل لم ترد أن ترى ما كان يحدث؟
وقال بصوت مسموع: ولكن إذا كان الأمر لا يهمها، لماذا كان الدكتور روبرت وزمرته يعارضون؟ ونظر إليه موروجان مرتابا. وأدرك ويل أنه غامر بالخوض في أمر محظور، فغير مجرى الحديث، وقال مبتسما: هل تظن أنه كان يستطيع أن يحولك إلى العقيدة في الدكتاتورية العسكرية؟
وفي هذا الاتجاه الجديد للحديث سار موروجان. وقد انفرجت أسارير وجهه وابتسم قائلا: لم يكن الأمر كذلك بالضبط. ولكن كان قريبا من هذا. وهز كتفيه وأردف قائلا: الموضوع سخيف، ولا يعدو أن يكون بروتوكولا أحمق.
وتحير ويل حقيقة وقال: ألم يخبروك بشيء عني؟ - لست أعرف أكثر مما ذكر لي الدكتور روبرت بالأمس.
وألقى موروجان برأسه إلى الخلف وقال ضاحكا: تقصد كوني طالبا؟ - وما يضحكك من كونك طالبا؟
وصرف الفتى نظره مرة أخرى وقال: لا شيء، لا شيء البتة. ثم ساد الصمت، وأخيرا قال وهو لا يزال منصرف النظر: السبب في أنه من المفروض ألا ألاقي الكولونيل ديبا هو أنه رئيس دولة، وأنا كذلك رئيس دولة. وحينما نلتقي يكون في الموقف سياسة دولية. - وماذا تعني؟ - أنا راجا بالا. - أنت راجا بالا؟ - منذ عام 54 حينما مات أبي. - وأمك إذن هي راني. - هي كذلك.
وتذكر ويل ما قاله له ألديهايد: اذهب رأسا إلى القصر. ولكن ها هو ذا القصر يأتيه رأسا. والعناية السماوية كانت قطعا إلى جانب جو ألديهايد، وتعمل لمصلحته.
وسأله: وهل أنت أكبر الأبناء؟
وأجابه موروجان: الابن الأوحد. ثم أكد وحدانيته مرة أخرى وقال: الطفل الأوحد.
قال ويل: إذن ليس في الأمر أدنى شك. يا إلهي! لقد كان ينبغي لي أن أناديك بصاحب الجلالة أو بلقب السيد على الأقل. قال ذلك ضاحكا. غير أن موروجان استجاب للحديث بجدية تامة وبالتظاهر فجأة بالكرامة الملكية.
وقال: بهذا تناديني في نهاية الأسبوع القادم، بعد عيد ميلادي. حينما أبلغ الثامنة عشرة؛ أي عندما يبلغ الراجا في بالا سن الرشد. أما حتى هذا الحين فأنا موروجان ميلندرا، مجرد طالب يتعلم شيئا عن كل شيء؛ بما في ذلك تربية النبات. واستطرد في شيء من السخرية قائلا: حتى أكون على علم بما أقوم به حينما يحين الحين. - وإلى أن يحين الحين ماذا عساك فاعل؟
وقد لمس ويل فيما بين أنطونيوس الوسيم ووظيفته الكبرى تناقضا يثير الضحك حقا، وواصل الحديث بنغمة المزاح، متسائلا: وكيف تنوي أن تباشر العمل؟ هل تطيح بالرءوس، وتقول: أنا الدولة؟
واشتدت جدية موروجان وكرامته الملكية فقال مؤنبا: لا تكن غبيا.
وفي ابتهاج شديد أخذ ويل يسلك مسلك المعتذر وقال: إنما أردت أن أعرف إلى أي حد سوف يكون حكمك مطلقا.
ورد عليه موروجان في وقار قائلا: بالا ملكية دستورية.
أو بعبارة أخرى، إنك سوف تكون رأسا رمزيا؛ تسود ولا تحكم؛ كملكة إنجلترا.
ونسي موروجان كرامته الملكية فكاد يصيح بقوله: كلا، كلا. ليس كملكة إنجلترا. إن راجا بالا لا يسود فقط، إنما يحكم كذلك. واشتدت ثورة موروجان حتى لم يستطع يجلس في سكون، فقفز إلى أعلى وبدأ يذرع الغرفة جيئة وذهابا، وأضاف قائلا: راجا بالا يحكم حكما دستوريا، ولكنه - وايم الحق - يحكم، إنه يحكم. وسار نحو النافذة وأطل منها، ثم عاد بعد لحظة سكون وجابه ويل بوجه تحول - من أثر المسحة الجديدة التي انتابته - إلى رمز للقبح النفساني المعروف، في صورة فاتنة ولون رائع. وفي عبارة وبنغمة، استمدهما قطعا من أحد أبطال العصابات الأمريكية التي تظهر في السينما، قال: سوف أريهم من الرئيس هنا. واستطرد وكأنه يتلو من النص الممجوج الشائع على ألسنة أمثال هؤلاء الأبطال: إن القوم هنا يحسبون أني ألعوبة بين أيديهم كما كان أبي ألعوبة بينهم، ولكنهم يخطئون خطأ جسيما. وصدرت عنه ضحكة خبيثة تكاد أن تكون مكبوتة وهز رأسه الجميل البغيض وكرر قوله إنهم يخطئون خطأ جسيما.
وخرج اللفظ من بين أسنانه المطبقة وشفتيه اللتين كادتا ألا تتحركان. وبرز فكه الأسفل وبدا كفك المجرم في مسلسلة هزلية، وأبرقت عيناه في برود بين جفنين شبه مغمضين. وبدا في صورة مضحكة ومريعة في آن واحد. وقد أمسى أنطونيوس كاريكاتيرا لكل الأبطال الذين خلدتهم الصور من قديم الأزل.
وسأله ويل: من كان يدير البلاد حينما كنت قاصرا؟
وأجاب موروجان في ازدراء: ثلاث مجموعات من الرجعيين القدامى؛ مجلس الوزراء، ومجلس النواب، ثم مجلس الشورى الذي يمثلني أنا الراجا.
وقال ويل: مساكين هؤلاء الرجعيون القدامى، سوف يصدمون صدمة كبرى عما قريب.
وبروح الاستهتار التي اصطنعها في مرح شديد، ضحك ضحكة عالية وقال: كل أملي أن أكون هنا لأرى ما سوف يحدث.
وشاركه موروجان ضحكه، لا بوصفه قويا مرحا خبيثا. ولكن بمزاج مختلف وملامح متغيرة ظهرت فجاة تجعل من العسير عليه - كما أدرك ويل - أن يلعب دور البطل القوي، وإنما ضحك كالتلميذ الشرير الظافر الذي كان على صورته منذ لحظات، وكرر قوله سعيدا: ستكون صدمة حياتهم. - وهل وضعت خططا معينة؟
قال موروجان: قطعا. وبحركات وجهه أخلى التلميذ الشرير المنتصر مكانه لرجل السياسة، الرزين الذين يصطنع الدماثة عندما يعقد مؤتمرا صحافيا. ستكون الأولوية لتحديث هذا المكان. انظر إلى ما استطاعت راندنج أن تفعله بسبب نصيبها الذي تحصل عليه من عائد البترول.
وسأله ويل بتلك اللهجة الساذجة التي تنم عن جهل مطبق والتي علمته التجارب الطويلة أنها خير وسيلة لاستخراج المعلومات من السذج وممن يظنون بنفسهم الأهمية الشخصية: وهل لا تحصل بالا على نصيب من عائد البترول؟
قال موروجان: لا تحصل على قرش واحد. مع أن الطرف الجنوبي من الجزيرة يطفح بالبترول. وإذا استثنينا عددا قليلا من الآبار التافهة التي يستهلك بترولها محليا فإن الرجعيين القدامى لا يحركون ساكنا، بل إنهم لا يسمحون لغيرهم أن يفعل شيئا. وتملك الغضب موروجان السياسي، ونم صوته كما نمت ملامحه الآن عن البطل القوي، وأردف قائلا: لقد تقدمت عروض كثيرة من مختلف الجهات؛ من شركة بترول جنوب شرقي آسيا، ومن شل، والشركة الهولندية الملكية، وشركة ستاندارد في كلفورنيا. ولكن هؤلاء الغافلين لا يعيرونها آذانا مصغية. - وهل لا تستطيع أن تغريهم بالإصغاء؟
وقال البطل القوي: سأرغمهم على الإصغاء.
وقال ويل: هكذا تكون الهمة. ثم سأل عرضا: وأي العروض تفكر في قبوله؟ - يتعامل الكولونيل ديبا مع شركة ستاندارد بكلفورنيا، ويرى أن الأفضل أن نتعامل معها نحن كذلك. - لو كنت مكانك ما فعلت هذا إلا بعد أن يتقدم إلي بعض المتنافسين على الأقل. - ذلك ما أراه أنا أيضا، وكذلك أمي. - هذه هي الحكمة. - أمي متحمسة لشركة جنوب شرقي آسيا للبترول. وهي تعرف رئيس مجلس الإدارة، اللورد ألديهايد. - هل تعرف اللورد ألديهايد؟ يا للعجب! قال ذلك ويل بدهشة المبتهج التي لها أبلغ الأثر. ثم أضاف: جو ألديهايد صديقي، وأنا أحرر في صحفه، بل أعمل سفيرا خاصا له. وبيني وبينك هذا هو السبب في رحلتنا إلى مناجم النحاس؛ لأن جو يشتغل في النحاس كذلك ولكن بصفة ثانوية. أما ميله الأول فهو نحو البترول.
فقال موروجان وقد حاول أن يبدو داهية في السياسة: كم هو مستعد أن يعرض؟
وانتهز ويل هذه القصة وأجاب كأحسن ما تكون الإجابة في أسلوب ملوك المال كما يظهرون على الشاشة: أكثر قليلا مما تعرضه شركة ستاندارد.
وقال موروجان وكأنه أيضا يتحدث على الشاشة: هذا عدل. وأومأ برأسه كالحكيم، ثم سادت فترة طويلة من الصمت. ولما عاد إلى الحديث كان كرجل السياسة الذي يتفضل بمقابلة مع مندوبي الصحف.
قال : سوف أستخدم نصيبنا من عائد البترول بالطريقة الآتية: خمسة وعشرون في المائة من مجموع الأموال التي نحصل عليها تنفق في إعادة بناء العالم.
وسأله ويل في أدب جم: قل لي بدقة ما تراه لإعادة بناء العالم؟ - عن طريق الحرب الصليبية للروح؟ هل تعلم عنها شيئا؟ - بالطبع، ومن ذا الذي لا يعرفها؟!
وقال رجل السياسة جادا: إنها حركة عالمية كبرى كالمسيحية في نشأتها. وقد أسستها أمي.
وبدت على ويل الرهبة والدهشة.
وأعاد موروجان قوله: نعم، أسستها أمي. ثم أضاف مؤكدا: أعتقد أنها الأمل الوحيد للإنسان.
وقال ويل فارنبي: تماما.
واستطرد رجل السياسة حديثه فقال: هكذا أنفق الخمسة والعشرين في المائة الأولى من نصيبي. أما ما تبقى فسوف أنفقه على برنامج مكثف للتصنيع. وغير من نغمة الحديث مرة أخرى وقال: إن الحمقى الكبار هنا يريدون أن يصنعوا بعض المواقع فقط ويتركوا الباقي كما كان عليه منذ ألف عام. في حين أنك تريد أن تذهب بالتصنيع إلى آخر الشوط؛ تصنع من أجل التصنيع. - كلا، بل أصنع من أجل البلاد. أصنع لكي أجعل بالا بلدا قويا، ولكي أجبر غيرنا على احترامنا. انظر إلى راندنج؛ إنهم هناك في غضون خمس سنوات سوف يصنعون كل أنواع البنادق ومدافع الهاون والذخيرة التي هم في حاجة إليها، بيد أن الوقت يحتاج إلى وقت طويل لكي يصنعوا الدبابات، ولكنهم حتى آنئذ يستطيعون أن يشتروها من سكودا بأموال البترول.
وتساءل ويل متهكما: ومتى يرقون إلى صنع القنبلة الهيدروجينية؟
فأجاب موروجان: إنهم لم يحاولوا ذلك. وأردف قائلا: ومهما يكن من أمر فإن القنبلة الهيدروجينية ليست وحدها السلاح الأساسي. وقد نطق هذه العبارة مستمتعا بها، وكان من الواضح أن ذكر «السلاح الأساسي» كان محببا إلى مسامعه. ثم أضاف: أقصد الأسلحة الكيماوية والبيولوجية؛ إن الكولونيل ديبا يسميها القنابل الهيدروجية التي يملكها الإنسان المسكين. إن من أول مشروعاتي بناء مصنع كبير لمبيدات الحشرات. وضحك موروجان وغمز بإحدى عينيه وقال: وإذا استطعت أن تصنع مبيدات الحشرات فأنت تستطيع أن تصنع غاز الأعصاب.
وتذكر ويل ذلك المصنع الذي لم يتم بناؤه والذي يقع في إحدى ضواحي راندنج لوبو.
وكان قد سأل عنه الكولونيل ديبا وهما يمرقان قريبا منه في عربة المرسيدس: ما هذا؟
وأجابه الكولونيل: مبيدات للحشرات. ثم بابتسامة لطيفة كشف بها عن أسنانه الوضاءة أضاف: وقريبا سوف نصدرها لكل أنحاء جنوب شرقي آسيا.
وقد ظن آنئذ - بطبيعة الحال - أن الكولونيل يعني ما يقول. أما الآن - وقد سخر في نفسه - فإنه يرى أن الكولونيلات هم كولونيلات، وأن الصبية - حتى من أمثال موروجان - فهم صبية محبون للمدافع. سووف يكون هناك دائما كثير من المهام للمراسلين الخاصين خاصة بتجارب الموت.
ورفع ويل صوته سائلا: إذن فأنت سوف تقوم بتقوية جيش بالا؟ - قوى الجيش؟ لا، أنا سوف أخلقه؛ فإن بالا ليس لها جيش. - بتاتا؟ - بتاتا، فكلهم مسالمون. وخرجت من فيه هذه اللفظة: «مسالمون»، في اشمئزاز وسخرية: وسوف أبدا من لا شيء. - تعني أنك سوف تخلق الروح العسكرية وتدخل الصناعة؟ - تماما.
وضحك ويل قائلا: عود إلى الآشوريين، سوف ترجع في ثورتك إلى التاريخ القديم.
قال موروجان: هذا ما أرجوه، وهذه سياستي؛ ثورة مستمرة.
وصفق له ويل وقال: حسنا. - سوف أواصل الثورة التي بدأها منذ مائة عام الجد الأكبر للدكتور روبرت عندما قدم إلى بالا وعاون جدي الأكبر على تنفيذ الإصلاحات الأولى. ولقد قاما بعمل جدير حقا بالإعجاب، ولكنهما لم يوفقا في كل ما قاما به من أعمال. ثم هز رأسه بشعره المجعد جادا رافضا رفضا قاطعا لبعض ما قاما به؛ وبرزانة مصطنعة كأنه طالب يؤدي دور بولونيس في مسرحية هاملت في حفل نهاية الفترة الدراسية. ثم أردف قائلا: ولكنهما على أية حال قاما بعمل ما. في حين أننا نحكم اليوم بمجموعة من المحافظين الذين لا يفعلون شيئا ما. إنهم محافظون بدائيون لا يحركون ساكنا لإدخال الإصلاحات الحديثة. وهم كذلك محافظون في الصميم؛ فهم يرفضون أن يغيروا أية فكرة من الأفكار الثورية السيئة القديمة التي يجب أن تتغير. إنهم لا يصلحون الإصلاحات. والحق أقول لك: إن بعض ما كان يسمى بالإصلاحات يدعو حقا للاشمئزاز. - تقصد الإصلاحات المتعلقة بالجنس؟!
فأومأ موروجان برأسه والتفت ناحية أخرى؛ ولشد ما كانت دهشة ويل عندما لاحظ أن موروجان قد احمر خجلا.
وقال: اضرب لي مثلا.
ولكن موروجان عجز عن الإفصاح عما بنفسه.
وقال: اسأل الدكتور روبرت، واسأل فيجايا، إنهما يحسبان ذلك أمرا يدعو للإعجاب. بل الجميع هنا يرى هذا الرأي؛ ومن ثم فإن أحدا لا يحب التغيير. إنهم يريدون أن يبقى كل شيء كما كان، وبنفس الطريقة التي تدعو إلى الاشمئزاز، دائما وإلى الأبد.
وكرر العبارة بصوت رنان يدعو إلى الضيق قائلا: دائما وإلى الأبد.
ووثب موروجان من مقعده وصاح: أماه!
والتفت ويل فرأى عند الباب امرأة ضخمة متوردة مدثرة في لفائف من الموصلين الأبيض (وذلك في رأيه ينافي الانسجام الطبيعي؛ لأن مثل هذا الوجه وهذا الجسم يتلاءم معه عادة اللون البنفسجي الزاهي واللون الأحمر المشوب بالزرقة واللون الأزرق الكهربي). ووقفت مكانها وعلى فمها تلك الابتسامة التي توحي بإدراكها للغموض المحيط، وذراعها السمراء المترهلة مرفوعة وهي تضغط على جانب الباب وكأنها ممثلة عظيمة، أو المغنية الأولى التي يعترف لها الجميع وقد وقفت عند أول ظهورها لتتقبل تصفيق الاستحسان من المعجبين بها في الجانب الآخر من أضواء المسرح. كما ظهر في الخلف ينتظر في قلق إشارة البدء رجل مديد القامة يرتدي بدلة من الداكرون بني اللون. وقد حاول موروجان أن يتعرف إليه من خلال تلك الكتلة التي كادت أن تملأ المدخل - وهي أمه - ثم حياه باسم باهو.
وكان باهو ما يزال عند أحد جوانب المسرح ولكنه انحنى دون أن ينبس ببنت شفة.
ثم التفت موروجان مرة أخرى إلى أمه، وسألها: هل قدمت على قدميك؟ وكانت نغمته تنم عن عدم التصديق وعن قلقه المشوب بالإعجاب. لم يكن يتصور كيف تمشي إلى هذا المكان، فإن كانت قد فعلت فهي من الأبطال. ثم سألها أخيرا: وهل مشيت الطريق كله؟
وردت مداعبة بلطف: نعم كل الطريق يا ولدي. ثم أنزلت ذراعها المرفوعة وطوقت بها جسم الفتى النحيل ، وضمته - وهي في ثوبها الفضفاض - إلى صدرها الضخم، ثم أخلت سبيله، وقالت: استولت علي إحدى نزواتي. ولاحظ ويل أنها تحملك على الاستماع إلى لفظها «نزوة» بتأكيدها عليها في نطقها بطريقة خاصة. وبنفس طريقة التأكيد هذه قالت: إن صوتي الضعيف قال لي: اذهبي إلى زيارة الرجل الغريب الذي يقيم في بيت الدكتور روبرت. فسألت هذا الصوت الضعيف: هل أذهب الآن على الرغم من حرارة الجو؟ ونفد صبر صوتي الضعيف فرد قائلا: امسكي لسانك السخيف أيتها المرأة وافعلي كما تؤمرين. وها أنا ذا يا مستر فارنبي. وامتدت يدها يفوح منها شذى قوي من رائحة خشب الصندل، ثم تقدمت نحوه.
وانحنى ويل نحو أصابعها الغليظة المرصعة بالجواهر وتمتم بكلمات اختتمها بقوله: يا صاحبة السمو.
ونادت: باهو! باسمه المجرد من غير ألقاب مستغلة في ذلك حقها الملكي.
واستجابة لهذا النداء دخل الغرفة - بعد انتظار طويل لدوره - هذا الممثل الثانوي، وقدمته باسم صاحب السعادة عبد الباهو سفير راندنج: عبد البيير باهو (وتحدث بالفرنسية) لأن أمه كما قال كانت فرنسية ولكنه تعلم الإنجليزية في نيويورك.
وتصور ويل وهو يصافح يد السفير أنه شبيه بسافونارولا،
3
ولكنه سافونارولا بنظارة على إحدى عينيه وحلة قصها خائط في سافيل رو
4
بلندن.
وقالت الراني: باهو مستشار الكولونيل ديبا، أو ذهنه المفكر. - اسمحي لي يا صاحبة السمو، إنك أكثر رفقا بي منك بالكولونيل!
وتحدث بلفظ وأسلوب رجل البلاط إلى حد كاد أن يكون تهكميا، يدعو إلى السخرية لأنه أراد أن يمثل به الاحترام والمذلة في آن واحد.
فقال: الذهن في مكانه الطبيعي؛ الرأس. أما أنا فلست سوى جزء من الجهاز العصبي المتعاطف في راندنج.
وقالت الراني: وأي تعاطف! باهو يا مستر فارنبي له صفات كثيرة؛ من بينها أنه آخر الأرستقراطيين، ويجب أن تزور بلاده أما أشبهها «بألف ليلة وليلة». إذا صفقت بيديك كان في خدمتك في الحال ستة من الخدم. وهم هناك يحتفلون بأعياد ميلادهم، ويقيمون الحفلات الليلية في الحدائق. الموسيقى والمرطبات والراقصات، ومائتا حارس يحملون المشاعل، إنها حياة هارون الرشيد بعد سبكها في صيغة حديثة .
وقال ويل: هذا وصف بهيج. وقد تذكر القرى التي مر بها في عربة الكولونيل ديبا المرسيدس البيضاء؛ تذكر الأكواخ المسقوفة بالقش المضفور بالقضبان، والقاذورات، والأطفال المصابين بالرمد، والكلاب الهزيلة، والنساء اللائي تنوء بالأحمال الثقيلة.
واستطردت راني تقول: ذوقه رفيع، وعقله مليء بالمعرفة. ثم أخفضت صوتها وقالت: ويتخلل ذلك كله إحساس عميق قوي بالمقدسات.
وأحنى مستر باهو رأسه، ثم ساد الصمت بعد ذلك.
وفي أثناء ذلك اجتذب موروجان مقعدا، وجلست فوقه بوزنها الذي يبلغ مائة كيلوجرام الذي تؤكد به جلالتها دون أن تلتفت خلفها، وهي على ثقة ملكية بأن طبائع الأشياء تقتضي أن يكون هناك دائما شخص قريب المنال يكفل امتناع الأحداث السيئة كما يكفل الاحتفاظ بالكرامة.
ووجهت حديثها إلى ويل قائلة له: أرجو ألا تحس أن زيارتي لك نوع من التطفل. وأكد لها أنه لا يشعر بهذا الإحساس، ولكنها - مع ذلك - استمرت في تقديم الأعذار وقالت: كان ينبغي لي أن أخطرك مقدما وأن أحصل على إذن منك. ولكن صوتي الضعيف قال لي: «لا، يجب أن تذهبي فورا، لماذا لست أدري. ولكننا سوف نعرف السبب في الوقت المناسب من غير شك.» وحدقت فيه بعينيها الكبيرتين الجاحظتين وابتسمت له ابتسامة مبهمة، وأردفت قائلة: والآن كيف حالك أولا يا عزيزي مستر فارنبي؟ - كما ترين يا سيدتي، حالتي جيدة للغاية.
وحدقت في وجهه بعينيها الجاحظتين في إمعان ارتبك له، وقالت: حقا؟ إنك في نظري الرجل البطل الذي يراعي شعور الآخرين ويطمئن أصدقاءه حتى وهو على سرير الموت.
قال: أنت تمالقينني. ولكن حقا أنا في حالة جيدة، حالة جيدة بصورة تدعو إلى الدهشة، بل هي - إذا أخذنا كل شيء في الاعتبار - معجزة.
قالت راني: «معجزة» هي الكلمة التي استخدمتها عندما سمعت نبأ نجاتك. لقد كانت حقا معجزة.
وروى ويل مرة أخرى النص الذي ورد في كتاب «الأرض المجهولة»
5
وهو «من حسن الحظ أن العناية الإلهية كانت إلى جانبي».
وبدأ مستر باهو يضحك. ولما لحظ أن الراني قطعا لم تدرك المغزى، غير رأيه. وفي براعة زائدة حول صوت المرح إلى سعال مسموع.
وقالت الراني: ما أصدق هذا القول! في صوت قوي رنان يتذبذب بدرجة تثير الحس، وواصلت حديثها قائلة: إن العناية الإلهية دائما في جانبنا. ورفع ويل حاجبه متسائلا، فأضافت قولها: أقصد في أعين أولئك الذين يفهمون حقا. مؤكدة لفظتي «يفهمون» و«حقا». ويصدق هذا الكلام حتى وإن بدت كل الأمور متآمرة ضدنا، وبالفرنسية قالت: حتى عند الكوارث. واستطردت قائلة: أنت تفهم الفرنسية طبعا يا مستر فارنبي؟ وأومأ ويل بالإيجاب. وواصلت حديثها: الفرنسية كثيرا ما تواتيني أيسر من لغتي القومية، أو الإنجليزية، أو لغة أهل بالا. وبعدما قضيت عدة سنوات في سويسرة في المدرسة أولا ثم بعد ذلك عندما تدهورت صحة ولدي (وهنا ربتت على ذراع موروجان العارية) واضطررنا إلى العيش في الجبال؛ ويوضح ذلك ما ذكرت من أن العناية الإلهية كانت دائما في جانبنا، قالوا لي إن ولدي الصغير على حافة الإصابة بالسل فنسيت كل ما تعلمت، وطار صوابي خوفا وذعرا، وغضبت من ربي لأنه رضي بهذا الذي حدث. ولكن ما كان أشد عماي! فلقد شفي ولدي. وكانت تلك السنوات التي قضيناها وسط الثلوج الدائمة أسعد أيام حياتنا. أليس كذلك يا حبيبي؟
ووافقها الصبي بقوله: نعم، كانت أسعد أيام حياتنا. بنغمة تنم عن الإخلاص التام.
وابتسمت الراني بشعور الانتصار، ولوت شفتيها الحمراوين، وبصوت خافت فرجتهما لترسل عن بعد قبلة، وواصلت حديثها قائلة: فأنت ترى يا عزيزي فارنبي - والأمر يفصح عن نفسه حقا - أن شيئا لا يحدث مصادفة، هناك خطة كبرى، تتفرع منها خطط عديدة صغرى. هناك خطة صغرى لكل واحد منا.
وفي أدب جم قال ويل: هذا صحيح.
وواصلت الراني حديثها قائلة: لقد انقضى زمن كنت أدرك فيه ذلك بعقلي. أما الآن فأنا أدركه بقلبي، أنا حقا ... وهنا توقفت لحظة لتتأهب لنطق الكلمة الصوفية التالية مؤكدة لها، وهي ... أفهم.
وعندئذ تذكر ويل ما قاله عنها جو ألديهايد وهو أنها «متأثرة بالروحانيات إلى أبعد الحدود». ولا شك في معرفة هذا الرجل الذي تردد على جلسات استحضار الأرواح طوال حياته.
فقال: أعتقد يا سيدتي أنك روحانية بالطبيعة.
واعترفت بذلك قائلة: منذ ميلادي. ولكن كذلك وفوق ذلك بالتدريب. ولست بحاجة إلى أن أقول التدريب على شيء آخر. مؤكدة هذه العبارة الأخيرة. - شيء آخر؟ - على حياة الروح، والمرء كلما سار شوطا على الطريق فإن كل المواهب الروحية وكل القوى المعجزة تتطور تلقائيا. - أصحيح هذا؟
وأكد له موروجان فخورا: إن أمي تستطيع أن تقوم بما لا يتصور العقل.
وقالت بالفرنسية: لا تبالغ يا حبيبي.
وأصر موروجان على ما ذكر وقال: ولكنها الحقيقة.
وأضاف السفير: إنها حقيقة أستطيع أن أؤكدها. ثم أردف قائلا وهو يبتسم مخاطرا: أؤكدها على مضض مني. ولقد كنت طوال حياتي من المتشككين في هذه الأمور، ولم أكن أحب أن أرى المستحيل يتحقق. ولكني لسوء الحظ أميل إلى الصدق. فإذا حدث المستحيل فعلا أمام عيني فأنا مضطر على الرغم مني (بالفرنسية) أن أكون شاهدا على ما وقع. إن سموها تقوم فعلا بأمور لا يتصورها العقل.
وتهللت الراني بالسرور وقالت: حسنا، ما دمت تريد أن تعبر بهذه الصورة. ولكن لا تنس شيئا أبدا يا باهو. إن المعجزات ليست لها البتة أية أهمية، وإنما المهم هو «الشيء الآخر»؛ الشيء الآخر الذي يبلغه المرء في نهاية «الطريق».
وبالتحديد قال موروجان: بعد «المرحلة الرابعة» يا أمي ...
ورفعت الراني إصبعا إلى شفتيها وقالت: هذه أشياء لا يتحدث فيها المرء يا حبيبي.
وقال الصبي: أنا آسف. وأعقب ذلك صمت طويل مشحون بالمعاني.
وأغمضت الراني عينيها، وأسقط مستر باهو نظارته ثم أغمض عينيه وأمسى صورة لسافونارولا وهو يصلي في صمت. ماذا كان يجري خلف هذا القناع، قناع استجماع النفس الصارم والذي يكاد أن يتجرد من المادة؟ تعجب ويل لما شاهد وأخيرا قال: هل يجوز لي يا سيدتي أن أسأل كيف بدأت السير في الطريق؟ مؤكدا لفظة «الطريق».
ولزمت الراني الصمت ثانية أو ثانيتين، واكتفت بجلوسها مغمضة العينين، تنفرج شفتاها عن ابتسامة بوذا التي تنم عن سعادة غامضة، وأخيرا أجابت بقولها: العناية السماوية كشفت لي عن الطريق. - صحيح، لكن لا بد أن تكون هناك مناسبة، ومكان، وأداة بشرية.
قالت: سوف أخبرك. وفتحت جفنيها وألفى نفسه مرة أخرى محط النظر من هاتين العينين الجاحظتين اللتين لمعتا في حملقة لا تحيد يمنة أو يسرة.
حدث ذلك في لوزان في السنة الأولى من تعليمها السويسري. وكانت الأداة البشرية المختارة هي مدام بولوز المحبوبة الصغيرة، وهي زوجة الأستاذ بولوز المحبوب الكبير. والأستاذ بولوز هو الرجل الذي عهد إليه رعايتها والدها المرحوم سلطان راندنج. وكان الأستاذ في السابعة والستين من عمره، يعلم الجيولوجيا، بروتستانتيا ينتمي إلى طائفة متزمتة، ولولا أنه كان يتعاطى كأسا من النبيذ مع العشاء، ويؤدي صلاته مرتين فقط في اليوم، ويلتزم بالزواج بامرأة واحدة لحسبته من المسلمين. وتحت هذه الرعاية يتفتح ذهن أميرة راندنج، وتبقى بغير تأثر من الناحيتين الخلقية والعقائدية. ولكن السلطان لم يحسب لزوجة الأستاذ حسابا. كانت مدام بولوز في الأربعين فقط من عمرها، بدينة، عاطفية، فوارة في حماستها، اعتنقت أخيرا مذهب الصوفية وتحمست له بشدة، وإن تكن من الناحية الرسمية من مذهب زوجها البروتستانتي. وفي حجرة في أعلى بيت مرتفع قريبا من ميدان ريبون اتخذت لها مكانا للتعبد تأوي إليه سرا لتقوم بتدريباتها على التنفس، وتمارس التركيز، وتستحضر كنداليني، كلما توافر لها الوقت. كانت تدريباتها عنيفة. ولكن جزاءها كان عظيما بدرجة حدود العقل. وعند الفجر ذات ليل من ليالي الصيف بينما كان الأستاذ الطيب مستلقيا يغط في نومه غطيطا متواترا تحت المصلى بطابقين، تجلى لها السيد كوت هومي وشعرت بوجوده معها.
وهنا توقفت الراني عن الحديث بشكل مؤثر.
وقال مستر باهو: هذا أمر غير عادي.
وبدافع الواجب ردد العبارة وراءه ويل وقال: أمر غير عادي.
واستأنفت الراني روايتها. وكانت مدام بولوز قد أحست بسعادة لم تستطع إخفاءها فأفشت سرها. وصدرت عنها إشارات غامضة، وتدرجت من الإشارات إلى الثقة، ومن الثقة إلى دعوة لزيارة المعبد وتلقي التعاليم. وبعد فترة وجيزة من الزمن أخذ كوت هومي يخص الطالبة الجديدة بأفضال تفوق ما كان يقدمه لمعلمتها.
واختتمت الراني حديثها قائلة: ومنذ ذلك اليوم ظل السيد يعاونني على المضي قدما. وأكدت على كلمتي «المضي قدما».
وتساءل ويل بينه وبين نفسه المضي قدما نحو ماذا؟ كوت هومي وحده يعلم. ولكن أيا كان المكان الذي توجهت إليه فإنه لم يشعر بميل إليه. وظهر على ذلك الوجه الوردي الضخم تعبير كان بغيضا إلى نفسه بصورة عجيبة؛ تعبير عن هدوء سائد، وعن احترام للذات ثابت لا يتزعزع. وذكرته بصورة عجيبة بجو ألديهايد. وكان جو أحد هؤلاء الأثرياء السعداء الذين لا يشعرون بوخز الضمير، وإنما يستمتعون بأموالهم بغير وازع، وبكل ما يمكن أن يشتروه بهذه الأموال من نفوذ أو سلطان، وأمامه الآن فصيلة أخرى من فصائل جو ألديهايد، على الرغم من ارتدائها الموصلين الأبيض، ومما يحيط بها من غموض، ومما تثيره من عجب؛ أنثى ثرية تحكمت في السوق؛ ولا أعني سوق النحاس أو فول الصويا، وإنما أعني الروحانية الخالصة والسادة الذين يصعدون إلى السماء، وهي الآن تفرك يديها سعيدة بمجال استثمارها.
وواصلت الراني حديثها قائلة: إليكم مثالا لما قدمه لي: منذ ثمان سنوات - أو على وجه التحديد في اليوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر من عام 1952م - جاءني «السيد» وأنا في حالة التأمل صباحا، جاء بشخصه، وبكل أمجاده وقال لي: لا بد من شن حملة دينية، حركة عالمية لإنقاذ البشرية من تدمير نفسها بنفسها، وأنت يا بنيتي الأداة المكلفة. فقلت: أنا؟ حركة عالمية؟ هذا عبث، فأنا لم ألق طوال حياتي خطابا واحدا، ولم أسطر كلمة واحدة للنشر، ولم أكن قط زعيمة ولا داعية نظام. فقال وقد حياني بابتسامة حلوة من ابتساماته التي تفوق الوصف: وعلى الرغم من ذلك فأنت التي سوف تشنين الحملة؛ الحملة الروحية العالمية، وسوف تقابلين بالضحك، ويدعونك المجنونة، المتهوسة، والمتعصبة. ولكن الكلاب تنبح والقافلة تسير. ولقد قدر للحملة الروحية أن تتحول من دعوات مبدئية تثير الضحك إلى قوة عظمى، قوة للخير، قوة سوف تنقذ العالم في نهاية الأمر. وبعد هذا تركني، مذهولة، متحيزة، مذعورة لا أعي شيئا . ولكن ذلك أمر عارض، وعلي أن أطيع. ولقد أطعت. فماذا حدث؟ ألقيت الخطب ووهبني هو الفصاحة، وقبلت عبء الزعامة، ولأنه كان يسير متخفيا إلى جانبي تبعني الناس. وطلبت المعونة فتدفق علي المال. وها أنا ذا كما ترون ... ولوحت بيديها الغليظتين وكأنها تغض من شأن نفسها، وابتسمت ابتسامة غامضة، وكأنها تقول: مسكينة أنا، ولكني لا أملك نفسي، بل أنا ملك للسيد كوت هومي. وكررت قولها: وها أنا ذا كما ترون.
وقال مستر باهو مخلصا: ها أنت هنا والحمد لله.
وبعد فترة ما سأل ويل الراني إن كانت قد أصرت دائما على الشعائر التي تعلمتها بالعناية الإلهية في معبد مدام بولوز.
وأجابت بقولها: دائما، ولم أعد أستغني عن التأمل، وكأنه كالطعام لا غنى عنه. - أولم يشق عليك ذلك بعد الزواج؟ أعني قبل أن تعودي إلى سويسرة؛ فلقد كانت عليك بالضرورة واجبات رسمية كثيرة مضنية.
وردت الراني في نغمة تغني عن مجلدات ضخمة من التعليق الذي يسيئ إلى شخصية زوجها الراحل، من حيث فلسفته في السياسة العالمية وعاداته الجنسية وقالت: دع عنك الواجبات غير الرسمية. وفغرت فاها لتفصل ما أجملت ثم لاذت بالصمت، ونظرت إلى موروجان ونادته: يا حبيبي.
وكان موروجان مشغولا بتلميع أظافر يده اليسرى التي وضعها في راحة يمناه، فتطلع في دهشة المذنب وقال: ماذا يا أماه؟
وتجاهلت الراني ما كان يفعل بأظافره وغفلته الواضحة إزاء ما كانت تقول، وابتسمت له ابتسامة ومغرية وقالت له: كن ملاكا واذهب وأتني بالسيارة. ووجهت حديثها إلى ويل قائلة له: إن «صوتي الضعيف» لا يعترض على أن أعود إلى البيت سيرا على قدمي؛ فهو على بعد بضع ياردات من هذا المكان. ولكن في هذا الجو الحار. وفي مثل سني ...
وكانت كلماتها تستدعي شيئا من النفاق في الرد. ولكن ويل شعر بأن الحرارة التي لا تسمح بالسير على الأقدام لا تسمح كذلك ببذل الجهد اللازم للتظاهر بإخلاص زائف يقنع. ولحسن الحظ كان على مقربة منهما دبلوماسي محترف، رجل من رجال البلاط المدربين، يستطيع أن يعوض أوجه النقص التي تصدر عن صحافي أخرق. فضحك باهو بملء شدقيه، ثم اعتذر عما بدر منه من مرح.
وقال: معذرة فالموقف يدعو فعلا إلى الضحك. وكرر عبارة الراني: في مثل سني ... وضحك مرة أخرى، ثم أردف قائلا: إن موروجان لم يبلغ الثامنة عشرة بعد، وأنا أعرف عمر أميرة راندنج، وصغر سنها، عندما اقترنت براجا بالا.
وفي تلك الأثناء نهض موروجان مطيعا وقبل يد أمه.
ولما انصرف من الغرفة قالت الراني: الآن نستطيع أن نتحدث بحرية أكثر. وانطلقت في الكلام متحررة؛ ونم وجهها، ونغمة حديثها، وعيناها الجاحظتان، وهيكل جسمها المرتعش كله عن استنكارها ولكنها تجاهلت الأمر وقالت: اذكروا محاسن موتاكم. ولذلك لم تذكر عن زوجها إلا أنه كان رجلا من بالا مثاليا، وممثلا صادقا لبلاده، والحقيقة المؤلمة هي أن وجه بالا المشرق الناعم كان يخفي فسادا مروعا.
ورفعت يديها مرتاعة وخشخشت أساروها في فزع شديد تقول: عندما أذكر ما حاولوا أن يلحقوه بوليدي منذ عامين، عندما كنت أقوم برحلتي العالمية في سبيل الحملة الروحية، أذكر كم قاسيت من فراقه طوال هذه المدة. ولكن «السيد» كان قد بعثني لأداء رسالة وذكرني «صوتي الضعيف» أنه من الخطر أن أصحب وليدي معي. ولقد عاش خارج البلاد زمنا طويلا وآن له أن يعرف البلد الذي سيئول إليه حكمه؛ لذلك قررت أن أتركه هنا. وعين مجلس الشورى لجنة للوصاية: واللجنة امرأتان لكل منهما أبناء بلغوا سن الرشد، ورجلان.
يؤسفني أن أقول (وأسفي أشد من غضبي) إن الدكتور روبرت ماك فيل كان أحدهما. وموجز القول، ما كدت أن أخرج آمنة من هذا البلد حتى شرع هؤلاء الأوصياء الأعزاء الذين عهدت إليهم بوليدي، ولدي الوحيد، يعملون لمحو تأثيري، ويعملون بنظام يا مستر فارنبي على أن يحطموا كل القيم الخلقية والروحية التي تعبت في بنائها خلال العديد من السنين.
وفي شيء من الخبث أبدى ويل دهشته (لأنه بطبيعة الحال كان يعرف ما كانت الراني تتحدث عنه): القيم الخلقية والروحية كلها؟ ومع ذلك لم يكن بالإمكان لأحد ما أن يكون أكثر شفقة به من الدكتور روبرت والآخرين، ولم يكن بإمكان السامرين الطيبين أنفسهم أن يكونوا أكثر منهم إحسانا.
وقالت الراني: إنني لا أنكر عليهم شفقتهم. ولكن الشفقة ليست هي الفضيلة الوحيدة.
ووافقها ويل وقال: طبعا. وأخذ يعدد كل الصفات التي كان من الواضح إن الراني تفتقر إليها، وقال: هناك أيضا الإخلاص، والصدق، والتواضع، والإيثار ...
وقالت الراني بحدة: لقد نسيت الطهارة. وأكدت على هذه الكلمة: الطهارة أساسية، الطهارة شيء لا بد منه. - ولكني فهمت أنهم هنا في بالا لا يرون هذا الرأي. فقالت الراني: إنهم بالتأكيد لا يرون ذلك. واستطردت تذكر له كيف أن ولديها قد عرض عمدا للنجاسة، بل لقد شجعوه إيجابيا على الاسترسال فيها مع إحدى الفتيات اللائي نضجن قبل الأوان وسلكن سلوكا فوضويا. وفي بالا الكثيرات منهن. ولما عرفوا أنه ليس من طراز الفتيان الذين يغررون بالبنات (لأنها نشأته على أن يعتبر المرأة مقدسة بالضرورة) شجعوا الفتاة على أن تبذل جهدها لكي تغرر به.
وتعجب ويل في نفسه متسائلا: وهل نجحت معه الفتاة؟ أم هل قام أصدقاؤه الذين في مثل سنه بتحصينه ضد الميل إلى البنات، أو قام به بصورة أكثر فعالية واحد ممن يكبرون أنطونيوس أكثر خبرة وأشد فسادا، سويسري سبق الكولونيل ديبا؟
وأخفضت الراني صوتها وقالت إلى حد الهمس الذي تسمعه على المسرح تعبيرا عن الفزع: لم يكن ذلك أسوأ ما حدث؛ فإن إحدى الأمهات في لجنة الوصاية - وألفت النظر إلى أنها من الأمهات - نصحته أن يتلقى بعض الدروس. - أي نوع من أنواع الدروس؟
وغضنت أنفها كأنها تشم رائحة المجاري وقالت: دروس فيما يتحشمون ويسمونه الحب. وتحول اشمئزازها إلى سخط وقالت: دروس - اسمح لي أن أقول - من امرأة أكبر سنا.
وصاح السفير: رحماك يا رب!
وردد ويل بعده على سبيل الواجب: رحماك يا رب! وكان يدرك أن هؤلاء النسوة المسنات كن في عين الراني منافسات أشد خطورة حتى من أكثر الفتيات الفوضويات ممن نضجن قبل الأوان؛ فمعلمة الحب البالغة تكون أما منافسة، تتمتع بميزة الحرية في تجاوز حدود التحريم، وهذا أمر بشع لا يجوز.
وفي شيء من التردد قالت الراني: إنهن يقمن بتعليم طرق خاصة.
واستفسر ويل: أي طرق تقصدين؟
ولكنها لم تستطع أن تحمل نفسها على الخوض في التفصيلات المنفرة. ومع ذلك فإن ذلك لم يكن ضروريا؛ لأن موروجان (بارك الله فيه) رفض أن يستمع إلى هذه الدروس. دروس في الفسق من امرأة يصح أن تكون له أما؛ إن مجرد الفكرة أصابته بالتقزز. ولا عجب؛ فلقد نشأ على احترام مبدأ الطهارة. هل تعرف معنى براهما شاريا؟
قال ويل: نعم. - وهذا سبب آخر جعل مرضه نعمة غير منظورة، رحمة من الله حقا جاءت في حينها، ولا أظن أني كنت أستطيع أن أربيه هكذا في بالا؛ فهنا كثير من المؤثرات السيئة. هنا قوى تعمل ضد الطهارة، وضد الأسرة، بل وضد محبة الأم.
وسدد ويل أذنيه ليحسن الإصغاء وقال: هل أصلحوا حتى الأمهات؟
وأومأت برأسها إيجابا وقالت: إنك لا تتصور إلى أي حد وصلت الأمور هنا. ولكن كوت هومي كان يعلم الأخطار التي لا بد أن نلاقيها في بالا. فماذا يحدث؟ يمرض وليدي وينصحنا الأطباء بالعودة إلى سويسرة لكي نبتعد عن الأذى.
وسألها ويل: كيف سمح لك كوت هومي بالقيام بحملتك الروحية؟ ألم ير ماذا كان عساه أن يحدث لموروجان بمجرد أن توليه ظهرك؟
وقالت الراني: كان يرى كل شيء، المغريات، والمقاومة، والهجوم المكثف الذي تقوم به قوى الشر مجتمعة، ثم الخلاص في اللحظة الأخيرة. وأضافت لمزيد من الإيضاح: إن موروجان لم يخبرني بما كان يحدث. ولكن بعد ثلاثة أشهر أمست هجمات قوى الشر أقوى مما يحتمل، وصدرت عنه بعض التلميحات غير أني كنت مستغرقة تماما فيما كلفني به «سيدي» فلم أعرها التفاتا. وأخيرا كتب إلي خطابا شرح فيه الأمر كله تفصيلا. فألغيت محاضراتي الأربع الأخيرة في البرازيل وطرت إلى بلدي بأسرع ما استطاعت طائرات الجت أن تحملني. وبعد مضي أسبوع عدنا إلى سويسرة، وليدي وأنا وحدنا وكنا مع «السيد».
وأغمضت عينيها، وبدت على وجهها لمحة من نشوة التأمل والتفكير. وصرف ويل نظره مشمئزا . هذه المرأة التي قدست نفسها لأنها ظنت أنها سوف تخلص العالم، هذه الأم التي تتشبث بابنها وتلتهمه التهاما؛ هلا نظرت إلى نفسها لحظة كما ينظر إليها الناس؟ هل لديها أدنى فكرة عما فعلت، وعما لا تزال تفعل، بابنها الصغير المسكين التافه؟ أما عن السؤال الأول فالإجابة بالنفي قطعا. أما عن السؤال الثاني فليس بوسع المرء إلا أن يفكر. ربما كانت تجهل حقا ما فعلت بالفتى. ولكن ربما - أيضا - كانت على علم به. ربما عرفت وآثرت ما كان يحدث مع الكولونيل على ما كان يمكن أن يحدث لو قامت على تربية الصبي امرأة؛ فالمرأة قد تحل محلها. أما الكولونيل فلقد كانت تعرف أنه لن يفعل ذلك. - وقال لي موروجان إن في نيته أن يصلح هذه التي يزعمون أنها إصلاحات.
وقالت الراني بنغمة ذكرت ويل بجده رئيس الشمامسة: ليس بوسعي إلا أن أدعو الله أن يمنحه القوة والحكمة ليفعل ذلك.
وسألها ويل: وماذا تظنين بمشروعاته الأخرى: البترول، والصناعات، والجيش؟
وضحكت ضحكة خفيفة لتذكره بأنه يتحدث إلى شخص مر بالمرحلة الرابعة ثم قالت: أنا لا أكترث كثيرا بالاقتصاد والسياسة، اسأل باهو عن رأيه.
وقال السفير: لا أملك الحق في أن أبدي رأيا؛ فأنا غريب أمثل دولة أجنبية.
وقالت الراني: ليست أجنبية جدا. - في عينيك يا سيدتي. وفي عيني كما تعلمين جيدا، ولكنها في عين حكومة بالا أجنبية تماما.
وقال ويل: ولكن ذلك لا يمنعك من أن يكون لك رأي، إنه يمنعك فقط من أن تعتنق الآراء المحلية المعتمدة. ثم أضاف: وبهذه المناسبة أنا لست هنا بصفتي المهنية، ولا أنت معي في مقابلة صحافية أيها السفير. كل ذلك بعيد كل البعد عن التسجيل. - بعيد كل البعد عن التسجيل؛ لذلك وبصفتي الشخصية وحدها وليس بصفتي الرسمية. أقول إني أعتقد أن صديقنا الصغير على أتم صواب. - ومعنى ذلك طبعا أنك تعتقد أن سياسة حكومة بالا خطأ تماما.
وقال مستر باهو. وقد ضحك ضحكة فولتيرية تلألأ معها قناع سافونارولا العظمي الحاسم: إنها لا تعد خطأ تماما؛ لأنها على أتم صواب.
وقالت الراني محتجة: صواب!
قال: بل أتم صواب؛ لأنها رسمت تماما بحيث يصبح كل رجل وكل امرأة وكل طفل فوق هذه الجزيرة الساحرة على أتم ما يمكن أن يكون حرا وسعيدا.
وصاحت الراني: ولكنها السعادة الزائفة، وحرية «النفس الدنيا».
وقال السفير وقد انحنى كما يملي عليه الواجب: إنني أنحني لبعد نظرك الثاقب يا صاحبة السمو. ولكن السعادة مع ذلك هي السعادة زائفة أو صحيحة، والحرية ممتعة للغاية علا مستواها أو هبط. وليس من شك في أن السياسة التي شرعها المصلحون الأولون والتي تطورت مع مرور السنين كانت ملائمة - بصورة تدعو للإعجاب - لتحقيق هذين الهدفين.
وقال ويل: وهل تحس أن هذين الهدفين غير مستحبين؟ - بل على العكس من ذلك، كل امرئ يحبهما، ولكنهما لسوء الحظ لم يعودوا مناسبين، وقد باتا غير متلائمين بتاتا مع الموقف الراهن في العالم بعامة وفي بالا بخاصة. - وهل هما اليوم أشد تنافرا مع الظروف مما كانا عليه عندما بدأ المصلحون يعملون على توفير الحرية والسعادة؟
وأومأ السفير برأسه إيجابا وقال: في تلك الأيام كانت بالا ما تزال مختفية في خريطة العالم، فكانت فكرة تحويلها إلى واحة من الحرية والسعادة أمرا معقولا. إن المجتمع المثالي يمكن أن يعيش ما دام منقطع الصلة عن بقية العالم. ولقد كانت بالا قابلة تماما للحياة حتى عام 1905م. ولكن الدنيا تغيرت تماما بعد ذلك في أقل من جيل واحد. الصور المتحركة، والعربات، والطائرات، والراديو، والإنتاج الكبير، والمذابح الكبرى، والاتصال الجماهيري، وفوق هذا كله مجرد الضخامة؛ تزايد السكان في أحياء الفقراء وفي الضواحي التي أخذت تتضخم وتتزايد، وما إن حل عام 1930م حتى كان بمستطاع أي مشاهد ثاقب النظر أن يرى الحرية والسعادة أمرين لا يتحققان لثلاثة أرباع الجنس البشري. والآن وبعد مرور ثلاثين سنة أخرى أصبحا أبعد عن إمكان التحقيق. ثم إن العالم الخارجي قد أخذ يقترب من هذه الجزيرة الصغيرة، جزيرة الحرية والسعادة. أخذ يقترب باطراد وفي غير تراخ. وما كان مثاليا قابلا للحياة لم يعد اليوم كذلك. - ولذلك وجب أن تتغير بالا، هل هذا هو ما توصلت إليه؟
وطأطأ باهو رأسه وقال: تتغير تغيرا جذريا.
وقالت الراني بحماسة المتنبئ السادي: تتغير جذورا وفروعا.
وواصل باهو حديثه قائلا: وذلك لسببين مقنعين، أولهما أنه ليس بالإمكان لبالا أن تبقى مختلفة عن بقية العالم، وثانيهما أنه ليس من حقها أن تختلف. - ليس من حق الناس أن يكونوا أحرارا وسعداء؟
ومرة أخرى قالت الراني شيئا موحيا عن السعادة الزائفة والحرية الباطلة.
وتقبل مستر باهو مقاطعتها باحترام، ثم نظر إلى ويل.
وقال في إصرار: ليس من الصواب أن تزهو بما أنعم عليك في وجه هذه الكثرة من البائسين. هذه مباهاة وقحة، وإهانة مقصودة لبقية البشر، بل إن ذلك كفران بنعمة الله.
وتمتمت الراني في شغف شديد وقالت: الله، الله ... ثم فتحت عينيها وقالت: إن القوم هنا في بالا لا يؤمنون بإلهكم، ولا يعتقدون إلا في التنويم المغناطيسي وفي وحدة الوجود وفي الحب الذي لا تقيده حدود. وأكدت على هذه الكلمات في سخط واشمئزاز.
وقال ويل: ولذلك فأنت الآن تقترحين أن تجعليهم أشقياء أملا في أن يستردوا بذلك إيمانهم بالله. هذه طريقة للهداية، وربما أفلحت، وربما كانت الغاية تبرر الوسيلة. ثم هز كتفيه وأضاف قوله: ولكني أرى أن هذا الأمر سوف يحدث لامحالة، خيرا كان أم شرا، وبغض النظر عما يحسه أهل بالا إزاءه. وليس من الضروري أن يكون المرء من الأنبياء لكي يتكهن بأن موروجان سوف ينجح، فهو يعتلي موجة المستقبل. وموجة المستقبل هي من غير شك موجة البترول الخام. وبمناسبة الحديث عن الخامية وعن البترول (وهنا وجه نظره نحو الراني) إنني أعلم أنك على معرفة بصديقي القديم جو ألديهايد. - هل تعرف اللورد ألديهايد؟ - جيدا.
ثم أغمضت عينيها ثانية وابتسمت لنفسها وهزت رأسها في بطء وقالت: ولذلك كان صوتي الضعيف ملحا! لقد فهمت. وبنغمة أخرى سألته: كيف حال هذا الرجل العزيز؟
وأكد لها ويل أنه لا يزال على صفاته. - ويا لها من صفات نادرة. أنا أسميه الرجل صاحب الطائرة الورقية (قالت ذلك بالفرنسية ).
وتحير ويل وقال: صاحب الطائرة الورقية؟
وشرحت ما تعني وقالت: إنه يقوم بعمله هنا، ولكنه يمسك بخيط في يده، وفي طرف الخيط الآخر ترتبط الطائرة الورقية، وهي تحاول دائما أن تطير إلى أعلى وأعلى وإلى «الأعلى». وحتى وهو يؤدي عمله يحس الجذب الدائم إلى أعلى، يحس أن الروح في شد وجذب مع البدن. عجبا! رجل من رجال الأعمال، ومن أقطاب الصناعة؛ ومع ذلك فإن الشيء الوحيد الذي يهمه حقا هو خلود الروح.
وبزغ الضياء. لقد كانت هذه المرأة تتحدث عن إدمان ألديهايد للروحانية. فذكر تلك الجلسات الأسبوعية مع السيدة هاربوتل الأوتوماتية (التي تطلق لعقلها الباطن العنان يعبر عن نفسه، ومع السيدة بيم التي كان يسيطر عليها هندي كايوي يدعى باوبو) ومع الآنسة تيوك وبوقها المصقول الذي تخرج منه في همس له صرير كلمات كهنوتية يدونها بالخط المختزل السكرتير الخاص لجو وتقول: اشتر الإسمنت الاسترالي، ولا تنزعج لهبوط أسعار أطعمة الإفطار، تخل عن أربعين في المائة من أسهمك في المطاط واستثمر المال في شركة أ. ب. م وفي وستنجهاوس ...
وسألها ويل: وهل أخبرك عن ذلك السمسار الراحل الذي كان يعرف دائما موقف السوق في الأسبوع التالي؟
وقالت راني منغمسة في أفكارها: هذه مزايا روحية، مجرد مزايا روحية. ماذا كنت تتوقع غير ذلك؟ ومع ذلك فقد كان من المبتدئين فقط. وفي الحياة الراهنة التجارة هي عمله في الدنيا الذي يحاسب عليه «هورما». وقد كتب عليه أن يقوم بما أداه وما يؤديه وما سوف يؤديه. ثم أضافت مؤكدة بعدما توقفت قليلا وكأنها تصغي، ورفعت إصبعها ومالت برأسها وما سوف يؤديه - كما يحدثني صوتي الضعيف - يتضمن أشياء عظيمة وعجيبة هنا في بالا.
ويا لها من طريقة روحية لقولها هذا ما أريد أن يحدث! لا كما أشاء ولكن كما يشاء الله؛ ولحسن المصادفة مشيئة الله تتفق دائما ومشيئتي. وضحك ويل في نفسه ولكنه احتفظ برأسه مستقيما كأشد ما تكون الاستقامة.
وسألها: وهل ينبئك صوتك الضعيف بشيء عن شركة جنوب شرقي آسيا للبترول؟
وأصغت الراني مرة أخرى، ثم أومأت برأسها وقالت: بكل وضوح.
قال ويل: ولكني علمت أن الكولونيل ديبا لا يذكر سوى شركة ستاندارد بكلفورنيا. واستطرد سائلا: وبهذه المناسبة، لماذا تهتم بالا كل هذا الاهتمام بميل الكولونيل إلى شركات البترول؟
وقال مستر باهو بصوت رنان: إن حكومتي تفكر في إطار خطة خمسية للتعاون والتنسيق الاقتصادي بين مجموعة الجزر. - وهل هذا التعاون والتنسيق بين مجموعة الجزر يعني أن تمنح شركة ستاندارد حق الاحتكار؟ - إذا ما كانت شروط شركة ستاندارد أفضل من شروط منافسيها.
وقالت الراني: أو بعبارة أخرى إذا لم يتقدم أحد بعرض مالي أفضل.
وقال لها ويل: كنت قبل مجيئك إلى هنا أتحدث مع موروجان في هذا الموضوع. قلت له إن شركة جنوب شرقي آسيا للبترول مستعدة لأن تعطي راندنج ما تقدمه لها ستاندارد مع زيادة قليلة. - خمسة عشر في المائة زيادة؟ - لنجعلها عشرة في المائة. - لتكن اثني عشر ونصفا في المائة.
ونظر إليها ويل في إعجاب. وكانت - إذا أخذنا في اعتبارنا أنها بلغت المرحلة الرابعة - رائعة حقا.
وقال: سوف يصرخ جو ألديهايد من الألم. ولكنك سوف تحصلين على الاثني عشر في المائة التي تخصك، وأنا على يقين من ذلك.
وقال مستر باهو: سوف يكون هذا بالتأكيد اقتراحا جذابا. - العقبة الوحيدة هي أن حكومة بالا لن تقبله.
وقالت الراني: إن حكومة بالا سوف تتغير سياستها عما قريب. - هل تظنين ذلك؟
وأجابت الراني في نغمة دلت تماما على أن معلوماتها قد أتتها رأسا من فم «السيد»؛ إذ قالت: أنا لا أظن، أنا «أعرف».
وسألها ويل: وهل يساعدنا في شيء عندما تتغير السياسة إذا كان الكولونيل ديبا يوصي بشركة جنوب شرقي آسيا للبترول بكلمة منه طيبة؟ - لا شك في ذلك.
واتجه ويل ببصره إلى باهو: وهل أنت مستعد سيدي السفير أن توصي خيرا لدى الكولونيل ديبا؟
ورد المستر باهو ردا دبلوماسيا مراوغا صاغه في كلمات مركبة كأنه يخاطب جمعية عمومية لإحدى المنظمات الدولية، وذلك حين قال: نعم من ناحية، ولا من ناحية أخرى؛ الأمر من جهة يبدو أبيض، ومن زاوية أخرى يبدو أسود فاحما.
وأصغى ويل في صمت وأدب، واستطاع أن يرى وأن يسمع - من وراء قناع سافونارولا، ومن خلف المنظار الأرستقراطي الذي يغطي عينا واحدة، ومن خلال لغة السفراء - السمسار الشرقي الذي يطلب العمولة، وينتظر النفحة التي يرجوها في ذلة رسمية حقيرة. وكم توعد جلالة الراني التي تنتسب عضوا في جماعة دينية لقاء حماستها لرعاية شركة جنوب شرقي آسيا للبترول؟ إنه يراهن على أن المبلغ كبير جدا، لا لشخصها طبعا، كلا، كلا! ولكن للحملة الدينية، من أجل مجد أكبر لكوت هومي من غير شك.
وقد بلغ مستر باهو نهاية خطابه أمام المنظمة الدولية وذلك حين قال: ويجب لذلك أن يكون مفهوما أن أي عمل إيجابي من جانبه لا بد أن تحكمه الظروف كلما وحينما وإذا تبينت هذه الظروف، وأرجو أن يكون كلامي واضحا.
وأكد له ويل: إنه غاية في الوضوح. وواصل حديثه بصراحة تعمد أن يجافي بها اللياقة قائلا: دعوني أشرح موقفي من هذا الموضوع، كل ما يهمني أنا شخصيا هو المال، ألفان من الجنيهات دون أن أؤدي نظير ذلك عملا ما، وعاما من الحرية لكي أعاون فيه جو ألديهايد في وضع يده على بالا.
وقالت الراني: إن اللورد ألديهايد رجل كريم إلى درجة تلفت النظر.
ووافقها ويل قائلا: نعم تلفت النظر إذا أخذنا في اعتبارنا العمل الضئيل الذي أستطيع أن أقوم به في هذه المسألة. وليست بي حاجة إلى القول إنه يكون أكثر كرما لأي امرئ يقدم له معونة أكبر.
وساد صمت طويل. ومن بعيد كان طائر المينة يدعو في رتابة إلى الانتباه، انتباه إلى الجشع، وانتباه إلى النفاق، وانتباه إلى السخرية الرخيصة ... ثم سمعوا طرقا على الباب.
وقال ويل: ادخل. ثم التفت إلى مستر باهو وقال له: لنواصل هذا الحديث في وقت آخر.
وهز باهو رأسه قبولا.
وأعاد ويل قوله: ادخل.
ودخلت الغرفة فتاة في أواخر العقد الثاني من عمرها تخطو خطى رشيقة وترتدي في نصفها الأسفل ثوبا أزرق اللون وفي أعلى سترة من غير إزار تعري وسطها ولا تغطي إلا حينا بعد حين ثديين في استدارة التفاح، وعلى وجهها الأسمر الناعم ابتسامة تحية صداقة شديدة، وعلى جانبي الابتسامة غمازتان في خديها. وبدأت كلامها بقولها: أنا الممرضة آبو، «رادا آبو» ووقعت عينها على زائري ويل فأسرعت قائلة: عفوا، لم أكن أعرف ...
وأشارت إلى الراني في غير مبالاة.
أما مستر باهو فقد نهض قائما مجاملة منه وصاح في حماسة قائلا: الممرضة آبو. هذا الملاك الصغير المسعف من مستشفى شيفا بورام! يا لها من مفاجأة سارة!
وكان واضحا لويل أن المفاجأة لم تكن البتة سارة للفتاة.
وقالت دون أن تبتسم: كيف حالك يا مستر باهو؟ وسرعان ما التفتت إلى جهة أخرى وبدأت تشغل نفسها بأحزمة الحقيبة المصنوعة من القنب والتي كانت تحملها.
وقال مستر باهو: ربما نسيت يا صاحبة السمو أنني كان لا بد لي في الصيف الماضي من عملية جراحية. ثم قال على وجه التحديد: عملية فتق. وقد اعتادت هذه السيدة الشابة أن تأتيني كل صباح وتقوم بغسلي، وكان ذلك بالضبط في الثامنة وخمس وأربعين دقيقة. وبعد اختفائها كل هذه الشهور ها هي ذي الآن مرة أخرى!
وقالت الراني وكأنها تتلقى وحيا: التزامن جزء من خطة كبرى.
وقالت الممرضة الصغيرة وقد وجهت بصرها إلى أعلى بعيدا عن حقيبة العمل، وهي لا تزال تبتسم: مفروض علي أن أعطي حقنة لمستر فارنبي.
وصاحت الراني وقد غالت في أداء دورها الملكي متظاهرة بالملاطفة والمداعبة قائلة: أوامر الطبيب أوامر لا بد أن تطاع. وأضافت قولها: السمع طاعة. ولكن أين سائقي؟
ونادى صوت مألوف قائلا: سائقك هنا.
وكان موروجان واقفا بالباب وكأنه في جماله صورة لجانيميد،
6
وبدت على وجه الممرضة الصغيرة لمحة من السرور.
وعبرت بمجاملة أخرى، إما يأخذها علامة على الاحترام، وإما يعتبرها استهزاء وسخرية، وذلك حين قالت: أهلا موروجان؛ أقصد يا صاحب السمو.
وقال الفتى بنغمة قصد بها أن تكون التحية عارضة من بعيد: أهلا يا رادا. وسار إلى حيث كانت تجلس أمه مارا بها، وقال: العربة عند الباب، أو الأحرى أن أقول ما تسمينه عربة. وبضحكة تهكمية قال موجها حديثه إلى ويل: إنها من طراز أوستن الصغيرة من إنتاج عام 1954م. وهي أحسن ما يمكن أن يقدمه هذا البلد المتقدم في الحضارة لأفراد العائلة الملكية. وأضاف في مرارة: أما راندنج فتعطي سفيرها بنتلي.
وقال مستر باهو وقد نظر إلى ساعته: هذه البنتلي سوف تأتينا إلى هنا بعد عشر دقائق، فهل لي أن أستسمحك يا صاحبة السمو في الانصراف؟
ومدت الراني يدها، وانحنى نحوها بكل الورع الذي يبديه كاثوليكي مخلص حينما يقبل خاتم الكاردينال، ثم اعتدل قائما والتفت إلى ويل. - أعتقد - وقد أكون مخطئا - أن مستر فارنبي يستطيع أن يحتملني لفترة قصيرة أخرى، فهل أبقى؟
وأكد له ويل أنه يسر لبقائه.
وقال مستر باهو للممرضة الصغيرة: وأرجو ألا يكون هناك اعتراض من الوجهة الطبية.
وقالت الفتاة بنغمة تدل عن وجود موانع قوية لا تقوم على أساس طبي: ليس من الوجهة الطبية.
وبمساعدة موروجان قامت الراني من فوق كرسيها منتصبة، ومدت يدها المحلاة بالجواهر وقالت بالفرنسية: إلى اللقاء يا عزيزي فارنبي. وابتسمت ابتسامة حلوة رأى فيها ويل الخطر الأكيد كل الخطر. - مع السلامة يا مدام.
واتجهت نحو الممرضة وربتت على خدها ومرقت من الغرفة، وتبعها موروجان كالقارب الصغير الذي يسير خلف سفينة كبرى منتفخة الشراع.
الفصل السادس
وبعد أن انغلق الباب وراءهما انفجرت الممرضة الصغيرة وقالت: يا إلهي!
وقال ويل: وأنا على اتفاق تام معك.
وتلألأ الضوء الفولتيري لحظة على وجه باهو الإنجيلي، وكرر قوله: يا إلهي! ثم أردف قائلا: ذلك ما تفوه به تلميذ إنجليزي عندما رأى الهرم الأكبر لأول مرة. والراني تترك في الرائي نفس الأثر؛ إنها أشبه بالأثر الضخم. وأخذ الضوء المتلألئ يختفي وعاد وجه باهو كوجه سافونارولا تماما لا لبس فيه، وأمست كلماته - بصورة واضحة - صالحة للنشر.
وبدأت الممرضة الصغيرة فجأة تضحك.
وسألها ويل: ما يضحكك؟
فقالت وهي تلهث: لقد شهدت «الهرم الأكبر» بغتة مرتديا الموصلين الأبيض. وهو الرداء الذي يسميه الدكتور روبرت الكسوة الصوفية.
وقال مستر باهو: وصف بارع، بارع جدا. ومع ذلك فقد أضاف بصيغة دبلوماسية: لست أرى لماذا لا يلبس المتصوفون الكساوي البيضاء إن راق لهم ذلك.
وتنهدت الممرضة الصغيرة تنهدا عميقا، ومسحت دموع الفرح التي تقاطرت من عينيها، وشرعت تستعد لإعطاء المريض حقنته.
ووجهت خطابها إلى ويل قائلة له: أعرف تماما ما يدور في خلدك. أنت تراني أصغر من أن أتقن عملا. - أنا بالطبع أرى أنك صغيرة جدا. - أنتم تلتحقون بالجامعة في الثامنة عشرة وتمكثون بها أربع سنوات. أما نحن فنبدأ في السادسة عشرة ونواصل الدراسة حتى الرابعة والعشرين؛ ننفق نصف الوقت في الدراسة ونصفه الآخر في العمل. كنت أدرس علم الأحياء وأقوم في نفس الوقت بهذا العمل لمدة عامين؛ ولذلك فلست بتلك الغفلة التي قد تبدو لك. والواقع أنني ممرضة أتقن عملي.
وقال مستر باهو: هذا كلام أؤيده بغير تحفظ. الآنسة رادا ليست فقط ممرضة تتقن عملها، بل هي ممرضة من الطراز الأول قطعا.
غير أن ما عناه حقا - كما تيقن ويل وهو يتمعن في الملامح التي بدت على ذلك الوجه الذي يشبه وجه الراهب أمام الإغراء الشديد - هو أن الآنسة رادا كان لها خصر من الطراز الأول، وسرة من الطراز الأول، وثديان من الطراز الأول. ولكن صاحبة السرة والخصر والثديين قد استنكرت - كما بدا بوضوح - إعجاب سافونارولا، أو استنكرت على الأقل الأسلوب الذي عبر به عن إعجابه. وقد غالى السفير الذي قابلته بالصدود في أمله في رد الهجوم.
وأشعلت الممرضة المصباح الغازي لتغلي الإبرة فوق ناره. وكانت في هذا الوقت تقيس حرارة مريضها.
وقالت: 99,2.
وسألها مستر باهو: وهل يعني ذلك أني لا بد أن أبعد؟
وردت عليه الفتاة بقولها: ليس بسببه.
قال ويل: لذلك أرجوك أن تبقي.
وأعطته الممرضة الحقنة المضادة للحيويات، وأخرجت من إحدى الزجاجات التي كانت في حقيبتها سائلا أخضر اللون وصبت منه ملء ملعقة ورجت المحلول في نصف كوب من الماء. - اشرب هذا.
وكان مذاقه شبيها بالمخلوطات العشبية التي يستبدلها بالشاي المتحمسون للتغذية الصحية.
وسألها ويل: ما هذا؟
وقالت: إنه مستخرج من نبات جبلي من فصيلة الناردين (عقار مهدئ للأعصاب).
واستطردت الممرضة الصغيرة قائلة: إنه يساعد على إزالة القلق دون أن يحمل من يتعاطاه على النوم. ونحن نعطيه للناقهين، كما أنه يفيد في الحالات العقلية. - ومن أي الفئتين أكون؟ العقليين أم الناقهين؟
وردت بغير تردد: كلتيهما.
وضحك ويل ضحكة عالية وقال: هذا جزاء من يطلب الثناء.
وأكدت له أنها لم تقصد أن تكون فظة في كلامها. وأضافت: كل ما قصدت أني لم أقابل قط إنسانا من الخارج ليس حالة من الحالات العقلية. - ومنهم السفير؟
ووضعت السائل موضع المسئول حين قالت: وما رأيك أنت؟
وأحال ويل الأمر إلى مستر باهو وقال له: أنت خبير في هذا المجال.
وقالت الممرضة الصغيرة: سويا الأمر بينكما؛ إذ علي أن أنصرف لكي أعد طعام المريض.
وراقبها مستر باهو وهي تنصرف، ثم رفع حاجبه الأيسر وأسقط منظاره وشرع بطريقة نظامية في تنظيف العدسة بمنديله، وقال لويل: أنت منحرف بصورة ما، وأنا منحرف بصورة أخرى. أنت فصامي «ألست كذلك؟» وأنا - من الطرف الآخر في الدنيا - مصاب بجنون العظمة. وكلانا من ضحايا أوبئة القرن العشرين. وليس الوباء هذه المرة هو «الموت الأسود»، إنما هو «الموت الرمادي». وبعد لحظة من الصمت سأل صاحبه: ألم تهمك السلطة في أي وقت من الأوقات؟
وهز ويل رأسه مؤكدا وقال: مطلقا، لا يمكن للمرء أن يملك السلطة ولا يلتزم. - والفزع من الالتزام بالنسبة إليك أشد من المتعة التي تحسها في إزاحة الناس من حولك؟ - بآلاف المرات. - ولذلك لم تكن السلطة تغريك في أي وقت من الأوقات.
وقال ويل: أبدا. وبعد فترة من السكون أضاف بنغمة أخرى: دعنا نتحدث في العمل.
وردد باهو قوله: إلى العمل. اذكر لي شيئا عن اللورد ألديهايد. - إنه، كما قالت الراني، رجل كريم بشكل ملحوظ. - لا تهمني فضائله، يهمني ذكاؤه فقط. إلى أي حد هو حاد الذكاء؟ - تبلغ به حدة الذكاء أن يدرك أن المرء لا يؤدي عملا بغير مقابل.
وقال مستر باهو: حسنا. انقل له عني أن العمل الفعال الذي يقوم به الخبراء في المواضع الاستراتيجية يقتضيه أن يتأهب لكي يدفع لك على الأقل عشرة أمثال ما سوف يدفعه لك. - سوف أحرر له خطابا بهذا الشأن.
ونصحه مستر باهو «أن يفعل ذلك اليوم»، وأضاف: لأن الطائرة تغادر شيفا بورام غدا مساء، ولن يصدر بعد ذلك بريد لمدة أسبوع كامل.
وقال ويل: أشكرك على ما أخبرتني به. والآن بعدما انصرفت صاحبة السمو وذلك المراهق الذي يصدم لكل شيء دعنا نتحدث في لون آخر من الإغراء. ماذا ترى في الجنس؟
وبيد عظمية سمراء تتحرك إلى الأمام وإلى الخلف أمام وجهه قام مستر باهو بحركة تشبه ما يفعله المرء عندما يريد أن يتخلص من مجموعة من الحشرات المزعجة وقال: الجنس لا يعدو أن يكون لونا من ألوان التسلية. وهو مصدر للإغاظة يضايق ويذل. ولكن الرجل الذكي يستطيع دائما أن يتصدى له.
وقال ويل: ما أشق أن يدرك المرء رذائل الآخرين! - صدقت، وعلى المرء أن يلتزم بالخطأ الذي يبتليه الله به؛ وهذا ما كان ينصح به لوثر. ومن المهم ألا يأثم المرء غير إثمه، لا إثم غيره. وفوق هذا كله لا تفعل ما يفعله أهل هذه الجزيرة. لا تحاول أن تتصرف وكأنك بالضرورة عاقل وبالطبيعة فاضل. كلنا آثم معتوه نركب سفينة واحدة والسفينة غارقة دائما. - وعلى الرغم من ذلك فإنه ليس لمخلوق مهما يكن تافها أن يترك السفينة. هل هذا ما تريد أن تقول؟ - قليل منهم يحاول أحيانا أن يتركها، ولكنهم لا يذهبون بعيدا. فإن التاريخ والمخلوقات التافهة الأخرى يتكفلون بإغراقهم مع الآخرين؛ ولذلك ليس لبالا أدنى فرصة.
وعادت إلى الغرفة الممرضة الصغيرة حاملة صينية.
وقالت وهي تربط ممسحة حول عنق ويل: هذا كله طعام بوذي ما خلا السمك. ولكننا قررنا أن تكون الأسماك من الخضروات من الناحية العملية.
وشرع ويل في تناول الطعام.
وبعدما ابتلع ما ملأ به فاه أولا سألها قائلا: كم من الأجانب قابلت في حياتك باستثناء الراني وموروجان وأنا وصاحبي هنا؟
وأجابت قائلة: قابلت مجموعة الأطباء الأمريكان، جاءوا إلى شيفا بورام في العام الماضي حينما كنت أعمل بالمستشفى المركزي. - وماذا كانوا يفعلون هنا؟ - أرادوا أن يعرفوا لماذا تنخفض عندنا نسبة الإصابة بالأمراض العصبية والشرايين القلبية؛ عجبا لهؤلاء الأطباء! وهزت رأسها ثم قالت: لقد أفزعوني حقا يا مستر فارنبي، وأفزعوا كل من بالمستشفى. - ولذلك أنت ترين أن الطب عندنا بدائي جدا. - هذا وصف خاطئ؛ إنه ليس بدائيا؛ إنه إما مريع وإما منعدم. المضادات الحيوية مدهشة؛ ولكن ليست هناك البتة وسائل لزيادة المقاومة حتى لا تعود للمضادات الحيوية ضرورة. والعمليات الجراحية خيالية؛ ولكن إذا نظرنا إلى تعليم الناس كيف يسلكون في حياتهم دون أن تقطع من جسمهم أجزاء لم نجد شيئا بتاتا. وهكذا على طول الخط. درجة الامتياز لرتقك إذا تقطعت أوصالك، وفشل ذريع في الحفاظ على صحتك. إذا استبعدنا نظم المجاري والفيتامينات المركبة يبدو أنكم لم تفعلوا البتة شيئا في سبيل الوقاية، ومع ذلك يقول المثل عندكم الوقاية خير من العلاج.
قال ويل: ولكن العلاج يدعو إلى الإعجاب أكثر مما تدعو إليه الوقاية. كما أنه يجلب للأطباء كسبا أكثر.
وقالت الممرضة الصغيرة: ربما صح ذلك بالنسبة للأطباء عندكم، ولكنه لا يصح عندنا؛ فأطباؤنا يتقاضون أجورهم للحفاظ على صحة الناس. - وكيف يتم ذلك؟ - لقد سألنا أنفسنا هذا السؤال مائة عام، ووجدنا له إجابات عدة، إجابات كيماوية، وإجابات سيكولوجية، وإجابات تتعلق بما تأكل، وكيف تمارس الحب، وما تسمع وما ترى، وإحساسك بمن تكون في هذا العالم. - وأي الإجابات أفضل؟ - لا تكون إحداها أفضل بغير الإجابات الأخرى. - أي إنه ليس لديكم دواء لكل داء. - وهل يمكن أن يكون هناك؟! ثم روت الأنشودة الصغيرة التي تحفظها كل طالبة تمريض عن ظهر قلب منذ اليوم الأول من تدريبها، وهي:
أنا جمهور،
أخضع لعدد من القوانين،
بمقدار ما عندي من أفراد،
كل كائناتي كيمائيا ملوثة،
وليس هناك علاج واحد،
لما يستحيل أن يخضع لسبب واحد.
ولذلك فنحن نحارب في جميع الجبهات، سواء كان الأمر وقاية أم علاجا. وأكدت قولها: جميع الجبهات؛ من نظام التغذية إلى الإيحاء الذاتي، ومن الأيونات السلبية إلى التأمل والتفكير.
وعلق على ذلك ويل بقوله: معقول جدا.
وقال باهو: ربما كان أكثر من معقول. هل حاولت مرة أن تتكلم كلاما معقولا مع مجنون؟ وهز ويل رأسه: أنا فعلت ذات مرة. ورفع خصلة الشعر التي وخطها المشيب والتي كانت تميل إلى أحد جانبي جبهته، وظهر تحت حد الشعر أثر جرح مثلم، شاحب اللون غريب الشكل وسط البشرة السمراء. وقال: لحسن حظي أن الزجاجة التي رماني بها كانت رقيقة جدا. وسوى شعره المنفوش ووجه بصره نحو الممرضة الصغيرة. وكان وجهه يتلألأ كله بنوع من المرح الفولتيري المريب وهو يقول: لا تنسي يا آنسة رادا أن لا شيء يطير بصواب من لا عقل له أكثر من العقل. وبالا جزيرة صغيرة يحيط بها إحاطة كاملة ألفان وتسعمائة مليون من مرضى العقول؛ ولذلك حذار من المبالغة في التعقل. وفي بلد المجانين لا يمكن أن يصبح العقل الكامل ملكا. إنهم يعدمونه بغير محاكمة.
وضحك ويل غير مبال، ثم صوب نظره مرة أخرى نحو الممرضة الصغيرة، وسألها: أليس لديكم من يطلب دخول مستشفى الأمراض العقلية؟ - عندما مثل ما عندكم؛ أقصد بالنسبة لعدد السكان. على الأقل هذا ما ورد في الكتب الدراسية. - ولذلك فإن السكنى في دنيا العقلاء لا تختلف عن السكنى في دنيا غير العقلاء. - ليس الأمر كذلك مع أولئك الذين تجعلهم كيمياء أبدانهم من مرضى العقول. هؤلاء يولدون عرضة للمرض. والمتاعب الصغيرة التي قد لا يلاحظها غيرهم تحطمهم تماما. ولقد بدأنا من عهد قريب فقط نكشف عن الأسباب التي تجعلهم عرضة للمرض، وبدأنا نتبناهم قبل أن ينهاروا. وما إن تم فرزهم حتى أمكننا أن نزودهم بقدر من المناعة. الوقاية كما ذكرت من قبل؛ وطبعا من جميع الجبهات في وقت واحد. - إذن فهناك فارق - حتى لمن قدر لهم أن يكونوا من مرضى العقول - بين أن يولد الإنسان في عالم عاقل أو أن يولد في عالم غير عاقل. - وهناك أيضا فارق بالنسبة للمصابين بأمراض عصبية. نسبة مرضى الأعصاب عندكم واحد لكل خمسة أو حتى أربعة. أما عندنا فالنسبة واحد لكل عشرين. وهذا الواحد المنهار يجد العلاج، في جميع الجبهات. أما التسعة عشر الذين يتماسكون فقد وجدوا الوقاية في جميع الجبهات. ويعود بي هذا الحديث إلى أولئك الأطباء الأمريكان، وكان ثلاثة منهم من أطباء العلاج النفساني، وأحد هؤلاء يدخن السيجار بغير توقف وفي لغته لكنة ألمانية. وقد وقع عليه الاختيار لكي يحاضرنا. ويا لها من محاضرة! وأمسكت الممرضة الصغيرة برأسها بين كفيها وقالت: لم أسمع قط شيئا مثلها. - في أي موضوع كانت؟ - كانت عن طريقة معالجتهم لمن تبدو عليهم أعراض عصبية. ولم نكد نصدق ما سمعنا. إنهم لا يحاربون أبدا في جميع الجبهات، إنما يحاربون في نصف جبهة واحدة. المريض عندهم لا جسم له إذا استثنيا الفم والشرج. إنه ليس كائنا عضويا، ولم يولد بهيكل عام أو بمزاج خاص. كل ما لديه طرفا جهاز هضمي، وأسرة، ونفس. ولكن أي نفس؟ إنها قطعا ليست العقل كله، أي ليست العقل كما هو على حقيقته. وكيف يمكن أن تكون كذلك في حين أنهم لا يأخذون تشريح بدن المريض في اعتبارهم، أو تركيبه الكيماوي الحيوي، أو وظائف أعضائه؟ العقل مستخلص من الجسد، هذه هي الجبهة الوحيدة التي يحاربون فيها، بل وليس في هذه الجبهة بأسرها، واستمر الرجل صاحب السيجار يتحدث عن اللاشعور. ولكن اللاشعور الذي أعاروه انتباههم هو اللاشعور السلبي؛ أي النفايات التي يحاول الفرد أن يتخلص منها بإلقائها في القاع، ولم يذكر كلمة واحدة عن اللاشعور الإيجابي، ولم يحاولوا مساعدة المريض على أن يفصح عن مكنون نفسه لدفعة الحياة أو لطبيعة بوذا. بل ولم يحاولوا أن يعلموه زيادة الوعي في حياته اليومية. وأنت تعرف نداء المينة: الآن في هذا المكان، وانتباه! وحاكت في ذلك طيور المينة، ثم واصلت حديثها قائلة: هؤلاء القوم يكتفون بترك مريض الأعصاب البائس يتمرغ في عاداته القديمة التي لا تجعله بكليته في مكانه وزمانه. والأمر من أوله إلى آخره بلاهة في بلاهة! والعجيب أن صاحب السيجار لم يعترف بذلك، وكان ماهرا في عرضه غاية المهارة؛ ومن ثم فإن الأمر عنده ليس بلاهة، إنما هو بالضرورة شيء إرادي، شيء ما يدفع المريض نحو مسلكه؛ كأن يكون مخمورا، أو أن يلوك لنفسه فكرة سخيفة حتى يعتقد في صحتها لمجرد ورودها في كتاب مقدس. ثم انظر إلى رأيهم فيما هو طبيعي. صدق أو لا تصدق أن الرجل العادي عندهم هو من يشعر باللذة الجنسية والذي يتكيف مع المجتمع. ومرة أخرى وضعت الممرضة رأسها بين راحتيها. ثم أضافت: إن ذلك أمر لا يتصوره العقل! إنهم لا يفكرون في جدوى اللذة الجنسية، ولا يفكرون في لون مشاعرك أو آرائك أو مدركاتك، ثم ماذا عن المجتمع الذي يفترضون تكيفك معه؟ هل هو مجتمع عاقل أو مجنون؟ وحتى إن كان عاقلا بدرجة قصوى، فهل من الصواب أن تتكيف معه تماما؟
وقال السفير وعلى شفتيه ابتسامته المتلألئة: من يرد الله لهم الدمار يجعلهم مجانين. وتستطيع أن تقلب القضية وتقول يجعلهم عقلاء؛ وربما كان هذا الوضع المقلوب أبعد أثرا. ثم نهض المستر باهو وسار نحو النافذة وقال: لقد وصلت عربتي، ولا بد لي من العودة إلى شيفا بورام وإلى مكتبي. والتفت إلى ويل وحياه مودعا لفترة طويلة وبعبارات بليغة، وعندئذ تخلى عن صفة السفارة وقال لويل: لا تنس أن تحرر الخطاب؛ إنه غاية في الأهمية. وتبسم تبسم المتآمر وحرك إبهام يمناه على الإصبعين الأولين، وكأنه يعد المال غير المنظور.
وبعدما انصرف قالت الممرضة الصغيرة: الحمد لله. واستوضحها ويل: بم أساء؟ أليس هذا أمرا عاديا؟
قالت: تقدم مالا لامرأة تريد أن تضاجعها؛ وهي لا تحبك، فتعرض عليها مزيدا من المال. هل هذا من الأمور العادية في البلد الذي وفد منه؟
وأكد لها ويل: إن ذلك أمر عادي إلى أبعد الحدود. - ولكني لم أستحسنه. - لقد لمست ذلك. وإليك سؤالا آخر. ماذا عن موروجان؟ - وما يدفعك إلى هذا السؤال؟ - حب الاستطلاع. وقد لاحظت أنكما التقيتما من قبل. فهل كان ذلك عندما كان هنا منذ عامين وحده بغير أمه؟ - وكيف عرفت ذلك؟ - حدثني عصفور صغير، وعلى الأصح عصفور ضخم جدا. - الراني! لا بد أنها روت لك القصة وكأنها تروي عن سدوم وعمورية. - ولكن لسوء حظي أنها حجبت عني التفصيلات المثيرة. مجرد تلميحات غامضة؛ ذلك كل ما باحت به لي، تلميحات - مثلا - عن نساء محنكات من أمثال ميسالينا (إمبراطورة رومانية خانت زوجها) يعطين دروسا في الحب للشبان السذج. - وهل كان بحاجة إلى هذه الدروس؟! - وتلميحات أيضا عن فتاة في مثل سنه فوضوية نضجت قبل الأوان.
وانفجرت الممرضة آبو ضاحكة. - هل تعرفينها؟ - هذه الفتاة الفوضوية التي نضجت قبل الألوان هي أنا. - أنت؟ وهل الراني على علم بذلك؟ - إن موروجان ذكر لها الوقائع، ولم يذكر لها الأسماء، وأنا من أجل ذلك شكورة جدا؛ فلقد سلكت سلوكا سيئا؛ فقد صوابي لشخص لم أحبه في الواقع وآذيت شخصا آخر أحببته. لماذا يكون الإنسان غبيا بهذه الدرجة؟
قال ويل: للقلب أسبابه، وللهرمونات أسبابها.
وساد صمت طويل. وقد انتهى من تناول السمكة المسلوقة الباردة ومن الخضروات، وناولته الممرضة آبو طبقا من سلطة الفواكه.
قالت: إنك لم تر موروجان قط مرتديا بيجامته الساتان البيضاء. - هل فاتني شيء هام؟ - إنك لا تتصور كم يبدو جميلا فيها. وليس لأحد الحق في أن يكون على هذا القدر من الجمال. إنه يتنافى مع الحشمة، ويعطي صاحبه امتيازا على غيره بغير حق.
إن رؤيته في هذه البيجاما الساتان البيضاء التي حصل عليها من «سلكا» هي التي حملتها في النهاية على أن تفقد صوابها. وقد فقدته فقدانا تاما إلى حد أنها تحولت إلى شخص آخر خلال شهرين؛ وأمست فتاة حمقاء تطارد شخصا لا يطيقها وتهجر شخصا أحبها دائما كما أحبته دائما.
وسألها ويل: إلى أي حد وصلت مع الفتى الذي ارتدى البيجاما؟
أجابت: حتى الفراش. ولكني لما بدأت أقبله قفز من فراشه وأغلق على نفسه الحمام، وأصر على ألا يخرج منه حتى أناوله بيجامته من خلال النافذة وأعده وعدا شريفا أني لن أضايقه. والآن أرى ما حدث أمرا يدعو إلى الضحك. أما في ذلك الحين ... وهزت رأسها واستكملت حديثها: فقد كانت مأساة كبرى، ولا بد أنهم قدروا من مسلكي بعد ذلك ما حدث. واتضح أن الفتيات الفوضويات اللائي ينضجن قبل الأوان لا يصلحن، وأن ما هو بحاجة إليه دروس نظامية.
قال ويل: أنا أعرف بقية القصة؛ الابن يكتب لأمه، والأم تعود بالطائرة إلى الوطن وتنقله فورا إلى سويسرة. - ولم يعودا إلا منذ نحو ستة أشهر. وقد قضيا على الأقل نصف هذه الفترة في راندنج في ضيافة عمة موروجان.
وأوشك ويل أن يذكر الكولونيل ديبا. غير أنه تذكر أنه وعد موروجان أن يكون حريصا فلزم الصمت.
وسمع صوت صفارة آتيا من الحديقة.
وقالت الممرضة الصغيرة: عن إذنك. واتجهت نحو النافذة، وابتسمت سعيدة بما رأت ولوحت بيدها وقالت: هذا رانجا. - ومن هو رانجا؟ - صديقي الذي حدثتك عنه. إنه يريد أن يوجه إليك بعض الأسئلة. فهل تسمح له بالدخول دقيقة واحدة؟ - طبعا.
وعادت إلى النافذة ولوحت له بحركة استدعاء. - أفهم من ذلك أن البيجاما الساتان البيضاء قد اختفت نهائيا من الصورة؟
وأومأت برأسها إيجابا وقالت: لقد كانت مأساة من فصل واحد، وسرعان ما استرجعت صوابي. وعندما استرجعته وجدت رانجا - كما كان دائما - في انتظاري.
وانفتح الباب على مصراعيه وولج الغرفة شاب طويل نحيل في حذاء الألعاب الرياضية وفي سروال خاكي قصير.
وقال معرفا نفسه وهو يصافح ويل: أنا رانجا كاركاوران.
وقالت رادا: لو أنك تعجلت حضورك خمس دقائق لسرك أن تلتقي بمستر باهو.
وكشر رانجا مشمئزا وقال: وهل كان هنا؟
وسأل ويل: وهل هو على هذه الدرجة من السوء؟
وأخذ رانجا يعدد اتهاماته وقال: أولا: هو يكرهنا. ثانيا: هو تابع حقير خاضع للكولونسل ديبا. ثالثا: هو سفير غير رسمي لجميع شركات البترول. رابعا: هذا الخنزير الحقير حاول أن يتصل برادا. خامسا: أنه يطوف هنا وهناك محاضرا في ضرورة الإحياء الديني، بل لقد نشر فيه كتابا كاملا قدم له شخص في مدرسة هارفاد للاهوت. وهو جزء من الحملة التي تشن ضج استقلال بالا. إن ديبا يخفي سيئاته في دعواته للإيمان بالله. لماذا لا يعترف المجرمون بما يقترفون؟ كل هذا الكلام تافه عن المثالية يسبب الغثيان.
ومدت رادا يدها وقرصت أذنه ثلاث قرصات قوية.
فبدا عليه الغضب أولا ثم انفجر ضاحكا وهو يقول: أيتها الصغيرة ... أنت على حق. ومع ذلك فلم تك بك حاجة إلى قرص أذني بهذه الشدة.
واستوضح ويل راندا: هل هذا هو ما تفعلين دائما كلما حاد عن الخط المستقيم؟ - كلما حاد عنه في وقت غير ملائم أو لأمور ليس بوسعه أن يصنع فيها شيئا.
واتجه ويل نحو الفتى وسأله: وهل لا بد لك دائما من أن تقرص أذنها؟
وضحك رانجا وقال: أنا أوثر أن أضربها على عجزها. ولكن لسوء الحظ أنها قلما تكون بحاجة إلى ذلك. - وهل معنى ذلك أنها أكثر اتزانا منك؟ - أكثر اتزانا؟ إنها عاقلة بدرجة غير عادية. - وأنت عاقل بالدرجة المطلوبة؟
وهز رأسه وقال: ربما انحرفت عن الوسط قليلا إلى اليسار؛ فأنا أحيانا أصاب باكتئاب شديد؛ أحس أنني لا أصلح لشيء.
قالت راندا: في حين أنه في الواقع جيد إلى درجة أنهم أعطوه منحة لدراسة الكيمياء الحيوية بجامعة مانشستر. - وماذا تصنعين به عندما يقوم إزاءك بهذه الحيل اليائسة التي لا يرتكبها إلا آثم بائس؟ تشدين أذنيه؟
قالت: نعم أفعل ذلك كما أفعل أشياء أخرى. وتبادلت مع رانجا النظرات، ثم انفجرا ضاحكين.
قال ويل: كفى، كفى. واستطرد قائلا: وهذه الأشياء الأخرى - بحكم طبيعتها - تعني تطلع رانجا إلى مغادرة بالا لمدة عامين؟
قال رانجا: ليس إلى هذا الحد.
وقالت راندا في ثبات: ولكن لا بد له من الذهاب.
وقال ويل متعجبا: وهل سيكون سعيدا عندما يذهب إلى هناك؟
قال رانجا: ذلك ما أردت أن أسألك عنه. - لن يعجبك الجو، ولن يعجبك الطعام، ولن تعجبك الضوضاء ولا الروائح ولا العمارة. ولكنك سوف بالتأكيد تعجب بالعمل، وأرجح أنك سوف تحب عددا لا بأس به من الناس.
وسألت رادا: وماذا عن الفتيات؟
وأجاب: كيف تريدينني أن أرد على هذا السؤال؟ نفاقا أم صدقا؟ - صدقا. - الحق يا عزيزتي أن رانجا سوف ينجح في هذا المجال نجاحا باهرا. وعشرات الفتيات سوف يجدنه فاتنا بدرجة لا تقاوم، وبعض هؤلاء الفتيات فاتن. فكيف يكون شعورك إذا عجز عن المقاومة؟ - سوف أسر له.
والتفت ويل إلى رانجا وسأله: وهل يسرك إذا التمست عزاءها مع شاب آخر أثناء غيابك؟
قال: أود أن أكون مسرورا. أما إن كنت أسر فعلا فذلك أمر آخر. - هل سوف تطلب إليها أن تعدك بالوفاء؟ - لن أطالبها بأي وعد. - حتى مع كونها فتاتك؟ - إنها ملك نفسها.
وقالت الممرضة الصغيرة: وهو ملك نفسه له الحرية أن يفعل ما يريد.
وتذكر ويل الفجوة القرنفلية التي كانت تضم سرير بابز وضحك من الأعماق، وأضاف قوله: وله الحرية فوق هذا في أن يفعل ما لا يريد. وألقى نظرة على وجه رانجا ثم على وجه رادا، ولحظ أنهما يرمقانه في دهشة، واستطرد قائلا بنغمة أخرى وبابتسامة مختلفة: ولكني نسيت. أحدكما عاقل بدرجة غير عادية والآخر يميل عن الوسط قليلا إلى اليسار؛ ولذلك فأنتما لا يمكن أن تتفهما ما يتحدث عنه صاحب حالة عقلية مستوردة، مثلي. ودون أن يعطيهما الفرصة لكي يجيبا عن سؤاله سألهما: خبراني، منذ متى ... وكف عن الكلام، ثم قال: ربما كنت في سؤالي غير حكيم. فإن كان الأمر كذلك قولا لي لا تتدخل فيما لا يعنيك. ولكني أود أن أعرف منذ متى قامت بينكما الصداقة، باعتباري من المهتمين بدراسة الإنسان.
وسألته الممرضة الصغيرة: هل تعني صديقين أم تعني عاشقين؟ - ولماذا لا تكونان هذا وذاك ونحن بصدد هذا الحديث؟ - لقد قامت بيننا الصداقة منذ ما كنا طفلين صغيرين، ثم أصبحنا عاشقين منذ ما بلغت الخامسة عشرة والنصف وبلغ هو السابعة عشرة لمدة عامين ونصف العام؛ إذا طرحنا عن اعتبارنا قصة البيجاما البيضاء. - وهل لم يعترض أحد؟ - ولماذا يعترض؟
وردد ويل بعدها: فعلا لماذا؛ ولكن الواقع أن كل امرئ في الجزء من العالم الذي جئت منه يعترض فعلا.
وسأل رانجا: وماذا عن الفتيان الآخرين؟ - نظريا هذا أمر أشد تحريما مما هو في حالة الفتيات، وعمليا، تستطيع أن تتصور ما يحدث عندما يتجمع خمسمائة أو ستمائة صبي مراهق في مدرسة داخلية. هل يحدث مثل هذا هنا؟ - طبعا. - إني أتعجب. - تتعجب؟ لماذا؟ - لأن البنات لسن محرمات. - ولكن نوعا من العشق لا يستبعد النوع الآخر. - وكلاهما مشروع؟ - بالطبع. - إذن ما كان لأحد أن يكترث إذا شغف موروجان بصبي آخر يرتدي البيجاما؟ - إذا كانت العلاقة طيبة.
وقالت رادا: ولكن الراني - لسوء الحظ - قد احتاطت لذلك احتياطا شديدا بحيث لم يكن له أن يهتم بأحد غيرها وغير نفسه بطبيعة الحال. - لا فتية. - ربما يحدث ذلك اليوم، لست أدري. كل ما أعلمه أنه في أيامنا لم يكن في دنياه فتية. لا فتية، ولا فتيات بالتأكيد. لم يكن في حياته غير أمه والعادة السرية والأسياد الصاعدون. ولم تكن في حياته سوى أسطوانات الجاز والعربات الرياضية والآراء الهتلرية بأن يكون زعيما عظيما يحول بالا إلى ما يسميه الدولة الحديثة.
قال رانجا: منذ ثلاثة أسابيع كان هو والراني بالقصر في شيفا بورام. ووجها الدعوة إلى جماعة منا من طلاب الجامعة لزيارة القصر والاستماع إلى آراء موروجان؛ في البترول والتصنيع، والتلفزيون، والتسليح، والحملة الروحية. - وهل استطاع أن يهدي أحدا إلى مذهبه؟
وهز رانجا رأسه وقال: لماذا يستبدل أي إنسان شيئا سيئا هزيلا مملا بشيء دسم جيد شائق إلى أبعد الحدود؟ إننا لسنا بحاجة إلى زوارقكم السريعة أو إلى تلفزيونكم، وحروبكم وثوراتكم، ونهضتكم، وشعاراتكم السياسية، وذلك الكلام الفارغ الميتافيزيقي الذي يصدر عن روما وموسكو. هل لم تسمع من قبل بفكرة ماثيونا؟ - وما تلك؟
وأجاب رانجا: دعنا نبدأ من الخلفية التاريخية. وبحذلقة طالب الجامعة حينما يلقي محاضرة في موضوعات لم يسمع بها هو نفسه إلا أخيرا تدفق في الحديث قائلا: لقد وفدت البوذية إلى بالا منذ نحو ألف ومائتي عام، ولم تفد إليها من سيلان، كما كان يتوقع، ولكن من البنغال، وعن طريق البنغال فيما بعد من التبت. وترتب على ذلك أننا صرنا من أتباع ماهاياما،
1
وتتشبع بوذيتنا بمبادئ تانترا.
2
هل تعرف ما هي تانترا ؟
واضطر ويل إلى أن يعترف بأنه ليس لديه عنها إلا فكرة غامضة.
وضحك رانجا ضحكة اخترق بها حاجز الحذلقة الذي اصطنعه وقال: في الواقع إن علمي بها لا يزيد عن علمك بها إلا قليلا. تانترا موضوع ضخم، وأكثر ما به في ظني سخف وخرافة لا تستحق الاكتراث، ولكنها لا تخلو في صميمها من المعنى. التانتري لا ينبذ الدنيا ولا ينكر قيمتها. لا يهرب في نيرفانا
3
بعيدا عن الحياة، كما يفعل رهبان المدرسة الجنوبية. كلا، في التانترا يقبل المرء العالم ويفيد منه، وهو يفيد من كل ما يصنع ومن كل ما يحدث له، ومن كل ما يسمع ويرى ويلمس ويتذوق، فكلها وسائل لتحريره من سجن نفسه.
وقال ويل في نغمة معتدلة تنم عن الشك: هذا حديث طيب.
وفي إصرار قال رانجا: وهناك أشياء أخرى غير ذلك.
وأضاف - وقد تحولت حذلقة الشباب إلى حماسة الشاب الذي يعتنق مذهبا حديثا: وهذا هو الفارق بين فلسفتنا وفلسفتكم؛ فلاسفة الغرب - حتى خيارهم - ليسوا إلا محدثين يجيدون الحديث. أما فلاسفة الشرق فهم في الأغلب محدثون لا يجيدون الحديث. غير أن هذا أمر لا يهم؛ فالكلام ليس هو المقصود. فلسفتهم براجمية (عملية) وممكنة التطبيق، وهي شبيهة بفلسفة الفيزياء الحديثة؛ غير أن التطبيقات فيها نفسية والنتائج تجاوز الطبيعة. الميتافيزيقيون عندكم يصدرون أحكاما عن طبيعة الإنسان والكون، ولكنهم لا يقدمون للقارئ أية وسيلة لاختبار مدى الصدق في هذه الأحكام. أما نحن فإذا أصدرنا أحكاما تابعناها بمجموعة من العمليات التي نستخدمها لاختبار مدى الصدق فيما نقول. خذ مثالا لذلك قولنا: «أنت هكذا»، وهو لب فلسفتنا، وكرر العبارة: «أنت هكذا»، وقال: وما أشبه ذلك بالفرض في الميتافيزيقا. ولكن ما يعنيه حقا هو التجربة النفسية، ويصف الفلاسفة عندما العمليات التي يمكن للمرء عن طريقها أن يعيش التجربة، بحيث يمكن لأي فرد يرغب في أداء العمليات اللازمة أن يختبر بنفسه صدق العبارة: أنت هكذا. وهذه العمليات يسمونها يوجا أو ديانا أو زن أو - في حالات معينة خاصة - ماثيونا. - ويؤدي بنا هذا إلى سؤالي الأول، وما هي الماثيونا؟ - ربما كان من الأفضل أن توجه هذا السؤال إلى رادا.
والتفت ويل نحو الممرضة الصغيرة وسألها: ما هي؟
وأجابت في جد ورزانة: هي يوجا الحب. - مقدسة هي أم دنسة؟ - لا فرق بين الأمرين.
وأضاف رانجا: هذا هو المهم. حينما تمارس الماثيونا، تجد أن الحب الدنس هو الحب المقدس.
وروت الفتاة نصا بالسنسكريتية. - لا تعبري بالسنسكريتية! ماذا تعنين؟ - ترجم يا راندا. - صفة الاستنارة.
وأومأت راندا برأسها موافقة والتفتت ثانية نحو ويل، وقالت: المعنى أن التبوذ (أي أن تكون بوذا) موجود في يوني. - في يوني؟ وتذكر ويل الرموز الحجرية للأنثى الخالدة التي اشتراها هدايا للفتيات اللائي كن يعملن بمكتبه من بائع أحدب في بنارس، وكان يدفع ثمان أنات (عملة هندية) ثمنا لليوني السوداء، واثنتي عشرة للتمثال الأكبر قداسة وهو يوني لنجام، ثم سأل: هل التبوذ في يوني حرفيا أو على سبيل المجاز؟
وقالت الممرضة الصغيرة وقد ضحكت إحدى ضحكاتها الصادرة من قلبها بغير تكلف والتي تعبر عن سرورها: يا له من سؤال مثير للضحك! وهل تظن أننا نمارس الحب على سبيل المجاز؟ وكررت عبارتها السنسكريتية وقالت: إن هذا الضرب من التبوذ مقصود بحرفيته الكاملة المطلقة.
ثم سأله رانجا: هل سمعت من قبل بجماعة أونيدا؟
4
وأومأ ويل برأسه إيجابا؛ فقد عرف مؤرخا أمريكيا تخصص في مجتمعات القرن التاسع عشر، وسأل بدوره: ولماذا عرفتها أنت؟ - لأنها ذكرت في كل الكتب التي درسناها عن تطبيق الفلسفة، والماثيونا أساسا هي بعينها ما أسماه جماعة أونيدا (عفة الذكور)، وهو ما عرفه الرومانيون الكاثوليك من قبل وأطلقوا عليه مصطلحا لاتينيا معناه التحفظ في الجماع.
وكررت الممرضة الصغيرة كلمة التحفظ وقالت: إن ذلك يثير في الضحك دائما. شاب متحفظ! وبدت غمازتان في خديها كما تلألأت أسنانها البيضاء وهي تضحك.
وقال لها رانجا بحدة: لا تكوني سخيفة. نحن جادون.
وعبرت عن أسفها وقالت: ولكن التحفظ في الواقع أمر يثير الضحك.
واختتم الحديث ويل قائلا: هو في إيجاز تحديد النسل بغير استخدام موانع الحمل.
وقال رانجا: هذه ليست إلا بداية القصة. ولكن الماثيونا شيء آخر فوق ذلك، شيء أكثر أهمية. وفي صيغة التأكيد قال هذا الطالب الجامعي المتحذلق وقد واصل حديثه جادا: تذكر النقطة التي كان فرويد يضرب على وترها دائما. - أي نقطة؟ كانت نقاطه كثيرة. - النقطة الخاصة بالجنس عند الأطفال. إن ما نولد به، وما نمارسه خلال الطفولة الباكرة والمتأخرة هو شعور بالجنس ينتشر في الكائن العضوي كله. هذا هو الفردوس الموروث. ولكن الطفل يفقد هذا الفردوس كلما نما. والماثيونا محاولة منظمة لاسترداد هذا الفردوس.
والتفت إلى رادا ووجه إليها الخطاب قائلا: ذاكرتك جيدة. ما هي تلك العبارة التي جاءت على لسان اسبينوزا والتي تروى في كتاب الفلسفة التطبيقية؟
وروت راندا: اجعل الجسم قادرا على أداء كثير من الأشياء، ذلك يساعدك على كمال العقل؛ ولذلك تبلغ الحب العقلي لله.
قال رانجا: ومن هنا كانت كل أنواع اليوجا بما فيها الماثيونا.
وأكدت الفتاة أنها يوجا حقيقية، مثل يوجا راجا ويوجا كرما ويوجا باكتي. بل إنها تفضلها كثيرا عند أكثر الناس. الماثيونا فعلا تبلغ بهم إلى هناك.
وسألها ويل: وأين «هناك» هذا؟ - «هناك» هو حيث تعرف. - أعرف ماذا؟
قالت: تعرف من أنت في الواقع، أي تعرف أنك هكذا، وأنا هكذا، وهذا هو أنا. وظهرت الغمازتان ثانية وأبرقت الأسنان، وأشارت إلى رانجا وأضافت: وهذا أيضا هو. وأشارت إلى رانجا وقالت: غير معقول. أليس كذلك؟ ثم أخرجت لسانها مشيرة إليه وقالت: ومع ذلك فهذا هو الواقع.
وابتسم رانجا، ومد يده ومس بسبابته طرف أنفها، ثم قال: إنه ليس واقعا فحسب، بل هو حق ملهم؛ ولذلك عليك أن تلزمي الأدب أيتها الشابة.
وقال ويل: إنني أعجب لماذا لا نكون جميعا من المستنيرين؛ أقصد أنه إذا كان الأمر مجرد ممارسة الحب بطرق خاصة. ما جوابكم على هذا؟
وبدأ رانجا يتحدث، وقال: أقول لك ...
ولكن الفتاة قاطعته قائلة: استمع، استمع!
وأصغى ويل، واستمع إلى ذلك الصوت العجيب غير الإنساني الذي كان أول ما رحب به في بالا آت من بعيد واضحا وإن يكن خافتا، وكان الصوت يردد: انتباه! انتباه! انتباه! - الطائر الملعون مرة أخرى. - ولكن ذلك هو السر. - انتباه؟ إنك منذ لحظة كنت تقولين إنه شيء آخر، وماذا عن ذلك الشاب «المتحفظ»؟ - إنما ذلك ييسر له الانتباه!
وأمن على ذلك رانجا وقال: إنه فعلا ييسره له، وذلك هو سر الماثيونا. ليست الطرق الخاصة هي التي تجعل من ممارسة الحب يوجا، إنما هو نوع الوعي الذي تجعله هذه الطرق ممكنا. الوعي بما عندك من إحساسات والوعي بما في الحس من لا حس. - وما هو اللاحس؟ - هو المادة الخام للحس الذي تمدني به اللانفس. - وهل تستطيع أن توجه انتباهك إلى اللانفس؟ - طبعا.
والتفت ويل إلى الممرضة الصغيرة وسألها: وأنت أيضا؟
أجابت: أوجه انتباهي إلى نفسي وإلى لا نفسي في آن واحد، وكذلك إلى لا نفس رانجا، وإلى نفس رانجا، وإلى جسم رانجا، وإلى جسمي وكل ما يحسه، وإلى كل الحب وكل الصداقة، وإلى لغز الشخص الآخر؛ ذلك الغريب تماما الذي هو النصف الآخر لنفسك، والذي هو شبيه بلا نفسك. وفي أثناء ذلك يتنبه المرء إلى كل الأشياء التي يراها المرء بعيدة عن الرومانسية، غليظة، بل خسيسة، إذا كان رقيق العاطفة، أو إذا كان - وهو أسوأ - روحانيا مثل الراني العجوز المسكينة. غير أن هذه الأشياء ليست خسيسة لأن المرء يتنبه كذلك - إذا كان على وعي تام بها - إلى أنها في جمال كل ما عداها. وفي روعة كل شيء سواها.
واختتم رانجا الحديث بقوله: ماثيونا هي ديانا. وقد ظن أن استعمال لفظة أخرى قد يفسر كل شيء.
وسأله ويل: وما هي ديانا؟ - هي التأمل. - التأمل.
وتذكر ويل تلك الفجوة القرنفلية التي تعلو شارع تشارنج كروس. ولم تكن لفظة «التأمل» في ظنه لتتناسب مع الموقف. ولكن عندما فكر في الأمر مرة ثانية وجد أنه حتى في هذا الموقف كان هناك نوع من الخلاص. ولم تكن تلك اللمحات الخاطفة في الضوء المتغير الذي يعلن عن «بورترز جين» سوى لمحات تنأى به عن إحساساته الذاتية البغيضة أثناء النهار. كما كانت كذلك - لسوء الحظ - لمحات خاطفة تبعده عن بقية كيانه؛ تنأى به عن الحب، وعن الذكاء، وعن الآداب العامة، وعن كل أنواع الوعي ما عدا الوعي بتلك النوبة التي انتابته في الضوء الشاحب أو في الوميض الوردي الذي كان يصدر عن أرخص الأوهام وأشدها ابتذالا. ثم أعاد النظر إلى وجه رادا المضيء. أية سعادة أحس بها! وأي دليل قاطع لا على الخطيئة التي أصر المستر باهو على أن يجعل الدنيا آمنة من أجلها، ولكن على نقيضها الذي يبعث على السعادة والصفاء. وجهها يهز المشاعر هزا عميقا، ولكنه رفض أن يهتز. إنه أمر لا بد أن يطاع، ولكنه غير بؤرة التفكير فاستطاع أن يرى الأمر كله مهزلة أكيدة. ماذا عسانا فاعلون لنظفر بالخلاص؟ الجواب هو أن نلبي نداء الطبيعة.
وابتسم لهذه الفكاهة التي تفكه بها لنفسه، وألقى سؤالا تهكميا حيث قال: هل تعلمتم الماثيونا في المدرسة؟
وأجابت رادا بواقعية بالغة محت بها كل ما بدا في سؤاله من سخرية كسخرية رابليه، وقالت: نعم في المدرسة.
وأضاف رانجا: كل امرئ يتعلمها. - ومتى يبدأ التعليم؟ - في نفس الوقت تقريبا الذي نبدأ فيه تعليم حساب المثلثات والمستوى الأعلى في علم الأحياء، أي بين الخامسة عشرة والخامسة عشرة والنصف. - وبعدما يتعلم الطالب الماثيونا، ويخرج إلى الدنيا ويتزوج؛ إن كنتم تتزوجون؟
وأكدت له رادا أنهم يتزوجون. - هل يواصلون ممارستها؟ - لا يمارسها الجميع بطبيعة الحال. ولكن يمارسها الكثيرون. - في كل الأوقات؟ - إلا إذا أرادوا أن يكون لهم طفل. - وماذا عمن لا يريد أطفالا ولكنه ربما أراد شيئا من التحول عن الماثيونا؛ ماذا يفعل؟
قال رانجا باقتضاب: موانع الحمل. - وهل هذه الموانع ميسورة؟ - ميسورة! الحكومة توزعها مجانا وبغير مقابل؛ إلا بالطبع ما يدفع في سبيلها من ضرائب.
وأضافت رادا: إن ساعي البريد يوزع على كل فرد ثلاثين منها في بداية كل شهر. - ولا يكون هناك أطفال؟ - فقط من نريد منهم. وليس لأحد أكثر من ثلاثة، وأكثر الناس يكتفي باثنين.
قال رانجا وقد عاد إلى حذلقته وهو يدلي بإحصاءات في حديثه: وكانت النتيجة أن عدد السكان عندنا يتزايد بأقل من ثلث في المائة كل عام. في حين أن نسبة الزيادة في راندنج تبلغ مبلغها في سيلان؛ نحو ثلاثة في المائة. والنسبة في الصين اثنان في المائة. وفي الهند حوالي واحد وسبعة من عشرة.
قال ويل: كنت في الصين منذ شهر واحد فقط. فظيعة! وفي العام الماضي قضيت أربعة أسابيع في الهند، وقبل الهند كنت في أمريكا الوسطى، ونسبة الزيادة فيها تفوق حتى راندنج لسيلان. هل قام أحدكما بزيارة راندنج لوبو؟
وهز رانجا رأسه إيجابا.
وأضاف قوله: إذا بلغ الطالب الصف السادس في المرحلة العليا من التعليم يقضي ثلاثة أيام في راندنج؛ وهذه الزيارة جزء من الدراسة المتقدمة في علم الاجتماع. إنهم يجعلون الطالب يرى بنفسه ما عليه العالم الخارجي.
وسأله ويل: وما رأيك في العالم الخارجي؟
وأجاب رانجا بسؤال آخر حيث قال: هل أطلعوك عندما كنت في راندنج لوبو على الأحياء الفقيرة؟ - على العكس، حاولوا جهدهم أن يخفوها عني. ولكني أفلت منهم.
وتذكر في وضوح أنه أفلت منهم وهو في طريقه عائدا إلى الفندق بعد حفلة الكوكتيل الرهيبة التي أقامتها وزارة الخارجية في راندنج. كل من له أية مكانة كان هناك. كل الأعيان وزوجاتهم؛ فكنت ترى الأزياء الرسمية والأوسمة، ومنتجات ديور والزمرد. كل الأجانب من ذوي الأهمية؛ دبلوماسيون كثيرون، ورجال البترول من بريطانيين وأمريكان، وستة أعضاء من البعثة التجارية اليابانية، وصيدلية من ليننجراد، ومهندسان من بولندا، وسائح ألماني هو - بالمصادفة - ابن عم كروب فون بوهلن، ورجل أرمني ملغز يمثل اتحادا ماليا هاما جدا في طنجة، وأربعة عشر تقنيا تشيكيا عليهم سيما الانتصار جاءوا مع شحنة الدبابات والمدافع الكبيرة والمدافع الرشاشة التي وصلت في الشهر الماضي من سكودا. وقد حدث نفسه وهو يهبط فوق درجات السلم الرخامية بوزارة الخارجية إلى ميدان الحرية قائلا: هؤلاء هم القوم الذين يحكمون العالم. إن ألفين وتسعمائة مليون منا تحت رحمة حفنة من رجال السياسة، وبضعة آلاف من أصحاب المال والقادة العسكريين والمرابين. أنتم سيانيد
5
الأرض . والسيانيد لا يفقد أبدا نكهته.
وبعد أضواء حفلة الكوكتيل، وبعد الضحكات والرائحة الزكية التي تفوح من الكانابيه
6
ومن النساء المعطرات بالشانيل، بدت تلك الأزقة التي تقع خلف قصر العدالة الجديد الحديث حالكة الظلام عالية الضوضاء. وظهر أولئك الفقراء البائسون معسكرين في «شارع الاستقلال» تحت أشجار النخيل وكأن الله والناس قد تخلوا عنهم بتاتا بدرجة أكبر من تخليهم عن تلك الألوف التي تبيت يائسة بلا مأوى، الذين شهدهم مستلقين كالجثث في طرقات كلكتا. ثم طاف بخاطره ذلك الولد الصغير، ذلك الهيكل العظمي الدقيق ذو البطن المتكور الذي التقطه وهو جريح يرتعش إثر سقوطه من ظهر فتاة صغيرة تحمله وهي لا تكاد تكبره حجما؛ التقطه وسار خلف الفتاة حتى بلغ به إلى مخزن بغير نوافذ هو بيتهما وكان يقطنه تسعة أنفس (وقد عد الرءوس المصابة بالقوباء).
7
وقال: إننا نبقي الأطفال أحياء، ونشفي المرضى، ونمنع المجاري من التسرب إلى الماء الذي نشربه؛ هكذا يبدأ الإنسان في عمل أشياء حسنة في حد ذاتها بصورة واضحة. ولكن كيف ينتهي الإنسان؟ إنه ينتهي بمضاعفة مقدار البؤس البشري وتعريض الحضارة للخطر، وكأنها فكاهة عملية كبرى يبدو أن الآلهة تلهو بها حقا.
وابتسم لرانجا وراندا ابتسامة عريضة تنم عن الغضب والنقد المرير.
ورد عليه رانجا قائلا: إن الآلهة لا شأن لها بهذا، والفكاهة ليست من عند الآلهة، إنها من صنع الإنسان وحده. إن هذه الأشياء ليست كالجاذبية أو القانون الثاني لديناميكا الحرارة، وليست من المحتوم أن تحدث؛ فهي لا تحدث إلا إذا بلغ بالناس الغباء أن يسمحوا لها بالحدوث. ونحن هنا في بالا لم نسمح لها بالحدوث؛ ولذلك فإن الفكاهة لا تنطبق علينا. المرافق الصحية عندنا جيدة طوال ما يقرب من قرن من الزمان؛ ولا زلنا خفيفي الزحام، ولسنا من البائسين، ولا نخضع لدكتاتورية. والسبب في ذلك بسيط جدا؛ فقد اخترنا أن نتصرف بطريقة واقعية معقولة.
وسأله ويل: وكيف تسنى لكم أن تختاروا؟
قال رانجا: القوم الصحاح كانوا أذكياء في الوقت الصحيح. ولكن يجب الاعتراف كذلك بأنهم كانوا محظوظين. والواقع أن بالا بوجه عام كانت محظوظة بصورة غير عادية؛ فقد حالفها الحظ - أولا - بأنها لم تكن مستعمرة لأي أحد. أما راندنج فلها ميناء عظيمة جلبت لها الغزو العربي في العصور الوسطى. أما نحن فليست عندما ميناء؛ لذلك تركنا العرب وشأننا، وما زلنا بوذيين أو شيفيين؛
8
هذا إذا لم نكن من أتباع مذهب تانترا اللاأدريين.
وسأله ويل: وهل أنت من هؤلاء؛ من أتباع تانترا اللاأدريين؟
وعلق على ذلك رانجا بقوله: بعد تهذيب المذهب ببعض مبادئ ماهايانا.
9
ولنعد إلى راندنج بعد العرب غزاها البرتغاليون. أما نحن فقد نجونا؛ لا ميناء ولا برتغاليين؛ ومن ثم لم تكن لدينا قلة كاثوليكية، ولا هراء الكفاء الذين يقولون إنها إرادة الله أن يتكاثر الناس حتى يسبحوا في حالة من البؤس دون مستوى الإنسانية، ولم نقاوم تحديد النسل بطريقة منظمة. وليس ذلك وحده ما نعمنا به؛ فبعد مائة وعشرين عاما من احتلال البرتغاليين جاء الهولنديون إلى سيلان وراندنج، وبعد الهولنديين جاء الإنجليز، ونجونا من هذين الوبائين؛ فلا هولنديين ولا إنجليز؛ ولذلك لم نعرف كبار المزارعين، ولا مشقة العمال، ولا بيع المحصولات لتصديرها للخارج، ولا استنزاف التربة بطريقة نظامية، كما لم نعرف الويسكي، ومذهب كالفن، ولا مرض الزهري، ولا اللاأدريين الأجانب. تركنا وشأننا لنتحمل مسئولية أعمالنا. - بالتأكيد كنتم محظوظين.
وواصل رانجا حديثه قائلا: وفوق هذا الحظ المذهل كانت إدارة موروجان المصلح، وهي إدارة جيدة مذهلة، وكذلك وجود أندرو ماك فيل. هل حدثك الدكتور روبرت عن جده الأكبر؟ - قليلا. - هل حدثك عن تأسيس محطة التجارب؟
وهز ويل رأسه.
قال رانجا: محطة التجارب لها دخل كبير في سياستنا السكانية. وكانت بداية كل شيء مجاعة. وقد قضى الدكتور أندرو قبل قدومه إلى بالا بضع سنوات في مدراس. وفي السنة الثانية من إقامته هناك لم تهب الرياح الموسمية، فاحترقت المحاصيل، وجفت الأحواض بل والآبار. ولم يتوافر الطعام إلا للإنجليز والأغنياء، ومات الناس كما يموت الذباب. وفي مذكرات الدكتور أندرو فقرة مشهورة عن المجاعة؛ وصف لها وتعليق عليها. وكان قد استمع إلى كثير من المواعظ حينما كان صبيا، ومن هذه المواعظ موعظة كانت عالقة بذهنه وهو يعمل بين الهنود الجائعين. وتلك هي «ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان»؛ هذا نصها. وقد بلغ الواعظ من الفصاحة ما حمل الكثيرين إلى اعتناق مذهبه: «ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان.» ولكنه رأى حينئذ أنه بغير الخبز لا عقل ولا روح ولا ضياء باطنيا ولا الآب في السماء. ليس هناك إلا الجوع، واليأس، ثم اللامبالاة، وأخيرا الموت.
قال ويل: وهذه فكاهة كونية أخرى: «من عنده يعطى، ومن ليس عنده يؤخذ منه حتى ما يملك»؛ أي مجرد احتمال أن يكون إنسانا. وهذه أشد الفكاهات قسوة، وأكثرها شيوعا. ولقد رأيت ملايين الرجال والنساء يتأثرون بها، وملايين من الأطفال؛ في كل أرجاء العالم.
ولذلك تستطيع أن تدرك لماذا تركت المجاعة في ذهن الدكتور أندرو هذا الأثر الذي لا يمحى، فاعتزم كما اعتزم صديقه الراجا أن يتوافر في بالا الخبز على الأقل؛ ومن ثم كان قرارهما بإنشاء محطة التجارب. وكانت روثامستد في المنطقة الاستوائية ناجحة نجاحا عظيما؛ فبعد بضع سنوات كانت عندنا أنواع جديدة من الأرز والذرة والدخن وثمرة الخبز، وفصائل أفضل من الماشية والدجاج، ووسائل أفضل للفلاحة والمركبات. وفي الخمسينيات أنشأنا أول مصنع للفوسفات الممتاز شرقي برلين. وبفضل كل ذلك تحسنت التغذية، وطالت الأعمار، وقلت وفيات الأطفال. وبعد عشر سنوات من تأسيس محطة روثامستد الاستوائية أجرى الراجا تعدادا للسكان. وكان عدد السكان من قبل ثابتا إلى حد كبير لمدة قرن. أما الآن فقد بدأ يتزايد. وتنبأ الدكتور أندرو أن بالا سوف تتحول إلى نوع من أحياء الفقراء الفاسدة شبيهة بما عليه راندنج اليوم. فماذا كان يمكن عمله؟ وكان الدكتور أندرو على علم بمالتس. «إنتاج الطعام يتزايد بمتوالية عددية. أما السكان فيتزايدون بمتوالية هندسية.» وليس أمام الإنسان إلا أحد أمرين: إما أن يترك الأمر للطبيعة التي تحل مشكلة السكان بالطريقة المعروفة القديمة، بالمجاعات والأوبئة والحروب، وإما يحد من عدده بالكبت الذي لا يتنافى وقواعد الأخلاق (وقد كان مالتس من رجال الدين ).
وكررت الممرضة الصغيرة هذه العبارة: الكبت الذي لا يتنافى وقواعد الأخلاق، ونطقت العبارة باللهجة الإندونيسية التي تحاكي بها في سخرية ما قال به هذا الرجل الأسكتلندي المتدين. وأضافت: بهذه المناسبة هل تعلم أن الدكتور أندرو تزوج من عهد قريب بابنة أخ الراجا التي تبلغ من العمر ستة عشر عاما؟
وقال رانجا: ولقد كان ذلك سببا آخر في مراجعة نظرية مالتس. إما المجاعة وإما الكبت كما قال، لا بد أن تكون هناك طريقة أفضل وأسعد وأكثر إنسانية، هي وسط بين طرفي مالتس. وبالطبع كانت هناك مثل هذه الطريقة حتى في عهد مالتس، حتى قبل عهد الموانع الحديثة لوأد البذور المنوية. كان هناك الإسفنج والصابون والغلاف المانع المصنوع من كل ما عرف من مواد غير مسامية، من الحرير الناعم إلى أحشاء الأغنام المصمتة. كل الدروع التي تضبط النسل على طريقة بالا. - وكيف استجاب الراجا ورعاياه لهذه الطريقة؟ بالفزع؟ - أبدا؛ فهم بوذيون مخلصون، وكل بوذي مخلص يعلم أن الإنسان ليس إلا وأدا مؤجلا. وعلى المرء أن يبذل قصارى جهده لكي يبتعد عن عملية الميلاد والموت، ومن الخير ألا تسترسل في وضع ضحايا في هذه العجلة من غير داع. ضبط النسل عند البوذي له معنى ميتافيزيقي، وله مغزى اجتماعي واقتصادي لمجتمع القرية الذي يزرع الأرض. ولا بد أن يتوافر عدد من الشباب للعمل في الحقول ولكي يعولوا المسنين والصغار. على ألا يزيد عددهم عن المطلوب؛ لأن ذلك لو حدث لما توافر الغذاء للمسنين ولا للعمال ولا لأطفالهم. كان الزوجان في الماضي ينجبان ستة أطفال لكي يبقى منهم اثنان أو ثلاثة. ثم توافر الماء النقي ووجدت محطة التجارب، فأمكن أن يبقى خمسة من الأطفال الستة. وأمست الأنماط القديمة للتكاثر بغير معنى، ولعل الاعتراض الوحيد على تحديد النسل بطريقة أهل بالا هو سذاجتها. ولكن لحسن الحظ كان هناك لها بديل أفضل منها؛ فلقد كان الراجا ممن يعتنقون مذهب تانترا؛ فتعلم يوجا الحب، وعلم الدكتور أندرو بماثيونا. ولما كان من رجال العلم المخلصين وافق على تجربتها، وتلقى هو وزوجته التعليمات اللازمة. - وماذا كانت النتائج؟ - الموافقة عليها بحماسة.
وقالت رادا: وهذا هو إحساس الناس جميعا بها. - دعينا من هذه التعميمات الكاسحة! هناك من يحس هذا الإحساس، وهناك من لا يحسه. ولقد كان الدكتور أندرو من المتحمسين. ونوقش هذا الموضوع باستفاضة. وفي النهاية قرروا أن موانع الحمل يجب أن تكون كالتربية؛ مجانية، تدعمها الضرائب، تشمل كل فرد بقدر الإمكان وإن تكن غير إلزامية. ولأولئك الذين أحسوا الحاجة إلى شيء أكثر تهذيبا تعليمات خاصة بشأن يوجا الحب. - هل تقصد أن تقول إنهم تعلموها ولم يصبهم أذى؟ - إنها لم تكن في الواقع شاقة جدا. وكانت الماثيونا عقيدة معتمدة، ولم يطلب إلى أحد أن يقترف منكرا يخالف الدين. بل على العكس من ذلك كانت لهم في ذلك فرصة مواتية لكي يلتحقوا بالنخبة الممتازة إذا هم تعلموا أسرارها.
وقاطعته الممرضة الصغيرة قائلة: ولا تنس أهم نقطة في الموضوع. إن يوجا الحب بالنسبة للنساء، كل النساء - ولست أعبأ بما ذكرت عن التعميمات الكاسحة - تعني الكمال، تعني التحول والخروج من أنفسهن للتمام. وكانت فترة من الصمت، أعقبتها بمواصلة الحديث بنغمة أكثر خفة وذلك حين قالت: والآن حان الوقت لكي نتركك لراحتك بعد الظهر.
وقال ويل: أود - قبل أن تنصرفي - أن أحرر خطابا، مذكرة مختصرة لرئيسي أخبره فيها أنني على قيد الحياة ولست في خطر مباشر من التهام المواطنين هنا لي.
وذهبت رادا إلى مكتب الدكتور روبرت تبحث فيه عن ورق وقلم وظرف وعادت بها.
وبخط غير مستقيم كتب ويل: وأخيرا انتصرت، تحطمت بي السفينة، وقابلت الراني ومعاونها من راندنج الذي أفضى إلي أنه يستطيع أن يسلم البضاعة إذا نفحته «بقشيشا» على خدمته. «وكان محدد الطلب» فطالب بعشرين ألف جنيه. فهل أفاوض على هذا الأساس؟ إذا أبرقتني: «موافق على الاتفاق المقترح»، واصلت السعي. أما إذا أبرقتني: «لا داعي للتعجل في الاتفاق»، أسقطت الأمر من حسابي. أخبر أمي أنني في أمان وسوف أكتب إليها قريبا.
وناول رانجا الظرف مغلقا ومعنونا وقال له: إليك هذا، وهل لي أن أرجوك لتشتري لي طابعا وتلقي هذا الخطاب في البريد في وقت يسمح بإرساله في طائرة الغد؟
ووعده الفتى قائلا: بغير تأخير.
وانطلقا، وأحس ويل بوخز في ضميره. يا لهما من شاب وشابة فاتنين! ومع ذلك فهو يتآمر مع باهو ومع قوى التاريخ ليقلب دنياهم. وواسى نفسه بأنه إذا لم يفعل ما هو بصدده فإن شخصا آخر سوف يفعل. وحتى إذا ما ظفر جو ألديهايد بالامتياز فسوف يستمران في ممارسة الحب بالطريقة التي ألفاها، أم هل هذا مستحيل؟
وما إن بلغت الممرضة الصغيرة باب الغرفة حتى التفتت وراءها لتتفوه بكلمة نهائية وأشارت بإصبعها إليه وقالت له: كف عن القراءة وانصرف إلى النوم. وأكد لها ويل باقتناع عنيد أحمق أنه لا ينام أثناء النهار.
الفصل السابع
إنه لا يستطيع أن ينام أثناء النهار، ولكنه عندما نظر بعد ذلك إلى ساعته وجد أنها بلغت خمسا وعشرين دقيقة بعد الرابعة وكان منتعشا بدرجة مذهلة. فعاد إلى كتاب «مذكرات عن حقيقة كل شيء» وواصل قراءته التي كان قد انقطع عنها.
اللهم هبنا اليوم إيماننا، واحمنا يا رب من العقيدة.
إلى هذه العبارة كان قد وصل في هذا الصباح، والآن إلى جزء جديد، الخامس:
أنا كما أظن نفسي وأنا كما أنا في الحقيقة؛ وبعبارة أخرى الحزن ونهاية الحزن. إن ثلث كل الأحزان تقريبا التي لا بد للشخص الذي أظن أنني هو من تحملها لا مفر منها؛ ذلك هو الحزن الكامن في الظروف البشرية، هو الثمن الذي ينبغي أن ندفعه لقاء كوننا أصحاب حس رقيق وكائنات واعية بنفسها، متطلعين إلى التحرر ولكن خاضعين لقوانين الطبيعة ولأوامر ترغمنا على أن نواصل المسير خلال الزمان الذي لا يمكن أن يعود وخلال عالم لا يبالي البتة بسعادتنا، نحو عجز الشيخوخة والموت الأكيد. أما الثلثان الباقيان من جميع الأحزان فهي من صنع أيدينا، وهي - فيما يخص العالم - لا لزوم لها.
وقلب ويل صفحة الكتاب. وسقطت على سريره ورقة، فالتقطها وألقى عليها نظرة، فإذا بها تحتوي على عشرين سطرا بخط صغير واضح وذيلت بهذين الحرفين «س. م». إنها قطعا ليست خطابا، هي قصيدة؛ ومن ثم فهي ملك مشاع. وقرأ ما يلي:
في مكان ما بين الصمت الموحش،
والألوف المؤلفة من مواعظ الأحد الماضي،
في مكان ما بين كنيسة كالفن (اللهم احفظنا)،
وشبه جزيرة ليزارد،
1
في مكان ما بين الرؤية والحديث،
في مكان ما بين ما يجري على الألسن،
من لغط ملطخ وملوث،
والنجم الأول،
حيث ترفرف الفراشات الكبيرة حول أشباح الزهور،
يقع مكان واضح حيث أنا،
ولم أعد أنا،
برغم ذلك أذكر،
حكمة ليل طويل من الحب،
على الجانب الآخر،
وأذكر كذلك،
وأنا أصغي إلى الريح،
تلك الليلة الأخرى،
الأولى بعد الترمل،
والنوم يجافي الجفنين،
والموت إلى جواري في الظلام.
كل ذلك لي، وأين منه الفرار!
ولكن أنا،
لم أعد أنا،
في هذا المكان الصافي،
بين فكري وصمتي،
أرى كل ما كان لي وضاع مني،
الآلام والمسرات،
وهي تتوهج كزهر الجنطيانا،
وسط أعشاب الألب،
زرقاء اللون صافية متفتحة.
وبين نفسه ونفسه كرر ويل هاتين اللفظتين: «زهر الجنطيانا»، وذكر تلك العطلة الصيفية التي قضاها في سويسرة وهو في الثانية عشرة، وذكر المراعي المرتفعة فوق جريندلوالد وزهورها الغريبة، وفراشاتها التي لا تشبه الفراشات الإنجليزية، وذكر السماء الزرقاء الداكنة وضوء الشمس والجبال الشامخة المضيئة على الجانب الآخر من الوادي، وكل ما عن لأبيه أن يقول هو أنها أشبه ما تكون بإعلان عن شكولاتة نسلة المخلوطة باللبن. وأصر وقد بدت عليه أمارات الاشمئزاز على أنها «ليست شكولاتة حقيقية، بل شكولاتة باللبن». وعقب ذلك تعليق تهكمي على الصورة التي كانت ترسمها أمه بالألوان المائية؛ صورة سيئة (ويا لها من مسكينة) ولكنها ترسم بعناية العاشق صاحب الضمير الحي. «إعلان الشكولاتة باللبن الذي لفظته نسلة». ثم كان دوره: بدلا من أن تنفق وقتك حالما متجولا هنا وهناك بفم مفتوح كالقروي المعتوه لماذا لا تعمل شيئا فيه ذكاء على سبيل التغيير؟ راجع قواعد اللغة الألمانية مثلا. ومد يده في حقيبته وأخرج من بين البيض المسلوق جيدا والسندويتشات ذلك الكتاب الصغير البني المقيت. يا له من رجل بغيض! ومع ذلك - إن صح ما تقول سوزيلا - يجب أن أكون قادرا الآن بعد كل هذه السنين على أن أراه متألقا كزهر الجنطيانا؛ ثم ألقى ويل نظرة أخرى على آخر سطر من سطور القصيدة:
زرقاء اللون صافية متفتحة.
وسمع صوتا يألفه يقول: ثم ماذا ...
والتفت نحو الباب، وقال: تكلمي عن الشيطان، أو على الأصح اقرئي ما كتب الشيطان. ورفع الورقة إلى أعلى لكي تطالعها.
وألقت عليها سوزيلا نظرة وقالت: تقصد هذا. تكفي النوايا الطيبة لتبدع شعرا طيبا! وتنهدت وهزت رأسها.
واستمر في حديثه قائلا: كنت أحاول أن أرى والدي كزهر الجنطيانا. غير أن كل ما حصلت عليه صورة ملحة لروث مريع.
وأكدت له أن الروث يمكن أن يرى كالجنطيانا. - لا يكون ذلك في ظني إلا في المكان الذي كنت تكتبين عنه؛ ذلك المكان الصافي الذي يقع بين الفكر والصمت.
وأومأت سوزيلا برأسها موافقة. - كيف تبلغين هذا المكان؟ - إنك لا تبلغه، إنما هو يأتي إليك. أو على الأصح «هناك» هو في الواقع «هنا».
وشكا لها بقوله: ما أشبهك برادا الصغيرة؛ ترددين كالببغاء ما يقول راجا العجوز في مستهل هذا الكتاب!
قالت: إذا كنا نردده فلأنه حق. وإذا نحن لم نردده كنا منكرين للواقع.
وسألها: أي واقع؟ إنه بالتأكيد ليس واقعي.
ووافقته قائلة له: ليس واقعك في الوقت الحاضر. ولكن إن أنت فعلت الأشياء التي يوصي بها راجا العجوز ربما صار واقعك.
وبعد صمت قليل سألها: هل كانت لك مشكلات مع والديك؟ أم هل كنت دائما ترين الغائط كزهر الجنطيانا؟
أجابت: ليس في هذه السن. لا بد أن يكون الأطفال مثنويين مانويين. ذلك هو الثمن الذي يجب أن ندفعه جميعا لكي نتعلم مبادئ إنسانيتنا. أما أن يرى المرء غائطا وكأنه زهر الجنطيانا، أو بالأحرى يرى الغائط والجنطيانا على حد سواء كأنهما «جنطيانا» فذلك أمر لا يتحقق إلا بعد التخرج من الجامعة. - ماذا إذن فعلت بأبويك؟ تكشرين وتحتملين ما لا يحتمل؟ أم هل كان أبوك وأمك يحتملان ؟
أجابت: كل منهما محتمل على حدة وبخاصة والدي، ولكنهما معا لا يحتملان؛ لأن كليهما لا يحتمل الآخر. امرأة صاخبة مرحة منطلقة تزوجت من رجل منطو على نفسه شديد الحساسية يجدها مثيرة لأعصابه دائما، خاصة - كما أظن - في الفراش. إنها لم تكف عن الاتصال به، في حين أنه لم يكن البادئ قط. حتى كانت في عينه ضحلة غير مخلصة له، وكان في عينها بلا قلب، محقرا من شأنها يفتقر إلى المشاعر الإنسانية الطبيعية. - كنت أحسب أنكم هنا أكثر حصافة من أن تقعوا في هذا الفخ.
وأكدت له أنهم فعلا أكثر حصافة: فنحن نعلم البنين والبنات بصفة خاصة ماذا يتوقعون من الناس الذين يختلفون عنهم في التكوين البدني وفي المزاج. ولكن يحدث أحيانا - لسوء الحظ - أن الدروس لا يكون لها تأثير كبير فيما يبدو. وليس هناك ما يدعوني إلى أن أذكر أن البعد السيكولوجي بين فرد وآخر يكون في بعض الحالات أكبر من أن يسمح بالاتصال. على أية حال الواقع أن أبي وأمي لم يكونا على اتفاق، والله وحده يعلم كيف وقعا في حب متبادل، ولما اشتد التقارب بينهما وجدت أمي في تزمته إيذاء لها، في حين أن حبها الشديد للزمالة بغير حواجز جعله ينكمش في حيرة من أمره وفي نفور. وكنت دائما أتعاطف مع أبي؛ فأنا شبيهة به في مزاجي وفي تكويني البدني، ولست البتة على شبه بأمي. وأذكر - حتى وأنا في نعومة أظفاري - كيف كنت أتحاشى مرحها الشديد، وقد كانت تعتدي دائما على عزلتي، وما زالت. - هل ترينها كثيرا؟ - قلما أفعل ذلك؛ لها عملها الخاص وأصدقاؤها الخاصون. الأم، في دنيانا اسم لوظيفة بكل معنى الكلمة. وبعدما تؤدي الوظيفة تماما يسقط هذا اللقب، ويبدأ نوع جديد من العلاقة بين الطفل السابق والمرأة التي كانت تدعى «أما». فإن كانا على اتفاق يستمر بينهما التلاقي في كثير من الأحيان. أما إن كانا على غير اتفاق فإنهما يفترقان. ولا ينتظر منهما أحد أن يتعلق أحدهما بالآخر . وليس هذا التعلق مرادفا للمحبة؛ ولا ينظر إليه كأمر جدير بالتقدير بصفة خاصة. - ولذلك فالأمور كلها الآن على ما يرام. ولكن كيف كانت الأمور حينذاك؟ ماذا حدث عندما كنت طفلة تترعرعين بين شخصين لم يمكن سد الفجوة التي كانت تفصل بينهما؟ أنا أعرف ماذا يعني ذلك؛ أعرف أنه يقلب ما تعودنا أن نختتم به القصص الخيالية، ويجعل النهاية: «وهكذا عاشا بعد ذلك بغير ثبات وغير نبات.»
قالت سوزيلا: وأنا على يقين أننا إذا لم نكن قد ولدنا في بالا لعشنا بعد ذلك، بغير ثبات وغير نبات. وعلى أية حال - إذا أخذنا في اعتبارنا كل الظروف - استطعنا أن نسير معا سيرا طيبا بدرجة ملحوظة. - وكيف تسنى لكم ذلك؟ - لم نفعله بأنفسنا، بل فعله لنا غيرنا. هل قرأت ما قال راجا العجوز عن التخلص من ثلثي الأحزان التي نصنعها بأيدينا بغير مبرر؟
وأومأ ويل برأسه إيجابا وقال: كنت أقرؤه عندما قدمت.
وواصلت حديثها قائلة: في الأيام السيئة السالفة كانت الأسر في بالا مثلما هي عندكم اليوم مضحية بأفرادها، ظالمة، داعية للكذب. ولقد بلغت من السوء ما حدا بالدكتور أندرو وراجا المصلح أن يقررا ضرورة إعادة النظر فيها. واستغلا الأخلاق البوذية والشيوعية البدائية في القرية لخدمة الأهداف المعقولة. وعلى مدى جيل واحد تغير نظام الأسرة كله من أساسه. وترددت لحظة ثم واصلت الحديث: ولأوضح لك ما أعني في حدود حالتي الخاصة؛ طفلة وحيدة لشخصين لم يكن بينهما تفاهم وكانا دائما على خلاف في الأهداف أو في شجار فعلي. في الأيام الخوالي كانت الفتاة الصغيرة التي تنشأ في مثل هذه الظروف تنتهي إما إلى الهلاك، وإما إلى التمرد، وإما إلى الاستسلام للنفاق من أجل الالتزام بالتقاليد. أما في ظل النظام الجديد فلم يكن لزاما علي أن أتحمل عناء لا ضرورة له، فلم أتحطم ولم أضطر إلى التمرد أو الاستسلام. لماذا؟ لأنه منذ اللحظة التي استطعت فيها أن أمشي كانت لي حرية الهروب.
وكرر قوله: الهروب؟ الهروب؟ هذا أمر حسن جدا بدرجة لا تصدق.
وشرحت له كيف أن «الهروب» من صلب النظام الجديد ، إذا صار «بيت الأبوين، البيت الحلو» كما يقولون غير محتمل، يسمح للطفل، بل يشجع على الهجرة إلى بيت من بيوته الأخرى، ووراء هذا التشجيع ثقل الرأي العام كله. - وكم بيتا للطفل في بالا؟ - نحو عشرين في المتوسط. - عشرون! يا إلهي!
ووضحت له سوزيلا ذلك بقولها: كلنا ننتمي إلى ناد من نوادي التبني المتبادل (ويختصر هكذا: ن. ت. م)، وكل ناد من هذه النوادي يتألف من نحو خمسة عشر إلى خمسة وعشرين زوجا مختلطا. العرائس والعرسان المنتخبون حديثا، والقدامى أصحاب الأطفال الكبار، والأجداد وآباء الأجداد؛ كل فرد في النادي يتبنى كل فرد آخر. لكل منا بخلاف أقربائه بصلة الرحم عدد معين من نائبات الأمهات ونواب الآباء، ونائبات العمات والأعمام، ونواب الإخوة والأخوات، ونواب صغار الأطفال والأطفال الذين هم في مرحلة المشي والأبناء المراهقون.
وهز ويل رأسه: ذلك ينمي عشرين أسرة بعدما كانت أسرة واحدة هي التي تنمو.
ولكن ما كان ينمو من قبل هو نوع الأسرة عندكم. أما العشرون فكلها نوع الأسرة عندنا. ثم قالت وكأنها تقرأ تعليمات في كتاب للطهو: خذ عبدا مأجورا عاجزا، عاجزا جنسيا، وأنثى ساخطة، واثنين (وإن شئت) ثلاثة من صغار مدمني التلفزيون، وانقع ذلك في مخلوط من مذهب فرويد والمسيحية المخففة، واحفظ كل ذلك في زجاجة محكمة الغلق في شقة ذات أربع غرف، ودعه يطهى ببطء في عصيره لخمسة عشر عاما. أما طريقة طهونا فمختلفة تماما: خذ عشرين زوجا راضين جنسيا وذريتهم، وأضف إليهم العلم والبداهة والفكاهة بكميات متساوية، واغمس ذلك في بوذية تانترية، ودع ذلك يغلي ببطء؛ إلى ما لا نهاية في وعاء مكشوف في الهواء الطلق فوق لهب فوار من المحبة.
وسألها: وماذا يخرج من الوعاء المكشوف؟ - نوع من الأسرة مختلف تماما. ليس مانعا كالأسرة عندكم. وليس مقدسا ولا ملزما. هي أسرة جامعة. ليست مقدرة، وهي اختيارية، عشرون زوجا من الآباء والأمهات، وثمانية أو تسعة من الآباء السابقين والأمهات السابقات وأربعون أو خمسون طفلا منوعا من جميع الأعمار. - وهل يبقى الناس في ناد واحد للتبني طوال حياتهم؟ - كلا بالطبع. الأطفال الكبار لا يختارون آباءهم أو إخوتهم أو أخواتهم الخاصين بهم. بل ينطلقون ليختاروا مجموعة أخرى ممن يكبرونهم، ثلة أخرى من زملائهم ومن يصغرونهم. ويتبناهم هذا النادي الجديد كما يتبنى - عندما يحين الوقت - أبناءهم. علماء الاجتماع عندنا يسمون هذه العملية تهجين صغار الأحياء، وهي في مجالها نافعة كتهجين الفصائل المختلفة من الذرة أو الدجاج، علاقات أصح في جماعات أكثر مسئولية، وتعاطف أوسع وتفاهم أعمق. وهذا التعاطف والتفاهم متاح لكل فرد في «ن. ت. م» من الأطفال الرضع إلى من يجاوزون المائة عام. - يجاوزون المائة عام؟ ما مدى طول العمر عندكم؟
أجابت: إنه يطول عاما أو عامين أكثر منه عندكم. عشرة في المائة منا فوق خمسة وستين. والكبار يتقاضون معاشا إذا عجزوا عن الكسب. ولكن المعاش بطبيعة الحال لا يكفي؛ فهم يحتاجون إلى شيء نافع ويبعث على التحدي، وهم يحتاجون إلى أناس يعنون بهم ويجدون منهم المحبة لقاء هذه العناية، و«ن. ت. م» يلبي هذه الحاجات.
قال ويل: هذا كلام أرتاب في مماثلته للدعاية التي نسمعها عن أحد المجتمعات (الكميون) الصغيرة الجديدة.
وأكدت له قائلة: ما أبعد التشابه بين «ن. ت. م» والكميون؛ فالنادي «ن. ت. م» لا تديره الحكومة، وإنما يديره أفراده. ونحن لسنا عسكريين، ولا يهمنا تخريج أعضاء ملائمين للحزب، إنما يعنينا أن نخرج كائنات بشرية جيدة. ونحن لا نغرس في الأذهان تعاليم خاصة. ثم إننا لا نبعد الأطفال عن آبائهم، بل على العكس من ذلك نعطيهم آباء إضافيين كما نعطي الآباء أطفالا إضافيين. ومعنى ذلك أننا حتى في دار الحضانة نتمتع بدرجة معينة من الحرية. وتزداد هذه الحرية كلما نما الفرد وبات بوسعه أن يتعامل مع مجال في الخبرة أكثر اتساعا وأن يتحمل مسئوليات أضخم. في حين أنك لا تجد في الصين حرية بتاتا. الأطفال يعهد بهم إلى مروضي أطفال رسميين، من واجبهم أن يحولوهم إلى خدام مطيعين للدولة. والأمور أفضل من ذلك بكثير في عالمكم، ولكنها مع ذلك سيئة. أنتم لا تخضعون لمروضي الأطفال المعينين من قبل الدولة، ولكن مجتمعكم يحكم عليكم بقضاء الطفولة في أسرة مانعة، بها مجموعة واحدة من الأقارب ومجموعة واحدة من الآباء. وهذه المجموعات مفروضة عليكم فرضا بقدر وراثي. لا يستطيع الفرد منكم أن يفر منها، أو أن يستأجز، أو أن يذهب إلى آخرين على سبيل تغيير المناخ المعنوي والسيكولوجي. وقد تسمونها حرية، ولكنها كالحرية في كشك التليفون.
وتوسع ويل في الفكرة وأخذ يروي (وهو يتصور حياته الماضية) فقال: الفرد محبوس مع شخص متنمر ساخر، وشخص مسيحي مضح بحياته، وفتاة صغيرة أدخل المتنمر الرعب في نفسها وهددها الشهيد بمناشدته مشاعرها الطيبة حتى أصيبت بالبلاهة المهتزة. هذا هو البيت الذي لم أفر منه حتى بلغت الرابعة عشرة وجاءت عمتي ماري لتسكن إلى جوارنا. - وأبواك البائسان لم يفرا قط منك. - لم يكن الأمر كذلك؛ فلقد وجد والدي في الخمر مهربا ووجدته أمي في الكنيسة الإنجليزية. وكان لا بد أن أنفذ الحكم الخاص بي دون أي تخفيف. أربعة عشر عاما من العبودية العائلية. كم أحسدك! إنك حرة كالطائر! - ليس إلى هذا الحد الشعري! إنما كنت حرة ككائن بشري نام؛ حرة كشخص مستقبله أن يكون امرأة، ولم تتجاوز حريتي ذلك. التبني المتبادل يكفل للأطفال الحماية من الظلم ومن أسوأ عواقب عدم الكفاءة الأبوية. ولكن لا يكفل لهم الحماية من النظام أو من ضرورة قبول المسئوليات. بل - على النقيض من ذلك - أنه يضاعف من مسئولياتهم، ويعرضهم لضروب مختلفة من النظام. في عائلاتكم المقدرة عليكم، المانعة، يقضي الأطفال - كما قلت - فترة طويلة من الحبس تحت رقابة مجموعة واحدة من السجانين الأبويين. وقد يكون هؤلاء السجانون الأبويون طيبين عاقلين وأذكياء. في هذه الحالة يخرج صغار المساجين بغير أذى إلى حد كبير. غير أن الواقع أن أكثر السجانين الأبويين عندكم ليسوا طيبين أو عاقلين أو أذكياء بدرجة ملحوظة. وقد يكونون ذوي نية طيبة ولكنهم أغبياء، أو ذوي نية سيئة وعلى طيش، أو عصبيين، أو أحيانا أشرارا تماما ، أو مجانين صراحة. كان الله في عون المحكوم عليهم الذين يقضي عليهم القانون والعرف والدين بأن يكونوا تحت رحمتهم! ولكن انظر إلى ما يحدث في الأسرة الكبيرة الجامعة المختارة. ليس بها أكشاك تليفونية، ولا سجانون مقدرون. هنا ينمو الأطفال في عالم يعد نموذجا عمليا للمجتمع العام، عالم هو صورة مصغرة ولكنها دقيقة للبيئة التي سوف يعيشون فيها وهم كبار. «الصحة» و«الكمال» و«القداسة» هذه الكلمات الثلاث بالإنجليزية من أصل لغوي واحد وتدل على درجات مختلفة من معنى واحد. العائلة عندنا - العائلة الجامعة المختارة - هي العائلة المقدسة حقا كما يدل على ذلك الأصل اللغوي وكما هي في الواقع. أما العائلة عندكم فهي العائلة غير المقدسة.
قال ويل: آمين. واستعاد في ذهنه مرة أخرى طفولته، كما عاد بذهنه كذلك إلى موروجان المسكين في قبضة الراني. وبعد فترة من السكون سألها: ماذا يحدث عندما يهاجر الأطفال إلى بيت من بيوتهم الأخرى؟ كم يطول بقاؤهم هناك؟ - يختلف الأمر من حالة إلى أخرى، عندما يملني أطفالي قلما يبتعدون عني لأكثر من يوم أو يومين، وذلك أساسا لأنهم جد سعداء في بيتهم. أما أنا فلم أكن سعيدة في بيتي ولذلك فعندما كنت أخرج منه كنت أحيانا أتغيب عنه لشهر بأكمله. - وهل كان نواب أبويك يعضدونك ضد أبيك وأمك الحقيقيين؟
ليس في الأمر تحريض من أحد ضد أحد. كل ما نؤيده هو الذكاء والمشاعر الطيبة، وكل ما نعارضه هو البؤس وأسبابه التي يمكن تفاديها. إذا أحس الطفل بتعاسة في بيته الأول نبذل أقصى الجهد له في خمسة عشر أو عشرين بيتا آخر. وفي هذه الأثناء يعالج الأب والأم علاجا نفسيا من قبل الأعضاء الآخرين في نادي التبني المتبادل الذي ينتمون إليه. وبعد بضعة أسابيع يصبح الأبوان صالحين للعيش مع أبنائهما مرة أخرى، والأطفال صالحين للعيش مع أبويهم. ثم أضافت إلى ذلك قولها: ولكن لا تفهم من ذلك أن الأطفال لا يلجئون إلى نواب آبائهم وأجدادهم إلا في حالات الضيق. إنهم يفعلون ذلك دائما كلما أحسوا الحاجة إلى التغيير أو إلى نوع آخر من الخبرة . إنها دوامة اجتماعية. إن عليهم حيثما يتوجهون كنواب أطفال مسئولياتهم كما أن لهم حقوقهم؛ عليهم مثلا أن يمشطوا الكلب وينظفوا أقفاص الطيور، ويراعوا الأطفال الرضع عندما تكون الأم مشتغلة بعمل آخر. عليهم واجبات كما أن لهم مزايا؛ ولكنها ليست كما هي الحال عندكم في أكشاك التليفون الصغيرة التي لا يدخلها الهواء. إنها واجبات ومزايا في أسرة كبيرة منفتحة جامعة غير مقدرة، تتمثل فيها مراحل العمر السبع للإنسان ومختلف المهارات والمواهب. فيها يتلقى الأطفال خبرات في كل الأمور الهامة ذات المغزى مما يمارسه الإنسان ويكابده؛ العمل، واللعب، والحب، والكبر، والمرض، والموت ... ثم صمتت وفكرت في ديوجولد وأمه، ثم غيرت نغمة صوتها عمدا وقالت: ولكن ما بك أنت؟ لقد شغلت نفسي بالحديث عن الأسر حتى إني لم أسألك عن إحساسك. إنك بالتأكيد تبدو أحسن كثيرا مما رأيتك آخر مرة. - بفضل الدكتور ماك فيل، وكذلك بفضل شخص كان فيما أظن يمارس الطب بغير ترخيص. ما هذا الشيء العجيب الذي فعلته بي أمس مساء؟
ابتسمت سوزيلا وقالت له مؤكدة: إنما فعلته بنفسك. أما أنا فكل ما فعلته هو أني ضغطت على الأزرار. - أي أزرار؟ - أزرار الذاكرة، وأزرار الخيال. - ويكفي ذلك أن يدخلني في غيبوبة التنويم المغناطيسي؟ - إذا حلا لك أن تسميها كذلك. - وماذا يمكن أن تسمى غير ذلك؟ - ولماذا تطلق عليها اسما؟ الأسماء تفترض صدق ما تعبر عنه، لماذا لا تكتفي بمجرد علمك أنها حدثت؟ - ولكن ما هذا الذي حدث؟ - بادئ ذي بدء أقول: قمنا بنوع من أنواع الاتصال. أليس كذلك؟
ووافقها قائلا: بالتأكيد لقد فعلنا، ومع ذلك فإني لا أصدق أنني رمقتك ولو بنظرة.
وعلى الرغم من ذلك كان في هذه اللحظة ينظر إليها؛ ينظر ويتعجب من يكون هذا المخلوق الصغير العجيب، وماذا يختفي خلف قناع وجهها الجاد الملس، وماذا كانت العينان السوداوان تريان وهما تردان على تفرسه، فيم كانت تفكر؟
قالت: كيف كان يتسنى لك أن تنظر إلي؟ لقد ذهبت في عطلتك. - أم هل أبعدتني عنها؟
وهزت رأسها وقالت: كلا، لم أبعدك . تستطيع أن تقول إني كنت في وداعك، أو أني عاونتك على المضي. ثم كانت لحظة صمت استأنفت بعدها الحديث وسألته: هل حاولت مرة أن تقوم بعمل ما مع طفل يجاورك؟
وذكر ويل جارا صغيرا له عرض عليه أن يعاونه في طلاء أثاث حجرة الطعام، وضحك عندما تذكر سخطه.
وواصلت سوزيلا حديثها قائلة: مسكين هذا الصغير! كان حسن النية، وكان يود أن يقدم المعونة. - ولكن الطلاء قد لوث السجادة، وبصمات يده تملأ الجدران ...
لذلك أردت أن تتخلص منه في النهاية فقلت له: اخرج من هنا على عجل أيها الصبي الصغير! والعب في الحديقة.
ثم ساد الصمت.
وأخيرا سألها: ثم ماذا؟ - ألا ترى؟
وهز ويل رأسه. - ماذا يحدث عندما تمرض. وعندما يصيبك أذى؟ من يصلحك؟ من يداوي جراحك ويبعد العدوى؟ هل تفعل ذلك أنت؟ - ومن غيري؟!
وأصرت على السؤال: أنت؟ أنت؟ الشخص الذي يحس الألم ويصيبه القلق ويفكر في الخطيئة والمال والمستقبل! هل تكون وأنت على هذه الصور قادرا على أن تفعل ما يجب فعله؟ - آه، أنا أدرك الآن ما ترمين إليه.
وقالت ساخرة: أخيرا! - تبعثين بي لكي ألعب في الحديقة حتى يتمكن الكبار من أداء عملهم في هدوء. ولكن من يكون هؤلاء الكبار؟
أجابت: لا تسألني. هذا سؤال يوجه إلى لاهوتي في الأعصاب.
سألها: ما معنى ذلك؟ - معناه ما يدل عليه اللفظ. شخص يفكر في الناس في حدود «الضوء الصافي» في الفضاء وفي الجهاز العصبي المساعد في آن واحد. الكبار خليط من العقل ووظائف الأعضاء. - والأطفال؟ - هم الصغار الذين يظنون أنهم يعلمون ما لا يعلم الكبار. - ومن ثم وجب أن يقال لهم سارعوا إلى اللعب. - تماما.
وسألها: هل طريقة معالجتك إجراء معتمد في بالا؟
وأكدت له ذلك بقولها: نعم هي إجراء معتمد. الأطباء في عالمكم يتخلصون من الأطفال بتسميمهم بملح حامض البريتوريك المسكن. أما نحن فنتحدث إليهم عن الكاتدرائيات والغربان. وهنا تحول صوتها إلى ما يشبه الغناء وأضافت: وعن السحب البيضاء التي تسبح في السماء، وعن الإوز العراقي الذي يسبح فوق نهر الحياة المظلم الصقيل الذي لا يقاوم ...
واحتج على ما تقول وصاح بها: كفى، كفى. لا تذكري شيئا من ذلك!
وأضاءت وجهها الجاد الأسمر ابتسامة خفيفة ثم قهقهت ضاحكة. ونظر إليها ويل في دهشة فخيل له فجأة أنها استحالت شخصا آخر، سوزيلا ماك فيل أخرى، مرحة، عابثة، ساخرة.
وشاركها الضحك قائلا لها: أنا أعرف حيلك.
وهزت رأسها وهي ما تزال تضحك وقالت: حيل! إنما كنت أشرح كيف فعلتها. - أنا أعلم تماما كيف فعلتها، كما أعلم كذلك أنها طريقة فعالة، وفوق ذلك أسمح لك بفعلها ثانية؛ كلما لزم الأمر.
وقالت في جدية أشد: إن شئت. وسوف أريك كيف تضغط على أزرارك بنفسك. إننا نعلم ذلك في كل مدارسنا الابتدائية، نعلمهم القراءة والكتابة والحساب كما نعلمهم مبادئ «ح. أ». - ما هذا؟ - حرية الإرادة. اسم آخر للتحكم في المصير.
ورفع حاجبيه وقال: التحكم في المصير!
وقالت له مؤكدة: كلا، كلا. لسنا من الغفلة كما تظن. نحن نعلم تمام العلم أن جزءا فقط من مصيرنا هو الذي يمكن أن نتحكم فيه. - وأنتم تتحكمون فيه بضغطكم على أزراركم؟ - نضغط على أزرارنا ثم نتصور ما نود أن يحدث؟ - وهل يحدث؟ - في حالات كثيرة.
وبنغمة تهكمية في صوته قال: أمر بسيط!
ووافقته قائلة: بسيط بدرجة مذهلة، ومع ذلك فعلى مدى علمي نحن الشعب الوحيد الذي يعلم «ح. أ» بانتظام للأطفال. أنتم تكتفون بأن تذكروا لهم ما هو مفروض عليهم أن يفعلوه، ثم تتركون الأمر عند هذا الحد، تقولون لهم مثلا أحسنوا السلوك. ولكن كيف؟ إنكم لا تشرحون لهم ذلك قط. كل ما تفعلون هو أنكم تقدمون إليهم النصيحة وتوقعون بهم العقاب. يا لها من بلاهة!
ووافقها على ذلك وقال: إنها محض بلاهة! وتذكر مستر كراب رئيس الأسرة بالمدرسة وهو ينصحهم بتجنب الاستمناء الذاتي، كما تذكر العقوبات البدنية والمواعظ الأسبوعية وصلاة الوعيد في أربعاء الرماد
2
حينما كان يقال لهم: «ملعون من يضاجع زوجة جاره، آمين.» - وإذا أخذ الأطفال عندكم هذه البلاهة مأخذ الجد أصبحوا آثمين بائسين عندما يكبرون . وإذا هم لم يأخذوه مأخذ الجد أمسوا ساخرين بائسين. وإذا هم تصرفوا من منطلق السخرية البائسة كانوا إما بابويين وإما ماركسيين. ولا عجب أن تكون لديكم هذه الألوف من السجون والكنائس وزنزانات الشيوعية. - أفهم من ذلك أن لديكم منها القليل في بالا.
وهزت سوزيلا رأسها وقالت: ليس لدينا ما يشبه سجن الكتراز أو بيلي جريهام أو ماوتسي تنج. ليس لدينا جحيم على الأرض ولا نعيم في السماء، ولا أمل الشيوعية في القرن الثاني بعد العشرين. نحن مجرد رجال ونساء وأطفالهم نحاول أن نستغل «الآن وهذا المكان» غير خير ما يستطاع، بدلا من أن نعيش في مكان آخر كما تفعلون أنتم في أكثر الأحيان. وفي وقت آخر، في عالم خيالي آخر من صنع أنفسنا. والواقع أن الخطأ ليس منكم؛ فأنتم مرغمون تقريبا على هذا الأسلوب من العيش لأن الحاضر يخيب آمالكم. وهو يخيب آمالكم لأنكم لم تتعلموا قط أن تسدوا الفجوة التي تفصل بين النظرية والتطبيق، بين ما تقررون لأنفسكم في رأس السنة وسلوككم الفعلي.
وروى قولهم: أنا لا أعمل على تحقيق الخير الذي أريد، وإنما أعمل على تحقيق الشر الذي لا أريد. - من قال هذا؟ - الرجل الذي نشر المسيحية. القديس بولس.
قالت: هذه أسمى المثل العليا الممكنة بغير وسائل لتحقيقها. - ما عدا الوسيلة فوق الطبيعية التي تعمل على تحقيقها على يد شخص آخر.
وألقى ويل رأسه إلى الخلف وأنشد ما يلي:
من عروق عمانوئيل،
امتلأت بركة من الدماء،
في فيضها ينغمس الآثمون،
ومن خطاياهم يتطهرون.
وسدت سوزيلا أذنيها وقالت: هذا شيء فاحش حقا.
وقال لها ويل: هذه هي الأنشودة المفضلة لأستاذ أسرتي المدرسية. كنا نتغنى بها مرة كل أسبوع تقريبا طوال وجودي بالمدرسة.
قالت: أحمد الله أن البوذية لم يكن بها قط دماء. عاش جوتاما
3
حتى بلغ الثمانين من عمره، ومات لأنه كان مجاملا إلى حد أنه لم يرفض الطعام السيئ. والظاهر أن الميتة العنيفة تستدعي دائما مزيدا من الموت العنيف. «إذا كنتم لا تصدقون أنكم بدماء مخلصي تفتدون أغرقتكم في دمائكم.» في العام الماضي درست في شيفا بورام شيئا من تاريخ المسيحية.
وارتعدت سوزيلا من الذكرى ثم قالت: يا للهول! وذلك كله لأن ذلك الرجل المسكين لم يعرف كيف ينفذ نواياه الطيبة.
قال ويل: وأكثرنا يسير على هذا المنوال. الشر لا نريده ولكنا نفعله، وبأية طريقة!
وكان رد الفعل عند ويل هو ألا يتسامح مع من لا يستحق التسامح، فضحك ساخرا من نفسه. ضحك لأنه كان يعلم طهارة قلب مولي، ولكنه - وبعينين مفتوحتين - اختار الفجوة القرنفلية وما تعنيه من شقاء لمولي، ونهاية لها، وإحساسه بالذنب يفتك بصدره ثم بالألم، الألم المبرح الذي شعر به بدرجة لا تتناسب البتة مع مسبباته الوضيعة الهزلية في طبيعتها، وذلك عندما فعلت بابز في الوقت المناسب ما لا بد أن يتوقعه أي غافل من أنها لا بد فاعلته؛ عندما طردته من فردوسها الجهنمي الذي أضاءه إعلان الخمر واتخذت غيره عشيقا لها.
وسألته سوزيلا: ما بك؟ - لا شيء. لماذا تسألين؟ - لأنك لا تحسن إخفاء مشاعرك. كنت تفكر في أمر جعلك غير سعيد.
قال: عيناك حادتان. ثم صرف عنها النظر.
وساد صمت طويل. هل يخبرها. هل يخبرها عن بابز وعن مولي المسكينة، وعن نفسه، يخبرها عن كل شيء كئيب سخيف لم يخبر به قط أحدا - حتى وهو مخمور - حتى أعز أصدقائه؟ والأصدقاء القدامى يعلمون الكثير عنه، والكثير عن الأطراف الأخرى ذات الشأن، والكثير عن تلك اللعبة الخيالية المضحكة التي دأب عليها وتفنن فيها كما فعل ذلك السيد الإنجليزي الذي كان كذلك بوهيميا وشاعرا منتظرا، كما كان يدافع اليأس لأنه كان يعلم أنه لا يمكن أن يصبح شاعرا مجيدا؛ صحافيا محنكا ووكيلا خاصا لرجل ثري يزدريه على الرغم من أنه يغدق له في العطاء. كلا، الأصدقاء القدامى لا يصلحون. ولكن هذه الغريبة الضئيلة السمراء، هذه الغريبة التي أمسى مدينا لها بالكثير، والتي أخلص لها على الرغم من أنه لم يكن يعلم عنها شيئا، هذه الغريبة لن تصدر عنها أحكام مسبقة، ولا أحكام متحيزة، بل قد تصدر عنها فيما يأمل (على الرغم من أنه درب نفسه على ألا يأمل أبدا!) استنارة غير مرتقبة، ومعونة إيجابية عملية، (وإله يعلم أنه كان بحاجة إلى المعونة، والله يعلم كذلك جيدا أنه لن يعترف بأنه في حاجة إلى المعونة، ولن يهبط إلى الحد الذي يجعله طالبا لها).
وكالمؤذن وهو فوق المئذنة أخذت تلك الطيور الناطقة تصيح من أعلى نخلة باسقة خلف أشجار المنجة، وتردد قولها: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم، الآن، وفي هذا المكان.
فصمم ويل على أن يغامر، بطريقة غير مباشرة؛ وذلك بأن يبدأ هو الحديث لا عن مشكلاته هو ولكن عن مشكلاتها. فبدأ يتكلم دون أن ينظر إلى سوزيلا «لأنه أحس أن ذلك قد لا يتفق وقواعد الاحتشام». - ذكر لي الدكتور ماك فيل شيئا عن ... عما حدث لزوجك.
ووقعت هذه الكلمات من قلبها موقع السهم. ولكن ذلك كان متوقعا، وصوابا وأمرا لا مناص منه.
قالت: تنقضي يوم الأربعاء المقبل أربعة أشهر بعد الحادث، ثم قالت وهي تتأمل وبعد صمت لم يدم طويلا شخصان وكأنهما خلق جديد. وفجأة يبتر نصف هذا المخلوق الجديد، ولكن النصف الآخر لا يموت، ولا يمكن أن يموت، ولا ينبغي أن يموت. - لا ينبغي أن يموت؟ - لأسباب عدة؛ من أجل الأطفال، ومن أجل الشخص ذاته، ومن أجل طبيعة الأشياء كلها. وببسمة خفيفة عززت بها الحزن البادي في عينيها أضافت إلى ذلك قولها: ولست في حاجة إلى أن أقول إن هذه الأسباب لا تخفف من صدمة البتر ولا تجعل ما يترتب عليه أمرا محتملا بدرجة أكبر. ولا يساعد المرء إلا ما كنا نتحدث فيه منذ لحظة؛ أقصد «التحكم في المصير». وهزت رأسها ثم قالت وحتى هذا ... لأن «ت. م» (التحكم في المصير) قد يجعل الميلاد بغير ألم، ولكنه أبدا لن يجعل فقد الحبيب بغير ألم، وذلك بالطبع هو ما ينبغي أن يكون. ليس من الصواب أن يكون فقدان الحبيب خاليا تماما من الألم. إن ذلك يهبط بك دون المستوى الإنساني.
وكرر عبارتها الأخيرة: «دون المستوى الإنساني»، إنها كلمات ثلاث قصيرة ولكنها تلخص حياته كلها!
وقال بصوت مسموع: والأمر المفزع حقا هو أن يعلم المرء أنه هو المسئول عن موت الشخص الآخر.
وسألته: هل كنت متزوجا؟ - اثنا عشر عاما، حتى الربيع الماضي ... - ثم ماتت؟ - ماتت في حادث. - في حادث؟ إذن كيف كنت مسئولا عن موتها؟ - وقع الحادث لأني ... فعلت الشر الذي لم أرد أن أفعله. وفي ذلك اليوم اقترفته. وأربكها هذا الإيذاء وأطار صوابها، ورفعتها إلى الانطلاق وهي تسوق العربة؛ فاصطدمت صدمة قوية. - هل كنت تحبها؟
وتردد لحظة، ثم هز رأسه هزا بطيئا. - هل كان هناك شخص آخر كنت به أكثر حفاوة؟
وبملامح وجهه التي تدل على سخريته من نفسه قال: شخص آخر لم يكن بوسعي أن أحد من حفاوتي به. - وذلك كان الشر الذي فعلته ولم ترد أن تفعله؟ - فعلته وثابرت على فعله حتى قتلت المرأة التي كان ينبغي لي أن أحبها. ولكني لم أفعل، بل وثابرت على فعل هذا الشر حتى بعد أن قتلتها، وعلى الرغم من سخطي على نفسي على هذا الذي كنت أفعل. وكذلك كنت ساخطا على الشخص الذي دفعني إلى ارتكاب ما لم أرد. - دفعتك إلى فعله فيما أظن لأن جسمها كان من النوع المطلوب؟
وأومأ ويل برأسه، ثم ساد الصمت.
وأخيرا سألها: هل تعرفين كيف يكون شعور المرء عندما يحس أنه ليس هناك شيء واقعي تماما حتى نفسه؟
وأومأت سوزيلا برأسها وقالت: يحدث ذلك أحيانا عندما يوشك المرء أن يتبين له أن كل شيء - حتى نفسه - أكثر واقعية مما كان يتصور. وما أشبه ذلك بتغيير السرعة في السيارة، إنك تجعل ترسها أولا في درجة السكون ثم تنقله إلى أعلى.
قال ويل: أو إلى أسفل. لم يكن الانتقال إلى أعلى، بل كان إلى أسفل. لا، لم يكن إلى أسفل، بل إلى العكس. حدث ذلك أول مرة عندما كنت في انتظار أوتوبيس ينقلني من شارع فليت إلى بيتي. وكان هناك ألوف الألوف من البشر، كلهم يتحرك ، وكل منهم فريد، كل منهم مركز الكون. ثم ظهرت الشمس من خلف السحب فأشرق كل شيء واتضح بصورة عجيبة، وفجأة وبسرعة خاطفة انقلبوا جميعا إلى ديدان. - ديدان؟ - نعم، تلك الديدان الشاحبة الصغيرة ذات الرءوس السوداء التي ترينها في اللحم الفاسد. وبطبيعة الحال لم يتغير شيء ما، وبقيت وجوه الناس كما هي، وأزياؤهم كما هي. ومع ذلك كانوا جميعا ديدانا. بل لم يكونوا ديدانا حقيقية، وإنما أشباح ديدان، ما يتوهمه المرء أنه ديدان. أما أنا فقد كنت صورة وهمية لمشاهد الديدان، وعشت في عالم الديدان هذا شهورا. عشت فيه، وعملت فيه، وخرجت فيه للغداء والعشاء؛ كل ذلك دون أدنى اهتمام بما كنت أعمل. ودون أدنى متعة أو لذة، فاقد الشهية. وعندما حاولت أن أمارس الحب مع فتاة كنت فيما مضى ألهو بها أحيانا تبين لي أني عاجز تماما. - وماذا كنت تتوقع؟ - هذا بعينه. - إذن لماذا ...؟
وابتسم لها ويل ابتسامة ساخرة وهز كتفيه ثم قال: من باب الاهتمام العلمي. كنت كعالم الحشرات أبحث في الحياة الجنسية لليرقات الوهمية. - وبعد ذلك بدا لك كل شيء - فيما أظن - أشد إمعانا في اللاواقعية.
ووافقها قائلا: بل أكثر من ذلك. إن كان هذا بالإمكان. - ولكن ما الذي أتى باليرقات أول الأمر؟
أجاب: أولا. كنت ابن والدي، من مخمور متنمر وشهيدة مسيحية. وسكت برهة ثم قال: وفوق أني كنت ابن والدي. كنت ابن أخ عمتي ماري. - وما شأن عمتك ماري بهذا؟ - كانت الشخص الوحيد الذي أحببت. وعندما بلغت السادسة عشرة أصيبت بالسرطان، وأزيل ثديها الأيمن أولا، ثم ثديها الأيسر ثانيا بعد عام واحد. وبعد ذلك عرضوها للأشعة السينية ولإشعاعات أخرى، ثم بلغ السرطان منها الكبد، وكانت هذه نهايتها. ووعيت ذلك من البداية حتى النهاية. وكان في ذلك لصبي في العقد الثاني من عمره تربية «عقلية حرة».
وسألته سوزيلا: من أي ناحية؟ - من حيث التفاهة في صورتها البحتة والتطبيقية. وبعد بضعة أسابيع من انتهاء دراستي الخاصة في الموضوع جاءت البداية الكبرى للدراسة العامة؛ الحرب العالمية الثانية، وأعقبتها دراسة تجديدية مستمرة مع الحرب الباردة الأولى. وفي غضون ذلك كله كنت أريد أن أكون شاعرا، وتبين لي أني أفتقر إلى الاستعداد. وبعد الحرب اشتغلت بالصحافة لأكسب المال. وكنت لا أبالي إذا جعت - إذا اقتضى الأمر ذلك - في سبيل محاولتي أن أكتب شيئا مقبولا؛ نثرا جيدا على الأقل بعدما عرفت أنه لا يمكن أن يكون شعرا جيدا. وكان علي ألا أعتمد على والدي العزيزين. وعندما مات أبي في يناير من عام ستة وأربعين كان قد تخلص من المال اليسير الذي ورثته الأسرة، وبعدما ترملت أمي أصبحت عرجاء من أثر التهاب المفاصل وكان لا بد لها من عائل. وهكذا توجهت إلى شارع فليت،
4
أعولها في سهولة ونجاح كانا مذلة لي تماما. - ولماذا كانت مذلة؟ - ألا تحسين المذلة إن وجدت نفسك تكسبين المال من أرخص أنواع الأدب الزائف البراق؟ لقد نجحت لأني انحدرت إلى المرتبة الثانية التي لم يكن من الممكن علاجها. - وكان من نتيجة ذلك كله هذه اليرقات؟
وهز رأسه إيجابا وقال: لم تكن ديدانا حقيقية، إنما كانت ديدانا وهمية. وهنا ظهرت مولي في الصورة، قابلتها في حفلة لليرقات من الطبقة الراقية. وعرفوني بها، ودار بيننا حديث تافه مهذب عن التصوير اللاهادف. ولما كنت لا أريد أن أرى مزيدا من الديدان لم أنظر إليها. ولكن لا بد أنها كانت تنظر إلي. ثم أضاف قوله: وبهذه المناسبة مولي لها عينان زرقاوان رماديتان شاحبتان، عينان ترى بهما كل شيء؛ وكانت شديدة الملاحظة بدرجة لا تصدق، ولكنها تلاحظ بغير حقد أو مراقبة أو محاسبة؛ إذا رأت شرا لا تدينه قط، وتكتفي بالأسف الشديد على الشخص الذي أرغمته الظروف لكي يبوح بهذه الآراء أو يفعل ذلك الشيء البغيض. وأعود فأقول إنها لا بد كانت تنظر إلي ونحن نتبادل الحديث؛ لأنها سألتني بغتة لماذا أنا في حزن شديد. وكنت قد تناولت كأسين من الشراب ولم أر في طريقة سؤالها وقاحة أو تهجما؛ لذلك حدثتها عن الديدان، واختتمت حديثي عنها بقولي، وأنت واحدة منها. ثم نظرت إليها لأول مرة، دودة لها عينان زرقاوان ووجه كأنه لإحدى أولئك النسوة المقدسات اللائي يظهرن أثناء حفلات الصلب في فلمنك. - وهل أشبعت بذلك غرورها؟ - أظن ذلك. وكانت قد تخلت عن المذهب الكاثوليكي ولكنها ما زالت تميل إلى مثل هذه الحفلات وإلى النسوة المقدسات. على كل حال، في اليوم التالي طلبتني بالتليفون صباحا وقت الإفطار، وسألتني هل أحب أن أخرج معها في نزهة بالعربة في الريف؟ وكان يوم الأحد، وبمعجزة من السماء كان الجو لطيفا في ذلك اليوم. فقبلت الدعوة، وقضينا ساعة في أيكة من شجر البندق، نقطف زهر الربيع وننظر إلى شقائق النعمان الصغيرة البيضاء؛ لأن شقائق النعمان لا تقطف فهي تذبل في غضون ساعة واحدة، وأنعمت النظر في أيكة البندق؛ أنظر إلى الزهور بالعين العارية، ثم أنظر إليها من خلال منظار مكبر كانت مولي قد أحضرته معها. وكان في ذلك علاج نفسي غير عادي لست أدري له سببا؛ مجرد النظر إلى قلوب زهور الربيع وشقائق النعمان. ولم أعد أرى ديدانا بقية النهار، غير أن شارع فليت كان بانتظاري. وما إن حل موعد الغداء يوم الاثنين حتى كان المكان يعج بها كما هي الحال دائما؛ ملايين اليرقات، ولكني الآن أعلم ما أصنع بها. وفي ذلك المساء ذهبت إلى مرسم مولي. - هل هي مصورة؟ - لم تكن مصورة حقيقية. وكانت تدرك ذلك، أدركته ولكنها لم تمتعض له، واكتفت بأن تستغل افتقارها إلى الموهبة. إنها لم تصور من أجل الفن، إنما كانت تصور لأنها تحب أن تنظر إلى الأشياء، وتحب أن تحاول أن تنقل بكل دقة ما تقع عليه عيناها. وفي ذلك المساء أعطتني لوحة وفرجونا، وطلبت إلي أن أفعل فعلها. - وهل أفلحت؟ - أفلحت إلى حد بعيد، حتى إني بعد انقضاء شهرين قطعت تفاحة فاسدة فلم أجد الدودة التي كانت بداخلها على شكل يرقة؛ أعني من الناحية الذاتية. أما موضوعيا فقد كانت كذلك. كانت تتميز بكل صفات اليرقة. وهكذا صورها كلانا؛ لأننا كنا دائما نصور نفس الأشياء في نفس الوقت. - وماذا عن الديدان الأخرى، الديدان الوهمية خارج التفاحة؟ - إنني ما زلت أنتكس وبخاصة في شارع فليت وفي حفلات الكوكتيل. ولكن الديدان قل عددها بالتأكيد، وخفت مطاردتها يقينا. وفي تلك الأثناء كان يحدث في المرسم شيء جديد. كنت أحب؛ أحب لأن الحب معد وكانت مولي تحبني بدرجة ملحوظة؛ لماذا؟ الله وحده يعلم.
ورمقته سوزيلا بعينها لتسبر غوره، ثم ابتسمت وقالت: هناك عدة أسباب ممكنة، ربما أحبتك لأنك ... ماذا أقول؟
لأنك شخص جذاب.
وضحك وهو يقول: أشكرك على هذا الإطراء الجميل.
وواصلت سوزيلا حديثها قائلة: ومن ناحية أخرى (ولم يكن هذا الكلام على سبيل الإطراء) إنها ربما أحبتك لأنك حملتها على أن تشعر بالأسف الشديد عليك. - أخشى أن تكون هذه هي الحقيقة؛ لأن مولي ولدت «أختا للرحمة». - وليست «أخت الرحمة» لسوء الحظ «كزوجة للحب».
قال: وذلك ما تبينته في حينه. - بعد زواجكما فيما أظن.
وبعد لحظة من التردد قال ويل: بل قبل ذلك في الواقع؛ لا لأن الرغبة كان تلح عليها، ولكن لأنها كانت حريصة على أن تفعل أي شيء لتسرني؛ لأنها - من حيث المبدأ - لم تعتقد في التقاليد وكانت تميل كل الميل نحو الحب المتحرر. وتذكر الأشياء الفاضحة التي كانت تعبر عنها عرضا وفي هدوء تام حتى مع وجود أمه. ثم أضاف: وأعجب من ذلك أنها كانت تميل إلى الحديث المتحرر عن هذه الحرية.
وأوجزت سوزيلا في العبارة حين قالت: عرفت ذلك من قبل ومع ذلك تزوجتها؟!
وأومأ ويل رأسه إيجابا دون أن ينبس ببنت شفة. - لأنك كنت رجلا مهذبا - فيما أحسب - والرجل المهذب يبر بوعده. - لهذا السبب العتيق من ناحية، ولأني كنت أحبها من ناحية أخرى. - هل كنت فعلا تحبها؟ - نعم، لا، لست أدري. ولكني في ذلك الحين كنت أدري، أو على الأقل ظننت أنني أدري. كنت على اقتناع تام أنني أحبها فعلا. وكنت أعلم - ولا زلت أعلم - سبب اقتناعي. كنت شاكرا لها فضلها لأنها استأصلت تلك الديدان. ثم إني احترمتها كما اعترفت لها بالجميل. كنت أعجب بها، ولقد كانت أفضل وأشد إخلاصا مني. ولكنك - لسوء الحظ - مصيبة؛ «فأخت الرحمة» ليست مثل «زوجة للحب». ولكني كنت على استعداد لأن أقبل مولي بشروطها لا بشروطي. كنت مستعدا للاعتقاد بأن شروطها أفضل من شروطي.
وبعد صمت طويل سألته سوزيلا: ومتى بدأت في علاقاتك الجانبية؟
وابتسم ويل في سخرية وقال: بعد ثلاثة أشهر من زواجنا. وكانت المرة الأولى مع إحدى السكرتيرات في المكتب. يا إلهي، لكم كانت مدعاة للسأم! ثم مع مصورة شابة، فتاة يهودية صغيرة فظة كانت مولي قد عاونتها بالمال حينما كانت تدرس الفن على منحة سليد.
5
وقد تعودت أن أزورها بمرسمها مرتين كل أسبوع، من الخامسة حتى السابعة. ولم تعرف مولي ما كان يدور بيننا إلا بعد ثلاث سنوات تقريبا. - وأزعجها ذلك فيما أظن؟ - أكثر مما كنت أتوقع. - وماذا فعلت؟
قال ويل وقد هز رأسه: من هنا بدأت الأمور تتعقد. لم يكن في نيتي أن أتخلى عن قضاء ساعات الكوكتيل مع راشيل. ولكني كنت ساخطا على نفسي لأنني سببت لمولي الشعور بالتعاسة. وفي نفس الوقت كنت أمقتها لهذه التعاسة التي أحست بها. وساءتني آلامها كما ساءني الحب الذي جلب عليها الآلام. وشعرت أنها بآلامها وحبها لم تنصفني، بل كانت تهددني لترغمني على التخلي عن لهوي البريء مع راشيل؛ فلقد كانت بالمبالغة في حبي وبالشقاء الذي تحسه إزاء ما كنت أفعل - وهو ما حملتني هي حقا على فعله - تضغط علي، وتحاول أن تقيد حريتي، ولكنها كانت أثناء ذلك تعسة حقا. ومع أني كنت أمقتها لتهديدها لي بهذه التعاسة فقد أشفقت عليها كل الإشفاق؛ وأعني الإشفاق لا الرحمة؛ فالرحمة مشاركة في الألم، وأما ما كنت أريده بأي ثمن فهو أن أتحاشى الألم الذي كانت تسببه لي معاناتها، وأن أتجنب التضحيات المؤلمة التي أستطيع أن أنهي بها ما تعاني. فكانت استجابتي للموقف هي الإشفاق، آسف لها من خارجي؛ إن كنت تدركين ما أعني، آسف لها كما يأسف المشاهد، أو عاشق الفن أو الخبير بأسباب العذاب. وهذا الإشفاق الذي مصدره التذوق الفني كان يستبد بي كلما بلغت بها التعاسة ذروتها حتى لقد كدت أظنه حبا. أقول «كدت » لأني لم أخدع نفسي تماما. وعندما كنت أعبر عن إشفاقي بالعطف البدني (وهو ما فعلته لأن ذلك كان الوسيلة الوحيدة لإيقاف تعاستها وإيقاف الألم الذي كانت تعاستها تصيبني به ولو إلى حين) كان هذا العطف يبوء بالفشل قبل أن يبلغ ذروته الطبيعية. أقول كنت أبوء بالفشل لأنها كانت - بحكم مزاجها - مجرد «أخت رحيمة» ولم تكن زوجة. ومع ذلك فلقد أحبتني - على كل مستوى خلا المستوى الحسي - بالالتزام المطلق؛ وهو التزام كان يتطلب الرد بالالتزام من جانبي. ولكني لم أرد أن ألتزم، وربما لم يكن ذلك بوسعي في الواقع، فبدلا من أن أشكر لها عطاءها نفسها لي. كنت أشعر بالاستياء؛ فلقد كان لهذا العطاء حقوق علي أن أؤديها، وهي حقوق رفضت أن أعترف بها. وهكذا كنا في نهاية كل أزمة من الأزمات؛ نعود إلى بداية المسرحية القديمة؛ مسرحية الحب الذي يعوزه الحس يكلف بالالتزام إزاء حس يعوزه الحب، فيثير ردود أفعال مختلطة بشكل عجيب من الإثم والسخط، والإشفاق والامتعاض، وأحيانا من البغض الفعلي (وهناك دائما إحساس دفين بتأنيب الضمير). وكانت تصاحب ذلك في جميع الحالات وتسير معه في تناغم سلسلة من الأماسي المختلسة أقضيها مع «المصورة الصغيرة الفظة».
قالت سوزيلا: أرجو أن تكون على الأقل قد استمتعت بهذه الأماسي.
هز كتفيه وقال: بدرجة معتدلة؛ فإن راشيل لم تنس قط أنها مثقفة. تسألك عن رأيك في بيرودي كوسيمو
6
في أحرج اللحظات. أما المتعة الحقيقية - والعذاب الحقيقي بطبيعة الحال - فلم أعرفها حتى ظهرت بابز على مسرح حياتي. - ومتى كان ذلك؟ - منذ أكثر قليلا من عام، في أفريقيا. - أفريقيا؟ - بعث بي إلى هناك جو ألديهايد. - ذلك الرجل الذي يملك الصحف؟ - وغير ذلك. وكان متزوجا من إيلين عمة مولي. وكان فوق ذلك رب أسرة مثالي. ومن أجل ذلك كان على ثقة تامة من استقامته حتى حينما كانت تشغله العمليات المالية المشينة. - وأنت تعمل لحسابه؟
وأومأ ويل برأسه إيجابا وقال: تلك كانت هديته لمولي بمناسبة قرانها؛ وظيفة لي في صحف ألديهايد تقريبا بضعف المرتب الذي كنت أتقاضاه ممن كنت أعمل معهم من قبل، هدية سخيفة! ولكنه كان شديد الولع بمولي. - وماذا كان رد الفعل عنده بالنسبة لبابز؟ - لم يعلم عنها شيئا قط؛ ولم يعلم أن هناك سببا ما لحادثة مولي. - ومن ثم فهو يستمر في استخدامك من أجل زوجتك المتوفاة؟
هز ويل كتفيه وقال: المبرر هو أن أمي بحاجة إلى أن أعولها. - وبالطبع أنت لا ترضى عن فقرك؟ - طبعا لا أرضى.
ثم كانت فترة سكون.
وأخيرا قالت سوزيلا: لنعد إلى أفريقيا. - بعثوا بي إلى هناك لأكتب سلسلة عن وطنية الزنوج. ولست بحاجة إلى القول بأني قمت كذلك بعمليات احتيال صغيرة خاصة في شئون التجارة لصالح العم جو. وفي الطائرة وأنا في طريق العودة من نيروبي وجدت نفسي جالسا إلى جوارها. - إلى جوار الشابة التي أنت أشد ما تكون بغضا لها؟ نعم أشد ما أكون بغضا لها وأكثر ما أكون رفضا لها. ولكن إذا كان المرء مدمنا فلا بد له من جرعة من المخدر؛ وهي الجرعة التي تعلم سلفا أن فيها هلاكك.
وقالت وهي تفكر: هذا شيء عجيب، ونحن في بالا ليس لدينا مدمنون. - ليس لديكم مدمنون حتى في العلاقة الجنسية؟ - مدمنو الجنس هم كذلك مدمنو أشخاص، أو بعبارة أخرى هم محبون. - ولكن المحبين أحيانا يمقتون من يحبون. - هذا أمر طبيعي؛ فانا مثلا لي اسم واحد وأنف واحد وعينان لا يتغيران. ولكن ذلك لا يستتبع أني دائما نفس المرأة. والعلم بهذه الحقيقة والاستجابة لها بشكل معقول جانب من جوانب فن الحب.
وبأقصى ما يمكن من إيجاز روى لها ويل بقية القصة. وهي نفس القصة، بعدما ظهرت بابز في الصورة، كما حدث من قبل. نفس القصة مع الإمعان فيها؛ فبابز ليست إلا راشيل وقد ارتفعت إلى قوة أعظم، قل هي راشيل تربيع، أو راشيل أس ن. كما أن الشقاء الذي أحلقه بمولي بسبب بابز أكبر نسبيا مما كابدته من ألم بسبب راشيل، وكذلك كان سخطه، وإحساسه بالغضب من تهديدها له بحبها آلامها. وتأنبيه لضميره وإشفاقه، وتصميمه - على الرغم من تأنيب الضمير ومن الإشفاق - على أن يستمر في حصوله على ما يريد، وعلى ما كان يكره نفسه لرغبته فيه، وعلى ما رفض رفضا باتا أن يتخلى عنه؛ كل هذه المشاعر والأحاسيس كانت كذلك أقوى نسبيا في حالة بابز منها في حالة راشيل. وفي الوقت نفسه كانت بابز أشد إلحاحا، وتطلب منه مزيدا من الوقت؛ لا لينفقه فقط في الفجوة القرنفلية. ولكن خارجها كذلك، في المطاعم، والملاهي الليلية، وفي حفلات الكوكتيل الفظيعة التي تدعو إليها أصدقاؤها. وفي قضاء عطلات نهاية الأسبوع في الريف. كانت تقول له: سنكون أنا وأنت وحدنا يا حبيبي. معا في عزلة. معا في عزلة تهيئ له الفرصة لكي يسبر الأغوار السحيقة لتفاهة عقلها وسوقيتها. ولكن شهوته استبدت به على الرغم مما كان يحس من ملل وانحطاط في الذوق، ومن نفور خلقي وثقافي. وبعد إحدى عطلات نهاية الأسبوع هذه أمسى مدمنا لبابز كما كان من قبل بدرجة لا رجاء فيها. وبقيت مولي، من جانبها - من جانب موقفها كأخت رحيمة - على الرغم من كل شيء كذلك مدمنة لويل فارنبي بنفس الدرجة التي لا رجاء فيها. درجة لا رجاء فيها بالنسبة إليه؛ لأن رغبته الوحيدة هي أن تخفف من حبها وأن تسمح له أن يذهب إلى الجحيم في هدوء. أما فيما يتعلق بمولي فقد كان إدمانها دائما وبغير كبت مفعما بالأمل. فلم تكف قط عن توقعها لمعجزة تغير مجرى الأمور فتحوله إلى ويل فارنبي عطوفا، بعيدا عن الأنانية، محبا، وهو (على الرغم من كل الشواهد، وعلى الرغم من كل ما تكرر من خيبة الأمل) ما أصرت في عناد شديد على اعتباره نفسه الحقة. والواقع أنه لم يفصح عن عزمه على هجرها للعيش مع بابز إلا من خلال تلك المقابلة الأخيرة القاضية، عندما كبت إشفاقه وأرخى العنان لاستيائه من تهديدها له بإحساسها بالتعاسة؛ عندئذ فقط حل اليأس نهائيا محل الأمل. هل تعني ما تقول يا ويل؟ هل تعنيه حقا؟ نعم أعنيه حقا . وفي يأس مطلق سارت إلى العربة وانطلقت بها والمطر يهمي؛ نحو موتها. وفي موكب الجنازة وهم يوارونها التراب أخذ عهدا على نفسه ألا يرى بابز بعد ذلك. أبدا، أبدا لن يراها. وفي ذلك المساء، وهو منكب على مكتبه يكتب مقالا عنوانه «ماذا أصاب الشاب» محاولا ألا يتذكر المستشفى، والقبر المفتوح، ومسئوليته عن كل ما حدث، تنبه مذعورا عندما سمع رنينا قويا من جرس الباب. هذه رسالة عزاء متأخرة من غير شك ... وفتح الباب، وبدلا من البرقية ألفى بابز حزينة بغير زينة ومرتدية ثيابا سوداء. - عزيزي ويل! وجلسا على الأريكة في غرفة الجلوس، تربت شعره وكلاهما يبكي. - عندما يتقطب الجبين من الألم والكروب، تكونين لي كالملاك المعين. ولست بحاجة إلى القول بأنهما أويا إلى الفراش عاريين بعد ساعة من زمان. وبعد ذلك انتقل إلى جوارها في الفجوة القرنفلية. ولا يفوت أي غافل أن يدرك أن بابز في غضون ثلاثة أشهر بدأت تمله، وفي غضون أربعة أشهر ظهر في إحدى حفلات الكوكتيل رجل هائل وافدا من كينيا.
وتسلسلت الحوادث، وبعد ثلاثة أيام عادت بابز إلى بيتها تعد الفجوة لمستأجر جديد ولتنذر المستأجر القديم بالإخلاء. - هل تعنين ذلك فعلا يا بابز؟
نعم لقد عنت ذلك فعلا.
وسمعت بين الأشجار خارج النافذة خشخشة، وبعد برهة من الزمن بصوت مرتفع مزعج وفي موعد غير مرتقب صاح طائر ناطق يقول: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم.
ورد عليه ويل صائحا: اسكت!
وعادت المينة تكرر قولها: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم. الآن ... - اسكت!
ثم ساد الصمت.
وقال ويل: كان لا بد لي أن أسكته لأنه طبعا كان على صواب مطلق. هنا يا قوم، والآن يا قوم. أما هناك وآنذاك فلا محل لهما. أليس كذلك؟ وماذا عن موت زوجك مثلا؟ هل هذا أمر لا محل له؟
وحدقت فيه سوزيلا لحظة في صمت، ثم هزت رأسها في بطء شديد وقالت: في إطار ما علي أن أفعله الآن؛ نعم الأمر لا محل له بتاتا. وهذا شيء كان لا بد لي أن أتعلمه. - وهل يتعلم المرء كيف ينسى ؟ - ليس الأمر أمر نسيان. ما على المرء أن يتعلمه هو كيف يذكر ويبقى مع ذلك متحررا من الماضي. كيف يكون هناك مع الموتى ومع ذلك يبقى هنا في مكانه مع الأحياء. وابتسمت له ابتسامة حزينة يسيرة وأضافت قولها: ليس الأمر هينا.
وكرر هذه العبارة ويل وقال: نعم ليس الأمر هينا. وفجأة فقد كل حصانته وزال عنه كبرياؤه وقال لها: هل تعينيني؟
قالت وقد مدت يدها إليه: هذا اتفاق بيننا. وسمع وقع أقدام دفعهما إلى الالتفات. وإذا بالدكتور ماك فيل يدخل الغرفة.
الفصل الثامن
- مساء الخير يا عزيزتي. مساء الخير يا مستر فارنبي.
قالها بنغمة تنم عن السرور، ولم يكن سرورا مفتعلا، ولكنه طبيعي وصادق كما بدا لسوزيلا لأول وهلة. ومع ذلك فلا بد أن يكون قبل قدومه إلى هنا قد توقف عند المستشفى، ولا بد أن يكون قد قام بزيارة للاكشمي؛ لأن سوزيلا نفسها قد رأتها منذ ساعة أو ساعتين أكثر هزالا من أي وقت سلف. وقد برزت عظامها وتغير لونها. نصف حياة طويلة من الحب والإخلاص والتسامح المتبادل؛ وبعد يوم أو يومين ينتهي كل شيء، ويمسي وحيدا. ولكن يكفي اليوم ما به من شر، كما يكفي المكان ويكفي الإنسان ما ناله من شر. وكان حموها قد قال لها ذات يوم وهما يغادران المستشفى معا: ليس من حق الإنسان أن يخلع حزنه على الآخرين. وليس من حقه بطبيعة الحال أن يزعم أنه ليس حزينا. على المرء أن يقبل مآسيه ومحاولاته العابثة أن يكون رواقيا، وأن يقبل، ويقبل ... ثم خانه صوته، ورفعت بصرها إليه وإذا بوجهه تسيل فوقه الدموع، وبعد خمس دقائق كانا جالسين على مقعد على حافة بركة اللوتس في ظل تمثال بوذا الصخري الضخم، وإذا بضفدعة غير مرئية تقفز من إفريزها المستدير المورق وتغطس في الماء محدثة صوتا مسموعا ومندفعة في شوق إلى الماء، وبرزت من الطين الأعواد الغليظة الخضراء ببراعمها المنتفخة وشقت الهواء، وشوهدت هنا وهناك رموز الاستنارة زرقاء أو وردية اللون تتفتح بتلاتها نحو الشمس ونحو زيارات التفقد التي يقوم بها الذباب والخنافس الصغيرة والنحل المتوحش منبعثة من الغابة. كما شوهد سرب من اليعاسيب الزرقاء والخضراء المتلألئة تندفع طائرة، ثم تتوقف أثناء الطيران، ثم تندفع مرة أخرى سعيا وراء اصطياد الذباب الصغير.
وفي صوت هامس قال الدكتور روبرت «تاثاتا» (صورة مثالية).
ولبثا مكانهما صامتين لفترة طويلة. وفجأة لمس كتفها: انظري!
ورفعت عينيها تجاه ما أشار إليه، ورأت ببغاوين صغيرين وقد حطا على يد بوذا اليمنى يؤديان شعائر الغزل.
وسألت سوزيلا بصوت مرتفع: هل توقفت مرة أخرى عند بركة اللوتس؟
ابتسم لها الدكتور روبرت ابتسامة خفيفة وأومأ براسه.
وسأله ويل: وكيف وجدت شيفا بورام؟
أجاب الدكتور: بهيجة ولا يعيبها إلا اقترابها الشديد من العالم الخارجي. هنا يستطيع المرء أن يتجاهل الحماقات المنظمة ويباشر عمله. أما هناك فالعالم الخارجي يخنقك في كل لحظة لوجود أجهزة الاستشعار ومحطات الاستماع وقنوات الاتصال التي لا بد للحكومة من امتلاكها. أنت تسمع العالم الخارجي، وتحسه، وتشمه؛ نعم، تشمه. - هل حدث منذ ما كنت هناك شيء مشئوم فوق العادة؟ - لا شيء فوق العادة في طرفكم من العالم. وكم وددت لو استطعت أن أقول ذلك عن طرفنا منه. - مم تشكون؟ - نشكو جارنا الملاصق، الكولونيل ديبا؛ فأولا عقد اتفاقية أخرى مع التشيك. - مزيد من السلاح؟ - بما قيمته ستون مليونا، ذكر ذلك الراديو هذا الصباح. - وما الداعي؟ - الأسباب المألوفة؛ المجد والقوة، لذة الغرور ولذة تهديد الآخرين، إرهاب واستعراضات عسكرية في الداخل، وغزوات وموسيقى النصر في الخارج. ويؤدي بي هذا إلى البند الثاني من الأخبار السيئة، أمس مساء ألقى الكولونيل خطبة أخرى من خطبه الشهيرة عن راندنج العظمى. - راندنج العظمى؟ ما هذه؟
قال الدكتور روبرت: لك أن تسأل، راندنج العظمى هي الأرض التي حكمها سلاطين راندنج لوبو فيما بين 1447م و1483م. وكانت تشمل راندنج وجزر نيكوبار وثلاثين في المائة تقريبا من سومطرة وكل بالا. أما اليوم فهي تقتصر على مقاطعة الكولونيل ديبا الذي يريد أن يسترد كل ما فقدت بلاده من أراض. - وهل هو جاد؟ - بالوجه المستقيم: كلا، أنا مخطئ . بالوجه الأرجواني المشوه وبأعلى الصوت الذي تدرب - بعد طول مران - على أن يجعله شبيها تماما بصوت هتلر: راندنج العظمى أو الموت! - ولكن الدول الكبرى لن تسمح بقيامها. - ربما لا تحب هذه الدول أن تراه في سومطرة. أما بالا؛ فذلك أمر آخر. ثم هز رأسه وواصل الحديث: بالا - لسوء الحظ - لا ذكر لها في أي سجل. نحن لا نريد الشيوعيين، ولا نريد كذلك الرأسماليين. ونمقت أشد المقت التصنيع الكامل الذي يسعى أولئك وهؤلاء إلى فرضه عليها؛ لأسباب مختلفة بطبيعة الحال؛ فالغرب يريد ذلك لأن أجور العمل منخفضة ومن ثم فإن أنصبة المستثمرين مرتفعة. والشرق يريده لأن التصنيع يخلق طبقة البروليتاريا، ويفتح ميادين جديدة للثورة الشيوعية وقد ينتهي إلى إنشاء ديمقراطية شعبية أخرى. ونحن نقول لا لكما؛ ولذلك فنحن لا نكتسب شعبية في أي مكان. إن الدول العظمى كلها - بغض النظر عن أيديولوجياتها - قد تؤثر بالا محكومة من راندنج بما فيها من حقول البترول على بالا مستقلة بغير هذه الحقول. وإذا ما هاجمنا ديبا قالت هذه الدول إن الموقف يرثى له، ولكنها لا ترفع إصبعا. وإذا ما استولى علينا ودعا رجال البترول لدخول البلاد فاضوا سرورا.
سأل ويل: وماذا يمكنكم أن تفعلوا بالكولونيل ديبا؟ - لا شيء غير المقاومة السلبية. ليس لدينا جيش وليس لنا أصدقاء أقوياء. في حين أن الكولونيل لديه الجيش والأصدقاء الأقوياء. أكثر ما نستطيع أن نصنعه إذا بدأ يثير المتاعب أن نلجأ إلى الأمم المتحدة. وفي نفس الوقت نحتج لدى الكولونيل على هذه الإفاضة في الحديث أخيرا عن راندنج العظمى. نحتج عن طريق وزيرنا في راندنج لوبو. ونحتج في وجه الرجل العظيم شخصيا عندما يقوم بزيارته الرسمية لبالا بعد عشرة أيام. - زيارة رسمية؟ - بمناسبة الاحتفال ببلوغ راجا الصغير سن الرشد، وجهت إليه الدعوة منذ زمن بعيد، ولكنه لم يخطرنا مؤكدا تلبية الدعوة أو رفضها. واليوم تقرر الأمر نهائيا؛ فسوف نعقد مؤتمر قمة كما نحتفل بعيد الميلاد. ولكن دعنا الآن نتحدث فيما هو أجدى، كيف حالك اليوم يا مستر فارنبي ؟ - حالتي ليست جيدة فحسب، إنها رائعة. ولقد شرفت اليوم بزيارة من ملككم الذي يسود بلادكم؟ - موروجان؟ - لماذا لم تخبرني أنه ملككم الذي يسود بلادكم؟
وضحك الدكتور روبرت وقال: لو فعلنا فربما طلبت المقابلة.
ولكني لم أطلبها لا معه ولا مع الأم الملكة. - وهل أتت الراني كذلك؟ - بوحي من صوتها الضعيف. ولقد أرشدها صوتها الضعيف بالتأكيد إلى العنوان الصحيح. إن رئيسي، جون ألديهايد، من أعز أصدقائها. - وهل أخبرتك بأنها تحاول أن تأتي برئيسك هنا لاستغلال ما عندنا من بترول؟ - نعم بالتأكيد. - رفضنا عرضه الأخير منذ أقل من شهر. هل علمت بذلك؟
وابتهج ويل لأنه استطاع أن يجيب بصدق بأنه لم يعلم، فلم ينبئه بهذا الرفض الأخير جو ألديهايد أو الراني. وعاد إلى حديثه يقول، ليس بكل الصدق: عملي يتعلق بقسم لباب الأخشاب وليس بقسم البترول. ثم كانت فترة سكون، وأخيرا سأل: ما وضعي هنا؟ أجنبي غير مرغوب فيه؟ - على كل حال - لحسن الحظ - أنت لست من بائعي الأسلحة.
قالت سوزيلا: ولست مبشرا. - ولست من رجال البترول؛ وإن كنت في هذا الصدد قد تعد مذنبا لارتباطك بهم. - ولست فيما نعلم باحثا عن اليورانيوم.
قال الدكتور روبرت: هؤلاء بالدرجة الأولى هم غير المرغوب فيهم. أما كصحافي فأنت في المرتبة الثانية. لست مطلقا الرجل الذي نحلم بدعوته إلى بالا. ولكنك كذلك لست الرجل الذي أفلح في الوصول إلى هنا ونطلب إبعاده فورا.
قال ويل: أحب أن أبقى هنا بمقدار ما يسمح القانون. - هل لي أن أسألك لماذا؟
تردد ويل؛ فباعتباره وكيلا سريا لجو ألديهايد ومراسلا صحافيا يهوى الأدب هواية قصوى كان لا بد له أن يطيل من مقامه ما استطاع لكي يتفاوض مع باهو ويكتسب سنة التحرر التي وعد بها. ولكن كانت هناك أسباب أخرى يمكن الإباحة بها فقال: أقول لك إذا لم يكن لديك اعتراض على الملاحظات الشخصية.
قال الدكتور روبرت: أفصح؟ - الواقع أنني كلما زادت معرفتي بكم اشتد حبي لكم. وأنا أريد أن أعرف المزيد عنكم. ثم أضاف إلى ذلك وهو يرمق سوزيلا بنظره: وفي غضون ذلك قد تتبين لي جوانب شائقة عن نفسي، حتام تسمحون لي بالبقاء؟ - الأمر الطبيعي أن نخرجك بمجرد ما تسمح لك صحتك بالسفر. أما إن كنت شديد الحفاوة ببالا - وإن كنت فوق ذلك شديد الاهتمام بنفسك - فقد نطيل بقاءك قليلا. أم هل ذلك لا يجوز؟ ما رأيك يا سوزيلا؟ مع العلم بأنه يعمل فعلا مع لورد ألديهايد.
وكاد ويل أن يحتج ثانية بأن عمله يتعلق بقسم لباب الأخشاب. ولكن الألفاظ انحاشت في حلقه فلم ينبس ببنت شفة. ومرت ثوان فأعاد الدكتور روبرت السؤال.
فقالت سوزيلا أخيرا: نعم؛ لأننا لو سمحنا له بالبقاء كنا مخاطرين. ومن ناحيتي الشخصية أنا على استعداد لأن أخاطر. فهل أنا على صواب؟ والتفتت نحو ويل.
فضحك وحاول أن يجعل من الموضوع فكاهة وقال: أظن أن بوسعك أن تثقي في. على الأقل أرجو أن يكون ذلك بوسعك. ولشد ما كان ضيقه بنفسه وحيرته من أمره حينما شعر بالخجل. مم يخجل؟ وجه هذا السؤال إلى ضميره وهو على مضض. إذا كان هناك كسب لغير من يستحق فهو لشركة ستاندارد بكاليفورنيا. وإذا ما تقدم ديبا، فأي فارق عنده لمن يكون الامتياز؟ من تؤثر أن يلتهمك: ذئب أم نمر؟ إن الأمر لا يهم الحمل. وجو لن يكون أسوأ حالا من منافسيه. ومع ذلك فلكم تمنى لو أنه لم يتعجل بإرسال الخطاب الذي بعث به، ثم لماذا لم تتركه وشأنه تلك المرأة الشنيعة؟
وأحس من خلال الملاءة أن يدا تمس ركبته السليمة. وقد أكب عليه الدكتور روبرت وابتسم له.
قال: تستطيع أن تقضي شهرا هنا. وسأكون مسئولا عنك مسئولية كاملة، وسوف نبذل جهدنا لكي نطلعك على كل شيء. - أشكرك شكرا جزيلا.
قال الدكتور روبرت: حينما تشك اعمل دائما على فرض أن الناس أكثر شرفا مما تظن بناء على أسباب ملموسة. هذه النصيحة أسداها إلي راجا العجوز حينما كنت شابا والتفت إلى سوزيلا وقال لها: خبريني، كم كان عمرك عندما مات راجا العجوز؟ - ثمانية أعوام تماما. - وإذن فأنت تذكرينه جيدا.
وضحكت سوزيلا: وهل يمكن لأحد أن ينسى الطريقة التي كان يتحدث بها عن نفسه مؤكدا بها ذاته فوق كل شيء يا له من رجل عزيز على نفسي. - ويا له من رجل عظيم!
ونهض الدكتور ماك فيل واتجه نحو خزانة الكتب التي كانت قائمة بين الباب ودولاب الملابس، واستل من رفها الأسفل ألبوم صور سميك أحمر. وقد تهلهل من أثر الجو الاستوائي ومن أكل الحشرات. وقال وهو يقلب صفحاته: له صورة هنا في مكان ما. ها هي ذي.
ونظر ويل إلى الصورة الباهتة، وهي صورة هندوكي ضئيل عجوز بنظارة ومئزر، يفرغ محتويات صحن فضي كثير الزخرفة فوق عمود قصير سميك.
سأل: ماذا يفعل؟
أجاب الدكتور: إنه يصب الزيت المقدس فوق رمز للجنس، وهي عادة لم يستطع أبي المسكين أن يصرفه عنها. - وهل كان أبوك لا يرضى عن الأعضاء الجنسية؟
قال الدكتور ماك فيل: كلا، كلا، بل كان يحبذها، وإنما كان لا يرضى عن الرمز. - ولماذا الرمز؟ - لأنه كان يعتقد أن الناس لا بد أن يأخذوا دينهم بطريق مباشر. إن كنت تفهم ما أعني، بغير تنقيح أو تحريف. ولم يكن يحب أن تصاغ العقيدة في عبارات لاهوتية أو في شعائر أو طقوس. - وكان الراجا يميل إلى مثل هذه العبارات وهذه الطقوس؟ - ليس بوجه عام، ولكن في هذا الموضوع بالذات، كان يرتبط بصفة خاصة بهذا الرمز الجنسي للأسرة. وقد صنع من البازلت الأسود، ويبلغ من العمر ثمانمائة عام على الأقل.
قال ويل فارنبي: لقد فهمت. - يصب فوقه الزيت؛ كان هذا عنده نوعا من العبادة التي تعبر عن عاطفة جميلة نحو فكرة سامية. ولكن حتى أسمى الأفكار تختلف اختلافا بينا عن اللغز الكوني الذي تمثله. والعواطف الجميلة التي ترتبط بالأفكار السامية إذن ليس بينها وبين التجربة المباشرة من اللغز الكوني عنصر مشترك. بتاتا. ولست في حاجة إلى أن أذكر لك أن الراجا العجوز كان يعلم ذلك حق العلم، أكثر مما كان يعلمه أبي . لقد شرب اللبن من ضرع البقرة رأسا، بل لقد كان هو واللبن شيئا واحدا. بيد أن مسح رمز التناسل بالزيت كان عملا مقدسا لم يحتمل أن يتخلى عنه. ولست في حاجة إلى أن أقول لك إنه ما كان ينبغي لأحد أن يطلب إليه أن يتخلى عنه. وإذا كان الأمر يتعلق بالرموز فإن أبي يكون دائما من المتزمتين، وعلى خلاف مع جيته كان مثله الأعلى العلم التجريبي البحت في طرف والتصوف التجريبي البحت في طرف آخر من الطيف. الخبرة المباشرة على كل مستوى، ثم التعبير الواضح العقلي عن هذه الخبرات. رمز الجنس، الصليب، الزيت، الماء المقدس، الحكم البوذية، التماثيل، الأناشيد؛ كم كان يود أن يلغيها جميعا.
وسأل ويل: وأين كان موقع الفنون؟
أجاب الدكتور ماك فيل: لم يكن لها البتة موقع. الشعر وحده كان النقطة السوداء عند أبي. قال إنه يحبه. والواقع أنه لم يكن يحبه، الشعر من أجل الشعر، الشعر باعتباره عالما مستقلا، يقع بين الخبرة المباشرة ورموز العلم؛ ذلك شيء لم يدركه، دعني أبحث عن صورته.
وتصفح الدكتور ماك فيل ألبوم الصور مرة أخرى ثم أشار إلى الصورة الجانبية العجفاء ذات الحاجبين الكثيفين.
وعلق ويل عليها بقوله: يا له من رجل أسكتلندي! - ومع ذلك كانت أمه وجدته لأمه من أهل بالا. - إنني لا أرى لهما أثرا. - في حين أن جده لأبيه الذي وفد من بيرث كان شديد الشبه بالراجبوت.
1
وحدق ويل في الصورة الفوتوغرافية القديمة لشاب ذي وجه بيضاوي وسبلتين جانبيتين سوداوين، يرتكز بمرفقيه على قاعدة من المرمر فوقها قبعته الطويلة الفارعة وقاعها إلى أعلى. - هل هذا هو جدك الأكبر؟ - أول من وفد إلى بالا من آل ماك فيل، الدكتور أندرو، ولد في عام 1822م في مدينة أسكتلندية (رويال بارا) حيث كان والده جيمس ماك فيل يملك مصنع حبال. وكانت هذه الحبال رمزا ملائما؛ لأن جيمس كان كالفينيا مخلصا لمذهبه. ولما كان يؤمن بأنه من الخيار فقد كان يستمد طمأنينة نفسية مشرقة من أن هؤلاء الملايين من زملائه يقضون حياتهم وحبل القدر ملتف حول أعناقهم وفي السماء ملاك يعد الدقائق ليوقعهم في شرك الموت.
وضحك ويل.
ووافقه الدكتور روبرت قائلا: نعم، إن الأمر يبدو مضحكا حقا، ولكنه لم يكن كذلك في ذلك الحين، بل كان جدا وأكثر جدية من القنبلة الهيدروجينية في هذه الأيام. كان من المعروف أن تسعة وتسعين وتسعة أعشار في المائة من البشر محكوم عليهم بالجحيم الأبدي. لماذا؟ إما لأنهم لم يسمعوا قط عن يسوع، وإما - إن كانوا قد سمعوا به - لأنهم لم يؤمنوا إيمانا كافيا بأن يسوع قد أنقذهم من عذاب النار. والدليل على أن إيمانهم لم يكن كافيا هو أنه كان من الواضح ومن الناحية العملية أن نفوسهم غير مطمئنة. والإيمان الكامل شيء يعود بالطمأنينة الكاملة للنفوس. ولكن طمأنينة النفس الكاملة شيء لا يملكه في الواقع أحد؛ ومن ثم فإن أحدا - من الناحية العملية - لا يملك الإيمان الكامل؛ ولذلك فكل امرئ مكتوب عليه العقوبة الأبدية.
قالت سوزيلا: إني لأعجب لماذا لما يصابوا جميعا بالجنون؟
قال الدكتور ماك فيل: أكثرهم لحسن الحظ لم يؤمن إلا بقمة رأسه، وقرع صلعة رأسه. ثم قال: بقمة الرأس كانوا يؤمنون بأن ذلك هو الحق لا ريب فيه. أما بالغدد والأعصاب فقد كانوا يعلمون ما هو أصدق من هذا؛ يعلمون أن كل ذلك هراء، ولم يكن الحق عند أكثرهم حقا إلا يوم الأحد، وحتى في هذا اليوم كان الحق بمعنى بكويكي
2
بحت. وكان جيمس ماك فيل على علم بذلك كله، وكان مصمما بألا يكون أبناؤه من المؤمنين يوم الأحد فقط. كان لا بد لهم من الاعتقاد في كل كلمة من الكلمات المقدسة وإن كانت خالية من المعنى حتى في أيام الاثنين، وحتى بعد الظهر في أيام العطلات.
وكان لا بد لهم من الإيمان بكل كيانهم. وليس فقط في قمم رءوسهم. لا بد من إرغامهم على الإيمان الكامل وعلى الطمأنينة القصوى التي تلازم هذا الإيمان، وكيف يكون ذلك؟ بأن يذيقهم النار الآن ويتوعدهم بالنار فيما بعد، وإذا ركب الشيطان رءوسهم عنادا فرفضوا الإيمان الكامل وما يجلبه من طمأنينة زادهم نارا وتوعدهم جحيما أشد سعيرا، ويقول لهم في الوقت نفسه إن الله غني عما يعملون، ولكنه يوقع بهم عقوبات وحشية لكل مسلك مشين. ويقول لهم إنهم بالطبيعة فاسقون ويضربهم على ما لا مفر لهم منه.
وعاد ويل فارنبي يتصفح ألبوم الصور. - هل لديك صورة لجدك الممتع هذا؟
قال الدكتور ماك فيل: كانت عندنا صورة زيتية. ولكن الرطوبة أفسدت اللوحة وأخذت تأكلها الحشرات. كان نموذجا رائعا، شبيها بصورة أرميا التي رسمت في عهد النهضة، جليل الطلعة، في عينه الوحي، ذو لحية نبوية تغطي كثيرا من العيوب الخلقية. ولم يبق له أثر سوى رسم بقلم الرصاص لبيته الذي كان يعيش فيه.
وقلب صفحة أخرى فوقعت عينه على الصورة.
واستمر في حديثه: من الجرانيت الصلب، وعلى كل نوافذه قضبان. وفي داخل هذا الباستيل العائلي الدافئ أعمال نظامية من اللاإنسانية! لا إنسانية نظامية ترتكب - ولست في حاجة إلى ذكر ذلك - باسم المسيح ومن أجل العمل الصالح. وقد ترك لنا الدكتور أندرو سيرة ذاتية لم يكملها، ومنها عرفنا كل شيء. - ألم يتلق الأطفال عونا من أمهم؟
وهز الدكتور ماك فيل رأسه. - كانت جانيت ماك فيل من أتباع كاميرون
3
كالفينية مخلصة مثل جيمس نفسه. وقد تكون أكثر كالفينية منه. ولما كانت امرأة فقد كانت أكثر مبالغة، وكان لديها مزيد من أسباب العطف الغرزي التي لا بد من التغلب عليها، ولكنها تغلبت فعلا؛ وببطولة. وبدلا من أن تفل من حدة زوجها كانت تحرضه وتؤيده. كانت العظات الدينية تلقى قبل الفطور وأثناء الغداء، وكان هناك الحوار الديني في أيام الآحاد، وكانت هناك كذلك الرسائل الدينية تحفظ عن ظهر قلب. وفي المساء يحاسب الأطفال على انحرافاتهم أثناء النهار ثم يضربون بطريقة مطردة فوق أردافهم بالسياط المصنوعة من عظم الحوت والتي تستخدم في ركوب الخيل، سواء في ذلك البنون والبنات وعددهم ستة أطفال واحدا بعد الآخر بترتيب السن.
قالت سوزيلا: إنني أشمئز لسماع ذلك، وإن هي إلا محض سادية.
قال الدكتور ماك فيل: لا ليست سادية محضة، إنما هي سادية تطبيقية، سادية بواعثها عميقة، هي سادية في سبيل مثل أعلى معين، وهي تعبير عن عقيدة دينية معينة. ثم التفت إلى ويل وأضاف إلى ذلك قوله: وهذا موضوع لا بد أن يقوم أحد بدراسته دراسة عميقة تاريخية؛ أعني العلاقة بين اللاهوت وعقوبة الأطفال بدنيا. عندي نظرية مؤداها أن البلاد التي يجلد فيها البنون والبنات بطريقة نظامية تنشأ فيه ضحايا التعذيب على تصور الله بأنه هو «الآخر الكامل»؛ أليست هذه هي اللغة التي تتحدثونها في ذلك الجزء من العالم الذي تسكنونه؟ في حين - على عكس ذلك - أن الأطفال الذين ينشئون دون أن يتعرضوا للقسوة البدنية يرون أن الله موجود في كل الوجود. إن العقيدة الدينية لشعب من الشعوب تعكس مدى تعرض أطفاله للعقوبة البدنية. انظر إلى العبرانيين؛ وهم شعب يضرب أطفاله في حماسة شديدة، وكذلك كان كل المسيحيين الطيبين في عهود الإيمان. من هنا كانت فكرة يهوه، والخطيئة الأولى والآب الذي أخطأ الإنسان في حقه خطأ شنيعا في العقيدة الأصيلة الرومانية والبروتستانتية. في حين أن التربية عند الهندوس والبوذيين اتسمت دائما بعدم العنف، انعدمت عندهم العقوبات البدنية؛ ومن ثم كانت عقيدتهم في أن المرء هو كذلك «روحه من الروح الأعلى». ثم انظر إلى الصاحبيين (الكويكرز)، لقد عدوهم من الزنادقة لأنهم آمنوا «بالضوء الباطني»، فماذا حدث؟ تخلوا عن ضرب الأطفال، وكانوا أول طائفة مسيحية احتجت على نظام الرق.
واعترض على ذلك ويل بقوله: إن ضرب الأطفال لم يعد شائعا في هذه الأيام، ومع ذلك ففي هذه الآونة نفسها أمست الإباحة بفكرة «الآخر الكامل» هي من الفكر المتقدم الحديث.
وفند الدكتور ماك فيل هذا الاعتراض وقال: ليس ذلك إلا من قبيل رد الفعل بعد الفعل. ببلوغ النصف الثاني من القرن التاسع عشر اشتدت حركة الإنسانيين المتحررين في أفكارهم حتى تأثر بها المسيحيون الطيبون أنفسهم فكفوا عن ضرب الأطفال ولم تعد للضرب آثاره في أجسام الأطفال؛ ولذلك لم يعد هؤلاء الأطفال يرون الله «الآخر الكامل» وأخذ الجيل الجديد يخلق «الفكر الجديد»، و«الوحدانية»، و«العلم النصراني»؛
4
وكلها بدع شبه شرقية الله فيها يتطابق مع الإنسان تطابقا كاملا. وسارت هذه الحركة شوطا بعيدا على عهد وليام جيمس، ثم أخذت تقوى بعد ذلك. غير أن الفكرة دائما تثير نقيضها، وبمرور الأيام ولدت هذه البدع الأرثوذكسية الجديدة، التي قضت على التطابق الكامل بين الله والإنسان وعادت إلى فكرة «الآخر الكامل»! وكانت العودة إلى أوغسطين ومارتن لوثر. وبعبارة موجزة: العودة إلى أشد ما عرف الإنسان في تاريخه كله من الإيذاء البدني بغير هوادة. اقرأ «الاعترافات» واقرأ «حديث المائدة». وكان أوغسطين يتلقى الضرب من معلمه والسخرية من أبويه إذا هو شكا. وتعرض لوثر للضرب المستمر ليس فقط من معلميه ومن أبيه، بل حتى من أمه التي تحبه. ودفع العالم ثمن هذا الضرب المبرح منذ ذلك الحين. ولولا لوثر وعقيدته الدينية التي صاحبها الضرب ما ظهرت في الوجود فظائع البروسية والرايخ الثالث. ثم خذ عقيدة أوغسطين القائمة على القسوة البدنية، والتي بلغت مع كالفين نتيجتها المنطقية واتبعتها برمتها عامة الناس من أمثال جيمس ماك فيل وجانيت كاميرون. القضية الكبرى: الله منفصل عنا تماما، والقضية الصغرى: الإنسان فاسق فسقا كاملا. النتيجة: اضرب أبناءك كما ضربت، وافعل بهم ما فعله أبونا الذي في السماء بجسد الإنسانية جمعاء منذ سقوط الإنسان: الجلد بالسياط بغير هوادة!
ثم سادت فترة من الصمت. وتطلع ويل فارنبي مرة أخرى إلى رسم ذلك الشخص الصخري في مصنع الحبال، وطافت بذهنه كل الصور الخيالية البشعة القبيحة التي ارتفعت إلى مستوى الأمور الخارقة للطبيعة، وكل القساوات الدنيئة التي أوحت بها تلك الصور الخيالية، وكل الآلام التي فرضت على الناس وأسباب الشقاء التي تحملوها بسببها. إذا لم يكن أوغسطين بقسوته المحتملة كان روبسبيير، أو استالين. وإذا لم يكن لوثر يحض الأمراء على قتل الفلاحين كان ماو المعتدل الذي يهبط بهم إلى مستوى العبودية.
وسأله ويل: ألا يصيبك اليأس أحيانا؟
وهز ماك فيل رأسه وقال: نحن لا نيأس لأننا نعلم بأن الأمور لا يتحتم بالضرورة أن تكون سيئة كما كانت دائما في الواقع.
وأضافت سوزيلا: نعلم أنه من الممكن أن يكون أفضل كثيرا. نعلم ذلك لأنها بالفعل أفضل، الآن، وفي هذا المكان، فوق هذه الجزيرة غير المعقولة.
قال الدكتور ماك فيل: ولكن هل سنستطيع أن نغريكم أيها القوم لكي تحذوا حذونا، أو هل حتى أن نحافظ على واحتنا الإنسانية الصغيرة هذه وسط بيدائكم الفسيحة التي تسكنها القردة؛ هذا للأسف أمر آخر. ولعل لدينا ما يبرر الشعور بالتشاؤم الشديد فيما يتعلق بالموقف الحالي، أما اليأس، اليأس المطلق، فأنا لا أرى البتة أي مبرر له. - حتى وأنت تقرأ التاريخ؟ - حتى وأنا أقرأ التاريخ. - إني أحسدكم. وكيف استطعتم ذلك؟ - بتذكرنا حقيقة التاريخ؛ إنه سجل لما أكره البشر على فعله من جهلهم، وهو الغرور الأحمق الشديد الذي يجعلهم يقننون جهالتهم لتكون عقيدة سياسية أو دينية.
ثم عاد إلى ألبوم الصور وقال: لنعد إلى بيت «رويال بارا» وإلى جيمس وجانيت وإلى الأطفال الستة الذين وضعهم إله كالفين - بحقده الشديد - تحت رحمتها. «العصا والتأنيب يؤديان إلى الحكمة. والطفل إذا ترك وشأنه جلب على أمه العار.» هذه التعاليم - يعززها التأكيد السيكولوجي والعذاب البدني - هي البنية الكاملة لتجربة بافلوف. ولكن البشر - لسوء حظ الديانة النظامية والدكتاتورية السياسية - لا يخضعون لنتائج التجارب المعملية كما تخضع الكلاب. ولقد أدت عملية التكيف إلى ما قصد منها مع توم وماري وجين؛ فلقد أصبح توم قسيسا، وتزوجت ماري من قسيس وماتت أثناء الوضع، وبقيت جين في البيت وقامت بتمريض أمها وهي تعاني طويلا من سرطان شرس، ولعشرين عاما بعد ذلك ضحت بنفسها شيئا فشيئا من أجل الشيخ الجليل الذي أدركه الهرم وانتهى بشيخوخة عادت به إلى عقل الطفولة. إلى هنا سارت الأمور سيرا طبيعيا. أما مع آني - الطفلة الرابعة - فقد تغير النمط. كانت آني جميلة، ولما بلغت الثامنة عشرة من عمرها عرض عليها الزواج ضابط في سلاح الفرسان، وكان هذا الضابط إنجليكانيا ورأيه في الفساد الكامل وفيما يرضي الله إجرامي يجانبه الصواب؛ ولذلك كان الزواج محرما. وبدا كأن آني قد كتب عليها ما كتب على جين، واحتملت ذلك عشر سنوات. ولما بلغت الثامنة والعشرين وقعت فريسة لإغراء رجل آخر من سلاح الهند الشرقية. وقضت معه سبعة أسابيع في سعادة شبه جنونية، لم تشعر بمثلها من قبل. وبدت على وجهها مسحة من الجمال غير الطبيعي، وأشرق جسمها بالحياة، ثم أبحر الضابط في سلاح الهند الشرقية في رحلة إلى مدراس وماكاو تستغرق عامين. وبعد أربعة أشهر، وهي حامل، وبغير صديق، ألقت بنفسها في نهر تاي يأسا من الحياة. أما إسكندر وهو الذي يليها في الأبناء فقد هرب من المدرسة والتحق بفرقة ممثلين. ومنذ ذلك الحين لم يسمح لأحد في البيت المجاور لمصنع الحبال بذكره. وأخيرا كان هناك أندرو، وهو أصغرهم، وما أشبهه ببنيامين! ويا له من طفل نموذجي! كان طائعا، يحب دروسه، وقام بحفظ الرسائل الدينية عن ظهر قلب أسرع وأدق مما فعل غيره من الأطفال. وذات مساء شهدته أمه وهو يعبث بجهازه التناسلي. وجاء ذلك في وقت ملائم رد لها إيمانها بسوء النفس البشرية. وضربته بالسوط حتى سال دمه. وعاد إلى فعلته بعد بضعة أسابيع وعادت إلى ضربه، وحكمت عليه بالحبس الانفرادي لا يتناول غير الخبز والماء، وقيل له إنه أذنب في حق الروح القدس وليس من شك في أن أمه قد أصيبت بداء السرطان بسبب ذنبه. ولبث أندرو بقية طفولته تطارده أحلام مزعجة متكررة عن الجحيم. كما طاردته كذلك أسباب الإغراء المتكررة. ولما استسلم لهذه الأسباب (وكان ذلك دائما في وحدته وهو في الحمام الذي يقع في أقصى الحديقة) هاجمته رؤى أشد إزعاجا من العقوبات التي كانت بانتظاره.
وعلق على ذلك ويل فارنبي بقوله: إني لأعجب كيف يشكو الناس من أن الحياة الحديثة خلو من المعنى! انظر كيف كانت الحياة حينما كان لها معنى. أيهما أفضل: قصة يرويها لك أحمق، أم قصة يرويها لك كالفن؟ ألا فأسمعني قصة الأحمق دائما.
قال الدكتور ماك فيل: أنا أتفق معك. ولكن ألا يمكن أن يكون هناك احتمال ثالث؟ قصة يرويها شخص لا هو بالأحمق ولا هو بالمجنون المرتاب؟
قالت سوزيلا: شخص عاقل كل العقل على سبيل التغيير.
وأعاد الدكتور عبارتها: نعم على سبيل التغيير، التغيير المبارك. ومن حسن الحظ كان هناك - حتى في ظل النظام القديم - كثيرون لم تفسدهم التربية الشيطانية حتى وهي في ذروتها. إذا أخذنا بقوانين فرويد وبافلوف كان ينبغي أن ينشأ جدي الأكبر على انحراف عقلي. والواقع أنه نشأ سليم العقل. وأضاف إلى ذلك الدكتور روبرت في عبارة معترضة قوله: وهو يدل دلالة قاطعة على أن النظريتين السيكولوجيتين اللتين أشدتم بهما ناقصتان نقصا فاحشا. نظرية فرويد، والنظرية السلوكية - على ما بينهما من خلاف شديد - تتفقان تماما عند تطبيقهما على الفوارق الطبيعية الفطرية بين الأفراد. كيف يعالج علماء النفس عندكم الذين تعزونهم إعزازا شديدا هذه الفوارق؟ بمنتهى البساطة، يتجاهلونها، ويزعمون بكل رفق أنها لا وجود لها؛ ومن ثم كان عجزهم التام عن مواجهة الموقف الإنساني كما هو قائم، بل عجزهم عن تعليله نظريا. انظر - مثلا - إلى ما حدث في هذه الحالة الخاصة. إن إخوة أندرو وأخواته إما روضوا بتكييعهم وأما تحطموا، في حين أن أندرو لم يروض ولم يحطم. لماذا؟ لأن عجلة الوراثة لم تدر حوله. كانت بنيته أكثر مرونة من غيره، تشريحه البدني على خلاف مع الآخرين، كيمياؤه الحيوية مختلفة، مزاجه مختلف. بذل أبواه معه من الجهد ما بذلا مع بقية إخوته أصحاب الحظ السيئ، ولكنهما باءا بالفشل؛ فلقد خرج أندرو من المعركة مرفوع الراية دون أن يصيبه أذى. - برغم ما اقترف من ذنب ضد الروح القدس؟ - ذلك لحسن الحظ شيء تخلص منه خلال سنته الأولى من دراسة الطب في أدنبره. كان آنئذ فتى لا يجاوز السابعة عشرة من عمره إلا قليلا (فقد كانوا يبدءون تعليمهم صغارا في تلك الأيام). وفي غرفة التشريح ألفى الفتى نفسه مصغيا لأسوأ الألفاظ الفاحشة والسباب مما كان زملاؤه يتفوهون به لكي يرفعوا من روحهم المعنوية وهم بين الجثث التي أخذت في التعفن. كان يصغي أول الأمر مذعورا، وهو في خشية يقشعر لها بدنه من أن الله لا بد أن ينتقم. ولكن شيئا لم يحدث؛ فلقد ازدهر المجدفون، ونجا من تلوثت شفاههم بألفاظ السباب السافلة ولم تصبهم سوى لوثة من الأمراض السرية بين الحين والآخر. واختفى الخوف من نفس أندرو وحل محله إحساس عجيب بالفرج والخلاص، واكتسب جرأة شديدة فبدأ يخاطر ببعض النكات البذيئة من عنده. نطق أول لفظة بذيئة. ما كان أشد إحساسه بالتحرر، وما كان أغزرها من خبرة دينية صادقة! وفي أوقات فراغه قرأ قصة «توم جونز» وقرأ مقال هيوم عن «المعجزات»، وقرأ الكافر جيبون. واستغل الفرنسية التي درسها في المدرسة فقرأ «لامتري» وقرأ «الدكتور كابانيه». الإنسان آلة، يفرز منها المخ فكرا كما تفرز الكبد الصفراء. الأمر في غاية البساطة، وفي غاية الوضوح المضيء! وبكل حماسة المهتدي في اجتماع ديني قرر أن يلحد، وما كان يتوقع منه غير ذلك في مثل هذه الظروف، لم يستطع أن يستسيغ القديس أوغسطين، ولم يكن بوسعه أن يكرر الهراء الذي ورد على لسان أثاناسيوس. وكما يتخلص المرء من الماء القذر في الحوض بفتح البالوعة، فعل ذلك! ما أشد سعادته! ولكن هذه السعادة لم تدم طويلا؛ فقد تبين له أن شيئا ما ينقصه. نعم لقد لفظ الطفل التجريبي مع المخلفات اللاهوتية القذرة. ولكن الطبيعة تمقت الفراغ المطلق. فزالت عن نفسه سعادتها وحل محلها قلق مزمن، وأصيب كما أصيبت بعده الأجيال المتلاحقة بما جاء به وزلي وبوزي ومودي وبيلي وأمثالهم - سندي وجراهام - كلهم يعمل كالآلة لاسترداد اللاهوت الذي سقط في البالوعة. إنهم بالطبع يأملون في استرداد الطفل التجريبي، ولكنهم لا ينجحون أبدا. كل ما يستطيعه من يحاول إحياء الدين أن يسترد مما تردى في البالوعة قليلا من الماء القذر، الذي يلقي به مرة أخرى بمرور الأيام، وهكذا إلى ما لا نهاية. الأمر في الواقع ممل إلى أقصى الحدود، ولا ضرورة له بتاتا كما أدرك ذلك الدكتور أندرو في نهاية الأمر. وها هو ذا الآن في بداية استرداده لحريته الجديدة، منفعلا، جذلا؛ ولكنه منفعل في هدوء، وجذل خلف ظاهر من الانعزال الجاد الدمث الذي يبديه عادة على الملأ.
وسأل ويل: وماذا عن أبيه؟ هل نشبت بينهما معركة؟ - لم تنشب لأن أندرو لم يحب المعارك. كان من ذلك الطراز من الرجال الذين يذهبون مذهبهم دائما، وإن كان لا يعلن عن هذه الحقيقة، ولا يجادل غيره ممن يسلكون مسلكا آخر. ولم يعط الرجل العجوز قط فرصة لكي يفعل ما فعل أرميا، ولم يفصح بشيء ما عن هيوم ولامتري وأدى الحركات التقليدية. ولما انتهت دراسته لم يعد إلى بيته وتوجه إلى لندن واشتغل جراحا وعالما في الطبيعة على سفينة ميلامبوس، وأرسل إلى البحار الجنوبية يحمل تعليمات ليرسم ويمسح ويجمع عينات مختلفة ولكي يحمي البعثات البروتستانتية والمصالح البريطانية. واستغرقت رحلة السفينة ميلامبوس ثلاث سنوات. وتوقف عند تاهايتي، وقضى شهرين في ساموا وشهرا في جزر ماركيساس. وبعد بيرث بدت الجزر وكأنها جنة عدن؛ ولكنها جنة خلت من الكالفينية والرأسمالية ومن الأحياء الصناعية الفقيرة ولكنها - لسوء الحظ - خلت كذلك من شيكسبير وموزار، ومن المعارف العلمية والتفكير المنطقي. كانت فردوسا، ولكنها لا تكفي.
وواصل رحلته البحرية، وزار فيجي وكارولينز وسولومونز. ورسموا خريطة السواحل الشمالية لغينيا الجديدة. ولما بلغوا بورنيو نزلت جماعة منهم على البر، واصطادوا أورانجوتان حاملا، ثم تسلقوا قمة جبل كينابالو، وقضوا بعد ذلك أسبوعا في باناي وأسبوعين في أرخبيل ميرجوي، واتجهوا بعد ذلك غربا حتى إندامانز ومنها إلى أرض الهند الرئيسية.
وبينما كانوا على الساحل سقط جدي الأكبر من فوق ظهر حصانه وانكسرت ساقه اليمنى. واختار قائد السفينة ميلامبوس جراحا آخر وأبحر عائدا إلى الوطن. وبعد شهرين بدأ أندرو يعمل من جديد طبيبا في مدراس. وكان الأطباء ندرة في تلك الأيام والأمراض منتشرة بصورة مزعجة. ونجح الشاب في عمله. غير أن الحياة مع التجار والموظفين في مقر الرياسة كانت مملة لا تطاق. كان في المنفى، ولكنه منفى يخلو مما يعوض عنه؛ فلا مغامرة ولا غرابة؛ إبعاد إلى الأقاليم، إلى ما يشبه سوانسي وهدرسفليد في المناطق الاستوائية. ومع ذلك فقد قاوم الإغراء بحجز مكان في أول سفينة تبحر عائدة إلى الوطن؛ لأنه إن احتمل العيش هنا خمس سنوات استطاع أن يجمع من المال ما يفتح به عيادة طبية في أدنبره؛ لا، بل في لندن، في الحي الغربي. وبدا له المستقبل ذهبيا ورديا؛ سوف تكون له زوجة يؤثر أن تكون ذات شعر ذهبي داكن، متواضعة في ثرائها، وسوف يكون له من الأطفال أربعة أو خمسة، سعداء، من الملحدين الذين لا يجلدون، وسوف ينمو في مهنته، يقصده المرضى من طبقات مرتفعة. الثراء، والشهرة، والكرامة، بل ورتبة الفروسية. تصور نفسه السير أندرو ماك فيل ينزل من سيارته في ميدان بلجريف. السير أندرو العظيم، طبيب الملكة. يستدعى لسنت بيترزبورج ليجري عملية جراحية للدوق العظيم، ويستدعى للتويلري، وللفاتيكان، وللباب العالي. ما أحلى هذه الخيالات! ولكن ما حدث كان أروع كثيرا من ذلك. جاء إلى غرفة العمليات ذات صباح جميل رجل غريب أسمر البشرة. وعرفه بنفسه في إنجليزية متعثرة. إنه من بالا وقد أمره صحب السمو الراجا أن يبحث عن جراح ماهر من الغرب ويعود به. وسيكون الجزاء ملكيا. وأكد له ذلك: جزاء ملكي. وفي التو والحين قبل الدكتور أندرو الدعوة من أجل المال إلى حد ما. ولكن في الأغلب لأنه كان قد سئم، وبحاجة إلى التغيير، وبحاجة إلى نوع من المغامرة، هذه رحلة إلى الأرض المحرمة؛ والأغراء لا يقاوم.
وقاطعته سوزيلا قائلة: واذكر أن بالا في تلك الأيام كانت أشد تحريما منها الآن.
وهكذا تستطيع أن تتصور كيف أن دكتور أندرو الشاب قد اغتنم متلهفا هذه الفرصة التي هيأها له سفير الراجا. وبعد عشرة أيام رست سفينته بعيدا عن الشاطئ الشمالي للأرض المحرمة، واستقل قاربا صغيرا ملحقا بالسفينة وشق به عباب الموج وهو يحمل صندوق الدواء وحقيبة الأدوات وصندوقا كبيرا من الصفيح بداخله ملابسه وبضعة كتب لا غنى عنها. ولما بلغ الساحل حملوه فوق محفة وساروا به خلال شوارع شيفا بورام واستقر في الفناء الداخلي للقصر الملكي. وكان مريضه الملكي بانتظاره في شعف. ولم تتح له فرصة يحلق فيها ذقنه أو يغير ملابسه، قبل أن يسمحوا له بالمقابلة. فمثل وهو مشفق في حضرة رجل ضئيل أسمر في أوائل الأربعينيات من العمر، نحيل الجسم يرتدي عباءة فاخرة مطرزة، وجهه منتفخ مشوه حتى لا تكاد تحسبه من البشر، وقد انخفض صوته حتى أمسى همسا فيه خشونة. وفحصه الدكتور أندرو، وألفى تورما منتشرا في كل اتجاه في أحد جيوب فكه الأعلى حيث تبدأ جذور الورم. وامتد الورم حتى ملأ الأنف، وانتشر إلى أعلى حتى بلغ محجر عينه اليمنى، وسد نصف حلقه، وتعذر التنفس، وأصبح الابتلاع أليما، والنوم مستحيلا؛ إذ كلما غفا اختنق وتيقظ كالمجنون يتلمس الهواء.
كان واضحا - بغير جراحة أساسية - أن الراجا يشرف على الموت في غضون شهرين، والجراحة الأساسية تعجل كثيرا بموته. ولنذكر أن ذلك كان في الزمن القديم الذي كانت تجرى فيه عمليات التسمم الدموي بغير مخدر، وفي أحسن الظروف كانت الجراحة تنتهي بوفاة مريض من كل أربعة، وحينما لا تكون الظروف مواتية زادت نسبة الوفيات؛ فتبلغ خمسين في المائة، أو سبعين، أو مائة في المائة. وتشخيص هذه الحالة لم يكن مبشرا؛ فالمريض ضعيف، والعملية قد تطول، وتزداد صعوبة وتسبب آلاما مبرحة، والفرصة كبيرة في موته وهو على طاولة العمليات، ومن المؤكد أنه حتى إن نجا من العملية فوفاته أمر محتوم بعد بضعة أيام من تسمم الدم. وفكر الدكتور أندرو ماذا يكون مصيره إذا مات وقيل إن جراحا أجنبيا قد قضى على حياة الملك. ثم من ذا الذي يمسك المريض وهو يتلوى أثناء العملية من أثر المبضع؟ ومن من خدمه أو حشمه يجرؤ على عصيان الأمر إذا صاح السيد من الألم أو طلب منهم بصراحة أن يخلوه وشأنه؟
ربما كان التصرف الحكيم أن يقول فورا إن الحالة ميؤس منها، وأنه لا يستطيع أن يقوم بعمل ما، ويرجو إعادته إلى مدراس في الحال. ثم أعاد النظر إلى الرجل المريض، وبادله الراجا بنظرة من خلال القناع البشع الذي بدا فيه وجهه المشوه، وقد حدق بعينين كأنهما عينا مجرم مدان يتوسل إلى القاضي أن يشمله برحمته. ومس هذا الرجاء شغاف القلب من الدكتور أندرو فابتسم له مشجعا، وربت على يده النحيلة. وفي أثناء ذلك نبتت في ذهنه فكرة؛ فكرة سخيفة لا يفكر فيها إلا مخبول العقل، فكرة مخزية، ولكن على الرغم من ذلك ...
تذكر أنه منذ خمس سنوات، عندما كان لا يزال في أدنبره، اطلع على مقال في مجلة «لانست» يهاجم فيه كاتبه الأستاذ أليتسون، ذلك الرجل الذي ساءت سمعته، لأنه تحدث بحماسة عن إمكان تنويم الحيوان تنويما مغناطيسيا. وقد بلغت به جرأة الرأي أن يتحدث عن إجراء عمليات بغير ألم حينما يكون المرضى في غيبوبة تنويم مغناطيسي.
فالرجل إما أحمق ساذج وإما وغد بلا ضمير؛ لأن الأدلة التي يبرر بها هذا الهراء كانت تافهة بشكل واضح. الأمر كله احتيال ودجل وخداع؛ وغير ذلك مما ورد في مقال من ستة أعمدة كلها استنكار لما ينطوي عليه هذا الادعاء من انحطاط خلقي. وقد قرأ الدكتور أندرو هذا المقال في ذلك الحين بدرجة من التصديق؛ لأنه كان ما يزال متأثرا بلامتري وهيوم وكابانيه. ثم نسي بعد ذلك كل ما يتعلق بتنويم الحيوان مغناطيسيا. والآن وهو إلى جوار سرير الراجا عادت إليه الذكريات؛ الأستاذ المخبول، والإشارات المغناطيسية، والبتر بغير ألم، وانخفاض نسبة الوفيات والشفاء العاجل. ربما كان في الأمر شيء. وكان مستغرقا في هذه الأفكار عندما قاطع سكونه الرجل المريض بحديثه إليه. وقد تعلم الراجا الحديث بالإنجليزية بطلاقة ولكن بمحاكاة تامة للرجل الذي علمه إياها فكان في نطقه لكنة عامية قوية. وقد أخذ اللغة عن فلاح شاب ترك سفينته عند راندنج بولو واستطاع أن يعبر المضيق ليصل إلى الراجا.
وضحك الدكتور ماك فيل وواصل سرد القصة وقال: هذه اللهجة العامية يشير إليها جدي الأكبر في مذكراته حينا بعد حين. وكان يرى أنه من غير الملائم بتاتا لملك أن يتحدث كما كان يفعل سام ويلر.
5
وعدم الملاءمة في هذه الحالة لم تكن اجتماعية فحسب؛ فالراجا - فوق أنه ملك - كان رجلا مثقفا وعلى درجة كبيرة من التهذيب . لم يكن رجلا ذا عقائد دينية قوية فحسب (فأي أبله ساذج قد يكون ذا عقائد دينية قوية) ولكنه كان كذلك رجلا ذا تجارب دينية وبصيرة روحية. فإذا عبر مثل هذا الرجل عن نفسه بالعامية كان ذلك بالنسبة لرجل أسكتلندي من عهد فيكتوريا الباكر قرأ «مذكرات بكويك» أمرا لا يمكن التسامح فيه. ولم يستطع الراجا أن يتخلص من هذه اللهجة الإنجليزية العامية على الرغم من مهارة جدي الأكبر في تعليم اللغة له. ولكن ذلك كله حدث في المستقبل. أما في اللقاء المأسوي الأول فقد تأثر جدي الأكبر تأثرا غريبا بهذه اللهجة التي تتحدث بها الطبقة الدنيا والتي تؤذي السمع. وهمس المريض بهذه اللهجة قائلا: أعني يا دكتور ماك فيل. وقد ضم راحتيه تضرعا. - وكانت هذه الضراعة حاسمة؛ فقد تناول الدكتور أندرو يدي المريض النحيلتين - دون أدنى تردد - ووضعهما بين يديه، وبدأ يتكلم بنغمة الواثق عن علاج عجيب جديد كشف عنه في أوروبا حديثا ولم يمارسه حتى الآن سوى حفنة من مشاهير الأطباء. ثم التفت إلى الحاضرين الذين كانوا طوال هذا الوقت يطوفون حول المكان، وأمرهم أن يغادروا الغرفة. ولم يفقهوا قوله، ولكن نغمة الكلام وما صاحبها من إشارات كانت واضحة لا لبس فيها، فانحنوا احتراما وانسحبوا. وخلع الدكتور أندرو معطفه وطوى أكمام قميصه وشرع في أداء الإشارات اليدوية المغناطيسية المعروفة والتي قرأ عنها في مجلة لانست مستمتعا بها شاكا فيها، من قمة الرأس إلى الوجه إلى الجذع حتى البطن، مرة تلو المرة حتى يصل المريض إلى حالة الغيبوبة؛ أو حتى يرى الدجال المسيطر أنه قد آن له أن يعلن أن مريضه المخدوع أصبح الآن تحت تأثير المغناطيس، (وقد ذكر حينئذ التعليق التهكمي الذي أدلى به كاتب المقال المجهول). دجل وهراء وخداع. ولكن على الرغم من ذلك ... بدأ يعمل في صمت، عشرون إشارة، خمسون إشارة، وبعدها تنهد المريض وأغمض عينيه، ستون، ثمانون، مائة، مائة وعشرون. وكانت الحرارة خانقة، وقميص الدكتور أندرو مبتلا بالعرق، وذراعاه تؤلمانه، ولبث يكرر حركاته العابثة وهو متجهم، وبلغ مائة وخمسين، ثم مائة وخمسا وسبعين، ثم مائتين. وكل ذلك خداع وهراء، ولكنه على الرغم من ذلك كان مصمما على أن يسوق هذا البائس إلى النوم حتى إن استغرق في ذلك يومه كله، وقال بصوت مرتفع وهو يؤدي الإشارة للمرة الحادية عشرة بعد المائتين: أنت ستنام. وبدا كأن الرجل المريض قد غرق في وساداته، وفجأة نمى إلى سمع الدكتور أندرو صوت صفير مخشخش، وهو صوت التنفس، فقال على عجل، إنك لن تختنق هذه المرة؛ فهنا مكان فسيح يسمح للهواء أن يتحرك، ولن تختنق. وبدأ الراجا يتنفس في هدوء وقام الدكتور أندرو ببضع إشارات أخرى، ثم رأى أن يستريح قليلا ليكون في جانب الأمان، ومسح وجهه، ثم نهض ومد ذراعيه وذرع الغرفة جيئة وذهابا. وعاد إلى جوار السرير وتناول أحد معصمي الراجا وكان أشبه بالعصا، وجس النبض. وكان منذ ساعة قريبا من مائة، أما الآن فقد هبط إلى سبعين. ورفع الذراع، وتعلقت يد الرجل مرتخية كأنها يد ميت من الأموات. ثم ترك هذه اليد فسقطت الذراع من تلقاء نفسها من أثر ثقلها، جامدة لا تتحرك من مكان سقوطها. وصاح به: «يا صاحب السمو!» ورفع صوته ثانية صائحا: «يا صاحب السمو!» فلم يحر جوابا. الأمر كله دجل وهراء وخداع، ولكنه - مع ذلك - فعل فعله، ما في ذلك شك.
ورفرفت حشرة كبيرة براقة اللون (هي فرس النبي) حول إحدى قواعد السرير الذي كان يستلقي عليه ويل، وطوت الحشرة جناحيها القرنفلي والأبيض، ورفعت رأسها الصغير المسطح، ومدت رجليها الأماميتين ذواتي العضلات القوية التي لم يعهدها واتخذت وضع الصلاة. واجتذب الدكتور ماك فيل منظارا مكبرا وانحنى إلى الأمام لفحص هذه الحشرة.
ونطق اسمها باللاتينية وقال: إنها تشكل نفسها لتبدو كالزهرة. وعندما يأتي الذباب والسوس ليرشف رحيق النبات ترشفها الحشرة، وإذا كانت أنثى أكلت عشاقها. ثم نحى المنظار جانبا واتكأ على مسند مقعده وقال مخاطبا ويل فارنبي: أكثر ما أحبه في الكون ما فيه مما هو بعيد الاحتمال. انظر إلى هذه الحشرة، وإلى الإنسان المفكر، وإلى مقدم جدي الأكبر إلى بالا، وإلى التنويم المغناطيسي. هل هناك ما هو أبعد من هذا احتمالا؟
قال ويل: لا شيء اللهم إلا قدومي إلى بالا والتنويم المغناطيسي، بالا التي بلغتها عن طريق سفينة محطمة وصخرة ناتئة، والتنويم المغناطيسي عن طريق مناجاتي لنفسي عن كاتدرائية إنجليزية.
وضحكت سوزيلا وقالت: لم أكن مضطرة لحسن الحظ أن أقوم معك بكل هذه الإشارات، في مثل هذا الجو! إني معجبة حقا بالدكتور أندرو، والتخدير بهذه الإشارات يستغرق أحيانا ثلاث ساعات. - ولكنه أفلح في النهاية؟ - وانتصر. - وهل أجرى العملية فعلا؟
قال الدكتور ماك فيل: نعم أجراها. ولكن ليس في التو؛ فلقد أعد لها إعدادا طويلا. وقد بدأ الدكتور أندرو بأن أوعز إلى مريضه بأنه سوف يستطيع منذ ذلك الحين أن يبتلع بغير ألم، وفي خلال الأسابيع الثلاثة التالية تولى إطعامه، وفيما بين الوجبة والوجبة كان يدخله في غيبوبة ويبقيه نائما حتى يحل موعد الوجبة التالية. ما أعجب ما يقدمه جسم المرء لصاحبه إذا هو أعطاه الفرصة. استرد الراجا اثني عشر رطلا وأحس كأنه رجل آخر، رجل آخر مليء بالثقة والأمل المتجدد. وعرف أنه سوف يجتاز المحنة، وكذلك أيضا عرف الدكتور أندرو. وبينما كان الدكتور يقوي من إيمان الراجا كان في الوقت عينه يقوي من إيمانه الشخصي، ولم يكن إيمانا أعمى؛ فقد كان على ثقة تامة من أن العملية سوف تحظى بالنجاح. ولكن هذه الثقة التي لم تتزعزع لم تمنعه من أن يفعل كل ما يمكن أن يعاون على نجاحها؛ فمنذ بداية ما اتخذ من إجراء كان يستغل الغيبوبة، وكان يقول لمريضه إن هذه الغيبوبة تشتد عمقا يوما بعد يوم، وسوف تكون في يوم العملية أعمق منها في أي وقت سبق، وكذلك سوف يطول أمدها. وكان يؤكد للراجا أنه سوف ينام أربع ساعات كاملة بعد انتهاء العملية، ولن يحس أدنى ألم بعد أن يفيق. وقد عبر الدكتور أندرو عن هذه التأكيدات بمزيج من الشك المطلق والثقة التامة؛ ذلك أن العقل وخبراته الماضية كانت تؤكد له أن ذلك كله من ضروب المستحيل. ولكن الخبرة الماضية أثبتت غير ذلك في هذه الحالة التي يعالجها؛ فلقد حدث المستحيل فعلا عدة مرات، ولم يكن ثمت ما يدعو إلى ألا يتكرر وقوع المستحيل. المهم هو أن «يقول» إنه سوف يحدث؛ لهذا قال به مرة بعد أخرى. كل ذلك حسن، وخير منه ابتداعه فكرة إجراء التجربة. - أي تجربة؟ - تجربة الجراحة؛ فقد أدى إجراءاتها ست مرات. وكانت التجربة الأخيرة صبيحة يوم العملية؛ في السادسة صباحا جاء الدكتور أندرو إلى غرفة الراجا، وبعدما بادله حديثا مرحا قصيرا بدأ في إجراء إشاراته. وبعد بضع دقائق استغرق المريض في غيبوبة عميقة، وأخذ الدكتور أندرو في وصف ما كان مقدما على أدائه خطوة خطوة. ولمس عظم الخد عند العين اليمنى للراجا وقال له: سأبدأ بمط الجلد وبهذا المشرط (وسير فوق الخد طرف قلم من الرصاص) أشق الجلد، ولن تحس ألما بطبيعة الحال؛ لا مشقة على الإطلاق. عندئذ أقطع الأنسجة السفلى ولن تشعر بأي شيء بتاتا. ما عليك إلا أن تستلقي هنا، في سبات مريح أثناء قيامي بقطع الخد حتى الأنف. وبين الفينة والفينة أتوقف قليلا، أتوقف قليلا لأربط أحد الأوعية الدموية، ثم أواصل العمل. وبعدما أنتهي من هذا الجزء من العمل أكون على استعداد لأبدأ في الورم الذي تقع جذوره في تحويف العظم وقد امتد إلى أعلى تحت عظم الخد حتى بلغ محجر العين ثم إلى أسفل حتى المريء، وبعدما أنزع الورم تكون مستلقيا هنا كما كنت لا تحس شيئا، في أتم شعور بالراحة، مسترخيا استرخاء كاملا، وعندئذ أرفع رأسك. وطابق الدكتور أندرو بين حركاته وكلماته ورفع رأس الراجا وأمالها إلى الأمام فوق عنقه المرتخي وقال: أنا أرفع الرأس وأثنيه لكي تتخلص من الدماء التي سالت في فمك وحلقك. وقد تسرب شيء من الدم في القصبة الهوائية، فعليك أن تسعل قليلا لتتخلص منه، ولن يوقظك هذا من نومك. وسعل الراجا مرة أو مرتين. وبعدما أرخى الدكتور أندرو قبضته سقط الرأس فوق الوسادة والمريض ما يزال مستغرقا في نومه . «ولن تختنق حتى وأنا أعمل في الطرف الأسفل من ورم المريء .» وفتح الدكتور أندرو فم الراجا ودفع بإصبعين في حلقه. الأمر كله لا يعدو مجرد النزع. وليس في ذلك ما يجعلك تختنق. وإذا لزمك أن تطرد الدم بالسعال فأنت تستطيع ذلك أثناء النوم، نعم أثناء نومك، هذا النوم العميق العميق. - تلك كانت نهاية التجربة. وبعد عشر دقائق بعدما قام ببضع إشارات أخرى وأوحى إلى مريضه أن يعمق من نومه، شرع في إجراء العملية. مط الجلد، وشقه، وشرح الخد، وقطع الورم من جذوره في التجويف العظمي. واستلقى الراجا مكانه مسترخيا تماما، ثابت النبض معتدلا فيه وهو في الخامسة والسبعين، ولم يحس ألما أكثر مما أحس والطبيب يجري له تجربة العملية ويوهمه بإجرائها. وأعمل الدكتور أندرو مبضعه في الحلق ولم يحدث أي اختناق، وتدفق الدم في القصبة الهوائية، وسعل الراجا ولم يتيقظ. وبعدما انتهت العملية بأربع ساعات كان لا يزال نائما، وفي اللحظة المقدرة تماما فتح عينيه وابتسم للدكتور أندرو من خلال ضماداته، وسأل بعاميته الإنجليزية الرتيبة متى تبدأ العملية. وبعد إطعامه وغسله، قام الدكتور بإجراء بضع إشارات أخرى وأوحى إليه أن ينام أربع ساعات أخرى وأن يبرأ بسرعة. ساعة من الغيبوبة كل يوم، وثمان ساعات من الصحو. وكاد الراجا ألا يحس ألما من أي نوع. وعلى الرغم من ظروف التلوث التي أجرى الطبيب فيها العملية، والتي كان يجدد فيها الغيارات، التأمت الجروح دون تقيح، وكاد الدكتور أندرو ألا يصدق عينيه وقد تذكر الأهوال التي شهدها في مصحة أدنبره، وما هو أشد منها في عنابر الجراحة في مدراس. وكانت هذه فرصة ثانية بالنسبة إليه تثبت له ما يمكن أن يفعله المغناطيس الحيواني. وكانت كبرى بنات الراجا في شهرها التاسع من حملها الأول، فأرسلت الراني في طلب الدكتور أندرو متأثرة بما قام به لزوجها، وألفاها جالسة مع فتاة ضعيفة مرتاعة في السادسة عشرة من عمرها لا تتحدث إلا قليلا من العامية الإنجليزية المتعثرة التي مكنتها من أن تقول له إنها سوف تموت هي ووليدها. أكدت لها ذلك ثلاثة طيور سوداء حلقت في طريقها في ثلاثة أيام متتالية. ولم يحاول الدكتور أندرو أن يجادلها، بل طلب إليها أن تستلقي، ثم بدأ يؤدي إشاراته. وبعد عشرين دقيقة استغرقت الفتاة في غيبوبة عميقة، وأكد لها الدكتور أندرو أن الطيور السوداء في بلده تبشر بالخير، وهي علامة على الميلاد والرفاء، سوف تلد طفلها بسهولة وبغير ألم، نعم، بغير ألم مثلما فعل والدها أثناء العملية الجراحية. ووعدها بانعدام الألم بتاتا. - وبعد ثلاثة أيام، وبعد ثلاث أو أربع ساعات من الإيحاء المركز، حدث كل شيء كما توقع، ولما تيقظ الراجا ليتناول طعام العشاء ألفى زوجته إلى جواره، وقالت له: لنا الآن حفيد وابنتنا في صحة جيدة. ولقد قال الدكتور أندور إنك غدا يمكن أن تنقل إلى غرفتها لكي تبارك لها ولطفلها. وبعد شهر حل الراجا مجلس الوصاية وعاد إلى ممارسة سلطاته الملكية، شاكرا للرجل الذي أنقذ حياته وأنقذ حياة ابنته كذلك (وكانت الراني مقتنعة بذلك كل الاقتناع) وعين الدكتور أندرو كبيرا لمستشاريه. - ولذلك لم يعد إلى مدراس؟ - لا إلى مدراس، ولا حتى إلى لندن، وبقي هنا في بالا. - وحاول أن يغير لهجة الراجا؟ - كما حاول - وبدرجة أكبر من النجاح - أن يغير مملكة الراجا. - إلى أية صورة من الصور؟ - ذلك هو السؤال الذي لم يكن بوسعه أن يجيب عنه. في الأيام البعيدة، لم يكن لديه خطة من الخطط. كل ما كان يملكه مجموعة من الاتجاهات التي يحبها ومجموعة أخرى لا يحبها. كانت في بالا أشياء أحبها وأشياء كثيرة أخرى لم يحبها بتاتا، كما كانت هناك في أوروبا أشياء يمقتها وأشياء أخرى يتحمس لها أشد الحماسة. لقي في أسفاره أمورا لها معنى وأمورا أخرى اشمأزت لها نفسه، وبدأ يدرك أن الناس ينتفعون من ثقافتهم وهم في الوقت نفسه من ضحاياها؛ ثقافتهم تزهرهم كما تميتهم أو تصيبهم بالآفات التي تفتك بازدهارهم في الصميم. فهلا يمكن في هذه الجزيرة المحرمة أن يتفادى سكانها الآفات وأن يبلغوا بذبول ازدهارهم حده الأدنى، وأن يترعرع الفرد في صورة أكثر جمالا؟ هذا هو السؤال الذي حاول الدكتور أندرو والراجا أن يجدا له الإجابة عرضا في أول الأمر ثم بوعي متزايد بعد ذلك بما كانا يتصديان له. - وهل وجدا حلا؟
قال الدكتور ماك فيل: عندما أعود بذاكرتي إلى الماضي يذهلني ما أنجزه هذان الرجلان؛ الطبيب الأسكتلندي وملك بالا، الرجل الكالفيني الذي ألحد والبوذي الماهاياني
6
الورع التقي؛ يا لهما من اثنين تلاقيا لقاء عجيبا! وسرعان ما انعقدت بينهما صداقة وطيدة. اثنان لكل منهما مزاجه ومواهبه التي يتمم بها مزاج الآخر ومواهبه، فلسفتان تتكاملان، ومعينان من المعرفة يكمل أحدهما الآخر. كل منهما يسد نقائص الآخر، وكل منهما ينشط ويعزز ما عند الآخر من قدرات وراثية. الراجا عقله حاد دقيق، ولكنه لا يعلم شيئا عن العالم الذي يتجاوز حدود جزيرته، لا يعلم شيئا عن العلوم الطبيعية أو التكنولوجيا الأوروبية أو الفن الأوروبي أو طرق التفكير في أوروبا. ولم يكن الدكتور أندرو بأقل منه ذكاء، ولكنه لم يكن بالطبع على علم بالتصوير الهندي أو الشعر أو الفلسفة الهندية. وكذلك - كما تبين له شيئا فشيئا - لم يدر شيئا عن العقل البشري أو عن فن الحياة. وفي الشهور التي أعقبت العملية الجراحية تتلمذ كل منهما على الآخر. ولم يكن ذلك بطبيعة الحال إلا البداية. لم يكونا مجرد مواطنين لا يعبآن إلا بارتقاء شخصيهما؛ فلقد بلغت رعية الراجا المليون وكان الراجا في الواقع رئيس وزرائه، ولم يكن تطورهما الخاص إلا مقدمة لتطوير الجماهير. وإذا كان الملك والطبيب كلاهما يعلم الآخر أن يفيد من العالمين - العالم الشرقي والعالم الأوروبي؛ العالم القديم والعالم الجديد - فلم يكن ذلك إلا لكي يعينا الأمة بأسرها على أن تحذو حذوهما. ماذا أقول؟ أن يفيدا من العالمين؟ كلا بل إن يفيدا من كل العوالم؛ العوالم التي تحققت فعلا في الثقافات المختلفة، وفيما جاوزها، العوالم ذات الإمكانات التي لم تتحقق بعد، وكان ذلك طموحا ضخما، طموحا يستحيل بلوغه تماما، ولكنه كان على الأقل طموح له ميزة خاصة، وهي أن يحفزهما، ويحملهما على أن يطآ أرضا تخشاها الملائكة؛ وقد حققا من النتائج في بعض الأحيان ما أثبت للناس كافة - وأذهلهم - أنهما لم يكونا من الغفلة كما بدا لهم، أنهما - بطبيعة الحال - لم ينجحا قط في الإفادة من كل العوالم، ولكنهما - بفضل المحاولة الجريئة - أفادا من عوالم أكثر مما كان يحلم أي عاقل أو حكيم بالقدرة على التوفيق والجمع بينها.
ومن الأمثال روى ويل ما قيل من أن الأحمق إذا أصر على حماقته أصبح حكيما.
ووافقه على ذلك الدكتور روبرت وقال: تماما. ولعل أشد الحماقات إسرافا الحماقة التي وصفها بليك؛ وهي الحماقة التي كان الراجا والدكتور أندرو يفكران فيها حينذاك؛ الحماقة الكبرى التي تحث على المزاوجة بين الجحيم والنعيم. ولكنك إن أصررت على هذه الحماقة الكبرى كان جزاؤك وافرا! بشرط أن تصر بذكاء بطبيعة الحال؛ لأن الحمقى الأغبياء لا يحققون شيئا ما. العارفون والماهرون وحدهم هم الذين تجعلهم حماقتهم حكماء أو الذين تعود عليهم حماقتهم بنتائج طيبة. ولحسن الحظ كان هذان الأحمقان على مهارة؛ فقد بلغا من المهارة - مثلا - ما جعلهما يرتكبان حماقتهما بطريقة متواضعة مقبولة. بدآ بما يخفف الالام. وأهل بالا بوذيون، وعرفوا الصلة بين البؤس والعقل. إذا تعلقت بأمر ما وتشبثت به، وإذا اشتدت رغبتك، وإذا فرضت نفسك عشت في جحيم صنعته لنفسك بنفسك، وإذا عزلت نفسك عشت مطمئنا. قال بوذا: «أنا أريكم الأحزان، وأنا أريكم نهاية الأحزان.» وهذا هو الدكتور أندرو بنوع معين من العزلة الفعلية استطاع أن يقضي على الأقل على نوع من أنواع الأحزان؛ أقصد الآلام البدنية. وقد استخدم الراجا نفسه، كما استخدم - من النساء - الراني وابنتها مترجمين له وهو يلقي الدروس في فنه الذي كشف عنه أخيرا لجماعات من القابلات والأطباء والمعلمين والأمهات والمرضى العاجزين. الولادة بغير ألم؛ بهذا انضم إلى جانب المجددين بحماسة شديدة كل نساء بالا. والعمليات الجراحية بغير ألم في حالات الحصوة وإعتام العين والنزيف؛ بذلك اكتسبوا ثقة الشيوخ والمصابين، وبضربة لازب انضم إلى صفوفهم أكثر من نصف السكان البالغين، وانحازوا لجانبهم، وتوددوا إليهم، أو على الأقل تفتحت عقولهم للإصلاح القادم.
قال ويل: وإلى أين ذهبوا بعد الآلام؟ - إلى الزراعة واللغة، إلى الخبز والمواصلات، استقدموا رجلا من إنجلترا لينشئ لهم روثامستد في المناطق الحارة، وانكبوا على تعليم أهل بالا لغة ثانية.
وكان لا بد أن تبقى بالا جزيرة محرمة؛ لأن الدكتور أندرو اتفق مع الراجا بكل قلبه على أن المبشرين والمزارعين والتجار خطر على بالا لا يمكن أن يحتمل. ولكن إذا هم لم يسمحوا لهؤلاء المخربين الأجانب بدخول البلاد، فلا بد لهم بطريقة ما أن يعاونوا الأهالي على الخروج منها، إن لم يكن بأشخاصهم فبعقولهم على الأقل. غير أن لغتهم، وكتابتهم العتيقة للأبجدية البراهمية كانت سجنا بغير نوافذ. ولا مخرج لهم، ولا أمل في النظر إلى العالم الخارجي إلا إذا هم تعلموا الإنجليزية وأمكنهم أن يقرءوا الخط اللاتيني. وما أحرزه الراجا في مجال اللغة كان مثالا يحتذيه رجال القصر الملكي. وأدخل السادة والسيدات في حديثهم نتفا من العامية الإنجليزية، بل لقد بعث بعضهم إلى سيلان في طلب مربين يتكلمون الإنجليزية. وسرعان ما تحول الأمر من تظاهر بالتجديد إلى سياسة مرسومة. وأنشئت المدارس الإنجليزية واستوردت البلاد من كلكتا مجموعة من الطباعين البنغاليين ومعهم مطابعهم والأطقم الكاملة من الحروف المطبعية بصنوفها كافة. وكان أول كتاب إنجليزي نشر في شيفا بورام مختارات من «ألف ليلة وليلة» والكتاب الثاني ترجمة للحكم الهندوكية، ولم تكن قبل ذلك ميسورة إلا بالسانسيكريتية وفي المخطوطات. وأمسى تعلم الإنجليزية لازما لمن أراد أن يقرأ عن سندباد أو معروف أو لمن كان مهتما بما جاء في «حكمة الشاطئ الآخر»؛ وذلك لسببين هامين. وكانت تلك بداية لعملية تربوية طويلة تحولنا بها في نهاية الأمر إلى شعب يعرف لغتين؛ نتكلم لغة بالا ونحن نطهو، أو نلهو بالفكاهة. وعندما نتكلم عن الحب أو نمارسه.
وبهذه المناسبة نحن هنا في جنوب شرقي آسيا لدينا أغنى محصول لغوي يعبر عن الحب وعن العواطف. أما في شئون التجارة والعلم أو الفلسفة التأملية فنحن نتكلم عادة بالإنجليزية، وأكثرنا يؤثر أن يكتب بالإنجليزية. وكل كاتب بحاجة إلى أدب يكون له مرجعا، وبحاجة إلى نماذج يحتذيها أو يعارضها. وبالا لديها تصوير ونحت غاية في الجودة، وفن معماري رائع، ورقص مدهش، وموسيقى تعبيرية دقيقة؛ ولكن ليس لديها أدب بالمعنى الصحيح. وليس لديها شعراء أو كتاب مسرحيات أو قصاصون وطنيون. ليس بها سوى شعراء شعبيين يروون الأساطير البوذية والهندوكية، ومجموعة من الرهبان يلقون المواعظ ويتحدثون حديثا مفصلا في الميتافيزيقا.
ولما اتخذنا الإنجليزية لغة قومية ثانية اكتسبنا أدبا له ماض عريق في القدم ومن أكثر الآداب انتشارا في الوقت الحاضر من غير شك، أصبحت لدينا خلفية، ومقياس روحي، وكنز من الأساليب وطرق التعبير، ومصدر للوحي لا ينفد. وبعبارة موجزة: أمست لدينا القدرة على الإبداع في مجال لم نكن من قبل قط من المبدعين فيه. وبفضل الراجا وجدي الأكبر أصبح لدينا أدب أنجلوبالي؛ وسوزيلا مثال طيب معاصر لهذا الأدب.
وعارضت سوزيلا قائلة: إنما أنا أمثل الجانب القاتم منه. وأغمض الدكتور ماك فيل عينيه وابتسم لنفسه وأخذ ينشد مقطوعة شعرية عن جلال الصمت.
ثم فتح عينيه ثانية وقال: ولا أذكر هذا الشعر الذي يمجد الصمت فحسب، بل أذكر كذلك العلم، والفلسفة، وأصول الدين الذي يدعو إلى الصمت ... والآن آن الأوان لكي تنام. ثم نهض واتجه نحو الباب وهو يقول: سآتي لك بكوب من عصير الفواكه.
الفصل التاسع
- حب الوطن وحده لا يكفي. وأي شيء آخر وحده لا يكفي. العلم لا يكفي، والدين لا يكفي، والفن لا يكفي، والسياسة والاقتصاد وحدهما لا يكفيان، وكذلك الحب لا يكفي، والواجب لا يكفي، والعمل وحده لا يكفي مهما تنزه صاحبه عن الهوى، وكذلك التأمل وحده - مهما سما - لا يكفي، لا يغني إلا كل شيء.
ومن بعيد صاح الطائر: انتباه!
ونظر ويل في ساعته. كانت الثانية عشرة إلا خمسا، فأغلق كتاب «حقائق الأشياء»، وتناول عصا الخيزران ذات الطرف المدبب التي كانت فيما مضى ملكا لديوجولد ماك فيل وسار بها لكي يحافظ على موعده مع فيجايا والدكتور روبرت. ولا يبعد المبنى الرئيسي لمحطة التجارب عن منزل الدكتور روبرت أكثر من ربع ميل إذا هو سلك الطريق المختصر . وكان اليوم شديد الحرارة، وكان عليه أن يتغلب على مشقة الهبوط على مجموعتين من درجات السلم. والرحلة شاقة بالنسبة لرجل في دور النقاهة، ساقه اليمنى في الجبيرة.
وشق ويل طريقه في بطء وبشعور من الألم على الطريق الملتوي وفوق درجات السلم. وفي أعلى المجموعة الثانية من الدرجات توقف ليلتقط أنفاسه ويمسح جبينه، والتزم الجدار حيث كان إلى جواره شريط ضيق من الظل، وسار نحو لوحة كتب عليها: «المعمل».
وكان الباب الذي يقع تحت اللوحة منفتحا إلى نصفه، فدفعه ليتم انفتاحه، وألفى نفسه على عتبة حجرة طويلة سقفها مرتفع. وكانت هناك الأحواض وطاولات العمل المعتادة، والدواليب ذات الأوجه الزجاجية المألوفة مليئة بالزجاجات والمعدات، وروائح الكيماويات المعتادة، وكذلك الفئران في الأقفاص. وتصور ويل لأول وهلة أن الغرفة خالية من السكان؛ ولكن الأمر لم يكن كذلك؛ فقد كان موروجان الشاب جالسا عند إحدى المناضد مستغرقا في القراءة وتكاد تخفيه عن الأنظار خزانة كتب تبرز من الحائط بزاوية قائمة، وولج ويل الغرفة وهو أشد ما يكون هدوءا؛ لأن مما يسره دائما أن يفاجئ غيره من الناس، وغطى على صوت مقدمه أزيز مروحة كهربائية، ولم يتنبه موروجان إلى وجوده إلا بعدما أصبح على قيد بضع أقدام من خزانة الكتب. وفزع الفتى كأنه مذنب، وألقى كتابه بعجلة المذعور في حقيبة من الجلد، ومد يده نحو كتاب آخر أصغر حجما كان مفتوحا على المنضدة إلى جوار الحقيبة، وجذب إليه الكتاب حتى أصبح على بعد القراءة، عندئذ فقط لفت وجهه نحو الشخص الدخيل.
وطمأنه ويل بابتسامة منه وقال له: هذا أنا.
واستبدل الفتى بنظرة التحدي الغاضبة نظرة الارتياح وبادر بقوله: ظننته ... ولم يتم العبارة. - ظننته شخصا جاء ليؤنبك على إهمالك في أداء ما كان مفروضا عليك أن تؤديه؛ أليس كذلك؟
وكشر موروجان وأومأ برأسه ذي الشعر المجعد.
وسأل ويل: أين الآخرون؟
فرد بنغمة تنم عن الازدراء: في الحقول؛ يشذبون النبات أو يلقحونه أو ما إلى ذلك. - غاب القط فلعب الفأر! ماذا كنت تقرأ بكل هذا الاهتمام؟
وبمكر بريء رفع موروجان الكتاب الذي كان يتظاهر بقراءته وقال: مبادئ علم البيئة.
قال ويل: سألتك ماذا كنت تقرأ؟
فهز موروجان كتفيه وقال: هذا. إنه لا يهمك.
وأكد له ويل: إنني أهتم بأي شيء يحاول صاحبه أن يخفيه. هل هو من الأدب المكشوف؟
وكف موروجان عن التمثيل، وبدا عليه فعلا الشعور بالإساءة وقال: من ذا تظنني أن أكون؟
وكاد ويل أن يقول إنه يظنه من أوساط الفتيان، ولكنه تحكم في نفسه، فقوله: «أوساط الفتيان» قد يعني بالنسبة لصديق ديبا صاحب الوجه المليح إهانة أو تلميحا؛ فبدلا من ذلك انحنى في احترام زائف وقال: عفوا يا صاحب الجلالة. ثم أضاف بنغمة أخرى: ولكني لا زلت تواقا إلى المعرفة. ووضع إحدى يديه على الحقيبة المنتفخة وقال: هل لي ...؟
وتردد موروجان لحظة، ثم اضطر إلى الضحك، وقال: استمر.
وأخرج ويل المجلد الضخم من الحقيبة ووضعه على المنضدة وقال: يا له من كتاب ضخم! وقرأ بصوت مرتفع: سيرز وروبك وشركاؤهما، كتالوج الربيع والصيف.
قال موروجان معتذرا: إنه كتالوج العام الماضي. ولكني لست أحسب أن تغيرا كبيرا قد حدث منذ ذلك الحين.
وقال له ويل مؤكدا: في هذا أنت مخطئ. إذا كانت الطرز لا تتغير تماما كل عام امتنع السبب في شراء أشياء جديدة قبل أن يبلى القديم. أنت لا تعرف المبادئ الأولى للاستهلاك. وفتح الكتاب حيثما اتفق وقرأ: «حمالات ناعمة للأحجام الكبيرة»، ثم فتح صفحة أخرى ووجد وصفا وصورة لصدرة قرنفلية اللون من الداكرون والقطن للسيدات، وفتح صفحة أخرى ووجد ما سوف تلبسه صاحبة الصدرة بعد عشرين عاما (ولنذكر أننا جميعا سوف نموت)؛ إزار أمامي يضبطه حزام، ومكور بشكل يسند البطن المتدلية.
قال موروجان الكتاب لا يشوق حقا إلا في نهايته، وبه ألف وثلاثمائة وثمان وخمسون صفحة. وبعبارة معترضة أضاف: تصور! ألف وثلاثمائة وثمان وخمسون صفحة!
وقفز ويل إلى ما بعد سبعمائة وخمسين صفحة.
وقال: هذا مثال طيب؛ المسدس والأوتوماتيك المعروف عندنا قوة 0,22 وبعد بضع صفحات أخرى وجد الزوارق المصنوعة من ألياف الزجاج، والآلات ذات الدفع الداخلي القوي، وآلة خارجية قوة 12 حصانا بمبلغ 234,95 دولارا بما في ذلك فنطاس الوقود. هذه أثمان منخفضة بشكل غير عادي!
ولكن من الواضح أن موروجان لم يكن ملاحا. فتناول الكتاب وقلب عشرات الصفحات الأخرى بقلق شديد وقال: انظر إلى هذا الطراز الإيطالي لدراجة ذات رجل واحدة! وتطلع إلى الكتاب ويل، وقرأ موروجان بصوت مرتفع: عداد السرعة الأملس هذا يمكن أن يعطيك سرعة مقدارها 110 ميلا لجالون الوقود الواحد، تصور!
وتغير وجهه العابس إلى وميض من الحماسة الشديدة وأضاف: ويمكنك أن تسير بسرعة ستين ميلا للجالون حتى بهذا الموتوسيكل الذي تبلغ قوته 14,5 حصانا. ويضمنون لك خمسة وسبعين ميلا في الساعة؛ مضمونة!
قال ويل: رائع! وفي شغف شديد سأل: هل بعث إليك أحد من أمريكا بهذا الكتاب الفاخر؟
وهز موروجان رأسه وقال: أعطاني إياه الكولونيل ديبا. - الكولونيل ديبا! يا لها من هدية عجيبة من هادريان إلى أنطونيوس! ونظر مرة أخرى إلى صورة الموتوسيكل ثم إلى وجه موروجان المشرق، وأشرقت عليه الحقيقة، واتضحت له أغراض الكولونيل: «أغوتني الأفعى فأكلت.» إن الشجرة القائمة وسط الحديقة هي شجرة السلع الاستهلاكية، وأدنى تذوق لثمارها، بل ومنظر صورها في ألف وثلاثمائة وثمان وخمسين صفحة - بالنسبة للسكان في كل جنة عدن من جنات الدول النامية - له من التأثير ما يجعلهم يعلمون - على استحياء - أنهم من الناحية الاقتصادية عراة كما ولدتهم أمهاتهم. إن الكولونيل بفعله هذا جعل راجا بالا المقبل يتأكد أنه لا يرتفع عن مستوى حاكم عار تماما على قبيلة من القبائل الهمجية.
وقال ويل بصوت مرتفع: ينبغي لك أن تستورد مليونا من هذه الكتالوجات وتوزعها على رعاياك؛ مجانا بطبيعة الحال مثل موانع الحمل. - لماذا؟ - لكي تسيل لعابهم على الامتلاك، وبعدئذ تراهم صائحين يطلبون التقدم؛ آبار البترول، السلاح، جو ألديهايد، والتقنيين السوفييت.
وقطب موروجان جبينه وهز رأسه: إن هذا لا ينفع. - تعني أن ذلك لا يغريهم؟ ولا حتى مؤشرات السرعة الملساء وصدرات الأثداء القرنفلية؟ غير معقول!
وقال موروجان بمرارة : قد يكون غير معقول، ولكنها الحقيقة. إنهم لا يعبئون. - حتى الشباب ؟ - بل والشباب بوجه خاص.
وأرهف ويل فارنبي السمع؛ فلقد كان عدم الاكتراث هذا أمرا شائقا جدا، وسأله: هل تقدر السبب؟
وأجاب الفتى: أنا لا أقدره، بل أعلمه. وبدأ يتكلم بنغمة تنم عن الاستنكار الحق، نغمة كانت لا تتفق أبدا مع سنه ومظهره، وكأنه قرر فجأة أن يحاكي أمه. قال: أولا، الناس هنا منشغلون جدا ب... وتردد في إكمال العبارة. ولكن الكلمة الممقوتة خرجت همسا من بين شفتيه مع تأكيد يثير الاشمئزاز: «بالجنس.» - ولكن كل امرئ مشغول بالجنس، ولا يمنعهم ذلك من السعي وراء مؤشرات السرعة كالبغايا.
وقال موروجان مؤكدا: ولكن الجنس مختلف هنا.
وسأله ويل وقد تذكر الوجه الطروب للممرضة الصغيرة: ذلك بسبب يوجا الحب؟
وأومأ الفتى برأسه إيجابا وقال: عندهم شيء يجعلهم يظنون أنهم في منتهى السعادة، وهم لا يريدون شيئا آخر. - يا لها من حالة سعيدة.
قال موروجان وقد طقطق بأصابعه: ليس في الأمر ما يسعد؛ الأمر كله غباء ويدعو إلى الاشمئزاز. لا تقدم، الأمر كله جنس في جنس في جنس. ثم هناك أيضا ذلك المخدر الملعون الذي يتعاطونه جميعا.
وأعاد ويل الكلمة في دهشة: مخدر؟ مخدر في مكان قالت سوزيلا إنه ليس به مدمون؟ أي نوع من أنواع المخدرات؟
وأجاب في صيغة فكهة يحاكي بها نغمة الراني المتذبذبة حينما تثار روحانيها، قال: إنه مصنوع من نوع من أنواع الفطريات السامة. - تلك الفطريات الحمراء الجميلة التي تعودت أن تجلس فوقها الأقزام الذين يحرسون كنوز الأرض؟ - لا، هذه الفطريات صفراء اللون. وقد اعتاد الناس أن يخرجوا لجمعها من الجبال. أما اليوم فهي تنمو في أحواض خاصة بالفطر بمرتفعات محطة التجارب، إنه مخدر يزرع بطريقة علمية. شيء جميل. أليس كذلك؟
وانفتح الباب محدثا صوتا، وسمعت ضجة ووقع أقدام تقترب من الردهة، وفجأة اختفت روح الراني الساخطة (التي تقمصها)، وعاد موروجان مرة أخرى ذلك التلميذ حي الضمير الذي حاول خفية أن يستر مظاهر انحرافه. وفي لمح البصر حل كتاب «مبادئ علم البيئة» محل مجلد «سيرز وروبك» واختفت تحت المنضدة الحقيبة المنتفخة المريبة. وبعد لحظة دخل فيجايا الغرفة يذرعها بخطواته عاريا إلى وسطه، لامعا كالبرنز الممسوح بالزيت، يتصبب منه عرق العمل في شمس الظهيرة، وسار من خلفه الدكتور روبرت. ورفع موروجان بصره من كتابه وعليه سيما الطالب النموذجي الذي قاطعه أثناء القراءة من انتهك حرمة المكان من العالم الخارجي الطائش. وبسرور بالغ أخذ ويل لتوه يؤدي بكل إخلاص ذلك الدور الذي وكل إليه أن يؤديه.
وعندما تقدم إليه فيجايا معتذرا عن التأخير، قال: أنا الذي جئت إلى هنا مبكرا؛ مما ترتب عليه أن صديقنا الصغير هنا لم يتمكن من متابعة دروسه؛ فقد كنا منهمكين في الجدل.
وسأل الدكتور روبرت: فيم؟ - في كل شيء، الكرنب، والملوك، والعجلات البخارية، والبطون المتدلية. وعندما جئتم كنا قد بدأنا الحديث في الفطر، وكان موروجان يحدثني عن الفطريات التي تستخدم هنا مصدرا للمخدرات.
وقال الدكتور روبرت ضاحكا: هل يدل الاسم على شيء ما؟ الإجابة، أنه يدل على كل شيء. إن موروجان لسوء الحظ قد نشأ في أوروبا ولذلك يسميه المخدر وشعوره نحوه الاستنكار المطلق الذي تثيره اللفظة القذرة، متأثرا بالفعل المنعكس الشرطي. أما نحن - فعلى عكس ذلك - نطلق على هذه المادة أسماء طيبة؛ نقول عنها «عقار الموكشا»، والكاشفة عن الواقع، وأقراص الحق والجمال. وبالخبرة المباشرة نعلم أنها جديرة بهذه الأسماء الطيبة. أما صاحبنا الصغير هذا فليست لديه معرفة مباشرة بهذه المادة، ولم يمكن إغراؤه بأن يجربها، فهي عنده مخدر، والمخدر - بحكم تعريفه - شيء لا يتعاطاه شخص مهذب.
وسأل ويل: ماذا تقول في هذا يا صاحب السمو؟
هز موروجان رأسه وتمتم قائلا: كل ما يعطيك إياه مجموعة من الأوهام. لست أدري لماذا أنحرف عن طريقي وأجعل نفسي أضحوكة؟
قال فيجايا ساخرا متفهكا: نعم لماذا؟ ولك أن تسأل لأنك في حالتك الطبيعية وحدك من بين أفراد الجنس البشري جميعا الذي لا يستغفله أحد وليس لديك أوهام عن أي شيء!
واحتج موروجان قائلا: إنني لم أقل ذلك قط، وكل ما قصدت هو أنني لا أريد ما عندكم من «سمادهي» زائف.
وسأل الدكتور روبرت: كيف عرفت أنه زائف؟ - لأن الشيء الحقيقي لا يأتي للناس إلا بعد سنوات وسنوات من التأمل و«التابا»
1
وكذلك الامتناع عن النساء.
وتعليقا على ذلك قال فيجايا لويل: إن موورجان بيوريتاني «متزمت»، يثور عندما يعلم أن أربعمائة مليجرام من عقار الموكشا في الدورة الدموية يجعل المبتدئين - حتى البنين والبنات الذين يمارسون الحب - قادرين على رؤية العالم كما يراه المرء إذا تحرر من استرقاق ذاته لنفسه.
قال موروجان مؤكدا: ولكنه غير واقعي.
ورد عليه الدكتور روبرت بقوله: غير واقعي! إن ذلك بمثابة قولك إن تجربة الإحساس بسلامة الصحة غير واقعية.
واعترض على ذلك ويل بقوله: إنك تفترض سلفا صدق ما تقول؛ لأن التجربة يمكن أن تكون واقعية بالنسبة لشيء يجري داخل جمجمة الرأس، ولكنها ليست كذلك بتاتا بالنسبة لأي شيء خارجي.
ووافق الدكتور روبرت على ذلك وقال: طبعا. - هل أنت تعلم ما يجري بداخل جمجمتك عندما تتناول جرعة من الفطر؟ - نعرف القليل.
وأضاف على ذلك فيجايا: ونحن نحاول كل مرة أن نزداد معرفة.
قال الدكتور روبرت: لقد عرفنا مثلا أن الناس الذين لا يظهر رسم المخ عندهم حركة الموجة «أ» وهم في حالة استرخاء لا يحتمل أن يستجيبوا لعقار الموكشا بدرجة محسوسة، ويمثل هؤلاء نحو خمسة عشر في المائة من السكان. ومعنى ذلك أن علينا أن نوفر لهم سبلا أخرى للتحرر.
قال فيجايا: وثمت أمر آخر بدأنا ندركه، وهو علاقة الأعصاب بهذه التجربة. ماذا يحدث في المخ عندما تحدث الرؤية؟ وماذا يحدث عندما ينتقل المرء من حالة عقلية تسبق التصوف إلى حالة التصوف الحق؟
قال ويل: وهل تعرفون؟ - المعرفة كلمة ضخمة. يكفينا أن نقول إننا في وضع يمكننا من الحدس المعقول. الملائكة وصور جديدة لأورشليم وللعذراء ولأمثال بوذا الذين سوف يظهرون في المستقبل - كل هؤلاء - كل هؤلاء متصلون بنوع غير عادي من أنواع إثارة مناطق المخ التي تتصور الأفكار وكأنها حقائق موضوعية؛ اللحاء البصري مثلا. ولا نعلم حتى الآن كيف يحدث عقار الموكشا هذه الإثارات غير العادية. المهم أنها تحدثها بطريقة ما، وبطريقة ما تفعل شيئا غير عادي في مناطق المخ الساكنة، المناطق التي لا تتعلق خاصة بالرؤية أو الحركة أو الشعور.
واستفسر ويل: وكيف تتجاوب هذه المناطق الساكنة؟ - لنبدأ كلامنا بما لا تتجاوب معه هذه المناطق. إنها لا تتجاوب مع الرؤى أو المسموعات، ولا تتجاوب مع اتصال العقول أو رؤية ما يقع وراء نطاق البصر أو أي نوع من أنواع الأداء الذي يجاوز حدود النفس. لا شيء من المادة الممتعة التي تسبق التصوف. تجاوبها تجربة صوفية كاملة؛ الواحد في الكل والكل في الواحد. التجربة الأساسية وما يترتب عليها؛ الرأفة التي لا تحد، واللغز والمعنى الذي لا يسبر غوره.
وقال الدكتور روبرت: وذلك بخلاف المتعة. المتعة التي يعجز عن وصفها التعبير.
قال ويل: والمجموعة كلها داخل الجمجمة. - أمر خاص جدا، لا إشارة فيه لأي شيء خارجي سوى الفطر.
وقاطعه موروجان قائلا: غير واقعي. وهذا بالضبط ما كنت أحاول أن أقوله.
قال الدكتور روبرت: أنت تفترض أن المخ يحدث الوعي. وأنا أزعم أن المخ ينقل الوعي. وليس شرحي أكثر بعدا في احتماله من شرحك. كيف يمكن أن يمارس المرء مجموعة من الأحداث التي تتعلق بعالم ما على أنها مجموعة من الأحداث متعلقة بعالم آخر مختلف تماما وغير متناسب معه. ليس هناك من لديه أدنى فكرة، كل ما يستطيع المرء أن يفعله هو أن يقبل الوقائع ويلفق الفروض. وكل فرض - من الناحية الفلسفية - له من الصلاحية ما لغيره من الفروض. أنت تقول إن عقار الموكشا يفعل شيئا ما في المناطق الصامتة من المخ مما يجعل هذه المناطق تنتج حوادث ذاتية يسميها الناس «تجربة صوفية». وأنا أقول إن عقار الموكشا يفعل شيئا ما في المناطق الصامتة من المخ مما يفتح شيئا يشبه صمام المخ فيسمح بقدر أكبر من «العقل العام» أن يتدفق في «عقلك الخاص»، وأنت لا تستطيع أن تثبت صدق فرضك، وأنا لا أستطيع أن أثبت صدق فرضي، وحتى إن استطعت أن تثبت خطئي فهل يكون هناك فرق عملي؟
قال ويل : كنت أحسب أن هناك فارقا كبيرا.
قال الدكتور روبرت: هل تحب الموسيقى؟ - أكثر من أي شيء آخر؟ - هل لي أن أسألك إلى أي شيء تشير خماسية موزار؟ هل تشير إلى الله أو تاو أو إلى الشخص الثاني من الثالوث المقدس أو إلى أتمان براهمان؟
وضحك ويل وقال: أرجو ألا يكون هناك شيء من ذلك. - ولكن ذلك لا يقلل مما تعطيه الخماسية لنا. الأمر شبيه بذلك فيما يتعلق بنوع التجربة التي تظفر بها من عقار الموكشا، أو من الصلاة والصيام والتدريبات الروحية. إنها قد لا تشير إلى شيء خارج عنها، ومع ذلك فهي أهم ما يحدث لك. إنها كالموسيقى ولكنها أقوى منها أثرا. وإذا أنت أعطيت للتجربة فرصة، وإذا كنت على استعداد لأن تمارسها، فسوف تجد أن نتائجها أفعل علاجا وأكثر قدرة على تشكيلك بدرجة لا تقارن. ربما كان كل شيء يحدث داخل الجمجمة، وربما كان خاصا بك وحدك، وربما لا تكون هناك معرفة موحدة لأي شيء سوى ما يحدث لوظائف أعضائك أنت. ماذا يهمنا في ذلك؟ الأمر الواقع هو أن التجربة تستطيع أن تفتح عينيك وتجعلك من المباركين وتقلب حياتك كلها. وسادت فترة طويلة من الصمت، واصل بعدها الحديث متوجها إلى موروجان: أحب أن أقول لك شيئا، شيئا لم يكن في نيتي أن أبوح به لأي إنسان. ولكني أشعر الآن أنه ربما كان علي واجب إزاء العرش وإزاء بالا وكل ساكنيها؛ لزام علي أن أحدثك عن هذه التجربة الخاصة. وربما كان حديثي عونا لك لكي تكون أكثر تفهما لبلدك وطرائقها. وصمت لحظة، ثم واصل الحديث بنغمة هادئة تنم عن الثقة التامة فيما يروي، قال: أعتقد أنك تعرف ما جرى لزوجتي.
وبوجه لا يزال متجها وجهة أخرى أومأ موروجان برأسه إيجابا، وتمتم قائلا: أسفت عندما نمى إلي أنها مريضة.
قال الدكتور روبرت: لم يعد لها سوى بضعة أيام، أربعة أو خمسة على الأكثر، ولكنها لا تزال صافية الذهن، واعية تماما بما يحدث لها. بالأمس سألتني إن كنا نستطيع أن نتناول عقار الموكشا معا. وفي جملة معترضة قال: وكنا نفعل ذلك من قبل مرة أو مرتين كل عام خلال السبعة وثلاثين عاما الماضية؛ منذ أن قررنا أن نتزوج، والآن مرة أخرى؛ للمرة الأخيرة، والأمر لا يخلو من مخاطرة لما قد يترتب عليه من إيذاء لكبدها. ولكنا قررنا أنه خطر يستحق أن نرتكبه. وكنا على حق كما تبين فيما بعد؛ فإن عقار الموكشا - أو المخدر كما تحب أن تسميه - كاد ألا يصيبها بأي سوء، وكل ما حدث لها تحول عقلي.
ثم صمت، وفجأة تنبه ويل إلى خمش الفئران المحبوسة في القفص وصريرها، كما تنبه من خلال النافذة المفتوحة إلى الجلبة التي تتميز بها الحياة في المناطق الاستوائية، وكذلك إلى نداء طائر بعيد من طيور المينة، يصيح: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم، الآن، وفي هذا المكان ...
وأخيرا قال الدكتور روبرت: أنت مثل هذه المينة؛ دربت على تكرار ألفاظ لا تفقه لها معنى أو تدرك لها مغزى. لا تفتأ تكرر قولك: «غير واقعي، غير واقعي»، ولكنك إذا جربت ما فعلته أنا ولاكشمي بالأمس كنت أكثر من ذلك علما. كنت أكثر واقعية مما يدور في خلدك ومشاعرك في هذه اللحظة. كنت أكثر واقعية من العالم الذي تبصره بعينيك. ولكن «هذا غير واقعي» هي العبارة التي تعلمت أن تجريها على لسانك، «غير واقعي، غير واقعي». ووضع الدكتور روبرت إحدى يديه على كتف الفتى في عطف شديد، وواصل حديثه قائلا: قيل لك إنا لسنا سوى مجموعة من متعاطي المخدرات المدمنين، نغوص في الأوهام والسمادير الكاذبة. اسمع يا موروجان: عليك أن تنسى كل ما نفخوه فيك من لغة باطلة. عليك أن تنساه على الأقل حتى تقوم بالتجربة مرة واحدة. خذ أربعمائة مليجرام من عقار الموكشا واكشف لنفسك بنفسك تأثيرها، وماذا تستطيع أن تنبئك به عن طبيعتك، وعن هذا العالم الغريب الذي يتحتم عليك أن تعيش فيه، وتتعلم فيه، وتكابد فيه، وأخيرا تموت فيه. نعم؛ لأنه حتى أنت لا بد أن تموت يوما ما؛ ربما بعد خمسين عاما من اليوم، وربما غدا، من ذا الذي يعلم؟! ولكنه لا بد حادث. ومن لا يستعد لهذا اليوم رجل غافل. والتفت إلى ويل وقال له: هل تحب أن ترافقنا ونحن نستحم ونرتدي الملابس؟
ولم ينتظر منه ردا وسارع إلى الخروج من الباب الذي ينفتح على الردهة الوسطى في البناء الطويل. والتقط ويل عصاه الخيزرانية وخرج من الغرفة في أثره مصاحبا فيجايا.
وبعدما انغلق الباب خلفهما سأل فيجايا: هل تظن أن موروجان قد تأثر بهذا الكلام؟
وهز فيجايا كتفيه وقال: إني أشك في ذلك.
قال ويل: إنه بتأثير أمه وبشغفه بالآلات ذات الاحتراق الداخلي محصن ضد أي شيء مما تقولون. كم كنت أود لو أنك استمعت إليه وهو يتحدث في موضوع العجلات البخارية!
قال الدكتور روبرت وقد توقف عند باب أزرق في انتظارهما لكي يرافقاه: سمعناه مرارا وتكرارا. عندما يبلغ سن الرشد ستصبح هذه العجلات قضية سياسية كبرى.
وضحك فيجايا وهو يقول: أن تركب العجلة أو لا تركبها، هذه هي المشكلة.
2
وأضاف الدكتور روبرت: إنها ليست مشكلة في بالا وحدها، إنها المشكلة التي لا بد أن تجد لها كل البلاد النامية حلا بطريقة ما.
قال ويل: والحل هو هو بعينه دائما. حيثما ذهبت - وقد طفت في كل مكان تقريبا - وجدتهم يختارون ركوب العجلات بكل قلوبهم.
ووافقه فيجايا قائلا: بغير استثناء. يحبون ركوب العجلات من أجل العجلات في حد ذاتها. لا يعبئون البتة بكل ما يتعلق باستكمال أنفسهم أو بتثقيفهم أو تحررهم، ودعك من الصحة العامة أو السعادة.
قال الدكتور روبرت: في حين أننا قد اخترنا أن نكيف الاقتصاد والتكنولوجيا عندنا بما يناسب البشر؛ ولم نكيف البشر ليتقبلوا تكنولوجيا غيرهم واقتصادهم. إننا نستورد ما لا نستطيع أن نصنعه، ولكنا لا نصنع ولا نستورد إلا ما في وسعنا. وما بوسعنا لا يحدده فقط ما لدينا من الجنيهات والماركات والدولارات، وإنما يحدده كذلك وفي المقام الأول - وأؤكد ما في المقام الأول - رغبتنا في أن نكون سعداء وطموحنا إلى أن نكون إنسانيين بكل ما تعنيه الكلمة. والعجلات - كما قررنا بعدما بحثنا الأمر بكل دقة - من الأشياء العديدة التي ليست في وسعنا. وذلك أمر سوف يتعلمه موروجان بعد مشقة لأنه لم يتعلمه - ولا يريد أن يتعلمه - بيسر وسهولة.
وسأل ويل: وما هي الطريقة السهلة الميسرة للتعلم؟ - التربية وكشف الحقيقة. وموروجان لم ينل هذه ولا تلك. بل قل إنه نال نقيضيهما؛ سوء التربية في أوروبا؛ مربية سويسرية، ومعلمون إنجليز، والصور المتحركة الأمريكية، والإعلانات العامة؛ وقد كانت روحانية أمه من النوع الذي أخفى عنه الحقيقة، ولا عجب بعد ذلك إذا كان قد شغف بالعجلات البخارية. - ولكني علمت أن رعاياه لا يشغفون بها. - وكيف يشغفون؟ وقد تعلموا منذ نعومة أظفارهم أن يكونوا على وعي تام بالعالم، وأن يستمتعوا بهذا الوعي. وفوق ذلك رأوا العالم كما رأوا أنفسهم وغيرهم من الناس كما أضاءتهم وأظهرتهم كاشفات الحقيقة، مما ساعدهم بطبيعة الحال على أن يشتد وعيهم وأن تكون متعتهم قائمة على أساس من الإدراك، حتى لقد بدت لهم الأشياء العادية، والأحداث التافهة كالجواهر والمعجزات، نعم كالجواهر والمعجزات. وقد كرر العبارة للتأكيد ثم أضاف: وإذن لم تكن بنا حاجة إلى اللجوء إلى العجلات أو الويسكي أو التليفزيون أو بيلي جراهام أو أي شيء مما تستخدمونه ليصرف أذهانكم ويعوضكم.
واستشهد ويل بهذه العبارة: لا يغني فعلا إلا كل شيء. ثم قال: أنا أدرك الآن ما تحدث به راجا العجوز، إنك لن تكون اقتصاديا إلا إن كنت من علماء النفس الممتازين، ولن تكون مهندسا ممتازا إلا إن كنت من النوع الصحيح من الميتافيزيقيين.
قال الدكتور روبرت: ولا تنس العلوم الأخرى جميعا؛ علم العقاقير، علم الاجتماع، علم وظائف الأعضاء. ولست بحاجة إلى ذكر علم الإنسان بنفسه نظريا وتطبيقيا، ونيوروثيولوجيا، وما وراء الكيمياء، والتصوف، والعلم الغائي. قال ذلك مشيحا بوجهه كي يكون أكثر وحدة وهو يفكر في لاكشمي وهي في المستشفى، وأضاف: والعلم الذي سوف نمتحن فيه إن عاجلا أو آجلا؛ أقصد الثانتولوجيا (علم الموت). وصمت برهة ثم قال بنغمة أخرى: والآن دعنا نذهب لنغتسل. وفتح الباب الأزرق، وتقدمهم نحو حجرة الغيار وبها صف من الأدشاش وأحواض الغسيل في جانب، وفي الجانب الآخر صفوف من الصناديق المقفلة ودولاب كبير لتعليق الملابس.
واتخذ ويل له مقعدا، وبينما كان رفيقاه يغتسلان في الأحواض واصل حديثه معهما.
سأل: هل يجوز لأجنبي ممن ساءت تربيتهم أن يجرب قرصا من أقراص الحق والجمال؟
وكانت الإجابة سؤالا آخر ألقاه الدكتور روبرت مستفسرا: هل كبدك في حالة جيدة؟ - جيدة جدا. - ويبدو أن انفصام الشخصية عندك خفيف؛ لذلك لا أرى مانعا. - وإذن أستطيع أن أقوم بالتجربة؟ - متى ما شئت.
واتجه نحو أقرب كشك من أكشاك الدش وفتح صنبور الماء، وفعل فيجايا مثل ما فعل.
ولما خرجا من تحت الماء وبدأ كل منهما يجفف نفسه سألهما: أليس من المفروض أنكما من المثقفين؟
وأجاب فيجايا: نحن نقوم بعمل المثقفين. - إذن لماذا كل هذه المشقة فيما تؤدون؟ - لسبب بسيط. كان عندي هذا الصباح قليل من وقت الفراغ.
قال الدكتور روبرت: وأنا كذلك. - لذلك خرجتما إلى الحقول وقمتما بما قام به تولستوي. وضحك فيجايا قائلا: يبدو أنك تتصور أننا نفعل ذلك لأسباب خلقية. - أوليس كذلك؟ - كلا بالتأكيد، إنما أنا أقوم بعمل عضلي لأن عندي عضلات، وإذا أنا لم أستخدم عضلاتي أمسي قعيدا بالعادة حاد المزاج.
قال الدكتور روبرت: بدون أي شيء بين لحاء المخ والأرداف، أو قل مع وجود كل شيء؛ ولكن في حالة من عدم الوعي والركود السام. المثقفون الغربيون جميعا يدمنون الجلوس؛ ولذلك كان أكثركم عليلا بدرجة منفرة. في الماضي كان الدوق نفسه يمشي كثيرا، وكذلك كان الثري الذي يقرض المال، والميتافيزيقي. وعندما لا يسيرون على الأقدام كانوا يهطعون على ظهور الخيل. أما اليوم فمن صاحب رأس المال إلى كاتبه على الآلة الكاتبة، ومن الوضعي المنطقي إلى المفكر الوضعي، الكل يقضي تسعة أعشار وقته فوق حشايا المطاط. مقاعد إسفنجية لأعجاز إسفنجية؛ في المنازل والمكاتب والعربات والبارات والطائرات والقطارات والأوتوبيس. لا تتحرك الأرجل، ولا كفاح مع المسافات أو مع الجاذبية؛ مجرد مصاعد وطائرات وعربات، ومقاعد من المطاط وجلوس دائم. كانت قوة الحياة تجد لها مخرجا في العضلات المفتولة. أما اليوم فهي ترتد إلى الأحشاء والجهاز العصبي، وشيئا فشيئا تهدمها. - ولذلك فأنتم ترون أن الحفر والتنقيب نوع من أنواع العلاج؟ - للوقاية؛ حتى لا تبقى للعلاج ضرورة. في بالا يخصص كل فرد ساعتين كل يوم للحفر والتنقيب، حتى الأستاذ، وحتى موظف الحكومة. - كجزء من واجباته. - وكجزء من متعته.
وامتعض ويل وهو يقول: لا يمكن أن يكون ذلك جزءا من متعتي.
وشرح له فيجايا الأمر وقال: ذلك لأنك لم تتعلم أن تستخدم عقلك وبدنك في آن واحد بالطريقة الصحيحة. ولو أنك عرفت كيف تصنع الأشياء بالحد الأدنى من المجهود والحد الأقصى من الوعي استمتعت حتى بالعمل الشاق. - أظن أن أطفالكم جميعا يتدربون على ذلك. - منذ اللحظة الأولى التي يبدءون فيها العمل بأنفسهم. ما هي - مثلا - الطريقة الصحيحة التي تتناول بها نفسك وأنت تزرر ملابسك؟ وبدأ فيجايا يزرر قميصه الذي ارتداه، وجعل حركاته تتفق مع كلماته، وواصل حديثه قائلا: نحن نجيب على هذا السؤال بأن نضع رءوسهم وأبدانهم فعلا في أحسن وضع فسيولوجي. وفي نفس الوقت نشجعهم على أن يلحظوا مشاعرهم حينما تكون أبدانهم في أحسن وضع فسيولوجي، وأن يكونوا على وعي بما تتألف منه عملية الزر، من لمسات وضغوط وإحساسات عقلية. وإذا ما بلغ الطفل الرابعة عشرة يكون قد تعلم كيف يستغل كل نشاط يقوم به موضوعيا وذاتيا. عندئذ نعهد إليهم بالأعمال؛ ينفق كل منهم تسعين دقيقة كل يوم في عمل من الأعمال اليدوية. - هذا عود إلى الأيام التي كان الأطفال فيها يعملون!
قال الدكتور روبرت: الأصح أن تقول هذا تقدم من هذا التعطل السيئ المستحدث للأطفال. أنتم لا تسمحون لأطفالكم بالعمل؛ ولذلك تراهم ينفقون نشاطهم في الانحراف أو يكبتون نشاطهم حتى يستعدوا لأن يصبحوا من مدمني القعود المستأنسين. ثم قال: والآن، حان الوقت لكي ننصرف. سوف أتقدم لكي أرشدكم إلى الطريق.
ولما ولجوا المعمل كان موروجان مشتغلا بإغلاق حقيبته؛ لكي لا تتطلع إليها العيون المتطفلة. قال: أنا مستعد، وتأبط «العهد الأجد»
3
الذي يتألف من ألف وثلاثمائة وثمانية وخمسين صفحة، وتقفى أثرهم في ضوء الشمس. وبعد بضع دقائق، وهم مكدسون في عربة جيب قديمة، انطلق أربعتهم على طول الطريق الذي يؤدي إلى الطريق العام مارين بإصطبل العجل الأبيض، وبركة اللوتس، وتمثال بوذا الحجري الضخم، ومخترقين بوابة مجمع المحطة. وقال فيجايا وهم يغذون السير ويتخبطون في وعورة الطريق: آسف لأننا لا نستطيع أن نمدكم بوسائل للنقل أكثر راحة.
وربت ويل على ركبة موروجان وقال: هذا هو الرجل الذي تقدم إليه اعتذارك، فهو يتحرق شوقا للعربات الفاخرة، الجاجوار وثندربيرد.
ومن مقعده الخلفي قال الدكتور روبرت: أخشى أن يكون شوقا يبقى دائما دون أن يحقق صاحبه الأمل المنشود.
ولم يعلق على ذلك موروجان بشيء ما، واكتفى بابتسامة ازدراء خفية يشير بها إلى أنه أكثر من ذلك علما.
وواصل الدكتور روبرت حديثه قائلا: نحن لا يمكن أن نستورد اللعب. الضروريات فقط. - مثل؟ - سوف ترى بعد لحظة. وسارا حول منحنى، وشاهدوا تحت أبصارهم أسقفا من الخوص وحدائق تظللها الأشجار في قرية كبيرة. والتزم فيجايا جانب الطريق وأوقف المحرك، وقال: ما تشاهده هو روثامستد الجديدة، أرز وخضروات، وطيور، وفاكهة. هنا مصنعان للخزف ومصنع للأثاث؛ ولذلك ترى هذه الأسلاك. ولوح بيده نحو صف من أبراج الأسلاك الكهربائية التي تقع فوق منحدر مدرج خلف القرية، وتختفي عن الأنظار عند قمة التل، ثم تظهر ثانية على بعد وترتفع من قاع الوادي التالي صوب حزام أخضر من غابة جبلية. مع ظهور القمم التي تكسوها السحب بعيدة مرتفعة، وأشار بإصبعه نحو بناء من الإسمنت بغير نوافذ يرتفع وسط البيوت الخشبية قريبا من المدخل الأعلى للقرية بشكل غير ملائم وقال: هذا من الواردات التي ليس عنها غنى؛ أجهزة كهربائية. وبعدما سخرنا مساقط المياه وعلقنا أسلاك الإرسال كان لدينا شيء آخر له أولوية قصوى.
سأل ويل: وما هو؟ هل هو نوع من أنواع الأفران الكهربائية؟ - لا، الأفران في الجانب الآخر من القرية. أما هذا فهو جهاز عام للتجميد.
وشرح ذلك الدكتور روبرت قائلا: في الماضي كنا نفقد نحو نصف المواد القابلة للتلف مما ننتجه. أما الآن فنحن لا نفقد شيئا قط. كل ما نزرع لنا وليس للبكتريا المحيطة بنا. - ولذلك لديكم الآن ما يكفي للطعام. - أكثر من الكفاية. طعامنا أفضل من طعام أي بلد آخر في آسيا، ولدينا فائض للتصدير. كان لنين يقول إن الكهرباء مع الاشتراكية تساوي الشيوعية. ولكن معادلتنا تختلف عن ذلك. فنحن نقول إن الكهرباء مطروحا منها الصناعة الثقيلة مضاف إليها تحديد النسل تساوي الديمقراطية والوفرة. أما الكهرباء مضاف إليها الصناعة الثقيلة ومطروح منها تحديد النسل فتساوي البؤس والحكم الشمولي والحرب.
وسأل ويل: بهذه المناسبة، من يملك كل هذا؟ هل أنتم رأسماليون أو دولة اشتراكية؟ - لا هذا ولا ذاك. نحن في أكثر الأحيان تعاونيون. الزراعة في بالا كانت دائما تسوية الأرض وريها. ولكن التسوية والري تقتضيان الجهد المشترك والاتفاق الودي. المنافسة القاتلة لا تتفق وزراعة الأرز في بلد جبلي. وقد وجد القوم هنا أنه من السهل جدا الانتقال من التعاون المتبادل في مجتمع القرية إلى وسائل التعاون الميسرة في البيع والشراء والتمويل واقتسام الأرباح. - حتى التمويل التعاوني؟
وأومأ الدكتور روبرت رأسه إيجابا وقال: ليس عندنا أولئك المرابون مصاصو الدماء الذين تجدهم في كل أنحاء الريف الهندي. وليست لدينا بنوك تجارية على طريقة أهل الغرب. نظام الاقتراض والتسليف عندنا يسير وفقا لنموذج اتحادات الائتمان التي أنشأها في ألمانيا ويلهلم ريفيش منذ أكثر من قرن. وقد أقنع الدكتور أندرو الراجا بدعوة أحد الشبان الذين يعملون في نظام ريفيش لزيارة بالا ووضع نظام تعاوني للبنوك. ولا يزال هذا النظام قائما ويعمل بنشاط.
وسأل ويل: وما هو النقد الذي تستعملونه؟
أدخل الدكتور روبرت يده في جيب سرواله وأخرج ملء راحته من الفضة والذهب والنحاس.
وأخذ يشرح قائلا: بالا تنتج الذهب بطريقة متواضعة؛ نستخرج من المناجم قدرا يكفي لضمان العملة الورقية بالمعادن الثابتة، والذهب يكمل صادراتنا. نستطيع أن ندفع نقدا فوريا نظير المعدات المكلفة كأسلاك الإرسال والمولدات الكهربائية التي شهدتها في الطرف الآخر. - يبدو أنكم قد وجدتم حلا ناجحا لمشكلاتكم الاقتصادية. - لم يكن حل هذه المشكلات بالأمر العسير. فنحن أولا لم نسمح لأنفسنا بأن ننجب أطفالا أكثر مما نستطيع أن نطعم ونكسو ونأوي ونربي في سبيل الإنسانية الكاملة. ولما لم تكن لدينا زيادة في السكان كانت لدينا وفرة. وعلى الرغم من هذه الوفرة استطعنا أن نقاوم الإغراء الذي انساق له أهل الغرب؛ أعني الإغراء بالاستهلاك الزائد. لا يصاب أحدنا بالجلطة في الشريان التاجي لأنه يتعاطى من المواد الدهنية ستة أمثال ما يحتاج. ولا نخدع أنفسنا بالاعتقاد بأن اقتناء جهازين من أجهزة التليفزيون يضاعف من سعادتنا باقتناء جهاز واحد. وأخيرا نحن لا ننفق ربع مجموع الإنتاج الوطني في الاستعداد لحرب عالمية ثالثة أو حتى لحرب صغرى تتولد عن الحرب العالمية، تكون الحرب المحلية رقم 3333. التسليح والقروض العالمية والتخطيط لإهمال القديم في سبيل الجديد؛ هذه هي الأعمدة الثلاثة التي تستند إليها الرفاهية في الغرب. لو أنكم ألغيتم الحروب والتبذير وإقراض المال انهارت مجتمعاتكم. وبينما أنتم تسرفون في الاستهلاك يزداد بقية العالم استغراقا في النكبات المزمنة: الجهل، والروح العسكرية وزيادة النسل؛ هذه النكبات الثلاث وأخطرها زيادة النسل. ولا أمل ولا بارقة لإمكان حل المشكلة الاقتصادية حتى يكون ذلك محلا للتحكم. كلما زاد عدد السكان هبط مستوى الرفاهية. وبإصبع ممتدة أشار إلى المنحنى الهابط، ثم قال: وإذا هبط مستوى الرفاهية ساد السخط وعم العصيان (وارتفعت سبابته مرة أخرى وعاد يقول): ويسود الاستهتار السياسي، وحكم الحزب الواحد، والتعصب القومي والميل إلى القتال. وإذا استمرت الحال كذلك عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أخرى من الإنسال بغير حظر انتشر في العالم كله - من الصين إلى بيرو عبر أفريقيا والشرق الأوسط - ظهور الزعماء الذين يكرسون كل جهودهم لكبت الحرية، يسلحون بلادهم إلى الأذقان من روسيا أو أمريكا - وهو الأفضل - منهما معا، يلوحون بالأعلام ويطالبون «بالمجال الحيوي».
وسأل ويل: وما هو الموقف في بالا؟ هل ترحبون بظهور زعيم قائد بعد عشر سنوات من الآن؟
أجاب الدكتور روبرت: لن يكون ذلك باختيارنا. لقد كنا دائما نبذل الجهد الممكن كله لكي نحول دون ظهور الزعيم القائد.
ولاحظ ويل بطرف عينه أن موروجان يبدي استنكاره واشمئزازه وسخطه؛ فقد كان أنطونيوس (يقصد موروجان) يرى نفسه بالتأكيد بطلا من أبطال كارلايل. والتفت ويل إلى الدكتور روبرت.
وقال له: خبرني كيف استطعتم ذلك؟
أولا نحن لا نخوض حروبا ولا نستعد لها؛ ومن ثم فليست بنا حاجة إلى نظام التجنيد الإجباري، أو الرتب العسكرية أو القيادة الموحدة. وعندنا إلى جانب ذلك نظامنا الاقتصادي الذي لا يسمح لأحد أن يثري أكثر من أربعة أو خمسة أضعاف المتوسط. ويعني ذلك أنه لا يظهر بيننا قادة في مجال الصناعة أو ممولون ذوو قدرات لا تحد. وأفضل من ذلك ليس لدينا ساسة أو بيروقراطيون ذوو قدرات لا تحد. بالا اتحاد من وحدات تحكم كل منها نفسها بنفسها؛ وحدات جغرافية، ووحدات مهنية، ووحدات اقتصادية؛ ومن ثم فالمجال متسع فسيح للمبادرات على نطاق ضيق، وللقادة الديمقراطيين، ولا يتسع المجال لأي نوع من أنواع الدكتاتورية التي تقوم على رأس حكومة مركزية. وثمة نقطة أخرى: ليست لدينا كنيسة معتمدة، وديانتنا تؤكد التجربة المباشرة وتستنكر الاعتقاد في مبادئ لا يمكن إثباتها والمشاعر التي يثيرها هذا الاعتقاد؛ ولذلك فنحن في أمان من أخطاء البابوية من ناحية، ومن التعصب الديني الرجعي من ناحية أخرى. ومع التجربة التي تجاوز الواقع ندعو بانتظام إلى التشكك. نحث الأطفال على ألا يأخذوا الألفاظ مأخذ الجد، ونعلمهم أن يحللوا كل ما يسمعون أو يقرءون؛ ويشكل ذلك جزءا لا يتجزأ من منهج الدراسة. والنتيجة أن مثيري الغوغاء من أمثال هتلر أو جارنا على الجانب الآخر من المضيق لا يجدون فرصة لهم هنا في بالا ولم يطق موروجان كل هذا ولم يستطع أن يضبط نفسه فانفجر قائلا: ولكن انظر إلى الطاقة التي يولدها الكولونيل ديبا في شعبه. انظر إلى إخلاصه وإلى تضحيته بنفسه. ليس عندنا هنا في بالا ما يشبه ذلك.
قال الدكتور روبرت: والحمد لله على ذلك.
وردد فيجايا قوله: الحمد لله.
واحتج الفتى قائلا: ولكن هذا السلوك طيب، وأنا معجب به.
قال الدكتور روبرت: وأنا كذلك أعجب به إعجابي بالأعاصير. إن مثل هذه الطاقة وهذا الإخلاص وهذه التضحية بالنفس لا تتفق - لسوء الحظ - مع الحرية، بل ولا تتفق مع العقل أو مع الكرامة الإنسانية. والكرامة والعقل والحرية أمور تسعى بالا إلى تحقيقها منذ سميك موروجان المصلح.
وأخرج فيجايا من تحت مقعده صندوقا من الصفيح، وكشف غطاءه ثم وزع دورة من ساندوتشات الجبن والأفوكاته. وبعد ذلك أدار محرك السيارة وبيد واحدة دفع العربة الصغيرة إلى الطريق، وكانت يده الأخرى مشغولة بالساندويتش وقال: يجب أن نأكل ونحن سائرون. ووجه الخطاب إلى ويل قائلا له: غدا أطلعك على مناظر القرية، وأطلعك على منظر آخر أروع منها، هو منظر أسرتي وهي تتناول طعام الغداء. أما اليوم فعندنا موعد في الجبال.
ولما اقتربوا من مدخل القرية ساق عربة الجيب في طريق جانبي متعرج شديد الانحدار إلى أعلى بين حقول الأرز والخضروات ذات المصاطب، والتي تتخللها حدائق الفاكهة، وتحوطها هنا وهناك مزارع من أشجار صغيرة قال الدكتور روبرت إنها تعد لتمد مصانع الورق في شيفا بورام بالمادة الخام.
واستوضحهم ويل سائلا: كم صحيفة تؤيدها الحكومة؟ ودهش عندما عرف أنها صحيفة واحدة، فسأل: من يحتكرها؟ الحكومة؟ الحزب الحاكم؟ المندوب المحلي لجو ألديهايد؟
وأكد له الدكتور روبرت أنها ليست حكرا لأحد، وأضاف قائلا: للصحيفة مجلس من المحررين الذين يمثلون ستة أحزاب ومصالح مختلفة. وكل محرر له مساحة من الصحيفة محددة ينشر فيها تعليقه ونقده، بحيث يستطيع القارئ أن يوازن بين آرائهم ثم يكون له بعد ذلك رأيه الخاص. أذكر أنني صدمت صدمة شديدة عندما اطلعت لأول مرة على إحدى صحفكم واسعة الانتشار، عناوينها منحازة. والتقارير والتعليقات لا تمثل إلا جانبا واحدا باطراد، والشعارات والنداءات تحل محل الجدل والحجة. الصحيفة لا تناشد العقل بصفة جدية، بل على العكس من ذلك تلمس جهدا مطردا لبث ردود أفعال مشروطة في عقول الناخبين - وما خلا ذلك أخبار عن الجرائم والطلاق والنوادر والهذر - أي شيء يصرف ذهن القارئ، وأي شيء يحول دون التفكير.
وواصلت العربة صعودها حتى بلغوا سلسلة من التلال تقع بين منخفضين منحدرين. وقد ظهرت في قاع ممر ضيق إلى يسارهم بحيرة تحف بها الأشجار، وعلى يمينهم واد أكثر اتساعا يقع فيه مصنع ضخم بين قريتين تظللهما الأشجار يشبه في تكوينه شكلا هندسيا غير منتظم.
سأل ويل: مصنع إسمنت؟
وأومأ الدكتور روبرت برأسه إيجابا وقال: الإسمنت صناعة لا غنى عنها. ننتج منه كل حاجتنا وفائضا للتصدير. - وتمده هاتان القريتان بالقوى العاملة؟ - في الفترات التي تتخلل الزراعة والعمل في الغابة ومصانع نشر الأخشاب. - وهل ينفع عندكم نظام العمل بعض الوقت. - تتوقف الإجابة عن هذا السؤال بما تعنيه بقولك: «ينفع». إن العمل بعض الوقت لا يؤدي إلى أقصى حد من الكفاءة. ولكن الكفاءة القصوى في بالا ليست أمرا يطلب لذاته كما هي الحال عندكم. أنتم تفكرون أولا في الحصول على أضخم إنتاج ممكن في أقصر وقت ممكن. ونحن نفكر أولا في الكائنات البشرية وسد حاجاتها. وتنقل المرء بين المهن لا يؤدي إلى أضخم إنتاج في أقل الأيام. ولكن أكثر الناس يؤثرون التنقل بين المهن على التزام عمل واحد طيلة الحياة. وإذا خيرنا بين الكفاءة الآلية وإشباع الرغبات البشرية آثرنا الثانية.
وتطوع فيجايا بقوله: عندما كنت في العشرين من عمري كنت أعمل أربعة أشهر في مصنع الإسمنت هذا، وأقضي بعد ذلك عشرة أسابيع في صناعة الفوسفات الممتاز، ثم ستة أشهر في الغابة أقطع فيها الأخشاب. - كنت تقوم بكل هذا العمل المضني!
وقال الدكتور روبرت: قبل ذلك بعشرين عاما قمت بعمل في مصهر النحاس، وبعد ذلك حلا لي أن أعمل في البحر صائدا للأسماك في أحد الزوارق. إن اختبار جميع أنواع العمل جزء من برنامج التعليم العام. الطالب يتعلم كثيرا بهذه الطريقة؛ يعرف كثيرا من الأشياء ومن المهارات والتنظيمات، وعن كل صنوف البشر وطرق تفكيرهم.
هز ويل رأسه وقال: ومع ذلك فإني أوثر أن أستمد المعرفة من الكتب.
قال الدكتور روبرت: ولكن ما تحصل عليه من الكتاب ليس ذات الشيء. ثم أضاف: كلكم في أعماقكم ما زلتم أفلاطونيين، تعبدون الكلمة وتمقتون المادة!
قال ويل: قل ذلك لرجال الدين. إنهم لا يفتئون يقرعوننا لأننا ماديون غلاظ.
ووافقه الدكتور روبرت قائلا: نعم غلاظ، ولكن غلظتكم ترجع إلى أنكم ماديون غير أكفاء. ماديتكم معنوية باعترافكم. أما نحن فيهمنا أن تكون ماديتنا محسوسة؛ فنحن ماديون على المستوى اللالفظي بالرؤية واللمس والشم، والعضلات المشدودة والأيدي المتسخة. المادية المعنوية كالمثالية المعنوية، كلاهما يجعل التجربة الروحية المباشرة في حكم المستحيل. واختبار صنوف العمل المختلفة بالمادية المحسوسة هو الخطوة الأولى التي لا غنى عنها في تربية الفرد لبلوغ الروحانية المحسوسة.
وعقب على ذلك فيجايا بقوله: ولكن حتى أشد الماديات محسوسية لا تبلغ بك شأوا كبيرا إذا كنت على وعي تام بما تعمل وما تمارس. ولا بد أن تكون مدركا تمام الإدراك لجزئيات المادة التي تتناولها، والمهارات التي تمارسها، والأفراد الذين تعمل معهم.
قال الدكتور روبرت: هذا صحيح. وكان ينبغي أن أوضح أن المادية المحسوسة إن هي إلا المادة الخام للحياة الإنسانية الكاملة. وبالوعي، الوعي الكامل الدائم، نحولها إلى روحانية محسوسة. إذا كنت على وعي تام بما تفعل، يصبح العمل هو يوجا العمل، ويصبح اللعب يوجا اللعب، وتصبح الحياة اليومية يوجا الحياة اليومية.
وتذكر ويل رانجا والممرضة الصغيرة وسأل: وما رأيكم في الحب؟
وأومأ الدكتور روبرت برأسه وقال: وهذا أيضا، الوعي يغير طبيعته، ويجعل ممارسة الحب يوجا ممارسة الحب.
وحاكى موروجان أمه عندما يصدمها الرأي.
وقال فيجايا وقد رفع صوته لكي يمكن الاستماع إليه وسط الخشخشة التي تحدثها العربة وهي تسير بأدنى سرعة لها عندما نقل محرك السرعة: ممارسة الحب وسيلة نفسية بدنية لبلوغ غاية تتجاوز الخبرة البشرية، وذلك - أولا وقبل كل شيء - هو صميم كل أنواع اليوجا. ولكن أنواع اليوجا كذلك شيء آخر غير هذا. هي حيل للتعامل مع مشكلات السيطرة. وأعاد العربة إلى سرعة أكثر هدوءا وأخفض صوته إلى نغمته الطبيعية وكرر قوله: مشكلات السيطرة، التي تقابلها على كل مستوى من مستويات النظم، كل مستوى؛ من الحكومات الوطنية إلى الحضانات والعروسين في شهر العسل؛ لأن الأمر لا يقتصر على تصعيب الأمور على كبار القادة، فهناك الملايين من صغار المستبدين والذين يضطهدون غيرهم، هناك كثيرون مثل هتلر وإن كانوا صامتين ولا يعلو لهم ذكر، هناك من هم أمثال نابليون في كل قرية، وأمثال كالفن، وتوركمادا
4
في كل أسرة. ولا أذكر قطاع الطرق والمتنمرين الذين بلغ بهم الغباء أن يصمهم المجتمع بالإجرام. كيف تروض السطوة الكبرى التي تصدر عن أمثال هؤلاء وتجعلها تعمل بطريقة نافعة، أو على الأقل تحول دون أن تكون مصدرا للأذى؟
قال ويل: هذا ما أريدك أن تخبرني به. من أين تبدءون؟
أجاب فيجايا: نبدأ من كل جهة في وقت واحد. ولكن حيث إن المرء لا يستطيع أن يتحدث في أكثر من موضوع واحد في نفس الوقت، دعنا نبدأ بالحديث عن السيطرة من ناحية التشريح ووظائف الأعضاء. أرجو يا دكتور روبرت أن تحدثه عن تناولك للموضوع من ناحيته الكيماوية الحيوية.
قال الدكتور روبرت: بدأت ذلك منذ نحو أربعين عاما عندما كنت أدرس الطب في لندن. بدأت بزيارة السجون في عطلات نهاية الأسبوع وقراءة التاريخ كلما خلوت في المساء. وكرر قوله: التاريخ والسجون. ولقد كشفت عن العلاقة الوطيدة بينهما؛ سجل الجرائم والحماقات ومحن البشر (هكذا قال جيبون. أليس كذلك؟) والمكان الذي تئول إليه الجرائم والحماقات التي لم تنجح لسوء حظ مرتكبيها بصورة ما. طالعت الكتب وتحدثت إلى السجناء، ووجدتني أسائل نفسي: أي صنوف البشر يصبح منحرفا خطرا؛ من كبار المنحرفين الذين ورد ذكرهم في كتب التاريخ، وصغارهم؟ أي صنوف البشر تحركهم شهوة السلطة، والميل إلى التنمر والسيطرة؟ والمستهترون من الرجال والنساء الذين يعرفون ما يريدون ولا تخزهم ضمائرهم إذا ألحقوا بغيرهم أذى أو قتلوهم في سبيل تحقيق ما يريدون، والوحوش الذين يؤذون ويقتلون لا من أجل منفعة، وبغير مبرر؛ لأن الإيذاء والقتل من أسباب اللهو؛ من يكون هؤلاء؟ وكنت أناقش هذه المسائل مع الخبراء؛ من الأطباء وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع ، والمعلمين. ولقد انتهى عهد مانتيجازا وجولتون،
5
وأكد لي الخبراء أن الإجابات الصحيحة لهذه الأسئلة لا تلتمس إلا في الثقافة والاقتصاد والأسرة. والأمر كله يرجع إلى الأمهات وتربيتهن لأطفالهن، يرجع إلى التكييف في سن مبكرة وإلى البيئات التي تصدم العواطف. الأمهات والتربية الباكرة وما يحيط بالطفل من كلام فارغ؛ هذه كلها أمور هامة بشكل واضح. ولكن هل هي ذات الأهمية القصوى؟ لقد بدأت ألمس أثناء زيارتي للسجن أدلة على نوع من الأنماط في تكوين الأفراد، أو على الأصح على نوعين من أنماط التكوين؛ ذلك أن المنحرفين الخطرين ومثيري الشغب من محبي السلطة لا ينتميان إلى نوع واحد. أكثرهم - كما بدأت أن أدرك حتى في ذلك الحين - ينتمي إلى أحد نوعين متميزين متخلفين؛ فهناك «أصحاب العضلات» وهناك «أنماط بيتر بان». وقد تخصصت في النوع الثاني.
سأل ويل: تقصد الأولاد الذين لا يخرجون من دور الطفولة قط؟ - «قط» تعبير غير صحيح؛ ففي الحياة الواقعية ينتهي بيتر بان دائما بالنمو، وإن يكن نموه لا يأتي إلا متأخرا؛ ينمو فسيولوجيا بدرجة أبطأ من سني حياته. - وماذا عن بيتر بان من الفتيات؟ - إنهن نادرات. أما الفتيان فتبلغ كثرتهم مبلغ حبات العليق، من بين كل خمسة أو ستة أطفال من الذكور تجد بيتر بان. ومن بين الأطفال المشكلين، والأولاد الذين لا يستطيعون القراءة، والذين لا يقبلون التعلم، ولا يصاحبون أحدا، وأخيرا يلجئون إلى الانحراف نحو أشكال العنف المختلفة، تجد من بين هؤلاء سبعة من كل عشرة - إذا أنت أخذت أشعة سينية لعظام المعصم - من طراز بيتر بان، والباقون من «أصحاب العضلات» بشكل ما.
قال ويل: إنني أحاول أن أجد مثالا تاريخيا حسنا لبيتر بان منحرف. - لا تمعن في التفكير. إن أحدثهم، وخير مثال لهذا الطراز وأضخم مثال، أدولف هتلر.
قال موروجان: هتلر؟! بنغمة المذهول؛ لأن هتلر كان بالتأكيد أحد أبطاله.
قال الدكتور روبرت: اقرأ تاريخ حياة الفوهرر. لو كان هناك بيتر بان واحد لكان هو؛ فاشل في المدرسة، عاجز عن المنافسة والتعاون على حد سواء، يحسد كل الأولاد الناجحين نجاحا طبيعيا، يمقتهم لأنه يحسدهم، ولكي يرفع من معنويات نفسه يحتقرهم باعتبارهم كائنات أحط منه شأنا. ولما بلغ الحلم كان عاجزا جنسيا. كان غيره من الأولاد يتقدمون للبنات فيستجبن لهم. أما هو فقد كان خجولا، شاكا في رجولته. كان عاجزا دائما عن الاستمرار في أي عمل، ولا يطمئن إلا في عالم من الخيال يخلقه لنفسه على سبيل التعويض. عندئذ كان على الأقل مثل ميخائيل أنجلو، ولكنه - لسوء الحظ - لا يستطيع الرسم. مواهبه الوحيدة هي الحقد، والمكر الوضيع، ومجموعة من الأحبال الصوتية التي لا تكل وقدرة على الكلام بغير توقف بأعلى صوته من أعماق جنونه بالعظمة الذي يماثل جنون بيتر بان. ثلاثون أو أربعون مليونا من البشر لاقوا مصرعهم، والله أعلم كم بليون من الدولارات؛ هذا هو الثمن الذي دفعه العالم نظير تخلف أدولف هتلر في نضجه. ولحسن الحظ نجد أن أكثر الأولاد الذين يبلغون سن النضج ببطء شديد لا تتاح لهم فرصة لكي يكونوا شيئا أكثر من صغار المنحرفين. ولكن حتى هؤلاء الصغار - لو كثر عددهم - يمكن أن يفرضوا علينا ثمنا باهظا؛ لذلك نحاول أن نكبتهم وهم في دور البراعم، أو على الأصح، ما دمنا نتحدث عن طراز بيتر بان، نحاول أن نجعل براعمهم المكبوتة تتفتح وتنمو. - وهل تنجحون؟
أومأ الدكتور روبرت برأسه إيجابا وقال: ليس الأمر عسيرا، وبخاصة إذا بدأت في وقت مبكر. إذا بلغ الطفل عندنا أربعة أعوام ونصفا أو خمس سنوات نفحصه فحصا شاملا. نجري اختبارات معينة لدمه، ونخضعه لاختبارات سيكولوجية، ونتعرف على تكوينه البدني، ثم نصور معاصمهم بالأشعة السينية، ونرسم أدمغتهم، وبذلك نتعرف على أدق دقائق خصائص بيتر بان، ونبدأ في علاجهم علاجا ملائما فورا. وبعد عام واحد يصبحون جميعا طبيعيين تماما. كم من بذور الفشل، والإجرام، والاستبداد، والسادية (حب إيذاء الغير)، وبغض البشر، والثورة من أجل الثورة، كم من المتصفين بهذه الرذائل حولناهم إلى مواطنين يمكن حكمهم بغير عقوبة وبغير حد السيف. أما عندكم فالانحراف لا يزال متروكا لرجال الدين والمشرفين الاجتماعيين ورجال الشرطة. مواعظ لا تنتهي، وعلاج نفسي، وأحكام بالسجن لعدد من الناس لا يحصى، وما هي النتيجة؟ إن نسبة الانحراف في زيادة مطردة. ولا عجب؛ إن الحديث عن التنافس بين الإخوة، وعن الجحيم، وشخصية يسوع لا تغني عن الكيمياء الحيوية، وسنة في السجن لا تعالج بيتر بان من اضطرابات إفرازات الغدد ولا تعين من كان بيتر بان على التخلص من النتائج النفسية؛ لأن انحراف أمثال بيتر بان لا يحتاج سوى التشخيص المبكر وثلاث كبسولات قرنفلية يوميا قبل كل وجبة. وإذا كانت البيئة محتملة كانت النتيجة تعقلا هادئا وشيئا من الفضائل الأساسية في خلال ثمانية عشر شهرا، وكذلك بالتأكيد فرصة طيبة للاتصاف في النهاية بالحكمة والرأفة، بعدما كان ذلك في حكم المستحيل فيما سبق. والآن سوف يحدثك فيجايا عن «أصحاب العضلات»، ولعلك لاحظت أنه واحد منهم. ثم انحنى الدكتور روبرت إلى الأمام وضرب على الكتف العريضة لهذا العملاق، وقال: لحمه كلحم البقر القوي. ومن حسن حظنا نحن أصحاب الأجسام الضعيفة أن الحيوان ليس متوحشا.
ورفع فيجايا إحدى يديه عن عجلة القيادة، وضرب بها صدره، ورفع عقيرته في زئير وحشي قائلا: لا تضايق الغوريلا. وضحك متفكها، ثم وجه خطابه إلى ويل قائلا له: فكر في الدكتاتور الكبير الآخر، جوزيف فساريوفوفتش استالين. إن هتلر هو خير مثال لانحراف بيتر بان، واستالين خير مثال لانحراف أصحاب العضلات. إن شكله فرض عليه أن يكون منبسطا، لا كالمنبسطين اللينيين الصرحاء الذين لا يخفون ما في صدورهم ممن تعهدونهم، من أولئك الذين يحبون التجمع بغير تمييز. لا، إنه من أولئك المنبسطين الذين يدوسون غيرهم بالأقدام ويسوقونهم سوق الأغنام. إنه من أولئك الذين تدفعهم طبائعهم دائما إلى القيام بعمل ما، لا تساوره قط الشكوك، أو وخز الضمير، أو العطف أو رقة الإحساس. وقد أوصى لينين خلفاءه أن يتخلصوا من استالين؛ فلقد كان الرجل مغرما بالسلطة مستعدا لإساءة استخدامها إلى أبعد الحدود. ولكن نصيحة لينين جاءت متأخرة؛ إذ كان استالين ثابتا إلى حد يستحيل معه إخراجه. وبعد عشر سنوات أصبحت سلطته مطلقة، وكان تروتسكي قد سحق تماما كما أبعد كل أصدقائه القدامى، وأمسى كالإله تحف به الملائكة مسبحة بحمده، منفردا في سمائه الصغيرة الدافئة التي لا يسكنها إلا المنافقون والطائعون، مشتغلا كل الوقت بلا هوادة يصفي الكولاك، وينظم المزارع التعاونية، ويبني صناعة السلاح، وينقل الملايين رغم إرادتهم من المزارع إلى المصانع. يعمل بجد وكفاءة وذهن واضح مما يعجز عنه تماما بيتر بان الجرماني بأوهامه الغامضة وحالاته العقلية المذبذبة. قارن بين استراتيجية استالين واستراتيجية هتلر في المرحلة الأخيرة من الحرب، تجد الحساب الهادئ قائما إلى جوار أحلام اليقظة التعويضية، والواقعية الواضحة إلى جانب الهراء الطنان الرنان الذي أخذ هتلر في النهاية يكرره ويكرره حتى آمن به. هذان وحشان، كلاهما منحرف بدرجة متساوية، ولكنهما مختلفان في المزاج كل الاختلاف، وفي الدافع اللاشعوري، ثم في الكفاءة. إن من هم على شاكلة بيتر بان يفلحون تماما في إثارة الحروب والثورات. ولكن أصحاب العضلات وحدهم هم الذين يستطيعون أن يسيروا بهذه الحروب والثورات إلى النتائج الناجحة.
ثم غير فيجايا نغمته وأشار بيده نحو تل مرتفع تكسوه الأشجار يعترض مواصلة الصعود وقال: هذه هي الغابة.
وبعد لحظة خرجوا من وهج التل المكشوف ودخلوا نفقا ضيقا من الشفق الذي تلونه خضرة الشجر يتلوى إلى أعلى بين جدران من الخضرة الاستوائية. وتدلت النباتات المتسلقة من الأغصان التي ناءت بحملها. وبين جذوع الشجر كان ينمو الخنشار والخنجل ذو الأوراق الداكنة وسط الشجيرات والأعشاب الكثيفة التي لم يألفها ويل ولم يعرف أسماءها وهو يتلفت حواليه. وكان الجو رطبا خانقا تشم فيه رائحة لاذعة هي رائحة النباتات الغزيرة الخضراء ورائحة التعفن كذلك. ووسط أوراق النبات الكثيفة التي أحاطت بويل من كل جانب، طرق أذنه وقع فئوس من بعيد وصوت منشار يتكرر تكرارا إيقاعيا. وانحنى الطريق مرة أخرى وفجأة بدد ضوء الشمس ذلك الظلام الأخضر؛ فلقد بلغوا مكانا خاليا في الغابة. كان هناك ستة من قاطعي الأخشاب قاماتهم مرتفعة وأكتافهم عريضة يكادون لا يتسترون بثياب منشغلون بتشذيب الأغصان من شجرة سقطت لتوها . وفي ضوء الشمس شوهدت مئات من الفراشات ذات اللون الأزرق والأرجواني يطارد بعضها بعضا، ترفرف بأجنحتها وتحلق راقصة حيثما اتفق إلى ما لا نهاية. وفي الجانب الآخر من الأرض الفضاء كان رجل عجوز إلى جوار نار مشتعلة يقلب في بطء شديد ما يحتويه مرجل من الحديد. وقريبا منه غزال صغير مستأنس، دقيق الأطراف، مرقش بصورة جميلة، يرعى العشب في هدوء.
قال فيجايا: أصدقائي الأعزاء. ثم صاح بكلمات بلغة أهل بالا، ورد عليه قاطعو الأخشاب ملوحين بأيديهم، وبعدئذ انحنى الطريق انحناءة حادة نحو اليسار، وأخذوا مرة أخرى يصعدون النفق المخضر بين الأشجار.
وقال ويل وهم يتركون الأرض الفضاء: حدثنا عن أصحاب العضلات، هؤلاء أمثلة لهم رائعة حقا.
قال فيجايا: إن هذا الطراز من التكوين البدني يغري صاحبه بصفة مستمرة. ومع ذلك فإني لم أقابل رجلا واحدا متنمرا، أو محبا للسلطة بطبعه بصورة خطرة، من بين هؤلاء الرجال جميعا؛ وقد عملت مع عشرات منهم.
وقاطعه موروجان بازدراء قائلا: أي إنك تعني أن تقول إنه لا يوجد هنا أحد ذو طموح!
سأل ويل: وما سر ذلك؟ - الأمر في غاية البساطة بالنسبة لأمثال بيتر بان. إننا لا نتيح لهم فرصة لاستثارة شهوة السلطة عندهم. نحن نعالج انحرافهم قبل أن يستفحل. ولكن الأمر على خلاف ذلك مع أصحاب العضلات. إنهم عندنا مثلما هم عندكم ذوو عضلات لا ينطوون على أنفسهم، ويريدون أن يدوسوا غيرهم بالأقدام؛ لذلك يتحولون إلى أمثال استالين وديبا، أو على الأقل إلى مستبدين في أوطانهم. أولا: نظمنا الاجتماعية لا تتيح لهم إلا قليلا من الفرص لكي يتنمروا على أفراد أسرهم، كما أن نظمنا السياسية تجعل من المستحيل عليهم أن يتسلطوا على نطاق واسع. ثانيا: نحن ندرب أصحاب العضلات على أن يكونوا حساسين وعلى وعي، ونعلمهم أن يستمتعوا بالأمور العادية في الحياة اليومية. ومعنى ذلك أن البدائل تتوافر لهم دائما؛ بدائل عن حبهم للرياسة. وأخيرا نحن نعالج أصحاب هذا التكوين البدني بكل صنوفه تقريبا؛ علاجا مباشرا. نشق لحب السلطة هذا قناة يتسرب منها ونغير اتجاهه، نحوله من التسلط على البشر إلى التسلط على الأشياء . نعطيهم كل صنوف العمل لكي يؤدوه؛ العمل الشاق والعمل العنيف الذي يدرب عضلاتهم ويشبع رغبتهم في التسلط؛ لا يشبعها على حساب غيره، وإنما بطرق إما لا تضر وإما تفيد فائدة إيجابية. - ومن ثم كان هؤلاء الرجال الذين يستدعون الإعجاب يسقطون الأشجار بدلا من أن يسقطوا البشر؛ أليس كذلك؟ - تماما، وبعدما يستكفون من الغابات يتوجهون إلى البحر، أو يشغلون أيديهم بالتعدين، أو يسترخون نسبيا بالعمل في حقول الأرز.
وفجأة ضحك ويل فارنبي. - ما الذي يضحكك؟ - تذكرت أبي. ربما كان القليل من قطع الأشجار يجعل منه شخصا آخر وينقذ أسرته البائسة. ولكن لسوء الحظ أنه كان من الإنجليز المهذبين الذين يستبعدون من حياتهم قطع الأخشاب بتاتا. - أولم تكن لديه مخارج بدنية يصرف فيها طاقاته؟
هز ويل رأسه قائلا: كان والدي إنجليزيا مهذبا، ويظن فوق ذلك أنه من المثقفين. والمثقف لا يشغله صيد ولا قنص ولا يلعب الجولف. إنه يكتفي بالتفكير والشراب. وكانت متعة أبي إلى جانب شرب البراندي أن يتنمر على غيره وأن يلعب البريدج، ويهتم بالنظريات السياسية. كان يتصور نفسه صورة في القرن العشرين للورد آكتون
6
آخر الفلاسفة الليبراليين. كم كان يسرك أن تسمعه وهو يتحدث عن مظالم الدولة الحديثة القادرة على كل شيء! كان يقول: السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد فسادا مطلقا. نعم مطلقا. وبعدما يردد هذه العبارة يشرب كأسا أخرى من البراندي ثم يعود بحماسة شديدة إلى ملهاته المحببة إلى نفسه؛ الاستبداد بزوجته وأطفاله.
قال الدكتور روبرت: وإذا كان آكتون نفسه لم يسلك هذا المسلك فإنما كان ذلك لأنه كان بالصدفة رجلا فاضلا وذكيا. لم يكن في نظرياته ما يحد من انحراف صاحب العضلات أو ما يمنع بيتر بان - قبل أن يعالج - من أن يدوس أي فرد يقع في متناول قدميه. تلك كانت نقطة الضعف عند آكتون. كان - ككاتب في النظريات السياسية - يدعو إلى الإعجاب. أما كعالم نفساني عملي فقد كان لا يفقه شيئا. يبدو أنه كان يظن أن مشكلة السلطة يمكن أن تحل بالنظم الاجتماعية الجيدة التي تكملها - بطبيعة الحال - قواعد الأخلاق السليمة، وشيء من الديانات المنزلة. في حين أن مشكلة السلطة تمتد جذورها إلى تشريح الجسم وإلى كيميائه الحيوية ومزاجه. لا بد من كبح السلطة على المستويين القضائي والسياسي. هذا أمر واضح. ولكن من الواضح أيضا أنه لا بد من الوقاية على المستوى الفردي، وعلى مستوى الغريزة والعاطفة، وعلى مستوى الغدد والأمعاء، والعضلات والدماء. لو توافر لدي الوقت لكتبت رسالة عن وظائف أعضاء الإنسان وعلاقتها بالأخلاق والدين والسياسة والقانون.
وردد بعده ويل كلمة «القانون» وقال: كنت على وشك أن أسألك عن القانون. هل أنتم في غنى مطلق عن السلاح وعن العقوبة؟ أم لا زلتم في حاجة إلى القضاة ورجال الشرطة؟
قال الدكتور روبرت: لا زلنا في حاجة إليهم، ولكنا لسنا بحاجة مثلكم إلى الكثيرين منهم. فأولا نحن بفضل الطب الوقائي والتربية الوقائية لا نرتكب كثيرا من الجرائم. ثم إن معظم الجرائم التي ترتكب نعالجها في «نوادي التبني المتبادل». علاج جماعي في مجتمع يأخذ بنظام المسئولية المشتركة عن المنحرفين. وفي الحالات المستعصية نستكمل العلاج الجماعي بالعلاج الطبي وبفترة محددة من تعاطي عقار الموكشا، بتوجيه من رجل على درجة نادرة من نفاذ البصيرة. - وما دور القضاة؟ - يستمع القاضي إلى الأدلة ويقرر إن كان المتهم بريئا أو مذنبا، فإن كان مذنبا أمر بحجره احتياطيا في «نادي التبني المتبادل» الذي ينتمي إليه. وإذا لزم الأمر يتم حجزه لدى لجنة الخبراء الطبيين والمتصوفين العارفين بأثر الفطريات. وفي فترات متفق عليها يرسل الخبراء كما يرسل نادي التبني المتبادل تقاريرهم إلى القاضي، حتى إذا ما كانت التقارير مرضية انتهت القضية. - وإذا لم تكن مرضية أبدا؟
قال الدكتور روبرت: إنها دائما ترضي في النهاية.
ثم سادت فترة من الصمت.
وفجأة سأل فيجايا: هل جربت تسلق الصخور؟
ضحك ويل وقال: كيف تظنني أتيت بساقي العرجاء؟ - هذا تسلق أرغمت عليه إرغاما. ولكن هل مارست التسلق لهوا؟
قال ويل: بقدر يكفي لأن يقنعني بأنني لا أحسنه.
واتجه فيجايا ببصره نحو موروجان وسأله: وماذا حدث لك عندما كنت في سويسرة؟
واحمر وجه الصبي خجلا وهز رأسه وتمتم قائلا: لا يستطيع المرء أن يمارس هذه الأشياء وعنده استعداد للسل.
قال فيجايا: يا للأسف! إن التسلق كان ينفعك كثيرا.
وسأل ويل: وهل يقوم الناس في هذه الجبال بقدر كبير من التسلق؟ - التسلق جزء لا يتجزأ من منهج الدراسة. - لكل فرد؟ - قليل منه لكل فرد. ولأصحاب العضلات الأقوياء مستوى أعلى من تسلق الصخور؛ وهؤلاء يبلغون نحو واحد من كل اثني عشر من البنين، وواحدة من كل سبع وعشرين من البنات. ونحن نتوقع أن نرى قريبا بعض الشبان الذين يقومون بالتسلق لأول مرة على مستوى أعلى من المستوى الابتدائي.
واتسع النفق الأخضر، وأشرقت فيه الأضواء، وفجأة وجدوا أنفسهم خارج الغابة الرطبة وعلى طبقة صخرية مسطحة تكاد تستوي مع الأرض، تحوطها من ثلاث نواح صخور حمراء يبلغ ارتفاعها أكثر من ألفي قدم على شكل ذرى ناتئة وقمم منعزلة. وكان الهواء منعشا. وعندما انتقلوا من ضوء الشمس إلى ظل جزيرة عائمة من الركام، أصبح الجو باردا تقريبا. وانحنى الدكتور روبرت إلى الأمام وأشار من خلال زجاج السيارة إلى مجموعة من المباني البيضاء فوق مرتفع صغير على مقربة من مركز الهضبة.
وقال: هذه محطة المرتفع العالي. إنها تعلو سبعة آلاف قدما، وتبلغ مساحة الأرض المستوية الجيدة فيها أكثر من خمسة آلاف فدان، حيث نستطيع أن نقوم بزراعة أي شيء مما يزرع في جنوب أوروبا؛ قمح وشعير، والفاصوليا الخضراء والكرنب، والخس والطماطم (وهذه الفاكهة لا تصلح حيث تصل درجة الحرارة ليلا أكثر من ثمان وستين درجة)، وعنب الثعلب، والفراولة، والجوز والبرقوق الأخضر، والخوخ والمشمش. وكذلك كل النباتات القيمة التي تصلح زراعتها فوق الجبال العالية التي في مثل هذا الارتفاع؛ بما فيها الفطر التي يعترض عليها صديقنا الصغير هذا بشدة.
وسأل ويل: وهل هذا هو المكان الذي نقصده؟
قال الدكتور روبرت مشيرا إلى آخر موقع من سلسلة الجبال، وهو عبارة عن حافة من الصخر الأحمر الداكن تنحدر منها الأرض من إحدى نواحيها نحو الغابة، وترتفع ارتفاعا عموديا من ناحية ثانية نحو قمة مختفية في السحب المتراكمة، قال: لا، نحن نقصد مكانا أكثر ارتفاعا؛ نقصد معبد شيفا
7
الذي يؤمه الحجاج في الاعتدالين، الربيع والخريف. وهو من أحب الأمكنة إلى نفسي في الجزيرة كلها. وعندما كان الأطفال صغارا اعتدت أنا ولاكشمي أن نقوم برحلات إلى هناك تقريبا كل أسبوع. كان ذلك منذ عهد بعيد! وظهرت في صوته رنة الأسى، ثم تنهد، وسند ظهره على مقعده وأغلق عينيه.
وابتعدوا عن الطريق المؤدية إلى محطة المرتفع العالي وعادوا إلى التسلق.
قال فيجايا: هذه هي المرحلة الأخيرة من الرحلة، وهي أسوأ المراحل، نقطع سبعة منعطفات حادة ونفقا خانقا يبلغ طوله نصف ميل.
وساق العربة بأدنى سرعة لها فأصبح الحديث مستحيلا، وأخيرا بلغوا نهاية المطاف بعد عشر دقائق.
الفصل العاشر
أخذ ويل يحرك ساقه العرجاء في حذر شديد، وأخيرا خرج من العربة وتلفت حواليه. وقد بدت فيما بين التلال المرتفعة الحمراء الواقعة إلى الجنوب، والمنحدرات الرأسية في كل اتجاه، قمة التل التي سويت على مستوى مسطح، ووسط هذا المسطح الضيق المستطيل قام المعبد؛ وهو عبارة عن برج ضخم أحمر مشيد من نفس مادة الجبال، كتلة واحدة، له أربعة جوانب رأسية. وظهر المعبد بالمقارنة مع الصخور شيئا متماثلا منتظما ليس كما تنتظم أشكال إقليدس المجردة، ولكن كما تنتظم الأشكال الهندسية الواقعية في الحياة. نعم، هو شيء حي؛ لأن جميع أسطح المعابد الفاخرة المستوية، وكل ما يحدها يتقوس إلى الداخل تقوسا عضويا، ويستدق كلما ارتفع نحو حلقة من المرمر، يتضخم في أعلاها حجر أحمر أشبه بغلاف البذرة في شجرة مزهرة، حتى يتسطح ثانية في شكل قبة متعددة الأضلاع تتوج البناء كله.
قال الدكتور روبرت: شيد قبل الغزو النورماندي بنحو خمسين عاما.
وعقب على ذلك ويل بقوله: ويبدو كأنه ليس من بناء البشر، وكأنه برز تلقائيا من بين الصخور. وقد نبت كما ينبت الصبار عندما يتفتح ويرتفع كالصاروخ على شكل ساق نباتية طولها اثنتا عشرة قدما تنتهي بالأزهار المتفجرة.
قال فيجايا وقد لمس ذراعه: انظر، هذه جماعة من المبتدئين هابطة.
وشخص ويل ببصره نحو الجبل ووقعت عيناه على شاب في قدميه حذاء بالمسامير يرتدي ملابس التسلق ويجاهد في هبوطه متشبثا بشق الجبل يواجه التل الذي ينحدر انحدارا رأسيا. وعند البقعة التي تهيئ موطئا آمنا توقف ورمى رأسه إلى الخلف وصاح بصوت متصاعد في قوته. وكان هناك فتى يعلوه بخمسين قدما ظهر من خلف دعامة صخرية، وقد تدلى من الإفريز الذي كان يقف فوقه وشرع في هبوطه متشبثا بالشق الجبلي.
والتفت فيجايا، إلى موروجان وسأله: هل يغريك هذا؟
هز موروجان كتفيه وقد بالغ في ظهوره بمظهر الرجل الرشيد المتطور الذي يشغل نفسه بشيء أفضل من مشاهدة الأطفال وهم يلعبون، وقال: بتاتا. وابتعد ثم جلس فوق تمثال سبع انطمست معالمه من أثر الجو، واستل من جيبه مجلة أمريكية مجلدة تجليدا مزركشا وشرع يقرأ.
سأله فيجايا: ماذا تقرأ؟
قال: رواية علمية. وفي صوته رنة التحدي.
ضحك الدكتور روبرت وقال: أي شيء يفر به من الواقع.
وزعم موروجان أنه لم يستمع إليه وقلب صفحة من المجلة وواصل القراءة.
وقال فيجايا الذي كان يتابع تقدم الصبي الذي كان يهبط من الجبل: إنه في غاية المهارة. ثم أضاف: عند طرفي الجبل رجلان محنكان. ولا يمكنك أن ترى أولهما، فهو خلف هذه الدعامة يتشبث بشق جبلي آخر على ارتفاع ثلاثين أو أربعين قدما. وفي أعلى شوكة حديدية ثابتة يلف حولها الحبل، ويمكن أن تسقط المجموعة كلها وهي في منتهى الأمان.
وعلى جانبي الشق الضيق أخذ قائد المجموعة يصيح بتعليماته ويشجع المتسلقين وقد بسط ذراعيه ورجليه بين مواقع الأقدام. ولما اقترب الصبي تخلى عن مكانه وهبط عشرين قدما أخرى ثم توقف وصاح مرة أخرى. ومن خلف النتوء الجبلي ظهرت فتاة في حذاء طويل وسروال، فارعة الطول، شعرها مضفور، وقد هبطت إلى شق الجبل.
قال فيجايا مهللا لها وهو يرقبها: رائع!
وفي أثناء ذلك جاءت مجموعة من الشباب مستطلعة ما يجري، وقد خرجت من مبنى منخفض عند سفح التل، وهذا المبنى المنخفض يمثل كما بدا أكواخ جبال الألب ولكن بما يتفق ومناخ المناطق الاستوائية. وتنتمي هذه المجموعة - كما قيل لويل - إلى ثلاث فرق أخرى من المتسلقين الذين أدوا اختبار المرحلة الثانية بعد المرحلة الابتدائية في باكورة اليوم.
سأل ويل: هل يفوز بالجائزة أحسن الفرق؟
وأجابه فيجايا: إنهم لا يمنحون هنا شيئا لأي إنسان؛ فهي ليست مسابقة، إنما هي محنة يجتازونها.
وأخذ الدكتور روبرت يشرح قائلا: وهي محنة تمثل المرحلة الأولى من خروجهم من دور الطفولة إلى دور المراهقة. محنة تساعدهم على فهم العالم الذي لا بد لهم من العيش فيه، وتساعدهم على التحقق من أن الموت يحيط بهم من كل جانب، وأن الوجود كله محفوف بالمخاطر. ولكن الرؤية الصحيحة تأتي بعد الامتحان. وبعد بضع دقائق يتناول هؤلاء الفتية والفتيات عقار الموكشا لأول مرة، يتناولونه معا، ويقام في المعبد حفل ديني. - شيء أشبه بصلاة التعميد؟ - غير أن هذا الحفل ليس مجرد حركات دينية لا معنى لها. إنه - بفضل عقار الموكشا - يتضمن ممارسة فعلية للشيء الواقعي.
هز ويل رأسه وقال: الشيء الواقعي؟ هل هناك شيء كهذا؟ وددت لو أنني صدقته.
قال الدكتور روبرت: لا يطلب إليك أن تصدق؛ فالشيء الواقعي ليس افتراضا، إنما هو حالة من حالات الوجود. إننا لا نعلم أطفالنا المذاهب ولا ننشئهم على رموز مشحونة بالانفعالات. عندما يحل الوقت الذي يتعلمون فيه أعمق حقائق الدين، ندفعهم إلى تسلق الجروف ثم نناولهم أربعمائة مليجرام من الرؤية. وهاتان تجربتان مباشرتان يستطيع أي فتى أو فتاة على قدر معقول من الذكاء أن يستمد منهما فكرة طيبة عن حقائق الأشياء.
قال فيجايا: ولا تنس المشكلة القديمة الأولى؛ مشكلة التسلط. إن تسلق الصخور فرع من فروع علم الأخلاق التطبيقي. وهو بديل آخر عن سلوك المتنمرين. - إذن كان يلزم أبي أن يكون من متسلقي الجبال كما يلزمه أن يكون من قاطعي الأخشاب.
قال فيجايا وقد ضحك من أعماقه: قد يضحكك ما أقول، ولكن الحقيقة هي أن أمثال هذه التجارب تأتي بنتائج طيبة، وتفلح. ولقد استطعت بالتسلق أولا وآخرا أن أنجو من عشرات من أسباب الإغراء الفعلية لكي ألقي بثقلي على ما حولي. ثم أضاف: ولما كان ثقلي له وزنه فقد كانت أسباب الإغراء شديدة لتتناسب معه.
قال ويل: يبدو أن هناك صعوبة واحدة؛ ذلك أنك وأنت تتسلق لكي تنجو من الإغراء قد تسقط و... وفجأة تذكر ما حدث لديوجولد ماك فيل فلم يتم الكلام.
وأتم الدكتور روبرت عبارته فقال في أناة: وتقتل نفسك. ولكن ديوجولد كان يتسلق وحده. وبعد فترة قصيرة من الصمت واصل حديثه قائلا: ولا يعرف أحد ما حدث، ولم نعثر على جثته إلا في اليوم التالي. ثم سادت فترة طويلة من الصمت.
سأل ويل، وقد أشار بعصاه الخيزرانية إلى الأجسام الصغيرة التي تزحف جاهدة فوق سطح تلك البقعة الرأسية من الأرض الجرداء التي لا يكسوها شيء غير الصخور: هل لا زلت تعتقد أنها فكرة حسنة؟
قال الدكتور روبرت: نعم لا زلت أعتقد أنها فكرة حسنة. - ولكن سوزيلا المسكينة ...
وكرر الدكتور روبرت القول بعده: نعم سوزيلا المسكينة، والأطفال المساكين، ولاكشمي المسكينة، وأنا المسكين. ولكن إذا كان ديوجولد لم يعتد المخاطرة بحياته فربما صار كل امرئ مسكينا لأسباب أخرى. ومن الأفضل أن تتعرض لخطر قتل النفس بدلا من أن تعرض حياة الآخرين للخطر، أو أن تجعلهم من البائسين على الأقل. تؤذيهم لأنك بطبعك عدواني، أشد حذرا أو أكثر جهلا من أن تصب عدوانك على الصخور المرتفعة. وواصل حديثه بنغمة أخرى قائلا: والآن أريد أن أطلعك على المنظر.
وانطلق فيجايا نحو المجموعة التي كانت عند سفح الصخور الحمراء وقال: أما أنا فسوف أذهب إلى هؤلاء الفتية والفتيات وأتحدث إليهم.
وسار ويل في أثر الدكتور روبرت مخلفا وراءه موروجان يقرأ «الرواية العلمية». وشقا طريقهما خلال باب يقوم على أعمدة وعبرا الرصيف الصخري العريض الذي يحيط بالمعبد. وفوق ركن من أركان هذا الرصيف كانت هناك مقصورة ضيقة تعلوها قبة. ودخلاها وسارا نحو نافذة عريضة بغير زجاج ونظرا من خلالها فظهر لهما البحر مرتفعا عند خط الأفق يشبه جدارا صلبا من اليشم واللازورد، وفي أسفل، وعلى مسقط ارتفاعه ألف قدم بدت خضرة الغابة، وظهرت المنحدرات الواطئة متصلة بواد فسيح تمتد عند حافته البعيدة بين حدائق السوق وساحل البحر الذي تحفه أشجار النخيل مدينة كبيرة، وتقع هذه المنحدرات خلف الغابة ملتوية التواء رأسيا في شكل أودية صغيرة ونتوءات صخرية، وتمتد أفقيا حتى تصل إلى درج ضخم من صنع الإنسان، درج من حقول لا تحصى. ومن هذا الموقع المرتفع بدت المدينة كلها مشرقة، تشبه صورة زيتية صغيرة رسمت بدقة مما يجده المرء في كتب العصور الوسطى.
قال الدكتور روبرت: هذه هي شيفا بورام. ومجمع المباني هذا الذي تراه فوق التل وراء النهر هو معبد بوذا العظيم. بني قبل بوروبودور
1
بقليل، وهو في جمال نحته يشبه أي مبنى في الهند القديمة. وسادت فترة من الصمت استأنف الحديث بعدها قائلا: وفي هذا البيت الصيفي الصغير اعتدنا أن نتناول وجباتنا الخفيفة كلما أمطرت السماء. لن انسى أبدا ذلك الوقت الذي كان ديوجولد يلهو فيه بالتسلق فوق إفريز النافذة وهو واقف على ساق واحدة في وضع شيفا وهو يرقص (وكان حينئذ في نحو العاشرة من عمره). مسكينة لاكشمي، كاد عندئذ يطير صوابها. ولكن ديوجولد كان منذ مولده كأنه أحد المشتغلين بترميم أبراج الكنائس وتسلقها؛ مما يجعل الحادث أكثر إبهاما وغموضا. وهز رأسه وصمت قليلا مرة أخرى ثم قال: آخر مرة آتينا فيها إلى هنا كانت منذ ثمانية أو تسعة أشهر. وكان ديوجولد لا يزال على قيد الحياة، ولاكشمي لم تبلغ من الضعف بعد ما يمنعها من الخروج مع أحفادها يوما كاملا. وقد قام بهذا العمل البهلواني يقلد به شيفا لمصلحة توم كريشنا وماري ساروجيني. وقف على ساق واحدة، وأخذ يلوح بيديه بسرعة عجيبة تجعل الرائي يقسم أنه يحرك أربع أذرع. وهنا توقف الدكتور روبرت عن الكلام، والتقط من الأرض شريحة من الملاط، وقذف بها من النافذة، وقال: إلى أسفل، وأسفل، وأسفل؛ هنا فضاء وفراغ. أليس من العجب أن يكون هذا أقوى رمز للموت وأقوى رمز في الوقت عينه لأكمل حياة وأغناها! وأشرق وجهه فجأة وقال: هل ترى هذا الصقر؟ - صقر؟
أشار الدكتور روبرت إلى ماكن يقع وسطا بين وكر الصقور فوق التل والظلام الذي يعلو الغابة حيث شاهد تمثالا مجسما صغيرا بني اللون يمثل السرعة والنهب يتحرك وئيدا بأجنحة لا حراك فيها، وقال: هذا يذكرني بقصيدة نظمها راجا العجوز عن هذا المكان. وصمت لحظة وأخذ ينشد:
هنا،
هنا فوق هذا المرتفع،
حيث يرقص شيفا محلقا فوق دنيانا،
هنا تسألني،
ماذا بربك تظن أنك فاعل؟
لا جواب على سؤالك يا صاح،
ما خلا الصقر من تحتنا يدور،
وتلك الطيور السوداء تنطلق،
في أثر خيوط فضية تمتد في الهواء،
تصيح صياحا حاد النغم،
تقول: ما أبعدها عن وادينا الحار!
وتقول لائما: ما أبعدها عن قومي!
ومع ذلك ما أقربها!
هنا بين السماء ذات الغيوم،
والبحر من تحتنا،
أنفذ إلى سرها المضيء،
كما أنفذ إلى سريرتي،
يشرقان بغتة في نظري. - وأظن أن السر هو هذا الفضاء الخالي. - أو على الأصح هو ما يرمز إليه هذا الفضاء الخالي، طبيعة بوذا في فنائنا الأبدي. إن هذا يذكرني ... ونظر إلى ساعته.
ولما خرجوا إلى وضح النهار سأل ويل: ماذا يأتي بعد ذلك في البرنامج؟
أجابه الدكتور روبرت: الصلاة في المعبد، وسوف يقدم المتسلقون الصغار ما أنجزوا إلى شيفا، أو بعبارة أخرى إلى صورتهم المثالية التي يؤلهونها. وبعد ذلك يؤدون الجزء الثاني من شعائر العضوية؛ أقصد تجربة تحررهم من أنفسهم. - وهل يكون ذلك بتعاطيهم عقار الموكشا؟
وأومأ الدكتور روبرت برأسه إيجابا وقال: إن قادتهم يعطونه لهم قبل أن يتركوا كوخ جمعية المتسلقين، ثم يأتون إلى المعبد، ويفعل العقار فعله أثناء الصلاة. ثم أضاف: وبهذه المناسبة أقول لك إن الصلاة بالسنسيكريتية؛ ولذلك فلن تفهم منها كلمة واحدة. أما فيجايا فسوف يخطب بالإنجليزية؛ وهو يتكلم بوصفه رئيس جمعية المتسلقين، وكذلك سوف أتحدث أنا بالإنجليزية، وبطبيعة الحال سوف يتكلم الشباب كذلك في أغلب الأحيان بالإنجليزية.
المعبد من الداخل رطب مظلم ظلام الكهوف. لا يخفف من عتمته إلا خيط رفيع من ضوء النهار يتسلل من خلال نافذتين مشبكتين، وسبعة مصابيح تتدلى، كأنها هالة من النجوم الصفراء المتلألئة، من فوق رأس التمثال الذي يعتلي المذبح. والتمثال لشيفا، وهو من النحاس ولا يزيد ارتفاعه عن طول الطفل. وحول التمثال هالة مشتعلة من المجد. وهو يشير بأربع أذرع، وشعره المضفور يتطاير بشدة، وقدمه اليمنى تدوس فوق تمثال قزم مقيت أشد ما يكون كآبة، وقدمه اليسرى مرفوعة برشاقة؛ بهذه الصورة يقف التمثال جامدا منتشيا. وقد جلس فوق الأرض نحو عشرين فردا من البنين والبنات ومعهم الشبان الستة الذين كانوا يرشدونهم أثناء التسلق ويصدرون إليهم التعليمات، وكلهم يضع ساقا فوق ساق. ولم يكن الصغار في ملابس التسلق، بل ينتعلون الصنادل، عراة الصدور، يرتدون سراويل قصيرة زاهية الألوان. ويعلو هذه المجموعة، فوق أعلى درجة من درجات المذبح، شوهد كاهن عجوز، حليق الرأس والوجه، يرتدي عباءة صفراء، ويرتل كلاما رنانا غير مفهوم. وقد سار الدكتور روبرت على أطراف أصابع قدميه متجها نحو المكان الذي كان يجلس فيه فيجايا وموروجان وجلس القرفصاء إلى جوارهما، تاركا ويل مستندا إلى قاعدة مريحة.
كان الكاهن يدمدم دمدمة رائعة بالسنسيكريتية أولا، ثم أخذ بعد ذلك ينشد وهو يخنف بأنفه، وراح بعد النشيد يجأر بابتهالات كهنوتية يرددها بعده المصلون.
وأحرق البخور في آنية من النحاس الأصفر، ثم رفع الكاهن العجوز يديه ليصمت الحاضرون، وعندئذ صعد خيط من دخان البخور الرمادي في خط مستقيم متجها نحو الإله في غضون فترة طويلة حافلة بالتأمل يسودها الصمت المطلق. وعندما التقى الدخان بتيار الهواء المندفع من النافذتين انتشر على شكل سحابة غير مرئية تملأ ظلام المكان بعبق عجيب من عالم آخر، وفتح ويل عينيه ورأى أن موروجان وحده من جميع المصلين يتململ في حالة من القلق، يتحرك حركات عصبية وتبدو على قسمات وجهه علامات الاستنكار وفقدان الصبر. إنه لم يقم قط بالتسلق؛ ولذلك فالتسلق في نظره سخف. وقد رفض أن يتعاطى عقار الموكشا؛ ولذلك فأولئك الذين يتعاطونه يتجاوزون حدود العقل. وكانت أمه تعتقد في الأسياد الصاعدين إلى السماء وتخاطب كوت هومي بانتظام، وإذن فتمثال شيفا وثن مبتذل. وكان الصبي في عين ويل كالممثل الصامت الذي يعبر بالإشارة، ولكن أحدا لم يعر أدنى التفاتة إلى سلوك موروجان لسوء حظه.
وشق الكاهن العجوز السكون الذي طال وقال: شيفاياناما، شيفاياناما. وأشار بيده، فنهضت من مكانها تلك الفتاة الطويلة التي كان ويل قد رآها وهي تهبط من التل المرتفع وصعدت درجات المذبح، ووقفت على أطراف أصابع قدميها وجسدها يلمع وكأنها تمثال نحاسي آخر في ضوء المصابيح، وعلقت باقة من زهور فاتحة صفراء في أعلى ذراعي شيفا اليسريين، ثم ضمت راحتيها وتطلعت إلى وجه الإله الباسم الهادئ، وبدأت تتكلم بصوت متهدج في أول الأمر، ولكنه أخذ يثبت ويستقيم تدريجيا:
أيها الخالق، أيها المدمر،
يا من تطيل العمر كما تنهي الحياة،
يا من ترقص في ضوء الشمس بين الطيور،
ومع الأطفال وهم يلعبون،
ويا من ترقص في ظلمة الليل،
بين جثث الموتى وفوق الأرض المحترقة،
أي شيفا، أنت بيرافا المريع المظلم،
أنت الصورة المثلى، وأنت الوهم،
أنت لا شيء، وأنت كل شيء،
أنت رب الحياة،
ولذا جئت إليك بهذه الزهور،
أنت رب الموت،
ولذا جئت إليك بقلبي،
هذا القلب هو الآن أرضك المحترقة،
نارك سوف تلتهم الجهل والنفس،
لكي ترقص أي بيرافا بين الرماد،
ولكي ترقص يا سيدي شيفا،
في مكان تنمو فيه الزهور،
وأرقص معك.
ورفعت الفتاة ذراعيها ولوحت بهما بإشارة تذكر بالإخلاص القلبي من مائة جيل من المتعبدين الراقصين، ثم ابتعدت وعادت إلى ضوء الشفق. وصاح صائح: شيفاياناما. وشخر موروجان مستهزئا عندما رددت أصوات شابة أخرى: شيفاياناما، شيفاياناما .... وأخذ الكاهن يرتل مقطوعة أخرى من كتابه المقدس. وبينما هو يرتل دخل المعبد من إحدى النافذتين المشبكتين طائر صغير رمادي اللون رأسه قرمزي، ورفرف بجناحيه بعنف حول مصابيح المذبح، ثم صاح صيحة عالية تنم عن السخط والفزع، انطلق بعدها خارج المعبد ثانية. واستمر النشيد حتى بلغ ذروته وانتهى بصلاة هامسة من أجل السلام : شانتي، شانتي، شانتي. واتجه الكاهن العجوز بعد ذلك نحو المذبح، والتقط شمعة طويلة، وأشعلها من أحد المصابيح المعلقة فوق رأس شيفا وشرع في إضاءة سبعة مصابيح أخرى معلقة في كوة عميقة في أسفل اللوح الذي كانت تقف فوقه الراقصة. وألقت هذه المصابيح ضوءها فوق قطع محدبة من المعدن، وأظهر ضوءها تمثالا آخر؛ هو تمثال شيفا وبرفاتي، تمثال يوجين جالسا، يرفع بيدين من أيديه الأربع رمز الطبلة والنار، ويربت باليدين الأخريين إلهة الحب، ذات الساقين والذراعين الملتوية، وكانت تمتطيه، متعانقين عناقا أبديا بجسدهما المصنوعين من البرنز. ولوح الكاهن العجوز بيده، وظهر هذه المرة صبي ذو بشرة قاتمة قوي العضلات وأخذ يخطو في ضوء المصابيح. وانحنى الصبي وعلق باقة الزهر التي كان يحملها حول رقبة بارفاتي، ثم لف سلسلة الزهور الطويلة وأسقط عقدة أخرى من نبات السحلبية البيضاء فوق رأس شيفا.
وقال: كل منهما يمثل كليهما.
وكررت جوقة الصغار بعده: كل منهما يمثل كليهما.
وهز موروجان رأسه بشدة.
وقال الصبي صاحب البشرة القاتمة: أيها الذاهبون، أنتم أيها الذاهبون إلى الشاطئ الآخر، يا من ألقيتم مراسيكم فوق الشاطئ الآخر، أيتها الاستنارة والاستنارة الأخرى، أيها التحرر الذي اتحد مع التحرر، أيتها الرأفة بين ذراعي الرأفة اللامتناهية. - شيفاياناما.
ثم عاد إلى مكانه، وسادت فترة طويلة من الصمت، وبعدئذ نهض فيجايا على قدميه وبدأ يتكلم.
قال: الخطر، الخطر، الخطر الذي نتقبله راضين متخففين، الخطر تقاسمه صديقا، أو مجموعة أصدقاء، تقاسمه شعوريا، وبأقصى حدود الوعي حتى يصبح الاقتسام والخطر يوجا. صديقان يربطهما حبل في جبهة صخرية، وأحيانا ثلاثة أصدقاء أو أربعة، كل منهم على وعي تام بعضلاته المشدودة، وبمهارته، ومخاوفه، وروحه التي يجاوز بها حدود الخوف، وكل منهم - بطبيعة الحال - على وعي في نفس الوقت بالآخرين جميعا، مهتم بهم، يفعل الصواب لكي يطمئن على سلامتهم. الحياة في قمة توترها البدني والعقلي، الحياة الأوفر، والأعلى بدرجة لا تقدر بسبب خطر الموت الماثل في كل حين. ولكن بعد يوجا الخطر هناك يوجا الذروة، يوجا الراحة والاسترخاء، يوجا التقبل الكامل الشامل، اليوجا التي تكمن في القبول الشعوري لما يعطى كما يعطى ، دون رقابة من أحكام العقل الخلقية، العقل المشغول بشيء آخر، وبغير إضافة مما جمعه الإنسان من أفكار مبتذلة وما جمعه بصورة أضخم من أوهام التمني، ما عليك إلا أن تجلس بعضلات مرتخية وعقل متفتح لضوء الشمس وللسحب، متفتح للبعيد وللأفق، متفتح في النهاية لذلك الشيء الذي ليس بالفكر والذي لا شكل له ولا يعبر عنه بالكلمات. هذا الشيء الذي يسمح لك سكون القمة بأن تبلغ به المقدس والعميق والدائم في غضون تيار اللغو الذي يسبح فيه التفكير اليومي المعتاد. - والآن حان الوقت للهبوط، لدورة أخرى من يوجا الخطر، حان الوقت لتجديد التوتر والوعي بالحياة في كمالها المشرق وأنتم تتعلقون بحافة الهاوية مخاطرين بأنفسكم. وعند سفح التل المرتفع تفكون الوثاق، وتخطون فوق الممرات الصخرية صوب الأشجار الأولى. وبغتة تجدون أنفسكم في الغابة، حيث ينتظركم نوع آخر من اليوجا، يوجا الغابة، وهي اليوجا التي تتصف بكونكم على وعي تام بالحياة عند حافتها، حياة الغابة بكل ما فيها من ازدهار وعفن، وفساد يزحف، بكل ما فيها من نبات السحلبية وأمهات الأربع والأربعين، وطفيليات وطيور مغردة، وما يشرب الرحيق الإلهي وما يشرب الدماء. الحياة التي تخرج النظام من الفوضى والقبح، الحياة التي تؤدي معجزة الميلاد والنمو، تؤديهما - فيما يبدو - لغير ما سبب غير أن تدمر نفسها، الجمال والفزع، ومرة أخرى أقول الجمال والفزع. وبغتة وأنتم قافلون من إحدى رحلاتكم بالجبال، بغتة تعلمون أن هناك توافقا، بل اندماجا، وهوية واحدة. الجمال يتحد مع الفزع في يوجا الغابة، والحياة في وفاق مع الموت المستمر القريب في يوجا الخطر، الفراغ يتطابق مع الأنانية في يوجا العطلة الدينية التي فوق الذروة.
2
وساد الصمت، وتثاءب موروجان بصورة تلفت النظر، وأشعل الكاهن العجوز عودا آخر من البخور، ولوح به - وهو يتمتم - أمام الراقصة، ولوح به مرة أخرى حول شيفا وإلهه وهما يمارسان حبا كأعمق ما يكون الحب.
قال فيجايا: تنفسوا بعمق، والتفتوا وأنتم تتنفسون إلى رائحة هذا البخور، وأعيروها كل انتباهكم، واعرفوها على حقيقتها؛ إنها حقيقة يعجز عنها التعبير بالكلمات ، ويعجز عن إدراكها العقل والإيضاح، اعرفوها في خامتها، واعرفوها كلغز من الألغاز. البخور الذي تتنفسونه حقيقة لا تفسر، وكذلك تماس بشرة ببشرة، والحب المحسوس، وفوق كل شيء لغز الألغاز، الواحد في تعدده، والفراغ الذي هو كل شيء، وباطن الأشياء الموجود بكليته في كل مظهر. وفي كل نقطة وكل لحظة؛ لذلك أرجو أن تتنفسوا وتتنفسوا. وختم كلامه وهو يجلس قائلا: تنفسوا.
وتمتم الكاهن العجوز منتشيا قائلا: شيفاياناما.
ونهض الدكتور روبرت واتجه نحو المذبح، ثم توقف، وعاد إلى مكانه وأشار إلى ويل فارنبي.
قال في همس عندما أدركه ويل: تعال واجلس معي، إنني أحب أن أرى وجوههم. - ربما اعترض رؤيتك.
هز الدكتور روبرت رأسه، وتقدما معا، واعتليا المذبح. ولما بلغا ثلاثة أرباع السلم الصاعد إليه، جلسا جنبا إلى جنب في شبه الظل بين الظلام وضوء المصابيح. وفي هدوء شديد بدأ الدكتور روبرت يتحدث عن شيفا ناتاراجا، عن سيد الرقص. قال: انظر إلى هذا التمثال، انظر إليه بالعينين الجديدتين اللتين أعطاكهما عقار الموكشا. انظر إليه كيف يتنفس وكيف ينبض، كيف يخرج من ضياء إلى ضياء أشد توهجا. إنه يرقص خلال الزمان وبعد الزمان، يرقص إلى الأبد وفي اللحظة الخالدة. إنه يرقص ويرقص في جميع العوالم في وقت واحد. انظر إليه.
وتمعن ويل في تلك الأوجه الشامخة إلى أعلى، يحدق مرة في هذا الوجه ومرة أخرى في ذلك الوجه فيرى ضياء البهجة والمعرفة والفهم، ضياء مشرقا، يرى علامات التعجب التي يحسها المرء أثناء الصلاة، تلك العلامات التي ترتجف عند حافة النشوة أو حافة الفزع.
وألح عليه الدكتور روبرت أن يزيد من تمعنه. وبعد برهة طويلة من الصمت أعاد قوله: إنه يرقص في جميع العوالم في وقت واحد. إي والله في جميع العوالم؛ أولا في عالم المادة. انظر إلى الهالة المستديرة الكبرى، التي تحف بها رموز النار، والتي يرقص الرب في داخلها. إنها تمثل الطبيعة، تمثل عالم الكتلة والطاقة. في داخلها يرقص شيفا ناتاراجا رقصة الصيرورة التي لا تنتهي، رقصة الموت. إنها «ليلاه» أو لعبته الكونية. إنه يلعب من أجل اللعب، كالطفل. ولكن هذا الطفل هو ناموس الأشياء، لعبه هي مجموعات الكواكب، وملعبه هو الفضاء الذي لا نهاية له، وبين الإصبع والإصبع فترة مداها ألف مليون سنة ضوئية. انظر إليه هناك فوق المذبح. التمثال من صنع الإنسان، بدعة صغيرة من النحاس لا يتجاوز ارتفاعها أربع أقدام. ولكن شيفا ناتاراجا يملأ الكون، هو الكون. أغمض عينيك وانظر إليه سامقا في ظلام الليل، وتابع تلك الأذرع الممتدة امتدادا ليس له غاية، وذلك الشعر الحوشي يتطاير إلى ما لا نهاية. - ناتاراجا وهو يلعب بين النجوم وفي الذرات. ثم أضاف: ولكنه يلعب كذلك داخل كل شيء حي، وكل مخلوق حساس، وكل طفل وكل رجل وكل امرأة. اللعب من أجل اللعب. ولكن الملعب الآن هو الشعور، وصالة الرقص بوسعها أن تحتمل. هذا اللعب بغير هدف يبدو - بالنسبة لنا - نوعا من الإهانة. وما نريده فعلا هو «الله» الذي لا يحطم خلقه أبدا. وإذا كان لا بد من الألم والموت فليقم على توزيعها إله الحق، الذي يعاقب المسيء ويكافئ الطيب بالسعادة الأبدية. أما في الواقع فالطيب يصيبه الأذى، والبريء يكابد ويعاني. ثم ليكن هناك إله يعطف علينا ويطمئن قلوبنا. ولكن ناتاراجا لا يفعل شيئا غير الرقص. لعبه يتنزه عن الموت أو الحياة، ويتنزه عن كل عمل خبيث وكل عمل طيب. بين يديه اليمنيين يرفع الطبلة التي تستدعي الوجود من اللاوجود. دقة للخلق وليقظة الكون. ثم انظر إلى أعلى يديه اليسريين. إنه يلوح بهما نارا يدمر بها كل ما خلق. إنه يرقص في هذه الناحية؛ ويا لها من سعادة! ثم يرقص في ناحية أخرى، فيكون الألم، والخوف الممقوت، والدمار! ثم قفزة، وخطوة ووثبة؛ قفز للصحة الكاملة، وخطوة نحو السرطان والشيخوخة، ووثبة من الحياة الكاملة إلى العدم، ومن العدم إلى الحياة مرة أخرى. وعند ناتاراجا كل ذلك لعب، واللعب غاية في حد ذاته، لا يهدف إلى شيء أبدا. إنه يرقص لأنه يرقص، والرقص بالنسبة إليه هو «ماهاسوخا»، هو نعيمه الأبدي الذي لا يحد. نعم نعيم أبدي. ثم أعاد العبارة الأخيرة بصيغة الاستفهام: نعيم أبدي؟ وهز رأسه وقال: بالنسبة إلينا ليس هناك نعيم، ليس هناك إلا تذبذب بين السعادة والفزع وإحساس بالغضب لأن آلامنا في رقص ناتاراجا جزء منه كما أن مسراتنا كذلك جزء منه. موتنا كحياتنا. دعنا نتدبر ذلك في هدوء لبرهة من الزمن.
ومرت الثواني، وازداد السكون عمقا. وفجأة وفي فزع شديد بدأت إحدى الفتيات في النحيب، فترك فيجايا مكانه، وركع إلى جوارها ووضع إحدى يديه على كتفها، فكفت عن النحيب.
وأخيرا واصل الدكتور روبرت حديثه قائلا: المعاناة والمرض والشيخوخة والعجز والموت، «سوف أريكم الأحزان». ولكن ذلك لم يكن الشيء الوحيد الذي أرانا إياه بوذا. لقد أرانا كذلك نهاية الأحزان.
وصاح الكاهن العجوز منتصرا: شيفاياناما. - افتح عينيك مرة أخرى وانظر إلى ناتاراجا وهو فوق المذبح، أنعم النظر. في يمناه العليا - كما رأيت من قبل - يمسك طبلة يدعو فيها العالم إلى الوجود. وفي يسراه العليا يحمل النار المدمرة. الحياة والموت، النظام والانحلال، هذا وذاك بالقسطاس المستقيم. وانظر الآن إلى يدي شيفا الأخريين، تجد أن يمناه السفلى مرتفعة وراحتها مفتوحة إلى أعلى. ما معنى هذه الإشارة؟ معناها: «لا تخف، كل شيء كما يرام». ولكن كيف ينجو من الخوف أي امرئ في قواه العقلية؟ كيف يستطيع أي امرئ أن يزعم أن الشر والألم مما يرام. في حين أنه من الواضح أنهما مما لا يرام؟ الجواب عند ناتاراجا. انظر الآن إلى يسراه السفلى، إنه يشير بها إلى قدميه. ماذا تقوم به قدماه؟ تمعن تجد أن قدمه اليمنى تدوس عدلا وإنصافا على مخلوق صغير مخيف أدنى صورة من الإنسان؛ ذلك هو الشيطان «ميالاكا». إنه قزم ولكنه في خبثه شديد القوى. مايالاكا تجسيد للجهل، ومظهر لأنانية الجشع وحب التملك. دسه بقدميك، واقصم ظهره! هذا بعينه ما يفعله ناتاراجا. يدوس هذا الوحش الصغير بقدمه اليمنى. ولكني أريدك أن تلاحظ أنه لا يشير بإصبعه إلى قدمه اليمنى التي يدوس بها . إنه يشير إلى قدمه اليسرى، إلى القدم التي يرفعها عن الأرض وهو يرقص. لماذا يشير إليها؟ لماذا؟ هذه القدم التي يرفعها. هذا التحدي بالرقص لقوة الجاذبية؛ رمز الفرج، رمز الموكشا، رمز التحرر. إن ناتاراجا يرقص في كل العوام في وقت واحد؛ في عالم الفيزياء والكيمياء، في عالم التجربة العادية الإنسانية البحت، وأخيرا في عالم المثل، عالم العقل الأكبر، عالم الضوء الصافي ... والآن، وبعد لحظة من الصمت واصل الدكتور روبرت حديثه قائلا: والآن أريدك أن تنظر إلى التمثال الآخر، تمثال شيفا والآلهة. انظر إليهما وهما في كهفهما الصغير المضيء، ثم أغمض عينيك وانظر إليها مرة أخرى؛ يتلألآن، يمتلئان حياة، يسموان. ما أجملهما! وفي تعاطفها أي معنى عميق! أية حكمة تتجاوز كل الحكم التي نتفوه بها وهما في تلك التجربة الحسية، تجربة الاندماج الروحي والتكفير عن الذنوب! الخلود يتحاب مع الزمان. الواحد يرتبط في الزواج بالمتعدد، والنسبي يصبح مطلقا باتحاده مع الواحد. نيرفانا يتطابق مع سمسارا، الظاهر من طبيعة بوذا في الزمن والبدن والشعور.
وأشعل الكاهن العجوز عودا آخر من البخور وقال: شيفاياناما. ثم شرع يشدو بالسنسيكريتية في هدوء وفي فقرات طويلة متتابعة. واستطاع ويل أن يرى علامات السكون والإصغاء، وأن يرى البسمة الخفيفة التي تنم عن النشوة والتي تتهلل للفكر الثاقب المفاجئ، ورؤية الحق والجمال، يرى كل ذلك مرتسما على الوجوه الشابة التي تتطلع إليه. وفي الخلف لمح موروجان مستندا إلى أحد الأعمدة مترهلا مجهدا، يعبث بأنفه الإغريقي الدقيق.
وعاد الدكتور روبرت إلى الكلام فقال: التحرر، نهاية الآلام، الانتهاء من كونك من تظن جهلا أنك هو أن تصبح من في الواقع هو أنت. وبفضل الموكشا سوف تعرف لفترة قصيرة من الزمن كيف يكون إحساسك عندما تكون من في الواقع هو أنت، ومن في الواقع كنت دائما. إنه نعيم لا يحده زمان! ولكن هذا الزمان اللامحدود - كأي شيء آخر - أمر زائل، وكأي شيء آخر سوف يمضي. وماذا أنت فاعل بهذه التجربة بعد أن يمضي؟ ماذا أنت فاعل بكل الخبرات المشابهة التي يجلبها لك عقار الموكشا في السنوات المقبلة؟ هل تكتفي بأن تستمتع بها كما تستمتع بأمسية تقضيها في مسرح العرائس، ثم تعود إلى عملك المعتاد، وتعود إلى مسلك المنحرفين الحمقى الذين تتصور أنك واحد منهم؟ أم هل - بعد هذه اللمحة - سوف تكرس حياتك للعمل لا كما تعودت ولكن كما أنت في الواقع؟ إن كل ما نستطيعه نحن الكبار بتعاليمنا، وكل ما تستطيع بالا أن تفعله بك بنظمها الاجتماعية هو أن تمدك بالوسائل وبالفرص، وكل ما يستطيع فعله عقار الموكشا هو أن يعطيك لمحات متتابعة من الشعور بالبهجة، ساعة أو ساعتين، من حين إلى آخر، من نعمة الاستنارة والتحرر. والأمر متروك لك بعد ذلك لتقرر إن كنت سوف تستجيب لهذه النعمة وتنتهز هذه الفرص. ولكن ذلك من شأن المستقبل. أما الآن، وفي هذا المكان فكل ما يتحتم عليك أن تفعله هو أن تستمع إلى نصيحة طائر المينة: انتباه! انتبهوا تجدوا أنفسكم وقد أصبحتم - شيئا فشيئا أو بغتة - على وعي بالحقائق الأساسية التي تختفي خلف هذه الرموز فوق المذبح.
ولوح الكاهن العجوز بعود البخور وقال: شيفاياناما! وعند أسفل سلم المذبح جلس الفتية والفتيات بلا حراك كأنهم خشب مسندة، ثم صدر عن أحد الأبواب صرير، وسمع الحاضرون وقع أقدام، والتفت ويل فرأى رجلا قصيرا بدينا يشق طريقه بين جماعة المتأملين، وصعد السلم، ثم انحنى وهمس في أذن الدكتور روبرت، واتجه بعد ذلك صوب الباب.
ووضع الدكتور روبرت إحدى يديه على ركبة ويل، وهمس في أذنه وعلى شفتيه ابتسامة، وهز كتفيه وهو يقول: هذا أمر ملكي، وهذا هو الرجل المسئول عن الكوخ الجبلي. وقد أبلغته الراني تليفونيا أنها تريد أن ترى موروجان في أقرب وقت مستطاع، والأمر عاجل. وضحك ضحكة مكتومة ثم نهض وأقام ويل على قدميه.
الفصل الحادي عشر
أعد ويل فارنبي طعام إفطاره بنفسه، وكان عندما عاد الدكتور روبرت من زيارته الصباحية المبكرة للمستشفى يشرب الفنجان الثاني من شاي بالا ويأكل الخبز المحمص مع المربى.
واستفسر عن صحة لاكشمي فأجابه الدكتور روبرت بقوله: لم تتألم كثيرا أثناء الليل، واستغرقت في النوم العميق لمدة أربع أو خمس ساعات، واستطاعت هذا الصباح أن تتناول شيئا من الحساء.
وواصل حديثه قائلا إنه يأمل في مهلة يوم آخر. ولما كان وجوده إلى جانبها باستمرار يقلق راحتها. ولما كانت الحياة لا بد - على أية حال - من أن تسير، وأن تستغل على أحسن صورة ممكنة؛ فقد قرر أن يسوق سيارته إلى «المحطة المرتفعة» يقوم فيها لبضع ساعات بالعمل مع فريق البحث في معمل المستحضرات الطبية. - عمل يتعلق بعقار الموكشا؟
هز الدكتور روبرت رأسه وقال: كلا. هذا العمل لم يعد إلا تكرارا لعملية مقننة. وقد بات من اختصاص التقنيين. وليس من عمل الباحثين. هؤلاء يشتغلون بشيء جديد.
وبدأ يتكلم عن الأندولات التي عزلت أخيرا عن بذور الأولوليكوي التي استوردت من المكسيك في العام الماضي وزرعت في حديقة النباتات بالمحطة. ثلاثة أندولات على الأقل لم تكن من بينها سوى واحدة فعالة. وقد أثبتت التجارب على الحيوان أن لها تأثيرا على الجهاز الشبكي ...
ولما ترك ويل وحده جلس تحت المروحة التي كانت تعلو رأسه وواصل قراءته في «مذكرات عن حقائق الأشياء»:
نحن لا نستطيع أن نتخلص بالعقل من اللاعقل الأساسي في نفوسنا. كل ما نستطيعه هو أن نتعلم كيف نكون لا عقليين بطريقة معقولة.
بعد ثلاثة أجيال من الإصلاح لم تعد في بالا جموع كقطعان الغنم ولا رعاة طيبون من الكهنوت يجزون صوف القطعان ويخصون ذكورها. ليس هناك قطعان من البقر والخنازير وليس هناك تجار مرخصون للماشية، ملكيون أو عسكريون، رأسماليون أو ثائرون، يسمون ويقيدون ويجزرون، هناك فقط جماعات من الرجال والنساء في طريقهم إلى الإنسانية الكاملة.
النغم أو الحجارة، العمليات أو الأشياء المحسوسة؟ تجيب البوذية كما يجيب العلم الحديث على هذا التساؤل بإيثار «النغم». ويقول الفلاسفة الغربيون القدامى الحجارة. البوذية والعلم الحديث ينظران إلى العالم في نطاق الموسيقى. أما الصورة التي يتمثلها المرء وهو يقرأ فلاسفة الغرب فهي عبارة عن جسم من الفسيفساء البيزنطي، متماثل، مؤلف من ملايين المربعات الصغيرة المصنوعة من مادة حجرية المثبتة في جدران كاتدرائية كاثوليكية خالية من النوافذ.
إن رشاقة الراقصة، وما يصيبها من التهاب المفاصل بعد أربعين عاما؛ هذا وذاك من وظائف هيكلها العظمي. وبفضل تكوين العظام تستطيع الفتاة أن ترقص الباليه على أصابع القدم، وبسبب هذه العظام عينها، بعدما تتآكل قليلا، يحكم على المرأة العجوز بالتحرك فوق المقعد ذي العجلات. وكذلك فإن الدعامة القوية لأية ثقافة من الثقافات هي الشرط الأول لكل ابتكار أو إبداع يقوم به الأفراد، وهي أيضا عدوهم الأول.
إن الشيء الذي لا يمكن أن نتطور في غيبته حتى يمسي كل منا إنسانا كاملا هو في أغلب الأحيان نفس الشيء الذي يحول دون تطورنا.
وقد أثبت بكل جلاء قرن من البحث في عقار الموكشا أن الشخص العادي قادر تماما على أن تكون له رؤى بل وعلى أن يشعر بالتحرر الكامل. والرجال والنساء - من هذه الناحية - الذين يصنعون الثقافة الرفيعة ويستمتعون بها لا يفضلون أصحاب المعرفة المحدودة. إن الخبرة الرفيعة تتفق تمام الاتفاق مع التعبير الرمزي البسيط.
والرموز التعبيرية التي ابتدعها فنانو بالا لا تفضل الرموز التعبيرية التي ابتدعها الفنانون في غيرها من الأماكن، بل لعلها أضعف أثرا وأقل إقناعا من الناحية الجمالية من الرموز التراجيدية أو التعويضية في البلاد الأخرى؛ ذلك لأن الرموز في بالا هي من ثمرات السعادة والإحساس بالإنجاز، والرموز في غيرها من البلاد من ابتداع ضحايا الإحباط والجهل، والظلم، والحرب والخرافات التي تشجع ارتكاب الذنوب وتحرض على الجريمة. إن تفوق بالا لا يرجع إلى التعبير الرمزي، وإنما يرجع إلى فن يمكن أن يمارسه كل إنسان، وإن يكن أعلى مرتبة وأكبر قيمة من كل الفنون الأخرى؛ ذلك هو فن الممارسة الكافية لكل العوالم التي نقطنها كبشر، فن التعرف المباشر بهذه العوالم. ثقافة أهل بالا لا تقاس كما تقاس الثقافات الأخرى (لانعدام مقاييس أفضل)، لا تقاس بإنجازات قلة من الموهوبين البارعين في الرموز الفنية أو الفلسفية. لا، إنها تقاس بما يفعل ويمارس كل أعضاء المجتمع، العاديون منهم والمتفوقون، في كل حدث من الأحداث وكلما تقاطع الزمان مع الأبدية.
ودق التليفون، فهل يتركه يرن ، أم هل الأفضل أن يجيب ويخطر المتحدث بأن الدكتور روبرت يقضي يومه في الخارج، وقرر ويل أن يأخذ بالرأي الآخر فرفع السماعة.
وقال محاكيا قدرة السكرتير حينما يرد: هنا بيت الدكتور ماك فيل. ولكن الدكتور خارج البيت طوال اليوم.
وبصوت ملكي غني رد المتحدث على الطرف الآخر من التليفون قائلا: هذا أفضل، كيف حالك يا عزيزي فارنبي؟
وذهل ويل وتلعثم وهو يشكر صاحبة السمو على تفضلها بالسؤال.
قالت الراني: أخذوك بعد ظهر أمس لتشهد حفلة من حفلاتهم الدينية المزعومة؟
وأفاق ويل بالقدر الكافي من ذهوله فأجاب بكلمة محايدة وبنغمة لا تلزمه أي التزام، وقال: كانت رائعة.
قالت الراني: نعم رائعة ولكن باعتبارها كاريكاتير للحقل الديني الصادق، كاريكاتير لا يحترم المقدسات. ولفظت كلمة «الصادق» بنبرة تنم عن التمجيد كام تنم عن الازدراء، ثم قالت: إنهم لم يتعلموا قط أن يميزوا تمييزا مبدئيا بين النظام الطبيعي والنظام الخارق للطبيعة.
وتمتم ويل قائلا: تماما، تماما ...
وسألته صاحبة الصوت المتحدث على الطرف الآخر: ماذا تقول؟
فرفع صوته وقال: تماما.
واستمرت الراني في حديثها قائلة: يسرني أنك توافق. ولكني لم أطلبك على التليفون لأبحث معك الفرق بين الطبيعي والخارق للطبيعة؛ على الرغم من الأهمية القصوى للفارق بينهما. إنما طلبتك لكي أتحدث معك في أمر أكثر عجلة من هذا. - البترول؟
قالت: نعم البترول. ولقد بلغتني منذ برهة رسالة من ممثلي الشخصي في راندنج. ثم أضافت وبهذه المناسبة أقول له إنه في مركز رفيع وعلى معرفة جيدة.
وتحير ويل من أولئك الضيوف الذين حضروا حفل الكوكتيل في وزارة الخارجية، ممن يحسنون الكلام ويرصعون صدورهم بالأوسمة، من منهم خدع غيره من المخادعين؛ وهو طبعا واحد من هؤلاء.
وواصلت الراني حديثها قائلة: في الأيام القليلة الماضية وصل بالطائرة إلى راندنج لوبو ثلاثة ممثلين على الأقل لشركات البترول الكبرى الأوروبية والأمريكية. وقد نقل إلي مبلغي أنهم يفاوضون بالفعل أربعا أو خمسا من الشخصيات الرئيسية في الإدارة ممن قد يكون لهم في وقت لاحق نفوذ في تقرير من يعطي الامتياز في بالا.
وطقطق ويل بلسانه طقطقة تنم عن الاستنكار.
وقالت تلميحا أن مبالغ طائلة قد عرضت إن لم يكن بطريق مباشر فعلى الأقل باللفظ وبالتلويح المغري.
قال معلقا: هذا أمر شنيع.
قالت الراني إن وصف شنيع هو اللفظة المناسبة؛ ولذلك كان لا بد من القيام بعمل ما في هذا الخصوص، وأن يتم العمل فورا. وكانت قد علمت من باهو أن ويل قد كتب بالفعل للورد ألديهايد، وأن الرد سوف يرد من غير شك في خلال أيام قليلة. ولكن هذه الأيام القليلة أطول مما يحتمل، والوقت أمر جوهري. ليست فقط بسبب ما كانت تفعله هذه الشركات المتنافسة، ولكن لأسباب أخرى كذلك (وهنا أخفضت الراني صوتها بدرجة غريبة)، وبهذا الصوت المنخفض أخذت تحثه الآن: الآن، وبغير توان! يجب أن تبرق إلى اللورد ألديهايد وتخبره بما يحدث (وأضافت عرضا أن باهو بإخلاصه لها قد عرض عليها أن ينقل الرسالة بالشفرة عن طريق مفوضية راندنج في لندن)، ويجب أن يصحب الرسالة طلب عاجل بأن يفوض اللورد مراسله الخاص في أن يتخذ الخطوات اللازمة لضمان نجاح قضيتهما المشتركة (والخطوات المناسبة في هذه المرحلة تكون أساسا ذات طبيعة مالية).
واختممت حديثها قائلة: ولذلك أرجو أن تسمح لي أن أطلب إلى باهو أن يرسل البرقية فورا، باسمي واسمك يا مستر فارنبي. وأرجو يا عزيزي أن يكون هذا التصرف مقبولا منك.
ولم يكن هذا التصرف مقبولا بتاتا. ولكن ويل لم يجد ما يعتذر به للرفض لأنه كتب من قبل ذلك الخطاب إلى جو ألديهايد؛ ولذلك صاح متظاهرا بالتحمس للفكرة تحمسا يكذبه سكوته الطويل المريب قبل أن يقول إنه يوافق بالطبع، وذلك السكوت الذي كان يبحث خلاله عن رد آخر. ثم أضاف قوله: يجب أن يصلنا الرد في وقت ما غدا.
وأكدت له الراني أنهم سوف يتلقونه هذا المساء. - وهل يمكن ذلك؟ - إن الله على كل شيء قدير.
قال: هذا صحيح. ولكن ... - إنني أومن بما يوحي إلي به صوتي الضعيف. وهو يقول لي: هذا المساء ويقول: إنه سوف يفوض فارنبي تفويضا كاملا، وكررت عبارتها بحيوية بالغة. ويقول صوتي الضعيف كذلك: إن فارنبي سوف يحقق نجاحا تاما.
قال شاكا: إنني أتعجب. - يجب أن تنجح. - يجب! - نعم يجب. - لماذا؟ - لأن الله هو الذي أوحى إلي أن أشن حرب الروح الصليبية. - أنا لا أفهم العلاقة تماما.
قالت: ربما كان من الواجب ألا أخبرك. وصمتت برهة ثم قالت: ولكن لماذا لا أخبرك؟ لقد وعدني اللورد ألديهايد أن يؤازرني في الحرب التي أشنها بكل موارده إذا نجحت قضيتنا. وما دام الله يريد أن ننتصر في الحرب، فإن قضيتنا لا يمكن إلا أن تنتصر.
وأراد أن يصيح مجيبا: وهذا هو المطلوب. كأنها معادلة رياضية، ولكنه كبح جماح نفسه، فليس هذا من الأدب. وعلى أية حال فإن الموضوع الراهن ليس من الفكاهة في شيء.
قالت الراني: يجب أن أتصل بباهو حالا يا عزيزي فارنبي. وأنهت المكالمة التليفونية.
وهز ويل كتفيه وعاد إلى «مذكرات عن حقائق الأشياء»، ولم يكن لديه شيء آخر يشغل نفسه به. - الثنائية ... بغيرها يستحيل أن يكون هناك أدب رفيع، وبها لا يمكن - بكل تأكيد - أن تكون هناك حياة طيبة. «أنا» تؤكد أن هناك مادة أنانية منفصلة ثابتة، و«أكون» تنكر أن الوجود كله علاقات وتغير. «أنا أكون»، هاتان كلمتان صغيرتان، ولكنهما تنطويان على باطل ضخم! إن المثنوي صاحب العقل المتدين ينادي الأرواح المصطنعة من الأعماق السحيقة. أما غير المثنوي فينادي الأعماق السحيقة في روحه، أو بعبارة أدق، يجد أن الأعماق السحيقة موجودة فعلا لديه.
وسمع ضجة أحدثتها عربة مقتربة، أعقبها سكون عندما أوقف المحرك، ثم صوت باب ينغلق ووقع أقدام فوق الحصى، وفوق سلم الفراندة.
قال فيجايا بصوته العميق: هل أنت مستعد؟
وألقى ويل «مذكراته» جانبا، والتقط عصاه الخيزرانية، ونهض على قدميه، وسار نحو الباب الخارجي.
قال ويل وهو يتجه نحو الفراندة: نعم مستعد.
وأمسكه فيجايا من ذراعه وقال: إذن هيا بنا واحذر درجات السلم.
وكانت تقف إلى جوار عربة الجيب امرأة في منتصف الأربعينيات من عمرها مرتدية ثيابا قرنفلية، وحول رقبتها عقد من المرجان، امرأة مستديرة الوجه.
قال فيجايا: هذه ليلاراو، أمينة المكتبة، وسكرتيرة، وأمنية الصندوق، والمشرفة على النظام العام، لا غنى لنا عنها.
وصافحها ويل، وبدت له شبيهة بالسيدات الإنجليزيات الرقيقات الممتلئات حركة ونشاطا اللائي - بعد أن يكبر أطفالهن - يقمن بالأعمال الخيرية أو يتجهن إلى تثقيف أنفسهن. إنهن لسن على قدر كبير من الذكاء، ولكنهن يتصفن بالإيثار، مخلصات، طيبات حقا، ولكن - لسوء الحظ - باعثات على السأم. وكانت ليلاراو من هذا الطراز لا تختلف عنه إلا ببشرتها السمراء.
وقالت السيدة راو مبادرة بالكلام وهم يسيرون إلى جوار بركة اللوتس ويمرقون إلى الطريق العام: سمعت عنك من صديقي الصغيرين رادا ورانجا.
قال ويل: أرجو أن أكون حائزا لرضاهما كما حازا رضاي.
وأشرق وجه السيدة راو بهجة وسرورا وقالت: يسرني أنك معجب بهما.
وقال فيجايا: إن رانجا ذكي بدرجة غير عادية.
وأضافت إلى ذلك راو أنه غاية في الاتزان، يقف وسطا بين الانطواء والانبساط على العالم الخارجي. يميل دائما - وبكل قوة - إلى الفرار إلى ميزفانا أرهات
1
أو إلى جنة العلماء الصغيرة الجميلة المنسقة؛ جنة التجريد المطلق. يميل إلى هذا الاتجاه، ولكنه يقاوم الميل في أغلب الأحيان لأن رانجا العالم كان كذلك رانجا آخر، رانجا يحس في قلبه الرأفة، مستعد - لو عرفت كيف تناشده بالطريقة الصحيحة - أن يفتح قلبه للحقائق المحسوسة في الحياة وأن يكون واعيا، مهتما معينا بشكل إيجابي. ومن حسن حظه ومن حسن حظ الناس جميعا أنه التقى بفتاة مثل رادا الصغيرة، فتاة ساذجة ذكية، فكهة رقيقة، موهوبة في إحساسها بالحب والسعادة! وأفضت السيدة راو بدخيلة نفسها وقالت إن رادا ورانجا من تلاميذها المحببين إليها.
وظن ويل أنهما من تلاميذها في نوع من المدارس الدينية البوذية، وحسب أنه بهذا الظن يتفق معها في الرأي. ولشد ما كان ذهوله عندما علم أنهما تتلمذا عليها في يوجا الحب، وأن راو؛ هذه العاملة المخلصة في المستوطنات، كانت تلقي عليهما الدروس في السنوات الست الماضية وفي الفترات التي لا تشتغل فيها بالمكتبة. وذلك حسبما ظن ويل بالطرق التي أباها موروجان والتي ارتأتها الراني فظيعة؛ لما كانت تتصف به من حب لبنيها يبلغ حد التملك. وفغر ويل فاه ليلقي إليها بسؤال. ولكن ردود الفعل عنده كانت على مستوى آخر أرفع من ذلك متأثرة بعاملين في المستوطنة من طراز آخر، فلم تخرج الأسئلة من بين شفتيه، وفات أوان السؤال، وبدأت السيدة راو تتحدث عن أعمال أخرى تقوم بها.
قالت: لو عرفت ما نعانيه مع الكتب في هذا الجو! الورق يتعفن، والصمغ يسيل، والغلف تتحلل، والحشرات تلتهم. إن الأدب المكتوب لا يناسب في الواقع المناطق الاستوائية.
قال ويل: وإذا صدق راجا العجوز فإن الأدب لا يتفق كذلك وكثير من الخصائص المحلية هنا بخلاف المناخ؛ إنه لا يتفق وكرامة الإنسان، ولا يتفق والحق الفلسفي، ولا يتفق وصحة عقل الفرد وسلامة النظام الاجتماعي، لا يتفق مع أي شيء سوى الثنائية، والجنون الإجرامي، والطموح المستحيل، والذنب الذي لا لزوم له. وكشر بشراسة وقال: ولكن ما علينا؛ فالكولونيل ديبا سوف يصحح الأوضاع. وبعد أن تغزى بالا ويؤمن جانبها في الحرب والبترول والصناعة الثقيلة، سيكون لكم - من غير شك - عصركم الذهبي في الأدب وأصول الدين.
قال فيجايا: أود أن أضحك، وما يشغلني هو أنك على الأرجح قد أصبت الرأي، وأنا أحس إحساسا مزعجا أن أبنائي سوف يرون - عندما يكبرون - نبوءتك تتحقق.
ونزلوا من عربة الجيب، وأوقفوها بين عربة يجرها ثور ولوري ياباني جديد عند مدخل القرية، وساروا بعد ذلك على الأقدام. وبين البيوت المسقوفة بالقش التي تقع وسط حدائق يظللها النخيل وأشجار الببايا وثمر الخبز كان هناك شارع ضيق يؤدي إلى السوق المركزية. وتوقف ويل واستند إلى عصاه الخيزرانية وتلفت حواليه، وشهد على أحد جوانب الميدان مبنى شرقيا شديد الزخرفة له واجهة قرنفلية مكسوة بالجص وشرفات في الأركان البعيدة؛ والظاهر أنه مبنى البلدية، وفي مواجهته على الجانب الآخر من الميدان يقوم معبد صغير وردي اللون من الحجر الأحمر يتوسطه برج فوق طوابقه المتتالية تماثيل من الصخر تروي قصة تطور بوذا منذ أن كان طفلا مدللا حتى تاثاجاتا.
2
وبين هذين البناءين كانت هناك شجرة استوائية ضخمة تغطي أكثر من نصف المساحة المكشوفة. وعلى طول الممرات الملتوية الظليلة اصطفت أكشاك العشرات من التجار والبائعات. وفيما بين الثغرات في القبو الأخضر الذي يعلو رءوسهم تتسلل خيوط من ضوء الشمس تسطع على صف من جرار الماء السوداء والصفراء هنا، وسوار فضي، ولعبة خشبية، وثوب من القماش القطني هناك، وكومة من الفواكه، وصدار فتاة مرصع بالزهور الزاهية هنا، وبريق أسنان ضاحكة وعيون، والنصف الأعلى العاري من جسد إنسان ذهبي متورد اللون هناك.
وبينما هم يشقون طريقهم بين الأكشاك تحت الأشجار الضخمة علق ويل بقوله: كل امرئ هنا يبدو في صحة جيدة.
قالت السيدة راو: إنهم يبدون أصحاء لأنهم أصحاء، وسعداء على خلاف ما عرفت من قبل. وعادت إلى ذاكرته الوجوه التي شهدها في كلكتا ومانلا وراندنج لوبو، وهي الوجوه التي يراها المرء كل يوم في شارع فليت وشارع استراند؛ الوجوه المكتئبة. وتطلع من وجه إلى آخر ثم قال: حتى النساء يبدون سعيدات.
قالت السيدة راو: ليست لأي منهن عشرة أطفال.
قال ويل: والمرأة في بلادي ليس عندها عشرة أطفال، وعلى الرغم من ذلك ترى على وجهها علامات الوهن وعلامات الهم. وتوقف لحظة لكي يراقب بائعة في منتصف العمر تزن شرائح من ثمر الخبز المجفف بحرارة الشمس لأم شابة تحمل طفلها في كيس فوق ظهرها. واختتم ملاحظته قائلا: هذا نوع من الإشراق.
قالت السيدة راو بشعور الظافر: بفضل ماثيونا، بفضل يوجا الحب. وتألق وجهها بمزيج الحماسة الدينية وكبرياء المهنة.
وساروا تحت ظل الشجرة الكبرى في ضوء الشمس المتوهج، ثم صعدوا مجموعة من الدرجات البالية حتى بلغوا ظلام المعبد، وشهدوا تمثالا ذهبيا لبوذيساتفا
3
ضخما يتلألأ في الظلام، وشموا رائحة البخور والزهور الذابلة. ومن مكان ما خلف التمثال طرق آذانهم صوت عابد مختف يتمتم بابتهالات لا تنتهي. ومن باب جانبي جاءت فتاة صغيرة مسرعة وبغير ضوضاء عارية القدمين. ودون أن تعير هؤلاء الكبار التفاتة اعتلت المذبح برشاقة القط ووضعت غصنا من نبات أبيض اللون في راحة التمثال المفتوحة. وحدقت في الوجه الذهبي الضخم وتمتمت ببضع كلمات، وأغمضت عينيها لحظة، وتمتمت مرة أخرى، ثم عادت، وأخذت تشدو بصوت ناعم وهي تهبط، وأخيرا خرجت من الباب الذي جاءت منه.
قال ويل وهو يراقبها في خروجها: رائعة. وليس هناك ما هو أروع من ذلك. ولكن ماذا عسى طفلة في مثل سنها أن تظن أنها فاعلة بالضبط؟ أية ديانة تؤدي شعائرها؟
قال فيجايا شارحا: إنها تؤدي الشعائر المحلية لبوذية ماهايانا
4
ممزوجة بشيء من الشيفية الهامشية. - وهل تشجعون أنتم المثقفين شيئا كهذا؟ - نحن لا نشجع ولا نثبط. نحن نقبل العقيدة كما نقبل نسيج العنكبوت الذي تراه فوق الإفريز. إن العناكب بطبيعتها لا بد أن تنسج هذه الخيوط، وكذلك البشر بطبيعتهم لا بد أن يكون لهم دين. وليس بوسع العناكب إلا أن تصنع مصائد للذباب. وليس بوسع الإنسان إلا أن يضع الرموز. ذلك هو السر في وجود الذهن البشري؛ أن يحول فوضى الخبرة المعطاة إلى مجموعة من الرموز التي يستطيع أن يتناولها. وأحيانا تقابل الرموز بعض أوجه الحقيقة الخارجية التي تجاوز خبراتناد مقبول. عندئذ يكون العلم والإدراك العام، وأحيانا أخرى - على نقيض ذلك - لا تكون للرموز صلة تقريبا بالحقيقة الخارجية. عندئذ يكون الجنون والهذيان. وفي أغلب الأحيان يكون هناك خليط يجمع بين الواقع والخيال؛ هذا هو الدين. والدين جيد أو سيئ بنسبة تتوقف على درجة المزج بين الاثنين؛ فمثلا من نوع الكالفينية التي نشأ عليها الدكتور أندرو يوجد قدر ضئيل جدا من الواقع مقابل كمية ضخمة من الخيال الخبيث. وفي أحوال أخرى يكون المزيج أصح من ذلك. خمسين في المائة مقابل خمسين في المائة، أو أحيانا أربعة وستين في المائة أو حتى ثلاثة وسبعين من الصدق والحق. ومزيجنا المحلي يحتوي على قدر ضئيل جدا من السموم.
وأومأ ويل برأسه قائلا: تقديم النبات السحلبي إلى تمثال الرأفة والتنوير شيء لا يضر بتاتا. وبعد الذي رأيته بالأمس أجدني على استعداد لأن أدلي بشهادة طيبة في صالح الرقص الكوني والتزاوج السماوي.
قال فيجايا : وأذكر أن مثل هذه الأمور ليست إجبارية. الفرصة أمام كل إنسان ليتجاوز هذه الحدود. سألتني ماذا تظن هذه الطفلة أنها فاعلة. وأنا أقول لك إنها بجانب من عقلها تخاطب شخصا؛ شخصا ضخما سماويا يمكن التزلف إليه بالنبات السحلبي لكي يعطيها ما تريد. ولكنها أيضا في سنها التي بلغتها لا بد أن تكون على علم بالرموز الأكثر عمقا وراء تمثال أميتابها
5
وبالخبرات التي تولد هذه الرموز؛ ولذلك فهي بجانب آخر من عقلها تعلم تمام العلم أن أميتابها
6
ليست شخصا. بل إنها لتعلم كذلك - كما شرحوا لها من قبل - أن الدعاء إذا كان أحيانا يستجاب له فإنما لأن الآراء - في عالمنا هذا العجيب المؤلف من النفس والمادة - تميل إلى أن تتحقق إذا أنت ركزت فيها فكرك. وهي تعلم كذلك أن هذا المعبد ليس كما تحب حتى الآن أن يكون؛ بيت بوذا. إنما هي تعلم أنه ليس سوى رسم لما يدور في عقلها اللاشعوري؛ مكان ضيق مظلم صغير تزحف على سقفه السحليات في وضع مقلوب وتسكن شقوقه الصراصير. ولكن الاستنارة تكمن في قلب هذا الظلام القذر. وهناك كذلك شيء آخر تقوم به الطفلة: إنها تتعلم درسا عن نفسها بطريقة لا شعورية؛ فهي تتعلم أنها قد يتكشف لها أن عقلها الصغير هو كذلك العقل الأكبر، وذلك إذا هي كفت عن محاولة إقناع نفسها بما يخالف ذلك. - ومتى تتعلم هذا الدرس؟ متى تكف عن إقناع نفسها بغير ذلك؟ - قد لا تتعلمه بتاتا. كثير من الناس لا يتعلمونه، وكثيرون آخرون - من ناحية أخرى - يتعلمونه.
وجذب ويل من ذراعه وقاده إلى مكان أكثر ظلمة خلف تمثال الاستنارة. وأخذ النشيد يزداد وضوحا، وكان هناك منشد تكاد العين لا تراه في الظلام، رجل كبار يجلس عاريا إلى وسطه، يلتزم كتمثال أميتابها الذهبي الصمت المطلق، لا يحرك سوى شفتيه.
قال ويل: ماذا يرتل؟ - شيئا بالسنسيكريتية.
كان يكرر سبعة مقاطع ليس لها معنى. - تكرار ليس وراءه طائل.
وعارضته السيدة راو قائلة: إنه ليس بالضرورة من غير طائل؛ فهو أحيانا يذهب بك إلى مكان ما.
وزاد على ذلك فيجايا قوله: نعم إنه يذهب بك إلى مكان ما. ليس لما تعنيه الكلمات أو ما توحي به، وإنما فقط لأنها تتكرر. فأنت إذا كررت قولك «هاي ديدل ديدل» كان لذلك نفس الأثر، كما لو قلت «أوم» أو «كرياليسون»، أو غير ذلك، كل ذلك له في النفس أثره؛ لأنك حينما تشغل ذهنك بالتكرار لا يمكن أن تشغله كله بنفسك. والمشكلة هي أنك بمثل هذا التكرار إما تنخفض وإما ترتفع؛ إما تنخفض إلى حالة من بلاهة اللافكر، وإما ترتفع إلى وعي مطلق مصدره اللافكر.
قال ويل: أفهم من ذلك أنك لا توصي بمثل ذلك لصديقتنا الصغيرة هذه التي كانت تحمل النبات السحلبي؟ - لا أوصي ما لم تكن عصبية أو قلقة بدرجة غير عادية، وهي ليست كذلك. وأنا أعرفها حق المعرفة، فهي تلعب مع أطفالي. - إذن ماذا تفعل في حالتها؟ - أفعل الكثير، ومن بين ما أفعل أقودها، بعد نحو عام، إلى المكان الذي نحن ذاهبون إليه الآن.
أي مكان؟ - غرفة التأمل.
وسار ويل وراءه تحت مدخل تعلوه قنطرة وعلى طول ممر قصير. وفتحت السجف وأذابهم في غرفة كبيرة جدرانها بيضاء ولها نافذة طويلة إلى يسارهم تنفتح على حديقة صغيرة ينمو فيها شجر الموز وثمر الخبز. وقد خلت الغرفة من الأثاث اللهم إلا بضع حشايا مربعة الشكل منتشرة فوق الأرض، وعلى الحائط المقابل للنافذة علقت صورة زيتية كبرى، رمقها ويل بنظرة ثم تقدم نحوها يتمعنها.
وأخيرا قال: يا للعجب! من رسم هذه الصورة؟ - جوبندسنج. - ومن هو جوبندسنج. - أحسن مصور للمناظر الطبيعية أنتجته بالا. مات في عام 48. - لماذا لم نر قط صورة من صوره؟ - لأننا نحب أعماله حبا جما فلا نصدر أيا منها.
قال ويل: هذا في مصلحتكم، وليس في مصلحتنا. وتطلع إلى الصورة مرة أخرى وسأل: هل ذهب هذا الرجل إلى الصين في حياته؟ - لا، ولكنه درس مع مصور من كانتون كان يقيم في بالا. وكان بالطبع قد شاهد نسخا عديدة من المناظر الطبيعية التي رسمت في عهد سونج.
7
قال ويل: أستاذ ينتمي إلى سونج آثر أن يصور بالزيت وكان مهتما بتوزيع الضوء في الصورة. - فقط بعدما ذهب إلى باريس، وكان ذلك في عام 1910م، وهناك عقد صداقة مع فيار.
هز ويل رأسه وقال: يستطيع المرء أن يقدر ذلك من هذا الغنى غير العادي البادي في اللوحة. واستمر في نظره إلى الصورة في صمت، وأخيرا ألقى بهذا السؤال: ولماذا تعلقونها في غرفة التأمل.
ورد عليه فيجايا بسؤال آخر، وقال: ماذا تظن أن يكون السبب؟ - هل لأن هذا هو ما تسمونه رسما يرمز للعقل؟ - المعبد رسم رمزي. ولكن هذا أفضل منه؛ فهو مظهر فعلي، مظهر فعلي للعقل الكبير في عقل الفرد بالنسبة إلى المنظر الطبيعي، وإلى اللوحة، وإلى خبرة التصوير. وبهذه المناسبة أقول لك إنها صورة الوادي الغربي المجاور.
قال ويل: وما أجمل السحب، وهذا الضوء!
وزاد فيجايا من الشرح قائلا: إنه ضوء الساعة الأخيرة قبل الغسق. وقد توقف المطر منذ قليل وظهرت الشمس مرة أخرى أشد ضياء من أي وقت مضى. ضياؤها هو الضياء الخارق للطبيعة، الضياء المائل تحت سقف من السحب. ضوء العصر في آخر النهار الذي ينقش كل سطح يمسه ويعمق كل الظلال.
وحدق ويل في الصورة وهو يكرر هذه العبارة: يعمق كل الظلال، ظل هذه السحابة المرتفعة الضخمة تسود سلاسل من الجبال بأسرها وتضفي عليها الظلام، وهناك في الوسط ظلال السحب الصغيرة المتناثرة، وفيما بين الظل والظل وهج الأرز في أول نموه، أو الحرارة الحمراء تشع من الأرض المحروثة، وتوهج الحجر الجيري المكشوف، والأماكن المعتمة والأوراق دائمة الخضرة التي تتلألأ كالماس. وقد أقيمت وسط الوادي مجموعة من البيوت المسقوفة بالقش، تبدو من بعيد، صغيرة، ولكنها واضحة للعين، ناطقة تماما، لها دلالة عميقة! نعم لها دلالتها. ولكنك إن سألت نفسك دلالة على أي شيء؟ لم تجد جوابا. ووجه ويل هذا السؤال ملفوظا.
قال فيجايا: تسألني ما معناها، وأقول لك أنها تعني ما هي عليه. وكذلك الجبال، والسحب، والضوء والظلام؛ ومن ثم كانت هذه الصورة صورة دينية حقا . أما الصور الشبيهة بالدينية فهي تشير دائما إلى شيء آخر، شيء يجاوز الأشياء التي تمثلها؛ تمثل شيئا من الكلام الفارغ الميتافيزيقي أو عقيدة باطلة من العقائد المحلية. إن الصورة الدينية حقا تكون دائما مليئة بالمعنى في حد ذاتها؛ ولذلك علقنا هذه الصورة في غرفة التأمل. - وهل الصور دائما للمناظر الطبيعية؟ - تقريبا دائما؛ لأن المناظر الطبيعية تذكر الناس فعلا بمن يكونون. - وهل هي أفضل من صور تمثل حياة قديس أو مخلص؟
وأومأ فيجايا برأسه إيجابا وقال: الفارق بينهما - أولا - هو الفارق بين الموضوعي والذاتي. إن صورة المسيح أو صورة بوذا إن هي إلا تسجيل لشيء لاحظه سلوكي وفسره رجل من رجال الدين. أما حينما تواجه منظرا طبيعيا كهذا، فمن المستحيل عليك سيكولوجيا أن تنظر إليه بعيني واطسن
8
أو بعقل توماس أكونياس.
9
إنما أنت مرغم تقريبا على أن تخضع لتجربتك المباشرة، أنت مضطر من الناحية العملية إلى أن تقوم بعملية معرفة للنفس. - معرفة النفس؟
وأكد له فيجايا مرة ثانية أنها معرفة للنفس وقال: إن هذا المنظر للوادي المجاور إنما هو منظر - إذا ارتفعت درجة واحدة - لعقلك أنت، لعقل كل امرئ كما هو موجود فوق وتحت مستوى التاريخ الشخصي. ألغاز الظلام، ولكن الظلام يموج بالحياة، رؤية الضوء، والضوء يشع من هذه البيوت الصغيرة المهلهلة كما يشع من الأشجار، والحشائش، والمسافات الزرقاء بين السحب. إننا نبذل جهدنا لندحض الحقيقة. ولكن الحقيقة باقية. الإنسان مقدس كالطبيعة، لا نهائي كالفضاء. أراني أقترب من اللاهوت بصورة خطرة، والفكرة العامة لم تنقذ قط أحدا. ألزم الوقائع، وألزم الحقائق المحسوسة. وأشار بإصبعه إلى الصورة وقال: نصف القرية في ضوء الشمس ونصفها الآخر في الظل وفي الخفاء؛ هذه حقيقة. وهذه جبال لونها نيلي، وتلك جبال من بخار الماء تعلوها، وهي أكثر منها غرابة؛ هذه حقائق. البحيرات الزرقاء في السماء، بحيرات لونها أخضر باهت وأخرى من الترسينا النيئة فوق الأرض التي يسطع عليها ضوء الشمس؛ هذه حقائق. وهذه الحشائش في المقدمة، ومجموعة أشجار الخيزران على بعد خطوات من المنحدر، وتلك القمم البعيدة والبيوت الصغيرة العجيبة التي تقع على بعد ألفي قدم في أسفل الوادي؛ كل هذه حقائق. وأضاف بعبارة معترضة قوله: البعد؛ قدرتها على التعبير عن حقيقة البعد، هذا أيضا مما يجعل صور المناظر الطبيعية من الصور الدينية الصادقة. - لأن البعد يضفي على المنظر سحرا؟ - لا؛ لأنه يضفي واقعا. البعد يذكرنا أن العالم أوسع من أن ينحصر في أشخاص، بل إن الأشخاص لهم ما هو أكثر من أنفسهم. إنه يذكرنا أن هناك أبعادا عقلية داخل رءوسنا تبلغ في ضخامتها هذه الأبعاد التي نراها. إن خبرة البعد، البعد داخل العقل، وخارج العقل، البعد في الزمان والبعد في المكان؛ هذه هي الخبرة الدينية الأولى والأساسية. قال قائل: الموت يمكن في الحياة، وهناك أيام لم تعد أياما. وأنا أقول هناك أماكن لا يحصرها العد ليست هي هذا المكان! هناك متع انقضى عهدها، وسعادات ولت، وبصائر؛ كلها تحيا في الذاكرة، ومع ذلك فهي ميتة، ميتة ولا أمل في بعثها. انظر إلى هذه القرية في أسفل الوادي، واضحة للرؤية حتى في الظلام، واقعية لا شك فيها، ومع ذلك فلا أمل في بلوغها، بعيدة عن المنال. إن صورة كهذه دليل على قدرة الإنسان على أن يقبل كل ما في الحياة من موت، كل غياب يترك فراغا ولكنه يحيط بكل ما هو موجود. وأضاف إلى ذلك فيجايا قوله: عندي أن أسوأ ظاهرة من ظواهر فنكم التجريدي، أنه دائما ذو بعدين، يرفض أن يدخل في حسابه تجربة البعد العالمية. إن قطعة من التعبير التجريدي قد تكون غاية في الجمال مثلها في ذلك مثل الشيء الملون، وهي كذلك يمكن أن تقوم مقام بقع الحبر في اختبار رورشاخ
10
بصورة أروع. يستطيع كل امرئ أن يجد فيها تعبيرا رمزيا عن مخاوفه وشهواته ومكروهاته وأحلام يقظته. ولكن هل يرى المرء فيها ما هو أكثر من الوقائع الإنسانية، مما يكشفه المرء في نفسها عندما يواجه عقله بالأبعاد الخارجية للطبيعة، أو بالأبعاد الباطنية والخارجية في آن واحد لصورة منظر طبيعي كهذه الصورة التي نراها؟ (قلت ما هو أكثر من الوقائع الإنسانية، ولعل من الأصح أن أقول ما هو أكثر من الوقائع الإنسانية في صميمها) كل ما أعرفه أنني لا أجد في صوركم التجريدية الحقائق التي تكشف هنا عن نفسها، وأشك أن أحدا غيري يستطيع أن يجد فيها هذه الحقائق؛ ولذلك فإن التعبيرية المجردة غير الموضوعية التي تتشدقون بها اليوم ليست دينية في أساسها، وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أنها في أحسن حالاتها مملة تافهة إلى أبعد الحدود.
وبعد فترة من الصمت سأله ويل: هل تأتي كثيرا إلى هنا؟ - كلما شعرت أني أوثر التأمل الجماعي على التأمل الفردي. - وكم مرة يكون ذلك؟ - مرة كل أسبوع تقريبا. ولكن هناك بطبيعة الحال من يحب أن يأتي أكثر من ذلك؛ وبعضهم أقل، أو لا يزورون المكان مطلقا. إنما يتوقف الأمر على مزاج الشخص؛ فصديقتنا سوزيلا - مثلا - بحاجة إلى جرعات أكبر من العزلة؛ ولذلك فهي قلما تزور غرفة التأمل. في حين أن شانتا (زوجتي) تحب أن تطل على المكان كل يوم تقريبا.
قالت السيدة راو: وكذلك أنا. ثم قالت وهي تضحك: غير أن ذلك أمر متوقع؛ لأن السمان يحبون الصحبة حتى وهم يتأملون.
وسأل ويل: وهل تتأملين في هذه الصورة؟ - لا أتأمل فيها، بل أتأمل منها، إن كنت تدرك ما أعني. والأصح أن أقول بمحاذاتها. أنا أنظر إليها، وينظر إليها الآخرون، وهي تذكرنا جميعا من نكون ومن لا نكون، وكيف يمكن أن ينقلب ما لسنا به إلى ما نحن به.
وسأل ويل: وهل هناك علاقة، بين ما تتحدثين عنه، وما شهدته هناك في معبد شيفا؟
أجابت: طبعا هناك علاقة. إن عقار الموكشا يقودك إلى نفس المكان الذي تبلغه بالتأمل. - لماذا يأبه المرء إذن بالتأمل؟ - هذا السؤال كقولك لماذا يأبه المرء بتناوله غدائه. - ولكن عقار الموكشا - وفقا لما تقولين - غداء.
قال مؤكدة: إنها وليمة؛ ولذلك كان لا بد من التأمل. وأنت لا تستطيع أن تقيم الولائم كل يوم؛ لأن الوليمة دسمة جدا ويبقى أثرها طويلا. ثم إن الولائم يعدها من يتعهد بتقديمها، وليس لك أي دور في إعدادها. طعامك اليومي أنت تطهوه، أما عقار الموكشا فهو دعوة خاصة بين الحين والحين.
قال فيجايا: ويمكننا أن نقول - إذا عبرنا بمصطلحات اللاهوت - إن عقار الموكشا يعد المرء لاستقبال النعم بلا مقابل؛ الرؤى التي تسبق حالة التصوف أو التجارب الصوفية الكاملة. والتأمل طريقة من الطرق التي يشارك بها المرء في هذه النعم. - وكيف يكون ذلك؟ - باستثارة حالة من حالات العقل التي تجعل من الممكن تحويل لمحات النشوة الباطنية الخاطفة إلى إنارة مستديمة مألوفة، وبمعرفة الإنسان نفسه إلى درجة لا يرغمه فيها إلا شعوره بأن يفعل القبيح، ويرتكب العبث والباطل مما يفعله المرء في أكثر الأحيان. - تعني أنه يساعد المرء على أن يكون أحد ذكاء؟ - ليس أحد ذكاء فيما يتعلق بالعلم والجدل المنطقي؛ وإنما أحد ذكاء على مستوى أعمق، مستوى الخبرة المحسوسة والعلاقات الشخصية.
قالت السيدة راو: أحد ذكاء على هذا المستوى، حتى إن كان المرء غبيا جدا في المستويات العليا، وربتت على قمة رأسها وقالت: أنا بكماء لا أصلح فيما يصلح له الدكتور روبرت وفيجايا؛ علم الأجنة، والكيمياء الحيوية والفلسفة وما إلى ذلك. وأنا لا أجيد التصوير ولا الشعر ولا التمثيل. ليست عندي مواهب ولا مهارات؛ ولذلك كان من الواجب أن أحس النقص الشديد والكآبة. ولكن في الواقع أنا لا أحس ذلك؛ بفضل عقار الموكشا والتأمل. لا مواهب ولا مهارة. ولكن في شئون الحياة، وفهم الناس ومساعدتهم، أشعر أني أزداد حساسية ومهارة. وفيما يسميه فيجايا النعم بغير مقابل ... وهنا صمتت قليلا ثم قالت: قد تكون أعظم العباقرة في العالم، ولكنك لن تأخذ أكثر مما أعطيت أنا. أليس كذلك يا فيجايا؟ - منتهى الصدق؟
ثم عادت إلى ويل تقول له: لذلك ترى يا مستر فارنبي أن بالا مكان الأغبياء. أكبر سعادة لأكبر عدد من الناس؛ ونحن الأغبياء أكبر الأعداد. الناس من أمثال الدكتور روبرت وفيجايا وعزيزي رانجا؛ هؤلاء نعترف بتفوقهم، ونعلم تمام العلم أن نوع ذكائهم غاية في الأهمية. ولكنا نعلم كذلك أن نوع ذكائنا على نفس الدرجة من الأهمية، ونحن لا نحسدهم لأننا أعطينا قدر ما أعطوا، بل أحيانا أكثر مما أعطوا.
قال فيجايا: نعم أحيانا أكثر، لسبب بسيط، وهو أن موهبة العمل بالرموز تغري أصحابها إلى اعتياد العمل بالرموز. واعتياد العمل بالرموز عقبة في سبيل الخبرة المحسوسة وتلقي النعم بلا مقابل.
قالت السيدة راو: لذلك ترى أنك لست بحاجة لأن تشعر بالأسف لحالنا. ثم نظرت إلى الساعة وقالت: يا إلهي. إذا أنا لم أسرع فسوف أتخلف عن وليمة ديليب.
وسارت مسرعة نحو الباب.
وسخر منها ويل قائلا: الوقت، الوقت، الوقت، الوقت، حتى في هذا المكان للتأمل الذي لا يحده وقت. إن وقت العشاء يقطع الأبدية بدرجة لا رجاء في إصلاحها. ثم ضحك. وهو من الرافضين دائما، ويرى أن الرفض هو طبيعة الأشياء.
قالت وهي تبتسم: ولكن أحيانا تقطع الأبدية الوقت - حتى وقت العشاء - بصورة معجزة. مع السلامة. ولوحت بيدها وانصرفت.
وتساءل ويل بصوت مرتفع وهو يقتفي أثر فيجايا في ظلام المعبد حتى خرجوا إلى وضح النهار: أيهما أفضل؛ أن تولد غبيا في مجتمع ذكي، أو تولد ذكيا في مجتمع مجنون؟
الفصل الثاني عشر
قال فيجايا: ها نحن قد وصلنا. عندما بلغوا نهاية الشارع القصير الذي يربط ما بين السوق وأسفل التل. وفتح بوابة صغيرة، واصطحب ضيفه إلى حديقة صغيرة يقع في أقصاها بيت صغير مسقوف بالقش قائم على ركائز.
ومن خلف البيت اندفع كلب مهجن أصفر اللون وحياهم بنباح مسعور وأخذ يثب هنا وهناك ويهز ذيله تعبيرا عن سروره البالغ. وبعد لحظة هبط ببغاء كبير أخضر اللون، أبيض الخدين، منقاره أسود فاحم لامع، جاء من مكان مجهول وحط فوق كتف فيجايا صائحا ومحدثا ضجة كبرى وهو يرفرف بجناحيه.
قال ويل: الببغاوات لك، والمينات لماري ساروجيني الصغيرة. الظاهر أنكم هنا على علاقة طيبة جدا مع حيوانات المنطقة.
وأومأ فيجايا برأسه إيجابا وقال: ربما كانت بالا البلد الوحيد الذي لا يجد فيه اللاهوتيون من عالم الحيوان ما يدعوهم إلى الاعتقاد في الشياطين. ومن الواضح أن الشيطان - عند الحيوان في كل مكان آخر - هو الإنسان.
وصعدا السلم للفراندة ومرقا من الباب الخارجي المفتوح ليدخلا حجرة المعيشة الرئيسية في البيت. وشهدا على مقربة من النافذة امرأة شابة ترتدي ثوبا أزرق وتجلس فوق مقعد منخفض ترضع وليدها. فرفعت وجهها الذي يشبه في شكله القلب، الجبهة عريضة تستدق إلى أسفل حتى الذقن المدببة، وحيتهما بابتسامة.
قال فيجايا وهو ينحني ليقبلها: جئت ومعي ويل فارنبي.
ومدت شانتا يدها الطليقة إلى الرجل الغريب.
وقالت: أرجو ألا يكون لدى السيد فارنبي اعتراض على الطبيعة في حالتها البدائية. وأبعد الطفل فمه عن ثدي أمه ذي الحلمة السمراء وتجشأ، وكأنه يريد أن يؤيد ما تقول أمه. وظهرت بين شفتيه فقاعة بيضاء من اللبن، وانتفخت ثم انفجرت، وتجشأ مرة أخرى، ثم عاود الرضاعة، وقالت أمه: إن آداب المائدة عند راما حتى وهو في الشهر الثامن من عمره بدائية جدا.
قال ويل في أدب جم: إنه نموذج طيب. ولم يكن من المهتمين بالأطفال، وكان دائما يحمد الله كلما أسقطت مولي حملها، مع أن مولي كانت تشعر بخيبة الأمل في إشباع رغبتها في أن يكون لها ولد.
ثم قال: إلى أي منكما سيكون شبيها؛ أنت أم فيجايا؟
وضحكت شانتا، وشارك فيجايا في الضحك بنغمة مختلفة.
أجابت: إنه بالتأكيد لن يشبه فيجايا. - ولم لا؟
قال فيجايا: لسبب مقنع، وهو أنني لست مسئولا وراثيا. - بعبارة أخرى أن الطفل ليس لفيجايا.
ونظر ويل إلى الوجهين الضاحكين، ثم هز كتفيه وقال: لقد يئست.
وأوضحت له شانتا الأمر قائلة: منذ أربع سنوات أنجبنا توءمين هما صورتان حيتان لفيجايا، وفكرنا أنه من الأمتع لنا هذه المرة أن نحدث تغييرا كاملا، فقررنا أن نعزز الأسرة بنوع يختلف كل الاختلاف في تكوينه البدني وفي مزاجه. هل سمعت بجوبندسنج؟ - أراني فيجايا تصويره في غرفة التأمل. - هذا هو الرجل الذي اخترناه أبا لراما. - ولكني فهمت أنه قد مات.
وافقته شانتا على ذلك وقالت: ولكن روحه باقية . - ماذا تعنين؟ - «ج» و«ت ص». - «ج» و«ت ص»؟ - نعم التجميد والتلقيح الصناعي. - فهمت.
قال فيجايا: في الواقع إننا طورنا التلقيح الصناعي وسبقناكم في ذلك بعشرين عاما. ولكنا لم نفد منه كثيرا بطبيعة الحال حتى توافرت لدينا القوى الكهربائية والثلاجات التي يعتمد عليها، ولم نحصل على ذلك إلا في أواخر الثلاثينيات، ومنذ ذلك الحين ونحن نستخدم التلقيح الصناعي على نطاق واسع.
وقاطعته شانتا قائلة: ولذلك فإن رضيعي قد يصبح مصورا في المستقبل؛ أي إذا ورث هذه الموهبة. وحتى إذا لم يكن التصوير من المواهب التي تورث فسوف يختلف في جوهره ومظهره عن أخويه وعن والديه؛ مما يكون ممتعا ومجالا للدراسة لكل من يهمه الأمر.
سأل ويل: وهل يمارس الكثيرون هذا الصنيع؟ - إن عددهم يتزايد، وأستطيع أن أؤكد أن جميع الأزواج والذين يقررون أن يكون لهم طفل ثالث يمارسون التلقيح الصناعي، وكذلك يمارسه عدد كبير ممن لا يرغبون في أكثر من طفلين. خذ أسرتي مثالا: كان من بيت أفراد أسرة أبي من يعانون من مرض السكر؛ لذلك آثر والداي - أبي وأمي - أن ينجبا طفليهما بالتلقيح الصناعي. أخي ينحدر من ثلاثة أجيال من الراقصين، وأنا - وراثيا - ابنة ابن عم الدكتور روبرت، مالكولم شاكرا فارتي ماك فيل الذي كان يعمل سكرتيرا خاصا للراجا العجوز.
وأضاف فيجايا: وهو مؤلف أحسن كتاب في تاريخ بالا. كان شاكرا فارتي ماك فيل من أقدر رجال جيله.
ونظر ويل إلى شانتا ثم إلى فيجايا.
وسأل: وهل تم توريث هذه القدرة؟
أجاب فيجايا: إلى درجة أني أجد صعوبة كبرى في الاحتفاظ بمركزي من حيث تفوق الذكورة. شانتا أحد مني ذكاء، ولكنها لا تستطيع - لحسن الحظ - أن تبلغ شأوي في القوة العضلية.
وقالت شانتا بعده متهكمة: القوة العضلية. إنني أذكر قصة عن امرأة شابة اسمها دليلة.
واستمر فيجايا في كلامه قائلا: وبهذه المناسبة، شانتا لها اثنان وثلاثون أخا من أحد الوالدين وتسع وعشرون أختا من أحد الوالدين. وأكثر من ثلث هؤلاء من ذوي الذكاء النادر. - إذن أنتم تحسنون العنصر ؟ - بكل تأكيد. وبعد قرن آخر يبلغ معدل الذكاء عندنا مائة وخمسين. - مع أن معدل الذكاء عندنا، بمعدل التقدم الحالي، يهبط إلى خمسة وثمانين. ومع تحسن العلاج الطبي تبقى العيوب الوراثية ويتوارثها الناس؛ مما يجعل الحكم أيسر كثيرا للدكتاتوريين في المستقبل.
وأضحكته هذه الفكاهة العالمية، وصمت برهة ثم سأل: وماذا عن التلقيح الصناعي من الناحيتين الخلقية والدينية؟
قال فيجايا: في الأيام الخالية كان هناك عدد كبير من المعارضين من أصحاب الضمائر الحية، أما اليوم وبعدما تبينت مزايا التلقيح الصناعي بجلاء فإن أكثر الأزواج يرون أنه من الأفضل خلقيا أن يغامروا بالحصول على طفل من صنف متفوق بدلا من أن يخاطروا - كالعبيد - بأن يثبتوا بالتناسل ما قد يكون هناك من انحراف أو عيوب في أسرة الزوج. ورجال الدين مشغولون، يبررون التلقيح الصناعي بتناسخ الأرواح ونظرية كارما.
1
والآباء الأتقياء يشعرون بالسعادة لأنهم يعطون أطفال زوجاتهم فرصة لإيجاد مصير أفضل لأنفسهم ولذريتهم. - هل قلت مصيرا أفضل؟ - نعم لأنهم يحملون جراثيم وراثية لسلالة أفضل. والسلالة أفضل لأنها مظهر من مظاهر «الكارما» الأفضل، ولدينا بنك مركزي للسلالات الممتازة لكل أنواع التكوين البدني والأمزجة. في بيئتكم الوراثة عند أكثر الناس لا تجد فرصة طيبة، أما في بيئتنا فهي تجد فرصة حسنة. وبهذه المناسبة أقول لك إن لدينا سجلات للأنساب والأجناس البشرية ترجع إلى السبعينيات من القرن التاسع عشر؛ ومن ثم ترى أننا لا نعمل في الظلام. ونحن - مثلا - نعلم أن جدة جوبندسنج من ناحية أمه كانت وسيطا موهوبا وعاشت حتى بلغت السادسة بعد التسعين.
قالت شانتا: ولذلك فنحن قد يكون لدينا في الأسرة عرافة في المائة من عمره. وتجشأ الطفل مرة أخرى، وضحكت، ثم قالت: هذا ما خبرتنا به الكاهنة بعبارة مبهمة كالعادة. والتفتت إلى فيجايا وقالت له: إذا أردت أن تتناول غداءك في الميعاد تستطيع أن تعده بنفسك، فإن راما سوف يشغلني لفترة عشر دقائق أخرى على الأقل.
ونهض فيجايا، ووضع إحدى راحتيه على كتف زوجته ومسح براحته الأخرى برفق شديد ظهر الطفل الأسمر.
وانحنت شانتا ولمسحت بخدها قمة رأس الطفل الذي نما فوقه شعر خفيف، وهمست له قائلة: هذا أبوك، أبوك الطيب، الطيب ...
وربت فيجايا مرة أخرى بلمسة خفيفة ثم انتصب قائما، ووجه خطابه إلى ويل قائلا له: كنت تتعجب كيف نعيش عيشة طيبة مع الحيوانات المحلية، سوف أريك. ورفع يده، ونادى: بولي، بولي! وقفز الطائر الكبير من فوق كتفه ووقف فوق سبابته الممتدة. وأخذ يغني: بولي طائر طيب جدا. وأرخى يده حتى لامس جسم الطائر جسد الطفل ثم حرك الطائر ببطء شديد. وقد مس ريشه البشرة السمراء، وكرر الحركة إلى الأمام وإلى الخلف، وهو يكرر قوله: بولي طائر طيب جدا.
وأخذ الببغاء يضحك ضحكات خفيفة، ثم انحنى من مكانه فوق إصبع فيجايا إلى الأمام وأخذ يداعب برفق شديد أذن الطفل الصغرى.
وقالت شانتا مرددة في همس شديد عبارة فيجايا: إنه طيب جدا، طيب.
قال فيجايا: لقد لقط الدكتور أندرو هذه الفكرة حينما كان يشتغل عالما طبيعيا في «ميلامبوس». من إحدى قبائل غينيا الجديدة. إنهم من العصر الحجري، ولكنهم - مثلكم أنتم المسيحيين ومثلنا نحو البوذيين - يعتقدون في المحبة. وخلافا لكم ولنا اخترعوا طرقا عملية جدا يجعلون بها عقيدتهم واقعا. وكانت هذه الأساليب أحد كشوفهم السعيدة. ربت على الطفل وأنت تطعمه تضاعف سروره، ثم قدمه وهو يرضع ويتلقى لمسات الحنان إلى الحيوان أو الشخص الذي تريده أن يحبه. لامس بجسده جسده، وأوجد بين الطفل ومن تريده أن يحب تلامسا بدنيا دافئا. وفي نفس الوقت كرر لفظة ما مثل قولك: «طيب». إنه في أول الأمر لن يدرك سوى النغمة والصوت، ولكنه سوف يستوعب المعنى كاملا فيما بعد عندما يتعلم الكلام؛ ذلك أن الطعام مضافا إليه لمسات الحنان مضافا إليه التلامس وكلمة «طيب» يساوي الحب، والحب يساوي السرور، والحب يساوي الرضا. - هذا بافلوف بعينه. - ولكنه بافلوف للأغراض الطيبة فقط. بافلوف من أجل المودة والثقة والرأفة. في حين أنكم تستخدمون بافلوف في غسل المخ، ولبيع السجائر والفودكا، وتستخدمونه لبث روح الوطنية. تستخدمونه لمصلحة الحكام المستبدين، وقادة الجيوش، وكبار رجال المال.
أبى الكلب الأصفر أن يبقى وحده في الجو البارد فانضم إلى الجماعة وأخذ يلعق كل ما يتحسسه بغير تمييز؛ ذراع شانتا، فيجايا، قدمي الببغاء، ظهر الطفل. وجذبت شانتا الكلب إليها ومسحت بفروة جنبه بشرة الطفل.
وقالت: هذا كلب طيب، طيب. الكلب توبي طيب، طيب جدا، الكلب توبي.
وضحك ويل قائلا: ألا ينبغي لي أن أدخل في هذه العملية؟
أجابت شانتا: هممت أن أقترح عليك ذلك. غير أني خشيت أن يكون ذلك مما لا يتفق وكرامتك.
قال فيجايا: تستطيع أن تحتل مكاني، فأنا لا بد أن أنصرف لكي أعد الغداء.
وخرج من الباب الذي يؤدي إلى المطبخ وهو لا يزال يحمل الببغاء. وجذب ويل كرسيه، وانحنى إلى الأمام وبدأ يربت على جسد الطفل الصغير.
وهمست شانتا قائلة: هذا رجل آخر، إنه رجل طيب يا ولدي، رجل طيب.
وببسمة خفيفة مكتئبة قال: يا ليت هذا كان صحيحا! - إنه الآن، وفي هذا المكان صحيح. وانحنت مرة أخرى نحو الطفل وكررت قولها: إنه رجل طيب، رجل طيب، طيب.
وحدق في وجهها المنشرح الباسم في صمت، ولمس بأطراف أصابعه جسم الطفل الصغير وأحس نعومته ودفئه، طيب، طيب، طيب ... كان من الممكن أن يعرف كذلك هذه الطيبة؛ لو اختلفت حياته كل الاختلاف عما كانت عليه في الواقع، ذلك الواقع المقزز الخالي من المعنى؛ لذلك لا تصدق كل ما يقال لك حتى لو كان ما يقال لك صادقا كما هي الحال في هذه اللحظة، ونظر مرة أخرى بعين قصد أن يلتقط بها قيمة أخرى فشهد كاريكاتورا لإحدى صور ميملنج
2
الدينية. العذراء والطفل، الكلب، بافلوف، والصداقة الطارئة. وفجأة كاد أن يفهم في دخيلة نفسه لماذا كره مستر باهو هؤلاء القوم كرها شديدا، لماذا صمم - كالعادة وبغير حاجة إلى ذكر ذلك - باسم الله على تحطيمهم.
وما زالت شانتا تتمتم لطفلها: طيب، طيب، طيب.
إنهم أطيب مما يجب؛ تلك كانت جريمتهم. ولم تكن الطيبة أمرا مسموحا به، ومع ذلك ما أثمنها! وكم تمنى من كل قلبه لو أنه كان مشاركا فيها، وقال لنفسه: عاطفية مطلقة! ثم قال بصوت مرتفع: طيب، طيب ، طيب. وكررها متهكما.
وسأل: ولكن ماذا يحدث عندما يشب الطفل عن الطوق ويتكشف له أن أمورا عديدة وأشخاصا كثيرين سيئون، سيئون، سيئون للغاية؟
أجابت: المودة تبعث المودة. - نعم من الودود، ولكن ليس من الجشعين، أو من المغرمين بالسلطة، أو ممن خابت آمالهم أو كانت في نفوسهم مرارة؛ فالمودة عند هؤلاء ضعف، ودعوة إلى الاستغلال، والتهديد، والانتقام بغير عقوبة. - ولكن على المرء أن يخاطر، وأن يبدأ. وليس هناك - لحسن الحظ - مخلد؛ فإن الناس الذين تكيفوا على الخداع والتهديد والمرارة سيكونون جميعا من الأموات بعد بضع سنين. سوف يموتون ويحل محلهم رجال ونساء نشئوا على الطريقة الجديدة؛ ذلك ما حدث لنا، وما يمكن أن يحدث لكم. - نعم يمكن. ولكن مع القنبلة الهيدروجينية والوطنية وزيادة السكان بنسبة خمسين مليونا كل عام، يكاد ذلك أن يستحيل. - لا تستطيع الحكم حتى تجرب. - ولن نجرب ما دامت الدنيا على حالتها الراهنة، وسوف تبقى على هذه الحالة بطبيعة الحال حتى نحاول فعلا. نحاول وننجح على الأقل مثلما نجحتم، ويعود بي هذا الحديث إلى سؤالي الأول، ماذا يحدث لو أن هذا الذي نشأ على الطيب الطيب الطيب تبين له أن هناك حتى في بالا كثيرا من السيئ السيئ السيئ؟ ألا يصاب مثل هذا الطفل بصدمة غير مستحبة؟ - نحن نحاول أن نطعمهم ضد هذه الصدمات. - كيف؟ هل تصنعون ما لا يسرهم وهم لا يزالون صغارا؟ - لا تقل ما لا يسرهم، بل قل ما هو واقعي؛ نعلمهم الحب والثقة، ولكنا نعرضهم للواقع، الواقع بكل أوجهه، ثم نحملهم مسئوليات. نحن نحملهم على أن يدركوا أن بالا ليست جنة عدن أو أرض كوكين.
3
نعم هي مكان جميل، ولكنه لا يكون جميلا إلا إذا قام كل من فيه بالعمل الطيب وسلك سلوكا طيبا؛ لأن حقائق الحياة هي حقائق الحياة، حتى هنا. - وما هي حقائق الحياة التي ترينها في تلك الأفاعي المروعة التي لقيتها وأنا في منتصف طريقي فوق هذا المرتفع؟ تستطيعين أن تقولي لها: أنت طيبة، طيبة، طيبة، وتكرريها ما شئت، ولكن الأفاعي سوف تعض على الرغم من ذلك. - تريد أن تقول إنها تستطيع أن تعض. ولكن هل هي سوف تستخدم هذه القدرة في واقع الأمر؟ - ولم لا؟
قالت شانتا: انظر هناك، فأدار رأسه ورأى أن ما كانت تشير إليه فجوة في الحائط من خلفه. وفي داخل الفجوة تمثال من الصخر لبوذا، في نصف الحجم الطبيعي، جالسا فوق قاعدة أسطوانية عليها نقوش عجيبة تعلوه ظلة تشبه لوحا من الرصاص تتهدل خلفه لترتكز فوق عمود عريض. وواصلت حديثها قائلة: هذه صورة مصغرة لبوذا في مجمع المحطة؛ ذلك التمثال الضخم القائم إلى جوار بحيرة اللوتس.
قال: هذه قطعة رائعة من فن النحت. والابتسامة على شفتيه تعطي المرء فكرة عن الرؤية البهيجة كيف تكون. ولكن ما علاقة هذا التمثال بالأفاعي؟ - أعد النظر.
وأعاد النظر، وقال: لا أرى شيئا له دلالة خاصة. - أمعن النظر.
ومرت ثوان، لاحظ بعدها - وقد صدمته الدهشة - شيئا عجيبا بل ومدعاة للقلق. فما كان يظنه قاعدة أسطوانية مزخرفة زخرفة عجيبة تبين له فجأة أنه أفعى ضخمة ملتفة حول نفسها. وتلك الظلة المتدلية التي كان بوذا يجلس تحتها لم تكن سوى قلنسوة مفلطحة لثعبان ضخم، رأسه المسطح وسط طرفها الأمامي.
مذاهب الخصوبة؟ إنها لم تقم أي فواصل، فهل كانت من يكون أحيانا عديم الملاحظة بدرجة عجيبة. - هل هذه هي المرة الأولى التي تشاهد فيها بوذا على هذه الصورة؟ - أول مرة. هل هناك أسطورة حولها؟
أومأت برأسها إيجابا وقالت: وهي من الأساطير المحببة إلى نفسي، سمعت طبعا عن شجرة بوذا؟ - نعم، أعرفها. - لم تكن هذه الشجرة الوحيدة التي جلس تحتها جوتاما
4
وقت استنارته؛ فلقد جلس بعد شجرة بوذا لسبعة أيام تحت شجرة من أشجار جزر الهند الشرقية اسمها شجرة جوتهيرد، انتقل بعدها إلى شجرة موشاليندا. - من هو موشاليندا؟ - موشاليندا هو ملك الأفاعي. ولما كان من الآلهة فلقد كان يعرف ما يحدث؛ ولذلك فعندما كان بوذا يجلس تحت شجرته. كان ملك الأفاعي هذا يزحف من جحره، ممتدا لعدة أمتار، يقدم ولاء الطبيعة للحكمة، وعندئذ تهب عاصفة شديدة من الغرب، فيلتف الثعبان المقدس حول جسم الإنسان الذي يفوقه قداسة، وينشر ظلته فوق رأسه، ويحمي تاثاجاتا
5
من الريح والمطر خلال الأيام السبعة التي يستغرقها تأمله؛ ومن ثم فأنت تراه جالسا هناك حتى يومنا هذا، تحته ثعبان، وفوقه ثعبان، وهو على وعي بالثعبان والضوء الشفاف في آن واحد، يدرك ما بينهما من تطابق في النهاية.
قال ويل: ما أشد الخلاف بين هذا وبين نظرتنا إلى الأفاعي! - ونظرتكم إلى الأفاعي هذه نظرة الإله إليها؛ هل تذكر ما جاء في سفر التكوين؟
وذكر النص وهو: سأغرس العداوة بينك وبين المرأة، وبين ذريتها وذريتك. - ولكن «الحكمة» لا تغرس العداوة مطلقا. ذلك الصراع الذي لا معنى له ولا هدف منه بين الإنسان والطبيعة، وبين الطبيعة والإله، وبين الجسد والروح! «الحكمة» لا تقيم هذه الفواصل التي لا تستند إلى العقل. - وكذلك العلم. - الحكمة تأخذ العلم في ركابها وتخطو به إلى أبعد من حدوده.
وواصل ويل حديثه قائلا: وماذا عن الطوطم؟ وعن مذاهب الخصوبة؟ إنها لم تقم أي فواصل، فهل كانت من «الحكمة»؟ - بالتأكيد؛ الحكمة البدائية، الحكمة على مستوى العصر الحجري. ولكن بعد فترة ما يبدأ الناس إحساسهم بأنفسهم وتبدو لهم آلهة الظلام القديمة شيئا زريا، ويتغير المنظر، وتظهر على خشبة المسرح آلهة النور، والأنبياء، وفيثاغورس، وزرادشت، واليانيون،
6
والبوذيون الأوائل. وهؤلاء فيما بينهم يبشرون بعصر الصراع الكوني؛ أرموزد ضد أهريمان، ويهوه ضد الشيطان والأبعال «الآلهة المحلية»، ونيرفانا إزاء سمسارا، والظاهر إزاء مثل أفلاطون. وباستثناء ما يدور في عقول قلة من أتباع تانترا وماهايانا وتاو ومن الزنادقة المسيحيين، استمر الصراع قرابة ألفي عام.
وتساءل: وبعد ذلك؟ - بعد ذلك كانت تباشير البيولوجيا الحديثة.
ضحك ويل وقال: قال الله: «ليكن داريون.» فكان نيتشه والإمبريالية وأدولف هتلر.
قالت: نعم حدث هذا. ولكن كان هناك أيضا إمكان وجود نوع جديد من الحكمة لكل إنسان. أخذ داروين الطوطمة القديمة ورفعها إلى مستوى علم الأحياء، وعادت مذاهب الخصوبة القديمة في صورة علم السلالات وهافلوك أليس. وعلينا الآن أن نخطو خطوة أخرى إلى الأمام. كانت الداروينية عبارة عن مفاهيم علمية ترتكز على حكمة العصر الحجري. والحكمة الجديدة التي يعيها الإنسان - أعني نوع الحكمة التي تنبأ بها بصورة خاطفة زن وتاو وتانترا - نظرية بيولوجية متحققة في ممارسة حية، هي الداروينية مرتفعة إلى مستوى الرأفة والبصيرة الروحانية، وختمت حديثها قائلة: ومن ثم ترى أنه ليس هناك سبب فوق الأرض - وبالتالي ليس هناك سبب في السماء - يمنع بوذا أو غيره في هذا المجال من أن يرى الضوء الشفاف متمثلا في الثعبان. - على الرغم من أن الثعبان قد يقتله؟ - نعم على الرغم من ذلك. - وعلى الرغم من أنه أقدم رموز الجنس وأكثرها شيوعا؟
ضحكت شانتا وقالت: تأملا تحت شجرة موشاليندا؛ هذه هي النصيحة التي نسديها لكل عاشقين، وأثناء تأملات الحب هذه اذكرا ما تعلمتما في الصغر؛ الأفاعي إخوتكم، للأفاعي حق الرأفة والاحترام منكم، الأفاعي بإيجاز طيبة، طيبة، طيبة. - والأفاعي كذلك سامة، سامة، سامة. - ولكنك إن تذكرت أنها طيبة كما هي سامة، وتصرفت على هذا الأساس، فهي لن تستخدم سمومها. - من قال هذا؟ - هي حقيقة ملحوظة، أولئك الذين لا تفزعهم الأفاعي، وأولئك الذين يقتربون منها وليس في عقولهم عقيدة ثابتة بأن الأفعى لا تكون طيبة إلا بعد موتها، أولئك قلما تعضهم الأفاعي. وفي الأسبوع القادم سوف أستعير حية جارنا التي يتلهى بها، وسوف أعطي راما غداءه وعشاءه لبضعة أيام في ثنايا لفائف هذه الحية.
وأتى من خارج المنزل صوت ضحكات عالية، ثم صخب من أصوات الأطفال يقاطع أحدهم الآخر بالإنجليزية وبلغة أهل بالا. وبعد لحظة دخلت الغرفة ماري ساروجيني فارعة القوام عليها سيما الأمومة إذا وازنتها بمن معها، يحيط بها توءمان متشابهان يبلغ عمر كل منهما أربعة أعوام، ويسير خلفها طفل قوي جميل الصورة، هو الطفل الذي كان يرافقها عندما فتح ويل عينيه على بالا لأول مرة.
ارتمى التوءمان فوق أمهما وقالت ماري ساروجيني عندئذ: التقطنا تارا وأرجونا من روضة الأطفال.
حملت شانتا الرضيع فوق إحدى ذراعيها، وطوقت بالأخرى الصبيين الصغيرين، وتبسمت شاكرة وقالت: هذا فضل منك.
وقال توم كريشنا: مرحبا بكم. وتقدم خطوة إلى الأمام، وبعد لحظة من التردد قال: كنت أفكر ... ثم كف عن الكلام، ونظر إلى أخته كأنه يوجه إليها سؤالا، وهزت ماري ساروجيني رأسها.
وسألته شانتا: فيم كنت تفكر؟ - في الواقع كان كلانا يفكر ... هل يمكن أن نتناول الطعام معك؟
وتطلعت شانتا إلى توم كريشنا وماري ساروجيني على التناوب وقالت: الأفضل أن تذهب إلى فيجايا وتسأله إن كان هناك ما يكفي إطعامكما، فهو الذي يقوم بالطهو اليوم.
وقال توم كريشنا في فتور: سوف أذهب، وبخطى متثاقلة عبر الغرفة وخرج من بابها إلى المطبخ، ونظرت شانتا إلى ماري ساروجيني تسألها: ماذا حدث؟ - لقد حذرته أمه على الأقل خمسين مرة أنها لا تحب أن يحضر معه السحالي إلى البيت، ولكنه أتى بها هذا الصباح؛ ولذلك غضبت عليه. - فقررتما أن تتناولا الطعام هنا؟ - إذا لم يوافقك هذا يا شانتا حاولنا راوس أو راجاجينا داساس.
وأكدت لها شانتا أن هذا يوافقها كل الموافقة وقالت: إنما طاف بخاطري أنه من الخير لتوم كريشنا أن يتبادل الحديث مع فيجايا.
قالت ماري ساروجيني جادة: أصبت تماما. وبصوت جاد نادت تارا وأرجونا لكي يصحباها إلى الحمام، وقالت لشانتا وهي تسير أمامهما: سوف نغتسل. إنهما في غاية القذارة.
وانتظر ويل حتى ابتعدوا بحيث لا يستطيعون السمع، والتفت إلى شانتا وقال: أعتقد أنني شاهدت الآن على الطبيعة ناديا من نوادي التبني المتبادل.
قالت شانتا: نعم، ولكنك - لحسن الحظ - شهدته بصورة مخففة؛ لأن توم كريشنا وماري ساروجيني يتفقان مع أمهما اتفاقا يلفت النظر. وليس في هذه الحالة مشكلة شخصية؛ فقط مشكلة المصير، المشكلة الضخمة المخيفة، مشكلة موت ديوجولد.
سأل: وهل سوف تتزوج سوزيلا مرة أخرى؟ - أرجو ذلك، فهو في مصلحة الجميع. من صالح الأطفال أن ينفقوا بعض الوقت مع نائب من نواب أبيهم. في مصلحة توم بصفة خاصة؛ فقد بلغ السن التي يكتشف فيها الصبي ذكورته. إنه لا يزال يصيح كالرضيع، ولكن بعد لحظة تراه يتباهى ويتفاخر ويحضر السحالي معه إلى البيت ليثبت أنه رجل مائتين في المائة. من أجل هذا بعثت به إلى فيجايا؛ لأن فيجايا فيه كل الصفات التي يحب توم كريشنا أن يكون عليها، يبلغ من الطول ثلاث ياردات، ومن العرض ياردتين، قوي للغاية، قادر قدرة عظيمة. فإذا ما أرشد توم كريشنا إلى السلوك الصحيح أصغى إليه، ولو أسديت له أنا أو أمه نفس النصيحة ما أصغى إلينا. مع أن فيجايا لا ينصحه إلا بما ننصحه به؛ لأن توم - فوق أنه ذكر مائتين في المائة - حساس للأنوثة خمسين في المائة؛ ولهذا فهو في الواقع قد بدأ حياته الجدية. ثم ختمت حديثها وهي تتطلع إلى الرضيع النائم فوق ذراعها وقالت: والآن لا بد أن أضع هذا الرجل الصغير في فراشه وأستعد للغداء.
الفصل الثالث عشر
بعدما انتهى التوءمان من الاستحمام وتسريح الشعر جلسا فوق مقعديهما المرتفعين. وحومت ماري ساروجيني حولهما أما فخورة بهما قلقة عليهما، وعند الفرن كان فيجايا يغرف الأرز والخضروات من إناء من الفخار، وبحذر شديد وتعبير على وجهه ينم عن تركيز الفكر حمل توم كريشنا الأطباق بعد ملئها إلى مائدة الطعام.
قال فيجايا بعدما انتهى من ملء الطبق الأخير: انتهينا. ومسح يديه وسار نحو المائدة واتخذ له مقعدا، ثم وجه خطابه إلى شانتا قائلا لها: يحسن أن تخبري ضيوفنا بطريقة صلاتنا قبل البدء في الطعام.
فالتفتت إلى ويل وقالت: في بالا نحن لا نصلي صلاة المائدة قبل تناول الطعام، إنما نصليها ونحن نتناوله. ولعل الأصح أن أقول إننا لا نقول الدعاء وإنما نمضغه. - تمضغونه؟
قالت: صلاة المائدة هي اللقمة الأولى من كل طبق من أطباق الطعام؛ نمضغها ونمضغها حتى لا يبقى شيء منها. وفي أثناء المضغ نوجه انتباهنا إلى نكهة الطعام ودرجة نضجه وحرارته، كما نوجه الانتباه إلى الضغط الواقع على الأسنان وإحساس عضلات الفكين. - وأظنكم أثناء ذلك تشكرون الواحد المستنير، أو شيفا، أو أيا كان ما تقدسونه.
وهزت شانتا رأسها مؤكدة قولها: إن ذلك يشتت الانتباه، وتركيز الانتباه هو المقصود، الانتباه إلى ممارسة شيء أعطيته، شيء لم تخترعه. وليس تذكر صيغة من الكلمات موجهة إلى شخص ما في خيالك، وأدارت عينيها حول المائدة، وقالت: هل نبدأ الآن؟
صاح التوءمان بصوت واحد: هيا. والتقط كل منهما ملعقته.
ولبرهة طويلة ساد الصمت الذي لم يسمع فيه سوى طقطقة التوءمين بشفاههما لأنهما لم يتعلما بعد أن يأكلا إلا بهذه الطريقة.
وأخيرا سأل أحد الصغار: هل نبلع الآن؟
وأومأت شانتا برأسها موافقة، وقام الجميع بابتلاع الطعام، وحدثت بعد ذلك قرقعة بالملاعق وتفجر الكلام من الأفواه الممتلئة.
وسألت شانتا: كيف أحسست بالنعمة؟
قال ويل: أحسست مذاق أشياء مختلفة تتتابع، أو لعله من الأصح أن أقول إنها صور مختلفة متتابعة من الموضوع الرئيسي الذي يتألف من الأرز والكركم والفلفل الأحمر (الشطة) وشيء مورق لم أتبينه وغير ذلك. ومن الممتع حقا أن المذاق لم يثبت على شكل واحد، إنني في الواقع لم ألاحظ ذلك من قبل. - وبينما كنت تتنبه إلى هذه الأشياء كنت لوقت ما تتخلص من أحلامك في اليقظة، ومن ذكرياتك، ومن طموحاتك، ومن الآراء السخيفة؛ من كل أعراض «ذاتك». - تقصدين لا أتذوق «نفسي»؟
ونظرت شانتا إلى الطرف الآخر من المائدة حيث كان زوجها، وسألته: ما رأيك يا فيجايا؟
قال: الأمر وسط بين من أنا ومن لست أنا. التذوق هو اللاأنا يقوم بشيء لكل كياني العضوي. والتذوق في الوقت نفسه هو أنا في حالة وعي بما يحدث. وهذا هو مغزى صلاة المائدة بالمضغ؛ أن أجعل الأنا أكثر وعيا بما يقوم به اللاأنا.
وعلق على ذلك ويل بقوله: جميل. ولكن ما مغزى هذا المغزى؟
وتصدت شانتا للجواب وقالت: مغزى المغزى هو أنك حينما تتعلم أن توجه مزيدا من الانتباه إلى كثير مما هو ليس أنت في هذا المحيط (أعني الطعام) وإلى كثير مما هو ليس أنت في كيانك (أعني إحساسك بالتذوق) ربما وجدت نفسك فجأة متنبها إلى ما ليس أنت في الجانب الآخر من الوعي، ثم قالت: وربما كان من الأفضل أن نعبر عن ذلك بطريقة مخالفة فنقول إن ما ليس أنت على الجانب الآخر من الوعي يجد أنه من الأيسر له أن يجعل نفسه معروفا لك أنت الذي تعلمت أن تكون أكثر وعيا بما لست أنت في جانب الفسيولوجيا (وظائف الأعضاء). وحدث صوت تصادم أعقبه صراخ من أحد التوءمين فقطع ذلك عليها حديثها، وبعدما مسحت ما انسكب على الأرض، واصلت حديثها قائلة: وبعد ذلك على المرء أن يفكر في مشكلة الأنا واللاأنا من حيث علاقتهما بالناس الذين يبلغ طول الواحد منهم أقل من اثنين وأربعين بوصة. من يجد لذلك حلا مضمونا له جائزة قدرها ستة بلايين وأربعمائة ألف روبية. ومسحت عيني الطفل، وجعله ينظف أنفه، ثم قبلته وذهبت إلى الفرن لتأتي بطبق آخر من الأرز.
وبعدما انتهى الغداء سأل فيجايا: ما هي أعمالكم بعد ظهر اليوم؟
أجاب توم كريشنا جادا: علينا واجب خاص بالفزاعة.
1
قالت ساروجيني: في الحقل الذي يقع تحت المدرسة.
قال فيجايا: إذن سأحملكما إلى هناك في العربة. والتفت إلى ويل فارنبي وقال: هل تحب أن ترافقنا؟
أومأ ويل برأسه موافقا، ثم قال: ولو سمح لي، أود أن أزور المدرسة، وأنا قريب منها، وربما حضرت بعض الدروس في الفصول.
ولوحت لهم شانتا من الفراندة مودعة، وبعد بضع دقائق بلغوا عربة الجيب المركونة.
قال فيجايا وهو يدير محرك السيارة: المدرسة في الطرف الآخر من القرية، وعلينا أن نسلك الطريق الجانبي إلى أسفل ثم نصعد ثانية.
وانحدروا خلال الحقول التي تحيط بها المصاطب، حقول الأرز والذرة والبطاطا، ثم ساروا فوق أرض مستوية، وعلى يسارهم بركة أسماك صغيرة كثيرة الوحل، وعلى يمينهم بستان من أشجار ثمرة الخبز، وأخيرا بلغوا حقولا أخرى، بعضها أخضر، وبعضها الآخر ذهبي؛ وهناك ظهرت المدرسة، فسيحة بيضاء تظللها أشجار باسقة.
قالت ماري ساروجيني: هناك تقبع الفراغات.
ونظر ويل في الاتجاه الذي كانت تشير إليه، ولاحظ أن الأرز الأصفر الذي ينمو في أقرب الحقول المحاطة بالمصالب كاد أن يستحق الحصاد. وكان هناك صبيان صغيران يرتدي كل منهما إزارا قرنفلي اللون وفتاة صغيرة رداؤها الأسفل أزرق اللون، وثلاثتهم يتناوبون جذب الخيوط التي تحرك عرائس في الحجم الطبيعي متصلة بأعمدة على جانبي الحقل الضيق، والعرائس من الخشب منحوتة نحتا جميلا وليست مكسوة بالخرق وإنما بأردية فاخرة. وتطلع إليها ويل في دهشة.
وصاح: إن سليمان بكل ما كان له من أمجاد لم يكن في زي هذه العرائس.
واسترسل في خياله وذكر أن سليمان لم يكن إلا ملكا من الملوك. أما هذه الفزاعات الفاخرة فهي كائنات من مرتبة أعلى. إحداها بوذا المستقبل، والأخرى تمثل الآب عند أهل جزر الهند الشرقية مرحا مبتهجا، الآب كما يراه الرائي في كنيسة «سيستين»
2
وهو ينحني على آدم ذلك المخلوق الجديد. وعند كل جذبة للخيط حرك بوذا المستقبل رأسه وباعد بين ساقيه فلا يكونان في شكل اللوتس، ثم رقص رقصة إسبانية في الهواء، ثم ضم ساقيه مرة أخرى وجلس لحظة بلا حراك، حتى كانت جذبة أخرى للخيط تفيقه من تأملاته. وفي تلك الأثناء يلوح الأب بذراعه الممتدة، ويهز سبابته منذرا، ويفتح ويضم فمه الذي يحيط به الشعر كالحصان، ويدير عينين من الزجاج تشع منهما نار الوعيد يهدد بها أي طائر يجسر على الاقتراب من الأرز. وهبت أثناء ذلك ريح عاتية رفرفت من شدتها أرديته ذات اللون الأصفر الفاقع الموشحة بتطريز بارز - بني وأبيض وأسود - يمثل النمور والقردة. في حين أن ثياب بوذا المستقبل الفاخرة المصنوعة من حرير الرايون الأحمر والبرتقالي تنتفخ وتلتف حوله، وبها عشرات من الأجراس الصغيرة الفضية تشنشن بغير توقف.
سأل ويل: هل كل الفزاعات عندكم مثل هذه؟
أجاب فيجايا: تلك كانت فكرة راجا العجوز، أراد أن يجعل الأطفال تدرك أن كل الآلهة من صنع الإنسان، ونحن الذين نشد خيوطهم لنزودهم بالقوة التي يشدون بها خيوطنا.
وقال توم كريشنا: نجعلهم يرقصون، ونجعلهم يهتزون. وضحك مسرورا.
ومد فيجايا يدا غليظة ربت بها على رأس الطفل الأسمر ذي الشعر المجعد، وقال: أحيي فيك هذه الروح. ثم التفت ثانية إلى ويل وقال بأسلوب شبيه بأسلوب راجا العجوز بشكل واضح: إن الصفة الوحيدة الكبرى التي تميز «الآلهة» (بغض النظر عن تخويف الطيور والآثمين ومواساة البائسين أحيانا) تنحصر في هذا: إنها ترتفع فوق الأعمدة؛ ولذلك فإن الناظر إليها يتطلع إلى أعلى. وعندما يتطلع إنسان إلى أعلى؛ حتى إن كان إلى الإله، لا يمكنه أن يرى السماء. وما أدراك ما السماء؟ إنها هواء وضوء منتشر، ولكنها كذلك رمز للفضاء الذي لا يحد، الفضاء الحامل (واعذرني في هذه الاستعارة) الذي منه يخرج كل شيء، الحي وغير الحي، صانعو العرائس وعرائسهم المقدسة، يخرج إلى العالم الذي نعرفه؛ أو على الأصح العالم الذي نظن أننا نعرفه.
وكانت ماري ساروجيني تصيخ لهذا الحديث فهزت رأسها موافقة عليه، وتطوعت بقولها: كان أبي يقول إن النظر إلى الطيور في السماء أفضل. واعتاد أن يقول إن الطيور ليست ألفاظا، إنما هي حقائق، حقائق كالسماء ذاتها. وأوقف فيجايا العربة، وقال والأطفال يقفزون منها: أتمنى لكم وقتا ممتعا. اجعليهم يرقصون ويهتزون.
وهرع توم كريشنا وماري ساروجيني صائحين مهطعين لكي يلحقا بالمجموعة الصغيرة التي كانت في الحقل الواقع في أسفل الطريق.
وأدار فيجايا عربة الجيب إلى الطريق المؤدية إلى المدرسة وقال: لننتقل الآن إلى الأوجه التربوية الجادة. سوف أترك العربة هنا وأعود إلى المحطة سيرا على قدمي، وبعدما تنتهي من جولتك اطلب إلى غيري أن يسوق لك العربة حتى البيت، وأطفأ كهرباء العربة وسلم مفتاحها إلى ويل.
وفي مكتب المدرسة كانت السيدة نارايان مديرة المدرسة تتحدث من خلف الطاولة إلى رجل ذي شعر أبيض ووجه مستطيل حزين كوجه كلب من كلاب الشرطة تظهر عليه خطوط وتجاعيد.
وعند تقديم كل فرد إلى الآخر قال فيجايا: هذا مستر شاندرا مينون وكيل الوزارة عندنا.
قالت المديرة: وهو يقوم الآن بدورة تفتيشية لنا.
وأضاف إلى ذلك وكيل الوزارة وقد أحنى ظهره احتراما للسيدة نارايان وهو يواجهها: وأنا أوافق كل الموافقة على كل ما شهدت.
قال فيجايا معتذرا وهو يتجه نحو الباب: لا بد أن أعود إلى عملي.
وسأل مستر مينون: هل تهمك التربية بصفة خاصة؟
أجاب ويل: بل الأصح أن تقول إنني جاهل بها بصفة خاصة، نشئوني ولم يربوني؛ ولذلك أحب أن أرى التربية على حقيقتها.
وأكد له وكيل الوزارة أنه جاء إلى المكان الصحيح: «لأن روثامستد الجديدة من أحسن مدارسنا.»
سأل ويل: وبماذا تقيسون جودة المدرسة؟ - بالنجاح. - النجاح في أي شيء؟ الحصول على المنح الدراسية؟ أم الإعداد للوظيفة؟ أم إطاعة الأوامر على إطلاقها بغير شرط؟
قال المستر مينون: كل ذلك. ويبقى السؤال الأساسي، لماذا يكون لنا بنون وبنات؟
هز ويل كتفيه وقال: الإجابة تتوقف على الموطن؛ مثلا لماذا يكون هناك بنون وبنات في أمريكا؟ الإجابة: للاستهلاك على نطاق كبير، ويترتب على الاستهلاك على نطاق كبير الاتصال الجماهيري، والإعلان الجماهيري، والمخدرات الجماهيرية متمثلة في التلفزيون، والتفكير الوضعي، والسجائر، والآن بعدما دخلت أوروبا في تجربة الإنتاج على نطاق واسع، لماذا يكون لهم بنون وبنات؟ للاستهلاك الجماهيري، وما يترتب عليه؛ شأنهم في ذلك شأن البنين والبنات في أمريكا. في حين أن في روسيا إجابة أخرى. البنون والبنات لتقوية الدولة الوطنية؛ ومن ثم كان هناك كل هؤلاء المهندسين ومعلمي العلوم، وخمسون فرقة عسكرية مستعدة للضرب المباغت ومجهزة بكل شيء من الدبابات إلى القنابل الهيدروجينية والصواريخ بعيدة المدى. والأمر كذلك في الصين، مع المبالغة فيه، لماذا يكون لديهم بنون وبنات؟ ليكونوا وقودا للمدافع، وقودا للصناعة، وقودا للزراعة، وقودا لبناء الطرق؛ ولذلك فالشرق شرق والغرب غرب؛ في الوقت الراهن. ولكن الشرق والغرب قد يلتقيان بإحدى طريقتين. الغرب قد يخشى الشرق إلى الحد الذي يجعله يتخلى عن فكرته من أن البنين والبنات للاستهلاك على نطاق واسع، ويقرر - بدلا من ذلك - أنهم وقود للمدافع وأنهم لتعزيز قوى الدولة، ومن الناحية الأخرى فإن الشرق قد يجد نفسه تحت ضغط الجماهير التواقة للأجهزة والتي تتحرق شوقا لكي تحيا حياة أهل الغرب، إلى الحد الذي يجعل الشرق يغير وجهة نظره ويقول إن البنين والبنات هم في الواقع للاستهلاك على نطاق كبير. ذلك ما سوف يقرره المستقبل. أما الآن فالإجابات الحالية عن سؤالك متعددة تستبعد كل إجابة منها الأخرى .
قال مستر مينون: والإجابة في الشرق والغرب على السواء تختلف عن الإجابة عندنا. لماذا يكون لأهل بالا بنون وبنات؟ إنهم ليسوا للاستهلاك الكبير ولا لتعزيز الدولة. نعم إن الدولة لا بد أن توجد، ولا بد أن يتوافر لكل امرئ ما يكفيه. هذا أمر لا يحتاج إلى نقاش، وبهذين الشرطين يستطيع البنون والبنات أن يتبينوا ما يراد بهم في الواقع؛ بهذين الشرطين فقط نستطيع أن نبرم أمرا. - ولماذا يكون عندكم - في واقع الأمر - بنون وبنات؟ - لكي يحققوا ذواتهم، لكي يصبحوا كائنات بشرية ناضجة.
وأوما ويل برأسه إيجابا وعلق على ذلك بقوله: هذا ما جاء في «مذكرات عن حقائق الأشياء». جاء في هذه المذكرات: كن من أنت في الواقع.
قال مستر مينون: كان الراجا العجوز مهتما أساسا بالناس كما هم في الواقع على المستوى الذي يجاوز الفردية. وبطبيعة الحال نحن من هذه الناحية لا نقل عنه اهتماما. ولكن همنا الأول هو التعليم الأولي. والتعليم الأولي يعالج الأفراد على اختلاف أشكالهم وأحجامهم وأمزجتهم ومواهبهم ونقائصهم. أما الأفراد في وحدتهم التي تجاوز وجودهم المادي فهم من شأن التعاليم العالي. ويبدأ ذلك في سن المراهقة وهو يسير جنبا إلى جنب مع التعليم الأولي في مرحلته المتقدمة.
قال ويل: فهمت أنه يبدأ مع تجربة عقار الموكشا لأول مرة. - وهل سمعت عن عقار الموكشا؟ - شهدته وهو يفعل فعله.
وأوضحت ذلك المديرة بقولها: لقد أخذه الدكتور روبرت بالأمس ليشهد حفلا من حفلاته.
وأضاف ويل: ولقد ترك في هذا الحفل أثرا عميقا. إنني حينما أفكر في تربيتي الدينية ... ولم يكمل العبارة فكان ذلك أفصح منه لو أكملها.
وواصل مستر مينون حديثه قائلا: المراهقون - كما كنت أقول - يتلقون النوعين من التربية في آن واحد، نساعدهم في ممارسة وحدتهم التي تجاوز وجودهم المادي، وحدتهم مع كل الكائنات الحساسة الأخرى، ونعلمهم في الوقت نفسه في فصول السيكولوجيا والفسيولوجيا أن كل فرد منا له تكوينه الذي يتفرد به، وأن كل امرئ يختلف عن كل امرئ آخر.
قال ويل: عندما كنت في المدرسة بذل المربون جهدهم لكي يزيلوا هذه الفوارق، أو على الأقل يكسونها بنفس المثل التي سادت في الفترة المتأخرة من حكم الملكة فيكتوريا؛ حينما كان المثل الأعلى أن يكون المرء رجلا مهذبا دارسا إنجليكانيا لاعبا للكرة. والآن خبرني ماذا تصنعون وأنتم تعلمون أن كل امرئ يختلف عن كل امرئ آخر.
قال مستر مينون: نبدأ بتحديد الفوارق؛ من هذا الطفل بالضبط أو ما هو من حيث التشريح والكيمياء الحيوية والسيكولوجيا؟ وفي المراتب العضوية أي هذه الأجهزة له عنده الأسبقية: الأمعاء، أم العضلات، أم الجهاز العصبي؟ ما مدى اقترابه من هذه الحدود المحورية الثلاثة؟ ومزيج عناصره التي يتألف منها، بدنية كانت أم عقلية، إلى أي حد هي منسجمة وإلى حد هي متنافرة؟ ورغباته الموروثة، ما مقدار حجمها من حيث حب السيطرة، والروح الاجتماعية، والانزواء في عالمه الداخلي، كيف يقوم بالتفكير والإدراك الحسي والتذكر؟ هل هو ممن يتعلمون بالنظر أو من غير هؤلاء؟ هل يعمل عقله بالصور أو بالألفاظ، أو بهما معا في آن واحد، أو بغير هذا وذاك؟ وقدرته على رواية القصص، إلى حد هي قريبة من السطح؟ هل يرى العالم كما كان يراه وردزورث
3
وتراهيرن
4
حينما كانا في عهد الطفولة؟ وإذا كان كذلك ماذا نعمل لكي نحول دون أن يتلاشى تألق النفس ونضرتها في ضوء النهار المشترك بين الناس أجمعين؟ وبعبارة أعم، كيف نربي الأطفال على مستوى المفاهيم دون أن نقتل قدرتهم على الخبرة المركزة التي لا يعبر عنها باللفظ؟ وكيف نوفق بين التحليل والرؤية؟ وهناك أسئلة عديدة أخرى يجب أن نسألها وأن نجيب عنها. مثلا، هل هذا الطفل يمتص كل الفيتامينات التي يحتويها طعامه، أم هل هو عرضة لنقص مستديم إذا نحن لم نتعرف عليه ونعالجه يحد من حيويته، ويظلم مزاجه، ويجعله يرى القبح، ويحس الملل، ويفكر تفكير الأحمق والحاقد؟ وماذا عن مقدار السكر في دمه، وعن تنفسه، وعن وقفته وجلسته والطريقة التي يستخدم بها كيانه العضوي حينما يعمل، أو يلعب أو يدرس، ثم هناك أيضا تلك الأسئلة التي تتعلق بمواهبه الخاصة . هل تبدو عليه أمارات تدل على أن له موهبة موسيقية، أو حسابية ، أو موهبة في تناول الألفاظ، ودقة الملاحظة والتفكير المنطقي والخيالي فيما يلاحظه؟ وأخيرا إلى حد سوف يستجيب للإيحاء عندما يكبر؟
إن كل الأطفال أفراد يسهل التأثير عليهم بالتنويم المغناطيسي؛ وهم في هذا وسطاء جيدون لدرجة أن كل أربعة من خمسة منهم يمكن أن يساقوا بالكلام حتى يستطيعوا المشي وهم نيام. في حين أن النسبة على عكس ذلك من البالغين. فأربعة من كل خمسة منهم لا يمكن إطلاقا أن تحادثهم حتى يستطيعوا المشي وهم نيام. وإذا أخذنا مائة من الأطفال عشوائيا، من هم العشرون طفلا الذين سوف يكبرون ويصبحون قابلين للإيحاء إلى حد المشي وهم نيام؟
سأل ويل: وهل تستطيعون أن تحددوهم مسبقا؟ ثم ما جدوى ذلك إن كان هذا ممكنا؟
أجاب مستر مينون: نعم نستطيع أن نحددهم. ومن الأهمية بمكان أن نتعرف عليهم. بل هو أكثر أهمية في عالمكم الذي يتعيشون فيه؛ فمن الناحية السياسية تجد أن العشرين في المائة الذين يمكن تنويمهم مغناطيسيا بسهولة وإلى حد معين هم أخطر العناصر في مجتمعاتكم. - أخطر العناصر؟ - نعم لأن هؤلاء هم الذين قدر لهم أن يكونوا ضحايا الدعاة. في الديمقراطيات القديمة فيما قبل العصر العلمي كان الخطيب الذي يسحر بلفظه والذي يستند إلى تنظيم من ورائه يستطيع أن يحول هذه العشرين في المائة ممن عندهم استعداد للمشي أثناء النوم إلى جيش منظم من المتعصبين الذين يكرسون حياتهم لجلب المزيد من المجد والسلطة للرجل الذي قام بتنويمهم. وفي ظل النظام الدكتاتوري هؤلاء المنومون أنفسهم يمكن التحدث إليهم وإقناعهم بعقيدة معينة ويمكن تعبئتهم ليكونوا نواة قوية للحزب الذي يقدر على كل شيء؛ ومن ثم ترى أنه من الأهمية بمكان لأي مجتمع يقيم للحرية قدرها أن يكون باستطاعته أن يتعرف على أولئك الذين يمكن في المستقبل تنويمهم وهم لما يزالون في الصغر. وبعدما يتم التعرف عليهم ينومون ويدربون تدريبا منظما على ألا يستسلموا لتنويم أعداء الحرية. ومن الأفضل - بطبيعة الحال - إعادة تنظيم المؤسسات الاجتماعية لكي يصبح من العسير أو المستحيل أن يظهروا أو أن يكون لهم أي تاثير. - وهذه هي الحال عندكم في بالا على ما أظن؟
قال مستر مينون: تماما؛ ولذلك فإن الذين لديهم الاستعداد لتلقي التنويم لا يشكلون خطرا ما. - لماذا إذن تجشمون أنفسكم مشقة التعرف عليهم مقدما؟ - لأن موهبتهم لها قيمة كبرى إذا أحسن استخدامها.
سأل ويل: هل ذلك للتحكم في المصير؟ وتذكر ذلك الإوز العراقي الذي يستخدم في العلاج النفسي، وكل ما قالت سوزيلا بشأن إمكان الضغط على أزرار النفس الذي يقوم به كل امرئ لنفسه.
هز وكيل الوزارة رأسه وقال: إن التحكم في المصير لا يتطلب شيئا أكثر من غيبوبة خفيفة. وكل امرئ تقريبا قادر على ذلك. أما أولئك المستعدون لاستقبال التنويم فهم العشرون في المائة الذين يمكن أن يروحوا في غيبوبة عميقة. وفي الغيبوبة العميقة وحدها دون سواها يمكن تعليم الشخص كيف يتلاعب بالزمن.
وسأل ويل: وهل تستطيع أنت أن تتلاعب بالزمن؟
هز مستر مينون رأسه وقال: لسوء حظي أني لم أستطع قط أن أروح في غيبوبة عميقة. كل ما أعرف تعلمته بالطريقة البطيئة الطويلة. ولكن السيدة نارايان كانت أحسن مني حظا. كانت واحدة من العشرين في المائة أصحاب الامتياز فأخذت كل أنواع الطرق التربوية المختصرة مما لم يتيسر أبدا لي ولأمثالي.
سأل ويل وقد التفت نحو السيدة المديرة: ما هذه الطرق المختصرة؟
أجابت بقولها: هي طرق مختصرة للتذكر، وللحساب، وللتفكير، وحل المسائل. يبدأ الفرد بأن يتعلم كيف يحس عشرين ثانية وكأنها عشر دقائق، والدقيقة كأنها نصف ساعة، وهذا أمر سهل جدا في حالة الغيبوبة العميقة. يستمع المرء إلى إيحاء معلمه ويجلس ساكنا لفترة طويلة جدا؛ ساعتين كاملتين، ويستطيع أن يقسم بذلك، وبعد أن يفيق من الغيبوبة ينظر إلى الساعة، فيدرك أن الزمن الذي أحسه ساعتين لم يستغرق سوى أربع دقائق في الواقع.
قال مستر مينون: لا يعرف أحد كيف يكون ذلك. غير أن كل تلك الحكايات التي تروى عن الغرقى الذين يرون حياتهم كلها منبسطة أمامهم في بضع ثوان صادقة كل الصدق. إن العقل والجهاز العصبي - أو لعل من الأصح أن نقول بعض العقول وبعض الأجهزة العصبية - قادران على هذا العمل الفذ. وهذا كل ما يعرفه أي إنسان. وقد عرفنا هذه الحقيقة منذ ستين عاما، ونحن نستغلها منذ ذلك التاريخ، نستغلها - كما نستغل غيرها من الحقائق - لأغراض تربوية.
واستأنفت السيدة نارايان حديثها قائلة: هذه - مثلا - مسألة حسابية، قد تستغرق في الحالة الطبيعية نحو نصف ساعة لحلها. أما اليوم فأنت تستطيع أن تتلاعب بالزمن بحيث تصبح الدقيقة الواحدة في اعتبارك الشخصي مساوية لثلاثين دقيقة. وعندئذ تشرع في حل المسألة. وبعد ثلاثين دقيقة باعتبارك الشخصي تجد أن المسألة قد حلت. ولكن ثلاثين دقيقة باعتبارك الشخصي ليست بمؤشرات الساعة إلا دقيقة واحدة، فأنت كنت تعمل - بغير إحساس بالعجلة أو الإجهاد - بالسرعة التي يعمل بها أحد أولئك الأطفال الذين يحسبون بسرعة غير عادية ممن يظهرون بين الحين والحين. سوف يظهر في المستقبل عباقرة مثل أمبير
5
وجوس،
6
أو بلهاء مثل ديز؛ كلهم بحيلة التلاعب بالزمن التي نبثها في نفوسهم يستطيع أن يؤدي عمل ساعة في دقيقتين؛ وأحيانا في بضع ثوان. أنا لست إلا طالبة متوسطة، ولكني كنت أستطيع أن أروح في غيبوبة عميقة، فكان معنى ذلك أنه كان من المستطاع تعليمي كيف أختصر الزمن إلى واحد على ثلاثين من طوله الطبيعي؛ والنتيجة أنني استطعت أن أستوعب قدرا من المعرفة ما كان من الممكن أن أستوعبه بالطريقة العادية. وتستطيع أن تتصور ما يحدث إذا عرف إنسان من أصحاب معدلات الذكاء العبقرية أن يتلاعب بالزمن. سوف تكون النتائج خيالية!
قال مستر مينون: إنهم لسوء الحظ قليلون جدا؛ ففي الجيلين السابقين توافر لنا اثنان فقط من أصحاب العبقريات الحقيقية الذين يستطيعون أن يتلاعبوا بالزمن، ونحو خمسة أو ستة أشخاص من المرتبة الثانية. غير أن ما تدين به بالا لهذه القلة يفوق كل تقدير؛ ولذلك لا عجب أننا نبحث بدقة عمن لديهم استعداد لتلقي التنويم!
وبعد فترة قصيرة من الصمت ختم ويل الحديث بقوله: أنتم بالتأكيد توجهون أسئلة عديدة خاصة بفحص التلاميذ الصغار. ماذا تصنعون عندما تعثرون على ما تبتغون؟
قال مستر مينون: نبدأ بتعليمهم وفقا لنتائج البحث؛ فنحن مثلا نوجه أسئلة خاصة بالتكوين البدني للطفل وخاصة بمزاجه. وعندما نظفر بالإجابة نفرز أكثرهم خجلا، وأشدهم توترا عصبيا، وأكثرهم سرعة للاستجابة والمنطوين على أنفسهم من الأطفال، ونضمهم في مجموعة واحدة، وشيئا فشيئا تتضخم المجموعة. نضم إليها أولا بضعة أطفال ممن لهم ميول نحو الاجتماع بغير قيود، ثم نضم بعد ذلك طفلا أو طفلين من أصحاب العضلات ممن لهم ميول عدوانية وعندهم حب للسيطرة. وقد وجدنا أن هذه هي أفضل السبل لكي نجعل الأطفال - بنين وبنات - المتطرفين في هذه الاتجاهات الثلاثة متفاهمين متسامحين بعضهم مع بعض. وبعد بضعة أشهر من الاختلاط الذي يخضع للرقابة الدقيقة نجد أنهم على استعداد لأن يعترفوا بأن الناس من أصحاب التكوين الوراثي المختلف لهم من حق البقاء ما لغيرهم.
قالت السيدة نارايان: وهذا المبدأ نعلمه صراحة كما نطبقه تدريجا، في الصفوف الدنيا نقوم بالتعليم عن طريق التشبيه بالحيوانات المألوفة، القطط تحب الاعتزال، والأغنام تحب التجمع. الدلق متوحش لا يمكن استئناسه، وخنزير غينيا رقيق ودود. هل أنت كالقط أو النعجة أو الخنزير الغيني أو الدلق؟ نتحدث في هذا بالحكايات الرمزية، ويتبين لنا أن الأطفال الصغار أنفسهم يمكن أن يدركوا حقيقة التنوع البشري والحاجة إلى التسامح المتبادل والعفو المتبادل.
قال مستر مينون: وفيما بعد حينما يبدءون في قراءة «جيتا»
7
نبين لهم العلاقة بين التكوين والدين. أشباه الغنم وأشباه الخنازير الغينية يحبون الطقوس والحفلات العامة والأحاسيس التي تثيرها الاجتماعات الدينية التي تعقد لإحياء الروح الدينية في النفوس. وهؤلاء يمكن توجيه ميول أمزجتهم نحو طريق العبادة. وأشباه القطط يحبون العزلة ويمكنهم بتأملاتهم الذاتية أن يسيروا في طريق معرفة النفس. وأشباه الدلق يريدون أن يصنعوا شيئا ما، والمشكلة هي كيف نحول رغبة العدوان في نفوسهم إلى طريق العمل المنزه عن الغرض.
قال ويل: وهل طريق العمل المنزه عن الغرض هو ما كنت أشاهد بالأمس؟ الطريق الذي يتمثل في قطع الأخشاب وتسلق الصخور؟
قال مستر مينون: قطع الأشجار وتسلق الصخور حالات خاصة. وإذا عممنا الأحكام قلنا إن الطريق الذي يبلغ إلى «كل الطرق» يتمثل في إعادة توجيه السيطرة. - وما تلك؟ - المبدأ غاية في البساطة. تأخذ القوة التي تتولد عن الخوف أو الحسد أو كثرة النورأدرينالين، أو عن أي دافع باطني آخر يكون لسبب ما وفي وقت ما في غير موضعه؛ تأخذ هذه القوة وبدلا من أن تستخدمها في القيام بعمل يسيء إلى شخص ما، وبدلا من كبتها وبذلك تفعل بصاحبها شيئا لا يسر، توجهها شعوريا في مجرى يمكن عن طريقه أن تصنع شيئا نافعا، وإن لم يكن نافعا فهو على الأقل لا يضر.
قالت المديرة: إليك مثالا بسيطا، الطفل الغاضب أو الذي خاب أمله يستجمع قوة تمكنه من أن ينفجر باكيا، أو أن يسب أو يقاتل. وإذا كانت القوة التي تولدت تكفي لشيء من هذا فهي تكفي للجري أو الرقص، وأكثر من كافية للشهيق بعمق خمس مرات، وسوف أريك شيئا من الرقص فيما بعد، أما الآن فدعنا نحصر أنفسنا في التنفس. إن الشخص الغاضب الذي يتنفس خمس مرات بعمق يخفف كثيرا من التوتر وبذلك يتيسر له أن يتصرف تصرفا معقولا؛ لذلك نحن نعلم أطفالنا كل أنواع الألعاب التي تعتمد على التنفس، يلعبونها كلما غضبوا أو اضطربوا. وبعض هذه الألعاب تقوم على أساس المنافسة، من المتنافسين مثلا يستطيع أن يشهق بدرجة أعمق ويقول وهو يزفر «أوم» لأطول وقت ممكن. هذه مضاربة بين اثنين تنتهي دائما بالتصالح. غير أن التسابق في التنفس لا يكون في محله - بطبيعة الحال - في كثير من الحالات؛ ولذلك كان لدينا لعبة صغيرة يستطيع الطفل الغاضب أن يلعبها منفردا، وهي لعبة تقوم على أساس الفنون الشعبية المحلية. إننا ننشئ كل الأطفال في بالا على الأساطير البوذية. وفي أكثر هذه القصص الخيالية الدينية يوجد شخص ما لديه رؤية الكائن العلوي. البوذيساتفا
8
مثلا يرى رؤيته في تفجر الأضواء، وفي المجوهرات وأقواس قزح. ومع الرؤية المتألقة هناك دائما حاسة للشم على نفس الدرجة من الروعة؛ فالصواريخ الضوئية تكون مصحوبة بعطر شذى يفوق الوصف. نحن نأخذ هذه الصور الخيالية التقليدية؛ وليس بي حاجة إلى القول بأنها جميعا تقوم على أساس التجارب الخيالية التي تحدث فعلا من أثر الصوم أو حرمان الحواس أو بعض العقاقير، ونطلقها لتفعل فعلها. نقول للأطفال إن المشاعر العنيفة هي كالزلازل، تهزنا هزا شديدا حتى تظهر الشروخ في الجدران التي تفصل ذواتنا عن طبيعة بوذا العالمية المشتركة. يغضب المرء فيتشقق شيء في نفسه، ومن خلال الشقوق تهب نفحة من عطر الاستنارة السماوية، فيها رائحة الشنبق والإيلنغ والفردينيا ولكنها أكثر منها عجبا بدرجة لا تحد. وهذا المعنى السماوي الذي تكشف لك مصادفة يجب ألا يفوتك. هذا المعنى يوجد كلما ثار في نفسك الغضب، استنشقه، وتنفسه، واملأ به رئتيك، مرة بعد أخرى. - وأطفالكم يقومون بذلك فعلا؟ - بعدما نقوم بتعليمهم بضعة أسابيع يفعله أكثرهم كشأن من شئون حياتهم العادية. وكثيرون منهم - فوق ذلك - يشمون فعلا ذلك العطر الذي حدثتك عنه. والنواهي القديمة (لا تفعل كذا، ولا تفعل كذا) تتحول إلى إيجابيات (افعل كذا، وافعل كذا) ويجد ثوابه لما يفعل. لقد حولنا مسار القوة الضارة بطبيعتها إلى اتجاهات لا تكون فيها ضارة، بل قد تعود فعلا بالخير. وفي أثناء ذلك نعطي الأطفال - بطبيعة الحال - تدريبا منتظما ومتدرجا بعناية تامة في الإدراك وفي استخدام اللغة استخداما صحيحا. نعلمهم الانتباه إلى ما يرون وما يسمعون، ونطلب إليهم في الوقت نفسه أن يلاحظوا كيف تؤثر مشاعرهم ورغباتهم فيما يمارسونه في العالم الخارجي، وكيف تؤثر عاداتهم اللغوية في مشاعرهم ورغباتهم بل وفي إحساساتهم. إن ما تسجله عيناي وأذناي شيء، والكلمات التي أستخدمها والحالة النفسية التي أكون عليها وما تسمح لي بإدراكه وتفهمه والعمل بمقتضاه الأهداف التي أتجه نحوها؛ كل ذلك شيء آخر؛ ومن ثم فأنت ترى أننا نضم ذلك كله بعضه إلى بعض في عملية تربوية واحدة. إن ما نقدمه للأطفال في وقت واحد هو تدريب في الإدراك والتخيل، وتدريب في الفسيولوجيا والسيكولوجيا التطبيقيين، وتدريب في السلوك الخلقي العملي والديانة العملية، وتدريب في استخدام اللغة استخداما صحيحا ، وتدريب في معرفة النفس. وبعبارة موجزة: هو تدريب لمركب الجسم والعقل كله من كل أوجهه.
سأل ويل: ما علاقة كل هذا التدريب المعقد لمركب الجسم والعقل بالتربية النظامية؟ هل هو يعاون الطفل في حل مسائل الحساب، أو التزام قواعد النحو في الكتابة، أو فهم مبادئ الفيزياء؟
قال مستر منيون: إن ذلك يعاونه كثيرا؛ فمركب الجسم والعقل المدرب يكون أسرع وأشمل كثيرا في تعلمه من هذا المركب إذا لم يدرب. وهو كذلك أقدر على ربط الوقائع بالأفكار، وربطهما معا بحياة صاحبه. وفجأة وعلى حين بغتة أخذ يضحك عاليا. وكانت مفاجأة لأن ذلك الوجه المستطيل الحزين يوحي بأنه لا يتلاءم مع أي تعبير عن المرح أكثر من ابتسامة خفيفة يخرجها صاحبها من قلب حزين. - ما يضحكك؟ - طاف بخيالي شخصان التقيت بهما في زيارتي الأخيرة لإنجلترا، في كمبردج. أحدهما عالم في الذرة، والآخر فيلسوف، وكلاهما من المشاهير. أما أحدهما فعمره العقلي - خارج المعمل - يبلغ نحو إحدى عشرة سنة. أما الآخر فقد كان أكلة بدينا، لا يحاول أن يخفف من وزنه. وهذان مثلان متطرفان لما يحدث إذا أنت أخذت صبيا ذكيا، وأخضعته خمسة عشر عاما لتربية نظامية مركزة وأهملت مركب العقل والجسم الذي يقوم بالتعلم وبالعيش. - أفهم من ذلك أن نظامكم لا يخرج هذا النوع الشاذ من الوحش الأكاديمي؟
هز وكيل الوزارة رأسه وقال: لم أر قط أحدا من هذا الطراز حتى ذهبت إلى أوروبا. إنهم هناك مبعث للضحك من شدة الغرابة. ولكنهم كذلك مدعاة للأسى. مساكين! إنهم منفرون بدرجة عالية! - هذا الذي يدعو إلى الأسى والذي ينفر بدرجة عالية هو الثمن الذي ندفعه نظير التخصص.
ووافقه على ذلك مينون وقال: نعم للتخصص، ولكن ليس بالمعنى الذي تستخدمون الكلمة لتدل عليه. التخصص بالمعنى الآخر ضروري ولا مناص منه. وليست هناك حضارة بغير تخصص. ولكنك إن تعهدت بالتربية مركب العقل والجسم كله مع الذكاء الذي يستخدم الرمز، فإن ذلك النوع من التخصص اللازم لا يؤذي كثيرا. ولكنكم لا تتعهدون بالتربية مركب العقل والجسم. وعلاجكم للمبالغة في التخصص العلمي هو بضع دراسات في العلوم الإنسانية. حسنا! إن كل تربية يجب أن تتضمن دراسات في العلوم الإنسانية. ولكن لا تخدعكم الأسماء. إن العلوم الإنسانية وحدها لا تجعل من الطالب إنسانا. وليست إلا صورة أخرى من صور التخصص على المستوى الرمزي. إن قراءة أفلاطون أو الاستماع إلى محاضرة عن ت. س. إليوت لا تربي الإنسان الكامل. إنها تربي الطالب على معالجة الرموز - شأنها في ذلك شأن دراسة الفيزياء أو الكيمياء - وتترك بقية مركب العقل والجسم الحي في حالة بدائية من الجهل البدائي والعجز. ومن هنا كانت تلك المخلوقات المنفرة التي تثير الأسى أمثال أولئك الذين أدهشوني عند أول زيارة لي للخارج.
وسأل ويل: وماذا عن المعلومات التي لا غنى عنها والمهارات العقلية اللازمة؟ هل تعلمون بالطريقة التي نعلم بها؟ - نعلم بالطريقة التي أرجح أنكم سوف تعلمون بها بعد نحو عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. خذ الرياضيات على سبيل المثال. بدأت الرياضيات - تاريخيا - بتطوير بعض الحيل النافعة، وحلقت فيما وراء الطبيعة، وأخيرا عبرت عن نفسها في بنيات وتحولات منطقية. ونحن في مدارسنا نعكس هذه المراحل التاريخية. نبدأ بالبنية والمنطق، ونتخطى مرحلة ما وراء الطبيعة، ونسير من المبادئ العامة إلى تطبيقات معينة. - وهل يفهم الأطفال؟ - أفضل بكثير مما يفهمون لو بدأنا بالحيل النفعية. بعد الخامسة من العمر تقريبا يستطيع أي طفل ذكي أن يتعلم أي شيء تقريبا إذا نحن قدمناه له بالطريقة الصحيحة. المنطق والبنية في شكل ألعاب وألغاز. الأطفال يلعبون وبسرعة لا تصدق يدركون المغزى. وبعدئذ نستطيع أن ننتقل إلى التطبيقات العملية. وإذا نحن علمنا بهذه الطريقة تعلم الأطفال على الأقل ثلاثة أمثال ما يتعلمونه اليوم من حيث المقدار، وأربعة أمثاله من حيث الشمول، في نصف الوقت. خذ مجالا آخر يستطيع المرء فيه أن يستخدم الألعاب في تثبيت فهم المبادئ الأساسية. إن كل التفكير العلمي يقع في حدود الاحتمالات، والحقائق الأزلية الأبدية ليست سوى درجة عالية من الاحتمال. وقوانين الطبيعة التي لا تتغير إن هي إلا متوسطات إحصائية . كيف يمكن أن نقحم هذه الأفكار العميقة غير الواضحة في رءوس الأطفال؟ نلعب معهم الروليت، ونجري القرعة ونسحب اليانصيب. نعلمهم كل صنوف الألعاب بالورق والنرد.
قالت السيدة نارايان: أكثر ما يحب الأطفال لعبة الأفاعي والسلالم المتطورة كما يحبون لعبة الأسر المندلية السعيدة.
وأضاف مستر مينون: وفيما بعد نعلمهم لعبة أكثر من ذلك تعقيدا، يشترك فيها أربعة أشخاص يلعبون بمجموعة من الأوراق مؤلفة من ستين ورقة مصممة برسوم خاصة ومقسمة إلى ثلاثة أصناف؛ هذه اللعبة نسميها البريدج السيكولوجي. توزع الأوراق اعتباطا بالصدفة. ولكن اللعب يحتاج إلى مهارة، وإلى تمويه وتعاون مع الشريك.
قال ويل: ألعابكم فيها التطور، ومندل، والسيكولوجيا. الظاهر أن التربية عندكم متأثرة بالبيولوجيا إلى حد كبير.
قال مينون: هي كذلك. إن اهتمامنا الأول ليس بالفيزياء والكيمياء، إنما هو بعلوم الحياة. - هل هذا مبدأ من مبادئكم؟ - ليس إلى كل الحدود، إنما هو أمر يتعلق كذلك بالملاءمة والضرورة الاقتصادية. ليس لدينا المال الذي يكفي للبحث في الفيزياء والكيمياء على نطاق واسع، والواقع أننا لسنا في حاجة فعلية إلى مثل هذا البحث؛ فليست لدينا صناعات ثقيلة ننافس بها غيرنا ولا تسليح نجعله أشد فتكا، ولا أقل رغبة في الهبوط على ظهر القمر. طموحنا متواضع يقتصر على أن نعيش بإنسانية كاملة منسجمين مع أوجه الحياة الأخرى فوق هذه الجزيرة على خط العرض هذا على هذا الكوكب. نستطيع أن نأخذ عنكم نتائج البحوث في الفيزياء والكيمياء ونطبقها - إن أردنا أو استطعنا ماديا - على أغراضنا الخاصة. وفي الوقت نفسه نركز على البحث الذي يبشر بأن يجلب الخير الوافر لنا؛ وذلك في علوم الحياة والعقل. وأضاف إلى ذلك قوله: لو أن رجال السياسة في البلاد التي استقلت حديثا تصرفوا بالعقل لفعلوا مثلنا، ولكنهم يريدون أن يبددوا طاقاتهم، يريدون أن تكون لهم جيوش، ويريدون أن يلحقوا بأهل أمريكا وأوروبا الذين يدمنون التحرك بالآلات والنظر إلى التلفزيون، وواصل حديثه قائلا: ليس أمامكم اختيار، فأنتم ملتزمون بتطبيق الفيزياء والكيمياء بلا رجعة، على الرغم من نتائجها السيئة، العسكرية والسياسية والاجتماعية . ولكن البلاد النامية غير ملتزمة. ليس عليها أن تحذو حذوكم، وما زالت حرة تستطيع أن تسلك الطريق الذي سلكنا؛ طريق البيولوجيا التطبيقية، طريق تنظيم التناسل، والإنتاج المحدود والتصنيع المختار الذي يتيحه تنظيم التناسل، الطريق الذي يؤدي إلى السعادة التي تنبع من الباطن وتنعكس على الظاهر، من خلال الصحة، والوعي، وتغيير وجهة النظر إلى العالم. وليس إلى أوهام السعادة التي تسير عكسا من الظاهر إلى الباطن، من خلال لعب الأطفال وحبوب الدواء وأسباب اللهو التي لا تتوقف. هذه البلاد النامية ما زال بوسعها أن تأخذ بأسلوبنا، ولكنها لا تريد، وترغب في أن تكون مثلكم تماما. كان الله في عونها. ولما كان مستحيل عليها أن تفعل ما فعلتم، على الأقل في خلال الفترة التي قدرتها؛ فقد حكمت على نفسها بالفشل وخيبة الأمل، وكتب عليها الشقاء الذي يترتب على الانهيار الاجتماعي والفوضى، ومن ذلك إلى شقاء العبودية للحكام المستبدين. هذه مأساة يمكن التنبؤ بها تماما، وهم يسيرون نحوها وعيونهم مفتوحة.
قالت المديرة: وليس بوسعنا أن نفعل شيئا في هذا الصدد.
قال مستر مينون: لا نستطيع أن نفعل شيئا اللهم إلا أن نستمر في أداء ما نفعل الآن، ونأمل أملا مستحيل التحقيق أن تكون الأمة التي وجدت سبيلها لأن تعيش عيشة سعيدة سعادة إنسانية مثلا يحتذى. الفرصة ضعيفة جدا. ولكن من يدري؟! ربما حدث ذلك. - ما لم تتكون راندنج الكبرى قبل ذلك.
قال مستر مينون جادا وموافقا: نعم، ما لم تتكون راندنج الكبرى قبل ذلك. ومع ذلك فلا بد لنا من مواصلة السير في ما أخذناه على أنفسنا؛ أعني التربية. هل هناك شيء آخر تريد أن تعرفه يا مستر فارنبي؟
قال ويل: هناك الكثير؛ مثلا متى تبدءون تدريس العلوم؟ - نبدؤه في نفس الوقت الذي نبدأ فيه تعليم الضرب والقسمة، والدروس الأولى في علم البيئة. - علم البيئة؟ أليس هذا موضوعا معقدا بعض الشيء؟ - من أجل هذا نبدأ به. يجب ألا نعطي الأطفال فرصة لكي يتخيلوا أن أي شيء من الأشياء له كيان مستقل عن غيره من الأشياء الأخرى. يجب أن نوضح لهم منذ البداية أن الحياة كلها علاقات. نريهم العلاقات في الغابات، والحقول، والبرك والمجاري المائية، والقرية والريف من حولها، ولا نكل التكرار.
وقالت المديرة: وأحب أن أضيف إلى ذلك أننا نعلم دائما علم العلاقات موصولا بأخلاقيات العلاقات، الاتزان، الأخذ والعطاء، لا إسراف؛ هذه هي القاعدة في الطبيعة. وإذا نقلنا هذه القاعدة من الوقائع إلى الأخلاق كان من الواجب أن تكون هي كذلك القاعدة بين الناس. وكما قلت من قبل إن الأطفال يجدون أن من اليسير أن يفهموا الفكرة إذا قدمناها لهم في حكاية عن الحيوان، نعطيهم تفسيرا حديثا لحكايات إيسوب الخرافية؛ لا نقص عليهم القصص الذي نضفي فيه صفات الإنسان على الحيوان، وإنما نحكي لهم حكايات صادقة من البيئة تنطوي على أخلاقيات عالمية في صلبها.
ومن الحكايات العجيبة التي نرويها للأطفال قصة التآكل. وليس عندنا هنا أمثلة جيدة للتآكل؛ ولذلك نعرض عليهم صورا لما حدث في راندنج وفي الهند والصين واليونان وبلاد المشرق، في أفريقيا وأمريكا؛ كل الأماكن التي حاول فيها الإنسان بجشعه وغبائه أن يأخذ ولا يعطي، وأن يستغل بغير محبة أو إدراك. إذا أنت أحسنت معاملة الطبيعة أحسنت الطبيعة معاملتك. وإذا أنت آذيت الطبيعة أو حطمتها حطمتك الطبيعة. في منطقة من المناطق التي تتصحر بسبب إجهادها بالزراعة تظهر هذه الحقيقة بجلاء: «افعل بغيرك ما تحب أن يفعل بك»؛ ومن الأسهل للطفل أن يدرك ويفهم هذا المبدأ في الطبيعة أكثر مما يستطيع في أسرة أو قرية متهالكة. إن الجروح النفسية لا تظهر؛ وعلى أية حال فإن الأطفال لا يعلمون عن الكبار إلا القليل. ولما كانوا يفتقرون إلى معايير للمقارنة فهم يظنون أن المواقف السيئة من المسلمات، كأنها من طبيعة الأشياء. في حين أن الفرق واضح بين عشرة أفدنة من المراعي الخضراء وعشرة أفدنة من الأخاديد الجرداء التي تعصف فيها الرمال. والرمال والأخاديد من الرموز التي نتمثل بها. إذا واجهها الطفل سهل عليه أن يدرك الحاجة إلى المحافظة على الخضرة، ومن المحافظة على الخضرة ينتقل إلى الأخلاق؛ يسهل عليه أن ينتقل من «القاعدة الذهبية» فيما يتعلق بالنبات والحيوان والأرض التي تغذيها إلى «القاعدة الذهبية» فيما يتعلق بالإنسان.
وهنا نقطة هامة أخرى. إن الأخلاق التي يصل إليها الطفل من حقائق علم البيئة ومن الحكايات الرمزية عن التآكل هي أخلاقيات عالمية. ليس في الطبيعة «شعب مختار» ولا «أرض مقدسة» ولا «رؤيا تاريخية فذة». إن الأخلاق القائمة على أساس الاحتفاظ بالخضرة لا تعطي الفرد مبررا لإحساسه بعلو المنزلة، أو لمطالبته بمزايا خاصة. إن مبدأ «افعل بغيرك كما تحب أن يفعل بك» ينطبق على تعاملنا مع كل أنواع الحياة في كل أرجاء الأرض. ولن يبقى الإنسان فوق هذا الكوكب إلا إذا عامل الطبيعة بالرحمة والذكاء. إن مبادئ علم البيئة تؤدي مباشرة إلى مبادئ البوذية.
وبعد لحظة من الصمت قال ويل: منذ بضعة أسابيع كنت أتصفح كتاب ثوروالد عما حدث في ألمانيا الشرقية فيما بين يناير ومايو من عام 1945م. هل اطلع أحدكما على هذا الكتاب؟
هزا رأسيهما.
فنصحهما ويل ألا يفعلا وقال: كنت في درسدن بعد ضربها بالقنابل في شهر فبراير منذ خمسة أشهر. وفي ليلة واحدة احترق من المدنيين الأحياء خمسون أو ستون ألفا؛ أكثرهم من اللاجئين الهاربين من الروس. وقد حدث كل ذلك لأن أودلف الصغير لم يتعلم علم البيئة.
وابتسم ويل ابتسامته التهكمية الساخرة وقال: إنه لم يتعلم المبادئ الأولية لصيانة الطبيعة.
وأخذ الناس ما حدث مأخذ الفكاهة لأنه كان أفظع من أن يتناولوه بالحديث جادين.
ونهض مستر مينون والتقط حقيبته.
وقال: لا بد أن أنصرف. وصافح ويل، وكان اللقاء بينهما مصدر سرور له، وتمنى لمستر فارنبي إقامة سعيدة في بالا، وقال له إنه إن أراد أن يعرف المزيد عن التربية في بالا فليس عليه إلا أن يسأل السيدة نارايان، فليس هناك من يفضلها في الإرشاد والتعليم.
وبعدما انصرف وكيل الوزارة قالت السيدة نارايان: هل تحب أن تزور بعض فصول الدراسة؟
ونهض ويل وسار خلفها حتى خرجا من الغرفة وبلغا إحدى الردهات.
وفتحت المديرة باب فصل من الفصول وقالت: هنا رياضيات، وهذا هو الصف الخامس في المرحلة الأعلى، تقوم بها السيدة أناند.
وانحنى ويل وهي تقدمه إليها، ورحبت به المدرسة ذات الشعر الأبيض مبتسمة وقالت هامسة: نحن كما ترى مستغرقون في إحدى المسائل.
وتلفت حواليه، ورأى عشرين طالبا وطالبة منهمكين وهم في مقاعد جلوسهم في التفكر، منكبين على كراساتهم مركزين الأذهان في صمت وهم يعضون أطراف الأقلام. تتألق في حرارة الجو أجسامهم الذهبية فيما فوق السراويل القصيرة البيضاء أو الكاكي أو فيما فوق الجونيلات الطويلة زاهية الألوان. أجسام البنين يبدو منها القفص الصدري تحت البشرة، وأجسام البنات أكثر امتلاء وأشد نعومة. وقد بدأت أثداؤهن الصغيرة تعلو صدورهن، قوية، جميلة التكوين، رشيقة كأنها من تصميم مثال زخرفة ينحت الحور من الصخر، ولا يلتفت إليهن أحد. وما كان أشد سرور ويل لأن يكون في مكان يباح فيه هذا الذي يعد في مكان آخر إثما من الآثام.
وفي أثناء ذلك كانت السيدة أناند تشرح له - في صوت خافت حتى لا تشتت أذهان المشتغلين بحل المسائل عن أداء واجبهم - كيف أنها تقسم كل فصل دراسي من فصولها مجموعتين، مجموعة الذين يتعلمون بالنظر ممن يفكرون في إطار هندسي كما كان يفعل قدماء اليونان، ومجموعة الذين لا يتعلمون بالنظر الذين يفضلون الجبر والتجريدات التي لا شكل لها. وعلى كره منه صرف ويل نظره عن هذا العالم من الجمال الذي لا تأثيم فيه، جمال الأجسام الشابة، واستسلم لتفكير عميق في تنوع البشر وتدريس الرياضيات.
وانصرفا. وفي الغرفة المجاورة، وهي عبارة عن فصل دراسي جدرانه باهتة زرقاء معلق عليها صور لحيوانات استوائية كان البوزيساتفا (صغار البوذيين) ومعهم الشاكتي،
9
وهم يشكلون الصف الخامس الأدنى، يتلقون درسا في مبادئ الفلسفة التطبيقية يأخذونه مرة كل أسبوعين. وأثداء البنات في هذا أصغر حجما، والأذرع أرق والعضلات أخف، وطلاب الفلسفة هؤلاء لم يتجاوزوا حد الطفولة إلا بعام واحد فقط.
وعندما دخل ويل والسيدة نارايان الغرفة كان الرجل الواقف إلى جوار السبورة يقول: الرموز شائعة. ورسم صفا من الدوائر الصغيرة وأخذ يرقمها 1، 2، 3، 4، ن، وقال تصوروا أن هذه الأرقام تمثل أفرادا من الناس، ومن كل دائرة صغيرة رسم خطا يصل الدائرة بمربع على يسار السبورة. وفي وسط المربع كتب حرف «ر» وقال: هذا الحرف هو نظام الرمز الذي يستخدمه الناس عندما يريدون أن يتبادلوا الحديث، كلهم يتحدث نفس اللغة؛ إنجليزي، بالي، إسكيمو، الأمر يتوقف على المكان الذي يعيشون فيه. الألفاظ عامة، يختص بها كل المتكلمين بلغة ما، وهي مدونة في القواميس، والآن دعنا ننظر إلى الأشياء التي تحدث خارج الفصل.
وأشار إلى النافذة المفتوحة وظهر من خلالها ستة ببغاوات تطير بألوانها الزاهية تحت سحابة بيضاء، ومرت الببغاوات خلف شجرة ثم اختفت، ورسم المعلم مربعا آخر في الجانب الآخر من السبورة وأسماه «أ»؛ وهو الحرف الأول من «أحداث». وربط هذا المربع بالدوائر بخطوط، وقال: إن ما يحدث في الخارج عام؛ أو على الأقل عام إلى حد كبير. وما يحدث عندما يتكلم فرد ما أو يكتب الكلمات عام كذلك. ولكن ما يحدث داخل هذه الدوائر الصغيرة خاص. وأكد كلمة خاص بوضع إحدى يديه على صدره، ثم مسح جبينه، وكرر كلمة «خاص»، ومس جفنيه وطرف أنفه بسبابته السمراء وقال: دعونا الآن نقوم بتجربة صغيرة، رددوا بعدي كلمة «يقرص».
وبصوت واحد أجش ردد الطلاب: «يقرص، يقرص ... ي، ق، ر، ص «يقرص»»، هذه كلمة عامة، تجدونها في المعاجم اللغوية. والآن يقرص كل منكم نفسه، شديدا أشد!
وفعل الأطفال كما أمروا متأوهين: آه، أوه. وهم يقهقهون. - هل يستطيع أحدكم أن يحس ما أحسه جاره؟
رددوا جميعا بصوت واحد: لا.
قال الرجل: يبدو أن ... كم عددكم؟
ونقل بصره على المقاعد التي كانت أمامه وواصل الحديث قائلا: يبدو أنه كان هناك ثلاثة وعشرون ألما منفصلا متميزا عن غيره. ثلاثة وعشرون في هذه الغرفة الواحدة، وما يقرب ثلاثة آلاف مليون في العالم كله، أضف إلى ذلك آلام جميع الحيوانات. وكل ألم من هذه الآلام خاص كل الخصوصية . ليست هناك وسيلة لنقل الخبرة من أحد مراكز الآلام إلى مركز آخر. لا اتصال إلا بطريق غير مباشر عن طريق «ر». وأشار إلى المربع الذي يقع على يسار السبورة، ثم إلى الدوائر التي تقع في الوسط وقال: هنا آلام خاصة في 1، 2، 3، 4، ن؛ وهناك أخبار عن الآلام الخاصة في المربع «ر» حيث يمكنك أن تقول «يقرص» وهي كلمة عامة مدونة في المعجم اللغوي، ولاحظ ما يلي: هناك كلمة عامة واحدة هي «يقرص» لتدل على ثلاثة آلاف مليون تجربة خاصة، كل واحدة منها تختلف عن غيرها بنفس الدرجة تقريبا التي يختلف بها أنفي عن أنوفكم، كما أن أنوفكم يختلف كل واحد منها عن الآخر، الكلمة ترمز فقط للطرق التي تتشابه بها الأشياء أو الأحداث التي هي من نوع واحد عام؛ ولذلك كانت الكلمة عامة. ولما كانت عامة فلا يمكن أن تمثل الطرق التي تختلف بها الأحداث التي هي من نوع واحد عام.
وساد صمت. ثم رفع المعلم بصره إلى أعلى وألقى سؤالا: هل يعرف أحد منكم هنا شيئا عن ماهاكاسيابا؟
وارتفعت أيد كثيرة، وأشار بإصبعه إلى فتاة صغيرة في إزار أزرق وحول عنقها عقد من الصدف جالسة في الصف الأول. - آميا، تكلمي.
وفي لهفة بدأت آميا تتكلم وفي لسانها لثغة.
قالت: ماهاكاثيابا هو الحواري الوحيد الذي استطاع أن يفهم ما كان يتحدث عنه بوذا. - وفيم كان بوذا يتكلم؟ - إنه لم يكن يتكلم ولذلك لم يفهموه. - ولكن ماهاكاسيابا فهم ما كان يتحدث عنه على الرغم من أنه لم يتكلم؛ هل هذا ما قصدت؟
وأومأت الفتاة الصغيرة برأسها إيجابا فقد كان ذلك ما قصدت تماما، وقالت: ظنوا أنه سوف يلقي عليهم موعظة، ولكنه لم يفعل. وكل ما فعله هو أنه التقط زهرة ورفعها إلى أعلى لكي يراها الجميع.
وصاح صبي صغير يرتدي مئزرا أصفر اللون كان يتلوى في مقعده، ويكاد لا يستطيع أن يكبت رغبته في الإفصاح عما كان يعرف، وقال: تلك كانت الموعظة. ولكن أحدا لم يستطع أن يفهم هذا النوع من المواعظ ، فيما عدا ماهاكاسيابا. - وماذا قال ماهاكاسيابا عندما رفع بوذا تلك الزهرة؟
صاح الصبي الذي كان يرتدي مئزرا أصفر اللون بنغمة الظافر: لا شيء!
وأضافت إلى ذلك آميا قولها: ابتسم فقط، ومن ذلك عرف بوذا أنه فهم كل ما كان يقصد إليه؛ ولذلك بادله الابتسام، ولبثا كذلك يبتسمان، ويبتسمان.
قال المعلم: حسنا. والتفت إلى الصبي ذي المئزر الأصفر وقال له: اذكر لنا ما تظن أن ماهاكاسيابا قد فهم.
وساد الصمت، ثم هز الطفل رأسه خجلا وتمتم قائلا: لست أدري. - وهل يدري منكم أحد؟
وكانت هناك محاولات عدة للإجابة، ربما قد فهم أن الناس قد سئمت الموعظة؛ حتى موعظة بوذا. وربما كان يحب الزهور كما أحبها الواحد الرءوف. وربما كانت الزهرة بيضاء اللون مما جعله يفكر في (الضوء الصافي). وربما كانت زرقاء اللون، وذلك كان لون شيفا.
قال المعلم: هذه إجابات جيدة، وبخاصة الإجابة الأولى؛ فالمواعظ فعلا مملة وبخاصة للواعظ. ولكن هناك سؤالا آخر. إذا كانت إحدى إجاباتكم هي ما فهم ماهاكاسيابا عندما رفع بوذا الزهرة، فلماذا لم يعبر عنها بالألفاظ؟ - ربما كان ممن لا يحسنون الكلام. - بل كان متحدثا ممتازا. - ربما كان في حلقه التهاب. - إذا كان حلقه ملتهبا ما ابتسم مبتهجا كما فعل.
ومن آخر الغرفة صاح صوت أجش قال: خبرنا أنت.
وقاطعته أصوات أخرى قائلة: نعم خبرنا أنت.
وهز المعلم رأسه وقال: إذا كان ماهاكاسيابا والواحد الرءوف لم يستطيعا أن يعبرا بالكلمات فكيف أستطيع أنا؟ والآن دعنا نلق نظرة أخرى على الأشكال المرسومة على السبورة. هناك الكلمات العامة، والأحداث العامة إلى حد ما، ثم الأفراد، وهم مراكز خاصة كل الخصوصية للألم واللذة. وإني لأتساءل هل هي خاصة كل الخصوصية. ربما كان ذلك لا يصدق كل الصدق. ربما كان هناك نوع من الاتصال بين الدوائر؛ بطريقة غير الطريقة التي أتصل أنا بكم بها الآن، أعني الكلمات؛ طريقة مباشرة. وربما كان ذلك هو ما كان يتحدث بوذا عنه بعدما انتهت موعظته التي ألقاها بالزهر ولم يستعمل فيها الكلمات. قال لتلاميذه: عندي كنز من التعاليم التي لا تخطئ، عقل النيرفانا
10
العجيب، الشكل الحقيقي الذي لا شكل له، الذي يجاوز كل الألفاظ؛ أقصد التعليم الذي يعطى ويستقبل خارج جميع المذاهب. هذا التعليم أسلمته الآن لماهاكاسيابا.
والتقط المعلم إصبع الطباشير مرة أخرى ورسم قطعا ناقصا تقريبيا أحاطت خطوطه كل الأشكال الأخرى على السبورة؛ الدوائر الصغيرة التي تمثل الكائنات البشرية، والمربع الذي يمثل الأحداث، والمربع الآخر الذي يمثل الألفاظ والرموز، وقال: كل شكل من هذه الأشكال منفصل، ومع ذلك فكلها واحد. الناس، والأحداث، والألفاظ: كلها مظاهر للعقل الكبير، للحقيقة الكبرى، للفراغ. وما كان يقصده بوذا وما فهمه ماهاياكاسيابا هو أن المرء لا يستطيع أن يعبر عن هذه التعاليم باللفظ. وليس بوسعه إلا أن يكون هو هي، وذلك شيء سوف تتكشفونه حينما يحين أوان دخولكم أعضاء في هذا المذهب.
قالت المديرة هامسة: آن لنا أن نخرج.
ولما انغلق الباب خلفهما وأصبحا في الردهة مرة أخرى قالت لويل: نحن نستخدم هذه الطريقة عينها عند تدريس العلوم، بدءا بعلم النبات. - ولماذا تبدءون بعلم النبات؟ - لأن هذا العلم يمكن ربطه بسهولة بما كان يدور حوله الحديث الآن؛ قصة ماهاكاسيابا. - هل هذه هي نقطة البدء؟ - لا، نحن نبدأ بداية عادية بالكتاب المقرر. نعطي الأطفال كل الحقائق الأولية الواضحة، مرتبة ترتيبا محكما ومصنفة وفقا للقوالب المعروفة. المرحلة الأولى هي مرحلة علم النبات البحت، وتستغرق من ستة إلى سبعة أسابيع، وبعد ذلك يقضي الأطفال يوما كاملا فيما نسميه بناء الجسور، ساعتان ونصف الساعة نحاول خلالها أن نجعل الأطفال يربطون كل ما تعلموا في الدروس السابقة بالفن، واللغة، والدين، ومعرفة النفس. - علم النبات ومعرفة النفس؛ كيف تقيمون بينهما جسرا؟
أكدت له نارايان أن الأمر غاية في البساطة وقالت: نعطي كل طفلة زهرة معروفة؛ زهرة الخبيزة مثلا، وأفضل منها زهرة الجاردينيا (لأن زهرة الخبيزة ليس لها أريج). ما هي الجاردينيا من الناحية العلمية؟ مم تتألف؟ أوراق، والسداة، والمدقة، والمبيض، وما إلى ذلك. ونطلب إلى الأطفال أن يدونوا وصفا تحليليا للزهرة موضحين الوصف بالرسم الدقيق ، وبعدما يؤدون ذلك نمنحهم فترة للراحة. وفي نهايتها نقرأ لهم قصة ماهاكاسيابا ونطلب إليهم أن يفكروا فيها. هل كان بوذا يعطي درسا في علم النبات؟ أم هل كان يعلم تلاميذه شيئا آخر؟ وإن كان الأمر كذلك فما هو؟ - خبرينا ما هو؟ - وليس هناك - بطبيعة الحال - إجابة يمكن أن تصاغ في الألفاظ؛ كما يتضح ذلك جليا من القصة؛ لذلك نطلب إلى البنين والبنات أن يتوقفوا عن التفكير ويكتفوا بالنظر، ونقول لهم: «لا تنظروا نظرة تحليلية، لا تنظروا كما ينظر العلماء، أو حتى كما ينظر البستاني. حرروا أنفسكم من كل شيء تعرفونه وانظروا ببراءة تامة إلى ذلك الشيء الماثل أمامكم والذي لا تكاد تصدقه العقول. انظروا إليه وكأنكم لم تروا له شبيها من قبل، وكأنه لا يحمل اسما ولا ينتمي إلى فصيلة معروفة. انظروا إليه منتبهين ولكن بموقف سلبي، مستقبلين، دون أن تطلقوا عليه اسما أو تصدروا عليه حكما أو تخضعوه للمقارنة، واستنشقوا لغزه وأنتم تنظرون إليه، وتنفسوا روح الحس، وعطر الحكمة، حكمة الضفة الأخرى.»
وعلق على ذلك ويل بقوله: ما أشبه ما تقولين بما كان يقول الدكتور روبرت في حفل التنصيب.
قالت السيدة نارايان: شبيه به بطبيعة الحال؛ ذلك أن تعلم نظرة ماهاكاسيابا للأمور هو أفضل إعداد لتجربة عقار الموكشا، كل طفل يبلغ سن التنصيب يقبل عليه بعد تربية طويلة على فن الاستقبال؛ أي أن يكون المرء مستقبلا. الجاردينيا أولا كنموذج نباتي، ثم الجاردينيا ذاتها في تفردها، الجاردينيا كما تراها عين الفنان، ثم بعد ذلك الجادرينيا وهي في أشد حالات الإعجاز كما يراها بوذا وماهاكاسيابا.
ثم أضافت إلى ذلك قولها: ولست بحاجة إلى أن أقول إننا لا نحصر أنفسنا في الزهور. كل دراسة يتلقاها الأطفال تتخللها وقفات دورية لبناء الجسور. كل شيء من الضفدعة المشرحة إلى المجرة اللولبية ينظر إليه الطلاب مستقبلين له ومفكرين فيه، باعتباره تجربة جمالية أو روحانية وباعتباره في الوقت نفسه من حقائق العلم أو التاريخ أو الاقتصاد. والتدريب على الاستقبال متمم ومصحح للتدريب على التحليل ومعالجة الرموز . وكلا التدريبين لا غنى عنهما إطلاقا، إذا أنت أهملت أحدهما فلن تصبح كائنا بشريا كامل النمو.
وساد صمت، وأخيرا سأل ويل: وكيف ينظر المرء إلى الآخرين؟ هل يأخذ بنظرة فرويد أو بنظرة سيزان؟ بنظرة بروست أو بنظرة بوذا؟
ضحكت السيدة نارايان وسألته: بأي نظرة من هذه النظرات تراني؟
أجاب: أعتقد أولا أني أراك بنظرة عالم الاجتماع. أنظر إليك باعتبارك ممثلة لثقافة غير مألوفة. ولكني كذلك أدرك من أنت من حيث الانطباع، وأظن - وأرجو أن تسامحيني في ظني - أنك قد تقدمت في السن بصورة تثير الإعجاب. فأنت على صورة طيبة من حيث الجمال والعقل والنفس والروح بأي معنى من معاني هذه الكلمة؛ وإذا أخذت بالانطباع كان لذلك أهميته. أما إذا أنا لم آخذ بالانطباع وحكمت بمفهومي للكلمة كان الأمر كله هراء بحتا.
وضحك ضحكة خفيفة كما يضحك الضبع.
قالت السيدة نارايان: يستطيع المرء دائما - إن أراد - أن يستبدل بالفكرة الشائعة أفضل الأفكار الذهنية التي يستمدها من استقبال المحسوسات. ولكن المسألة هي: لماذا يحتم المرء على نفسه أن يختار إما هذا وإما ذاك؟ لماذا لا يؤثر أن يستمع إلى الجانبين ويوفق بين نظرتيهما؟ صانع المفاهيم التي تحكمه التقاليد والذي يأخذ بالتحليل، ومن يستقبل المؤثرات الخارجية ويكون الصورة وهو متنبه برغم موقفه السلبي؛ إن كلا الطريقين ليس معصوما من الخطأ، وكلاهما مما يؤدي للمرء وظيفة طيبة معقولة.
واستوضحها ويل: إلى أي حد يكون تدريبكم على فن الاستقبال فعالا؟
أجابت: للاستقبال درجات؛ ففي دروس العلوم - مثلا - قليل جدا منه. العلم يبدأ بالملاحظة. ولكن الملاحظة دائما تتخير؛ فالمرء ينظر إلى العالم من خلال نافذة مخرمة للمفاهيم التي أسقطت عليه. وإذا أنت أخذت عقار الموكشا كادت هذه المفاهيم أن تتلاشى، فلا تختار وتصنف خبراتك فورا، بل تكتفي بالاستقبال. والأمر في هذه الحالة أشبه بما قاله وردزورث: «هات معك قلبا يشاهد ويستقبل.» وفي ساعات بناء الجسور التي تحدثت عنها يكون هناك قدر كبير من الانتقاء والإسقاط، ولكنه أقل حجما مما كان يحدث في الدروس السابقة للعلوم، فالطفل لا يتحول فجأة إلى تاثاجاتا صغير، ولا يصل إلى حالة الاستقبال الصافية التي تأتي مع عقار الموكشا، ما أبعد الأطفال عن ذلك. وكل ما أستطيع أن أقوله إن الأطفال يتعلمون ألا يأخذوا الأسماء والأفكار السائدة مأخذ الجد. ولفترة قصيرة تراهم يأخذون أكثر مما يعطون. - وماذا يفعلون بما يأخذون؟
أجابت السيدة نارايان وعلى ثغرها ابتسامة: إننا نكتفي بأن نطلب إليهم أن يحاولوا المستحيل، نطالبهم بأن يترجموا الخبرة إلى ألفاظ. ماذا تكون هذه الزهرة؟ وهذه الضفدعة المشرحة؟ وهذا الكوكب الذي تراه على الطرف الآخر من المنظار المقرب؟
ماذا تعني؟ بماذا توحي إليك لكي تفكر، أو تشعر، أو تتصور، أو تتذكر؟ نوجه إليهم هذه الأسئلة لتكون جزءا من العطاء البحت الذي لا يخضع للمفاهيم المسبقة. ونطلب إليهم أن يدونوا إجاباتهم على الورق. نقول لهم إنكم بطبيعة الحال لن تفلحوا، ولكن عليكم أن تحاولوا؛ فإن ذلك يساعدكم على إدراك الفرق بين الألفاظ والأحداث، بين أن تعرف عن الأشياء وأن تتعرف عليها. وبعد أن ينتهوا من الكتابة نقول لهم أعيدوا النظر إلى الزهرة، وبعد ذلك أغمضوا عيونكم دقيقة أو دقيقتين، ثم ارسموا ما خطر لكم عندما كانت عيونكم مغمضة، ارسموه أيا كان؛ شيئا غامضا أو واضحا، شيئا كالزهرة أو مختلفا عنها كل الاختلاف. ارسموا ما رأيتم أو حتى ما لم تروا، ارسموه ولونوه بأصباغكم وأقلامكم، واستريحوا مرة أخرى، وقارنوا الرسم الأول بالرسم الثاني، وقارنوا بين الوصف العلمي للزهرة وبين ما كتبتم عنها حينما لم تكونوا تحللون ما ترون، وحينما كنتم تتصرفون وكأنكم لم تعرفوا شيئا عن الزهرة ولم يكن متاحا لكم سوى لغز وجودها يهبط عليكم طفرة من السماء. ثم قارنوا رسومكم وما كتبتم من رسوم غيركم من البنين والبنات زملائكم في الفصل الدراسي وما كتبوا. سوف تجدون أن الأوصاف والرسوم التحليلية متشابهة. في حين أن الرسوم والكتابات الأخرى يختلف كل واحد منها عن الآخر اختلافا كبيرا. ما صلة ذلك بما تعلمتم من المدرسة، والبيت، والغابة، والمعبد؟ عشرات الأسئلة، وكلها ملحة. إن الجسور يجب أن تقام في جميع الاتجاهات، يبدأ الطالب بعلم النبات - أو بأية مادة أخرى في منهج الدراسة - ويجد أنه في نهاية فترة بناء الجسور يفكر في طبيعة اللغة، وفي الأنواع المختلفة للخبرة، وفيما وراء الطبيعة وسير الحياة، وفي المعرفة التحليلية وحكمة «الشاطئ الآخر».
سأل ويل: إني لأعجب أشد العجب كيف استطعتم أن تعلموا المعلمين الذين يقومون الآن بتعليم الأطفال بناء هذه الجسور؟
قالت السيدة نارايان: بدأنا تعليم المعلمين منذ مائة وسبعة أعوام. شكلنا فصولا من الشبان والشابات ممن تلقوا تعليمهم بالطريقة التقليدية بين أهل بالا. تعلموا أدب المعاشرة، والزراعة الجيدة، الفنون والحرف الجيدة وشيئا عن الطب الشعبي، وطرائف عن الفيزياء والنبات والعقيدة في قوة السحر، وصدق القصص الخيالية. لا علم، ولا تاريخ، ولا شيء عما يجري في العالم الخارجي. ولكن معلمي المستقبل هؤلاء كانوا من البوذيين التقاة، مارس أكثرهم التأمل، وقرءوا جميعا الكثير من فلسفة ماهايانا أو استمعوا إليها، ومعنى ذلك أنهم في مجالات الميتافيزيقا التطبيقية وعلم النفس كان تعليمهم أكمل وأكثر واقعية عما تتعلمه أية مجموعة من معلمي المستقبل في الجزء من العالم الذي تسكنونه. وكان الدكتور أندرو إنسانيا تدرب تدريبا علميا ولم يأخذ العقائد مأخذ التصديق بغير فحص، كما كشف عن قيمة الماهايانا البحت والماهايانا التطبيقية. وكان صديقه الراجا بوذيا على مذهب نانترا وقد كشف عن قيمة العلم البحت والعلم التطبيقي؛ ومن ثم فلقد رأى كلاهما بكل وضوح أن المعلم الذي باستطاعته أن يعلم الأطفال كيف يكونون إنسانيين كاملين في مجتمع يليق بالكائنات البشرية الكاملة أن يعيشوا فيه؛ هذا المعلم ينبغي أن يتعلم أولا كيف يستغل هذين العالمين أحسن استغلال. - وماذا كان إحساس هؤلاء المعلمين أثناء إعدادهم إزاء ذلك؟ هل قاوموا هذا الاتجاه؟
هزت السيدة نارايان رأسها وقالت: كلا، لم يقاوموه لسبب وجيه وهو أن هذا الاتجاه لم يهاجم أي شيء عزيز عليهم؛ فلقد كانت بوذيتهم محلا للاحترام. وكل ما طلب إليهم التخلي عنه هو علم العجائز والحكايات الخرافية. وفي نظير ذلك قدمت إليهم كل ضروب الحقائق التي كانت وأكثر تشويقا والنظريات التي كانت أكثر نفعا. واتحدت الآن تلك الأمور المثيرة الواردة من العالم الغربي، عالم المعرفة والقوة والتقدم، مع نظريات البوذية والحقائق النفسية في الميتافيزيقا التطبيقية. وبمعنى ما خضع علم الغرب لمذهب البوذية. وهذا البرنامج الذي جمع بين أفضل ما في العالمين لم يكن به ما يؤذي إحساس الوطنيين المتدينين حتى أشدهم حساسية وأكثرهم حماسة.
وبعد فترة من الصمت قال ويل: إنني أفكر في معلمي المستقبل عندنا. هل يمكن تعليمهم في هذه المرحلة المتأخرة؟ وهل يمكنهم أن يتعلموا كيف يستغلون أفضل ما في العالمين أحسن استغلال؟ - ولم لا؟ فإنه لا يتحتم عليهم أن يتخلوا عن أي أمر من الأمور التي لها عندهم أهمية حقيقية. غير المسيحيين منهم يستطيعون أن يواصلوا تفكيرهم في الإنسان، والمسيحيون يستطيعون أن يواصلوا عبادتهم لله. لن يحدث أي تغير. غير أن يفكروا في الله باعتباره موجودا في كل الوجود، ويفكروا في الإنسان على أنه يستطيع بطبيعته أن يتجاوز حدود نفسه.
ضحك ويل وقال: وهل تظنين أنهم يتقبلون هذا التغيير بغير احتجاج؟ أنت متفائلة.
قالت السيدة نارايان: نعم متفائلة لسبب بسيط وهو أن الإنسان إذا عالج مشكلة ما بذكاء وواقعية، فإن النتائج لا بد أن تكون طيبة، وهذه الجزيرة تبرر قدرا من التفاؤل. والآن دعنا ننصرف لنشاهد درس الرقص.
وعبرا فناء تظلله الأشجار، ودفعا بابا متحركا، وخرجا من الصمت إلى دق الطبل الإيقاعي وصوت الناي يردد نغمة خماسية كانت في مسمع ويل شبيهة بالنغمة الأسكتلندية.
وسأل: هل هذه موسيقى حية أم معبأة؟
وأجابت نارايان في اقتضاب: هذا شريط ياباني، وفتحت بابا آخر وكشفت عن جيمنازيوم فسيح به شابان ملتحيان وسيدة عجوز تسترعي النظر بخفة حركتها وترتدي سروالا من الساتان الأسود، وهؤلاء يقومون بتعليم حركات الرقص الرشيق لنحو عشرين أو ثلاثين من صغار البنين والبنات.
سأل ويل: ما هذا؟ أهو لهو أو تعليم؟
قالت المديرة: كلاهما، وهو كذلك درس في الأخلاق التطبيقية، شبيه بتمرينات التنفس التي كنا نتحدث عنها منذ لحظة؛ ولكنه أكثر فعالية لأنه أشد عنفا .
كان الأطفال يتغنون غناء جماعيا بهذه العبارة: ضربوا بأقدامكم. ومع الغناء يضربون الأرض - بكل قواهم - بأقدامهم الصغيرة التي يكسونها بالصنادل. وفي المرة الأخيرة وهم يكررون قولهم: اضربوا بأقدامكم، ضربوا الأرض بشدة، وبدءوا حركة راقصة جديدة وهم يدورون ويهتزون.
قالت السيدة نارايان: هذه رقصة راكشاسي على المزمار.
سأل ويل: وما هي راكشاسي؟ - راكشاسي نوع من العفاريت، ضخم جدا، منفر للغاية، كل الميول القبيحة تتمثل فيه. ورقصة راكشاسي على المزمار حيلة للتنفيس عن الطاقة التي يثيرها الغضب والفشل.
وطرقت مسمعي ويل مرة أخرى تلك النصيحة: اضربوا بأقدامكم، يتغنى بها الأطفال مرددين.
وصاحت السيدة العجوز الضئيلة؛ وهي تضرب لهم مثلا قويا قائلة: اضربوا مرة أخرى، بكل قواكم، وكل عنف!
وفكر ويل بينه وبين نفسه: أيهما أفضل للأخلاق وللسلوك الرشيد؟ طقوس العربدة أو «الجمهورية».
11
أخلاق نيقوماخوس أو الرقص الكوريبانتي؟
12
قالت السيدة نارايان: كان الإغريق أعقل من أن يفكروا بصيغة إما هذا وإما ذاك. كانوا يفكرون دائما بصيغة ليس هذا فقط، وإنما كذلك. ليس فقط أفلاطون وأرسطو، وإنما كذلك ربات المهرجانات. ولولا تلك المزامير التي تخفف التوتر لعجزت الفلسفة الأخلاقية، ولولا الفلسفة الأخلاقية لما عرفت المزامير في أي اتجاه تسير. كل ما فعلناه هو أننا أخذنا صفحة من كتاب الإغريق القديم.
قال ويل: حسنا ما فعلتم، ثم تذكر أنه رجل لا يصدق كل ما يقال (وكان دائما يتذكر ذلك في الحين أو فيما بعد، ومهما كان سروره ومهما كانت حماسته). تذكر ذلك فانفجر ضاحكا، وقال: إن الرقص الكوريباتي لم يمنع الإغريق من التقاتل، وإن كان ذلك أمر لا أهمية له على المدى البعيد. ثم ماذا ينفعكم رقص راكشاسي على المزمار إذا قرر الكولونيل ديبا أن يتحرك ضدكم؟ هل يساعدكم الرقص على الرضا بما قدر لكم؟ ربما؛ وهذا كل ما في الأمر.
قالت السيدة نارايان: نعم هذا كل ما في الأمر. غير أن مجرد الرضا بالقدر ميزة كبرى في حد ذاته. - الظاهر أنك تأخذين كل الأمور بنفس مطمئنة. - وما جدوى أن نأخذ الأمور بعصبية؟ إن ذلك لا يجعل موقفنا السياسي أفضل، ولا يترتب عليه إلا أن يكون موقفنا الشخصي أسوأ بدرجة كبرى.
وكان الأطفال يرددون جماعة: اضربوا بأقدامكم. والألواح الخشبية تهتز تحت أقدامهم الضاربة.
وواصلت السيدة نارايان حديثها قائلة: أرجو ألا تتصور أن هذه هي الرقصة الوحيدة التي نعلمها. نعم إن تحويل اتجاه القوى التي تولده المشاعر السيئة أمر هام، ولكن لا يقل عنه أهمية توجيه المشاعر الطيبة والمعرفة الصحيحة نحو الإفصاح عن نفسها. في هذه الحالة تكون الحركات تعبيرية، وكذلك تكون الإشارات تعبيرية. لو أنك زرتنا بالأمس حينما كان الأستاذ الزائر هنا لأطلعتك كيف نعلم هذا النوع من الرقص. ولا أستطيع ذلك اليوم لسوء الحظ، ولن يعود إلى زيارتنا قبل الثلاثاء. - أي أنواع الرقص يعلم؟
حاولت السيدة نارايان أن تصف هذا الرقص: لا وثب، ولا رفص إلى أعلى، ولا عدو. الأقدام ثابتة دائما فوق الأرض، مجرد انحناءات وحركات جانبية بالركب ومفاصل الأوراك. كل التعبير تقوم به الأذرع والمعاصم والأيدي، والرأس والعنق، والوجه، والعينان خاصة. حركات بالأكتاف إلى أعلى وإلى أمام؛ حركات رشيقة في حد ذاتها ومحملة كذلك بالمعنى الرمزي. الفكر يتخذ شكلا بالطقوس وبالحركات الرشيقة. الجسم كله يتحول إلى حروف هيروغليفية، والحروف يتبع بعضها بعضا، كما تتتابع الأوضاع متغايرة للانتقال من دلالة إلى دلالة، كالقصيدة الشعرية أو قطعة الموسيقى. حركات العضلات تمثل حركات الوعي، والانتقال من الصيغة المثالية إلى الصيغ المتعددة، والانتقال من المتعدد إلى الواحد الموجود في كل مكان وزمان.
وختمت حديثها بقولها: إنه تأمل بالحركة. هو ميتافيزيقا ماهايانا يعبر عنها لا بالكلمات ولكن بالحركات الرمزية والإشارات.
وانصرفا من الجيمنازيوم عن طريق باب غير الباب الذي دخلا منه، واتجها يسارا سائرين في ممر قصير.
وسأل ويل: وماذا بعد ذلك؟
وأجابت السيدة نارايان: الصف الرابع الأدنى، وهم الآن يدرسون مبادئ علم النفس العملي.
وفتحت بابا أخضر اللون.
وسمع ويل صوتا ليس غريبا عنه يقول: تعلمون الآن أنه لا داعي لأن يحس أحد بالألم؛ فلقد قلتم لأنفسكم إن الدبوس لا يؤذي، فلم يؤذ.
وولجا الغرفة، ووجدا سوزيلا ماك فيل، طويلة القامة وسط نحو عشرين طالبا، من الصغار ذوي البشرة السمراء، بعضهم بدين وبعضهم هزيل، فابتسمت لهما، وأشارت إلى مقعدين في إحدى زوايا الغرفة، ثم عادت إلى الأطفال. وكررت قولها: لا داعي لأن يحس أي إنسان بالألم. ولكن لا تنسوا أبدا أن الألم دائما يعني أن هناك خللا ما. لقد تعلمتم أن تبعدوا الألم. ولكن لا تفعلوا ذلك بغير تفكير، ولا تفعلوه دون أن تسألوا أنفسكم ما سبب هذا الألم؟ وإذا كان الألم شديدا، أو إذا لم يكن هناك سبب واضح له، أفضوا إلى أمهاتكم به أو إلى معلمكم أو إلى أي كبير في نادي التبني المتبادل الذي تنتسبون إليه، ثم أبعدوا الألم بعد ذلك، أبعدوه وأنتم تعلمون أنه إذا كانت هناك حاجة إلى عمل ما، فلا بد من أدائه. هل فهمتم؟ ...
وبعدما أجابت عن جميع الأسئلة التي وجهت إليها قالت: والآن دعنا نقم ببعض ألعاب التظاهر، أغمضوا عيونكم وازعموا أنكم تنظرون إلى طائر المينة العجوز المسكين صاحب الساق الواحدة الذي يزور المدرسة كل يوم لكي تطعموه. هل ترونه؟
وطبعا استطاعوا أن يروه، وكان من الواضح أن المينة صاحبة الساق الواحدة صديقة قديمة. - انظروا إليه بالوضوح الذي رأيتموه به اليوم ساعة الغداء، ولا تحملقوا فيه، ولا تبذلوا جهدا، اكتفوا بأن تروا ما ينطبع في أعينكم، ونقلوا عيونكم، من منقاره إلى ذيله، ومن عينه المستديرة الصغيرة اللامعة إلى ساقه البرتقالية.
وتلقائيا قالت فتاة صغيرة: إنني أسمعه كذلك، إنه يصيح: «كارونا، كارونا!»
وبسخط شديد قال طفل آخر: ليس هذا صحيحا، إنه يقول: انتباه!
وأكدت لهما سوزيلا أنه يقول هذا وذاك: وربما كان ينطق بكلمات كثيرة غير كذلك. ولكنا الآن سوف نقوم بتظاهر واقعي، ازعموا أن هناك طائرين من طيور المينة من ذوي الساق الواحدة، ثلاثة منها، أربعة. هل ترون الأربعة؟
واستطاعوا. - أربعة طيور من طيور المينة ذوي الساق الواحدة في الأركان الأربعة لأحد الميادين، وطائر خامس وسط الميدان. والآن تخيلوا أن الطيور قد غيرت لونها فصارت بيضاء، خمس مينات بيضاء برءوس صفراء وساق واحدة برتقالية. والآن تخيلوا أن الرءوس زرقاء، فاقعة الزرقة ، والطائر فيما عدا ذلك قرنفلي اللون. خمسة طيور قرنفلية رءوسها زرقاء، وهي في تغير دائم؛ فهي الآن أرجوانية، خمسة طيور أرجوانية رءوسها بيضاء ولكل منها ساق واحدة خضراء باهتة اللون. يا إلهي! ما هذا الذي يحدث! إنها ليست خمسة، بل هناك عشرة. لا، عشرون، خمسون، مائة، مئات ومئات، هل ترونها؟
واستطاع بعضهم أن يراها دون أدنى صعوبة، وأما أولئك الذين لم يستجيبوا كل الاستجابة فقد اقترحت لهم سوزيلا أهدافا أكثر تواضعا.
قالت: تخيلوها اثني عشر. وإذا استكثرتم هذا العدد فاجعلوها عشرة أو ثمانية؛ فهذا العدد كذلك كبير جدا.
واسترسلت في حديثها بعدما استحضر الأطفال جميعا كل الطيور الأرجوانية التي خلقها كل منهم وفق قدرته، وقالت: والآن تطير المينات. وصفقت بيديها ثم قالت: طارت كلها، ولم تبق واحدة منها، ولن تروا بعد ذلك مينات، سترونني أنا، أنا واحدة صفراء، وأنا مرتين خضراء، وأنا ثلاث مرات زرقاء فوقي بقع قرنفلية، أربعة مني في لون أحمر قان، كأشد ما تكون الحمرة. وصفقت بيديها مرة أخرى وقالت: لقد ولوا جميعا، وهذه المرة ترون السيدة نارايان مع ذلك الرجل العجيب صاحب الساق المتصلبة الذي جاء معها، أربعة من كل منهما، ويقفون في دائرة كبرى بالجيمنازيوم. إنهم الآن يرقصون رقصة الراكشاسي على المزمار وينشدون، اضربوا بأقدامكم، اضربوا بأقدامكم.
وقهقهوا جميعا؛ لأن ويل المتعدد والمديرة المتعددة ظهروا قطعا في صورة هزلية للغاية.
وطقطقت سوزيلا بأصابعها.
وقالت: أبعدوا هذه الصور عن أذهانكم! لقد اختفت! والآن كل منكم يرى ثلاثا من أمهاتكم وثلاثة من آبائكم يجرون حول الملعب. إنهم يسرعون في الجري، وفجأة يختفون، ثم يظهرون، وبعد لحظة لا ترونهم. إنهم هناك. إنهم ليسوا هناك، هناك، لا ...
وتحولت القهقهة إلى ضحك متواصل. وعندما بلغ الضحك أقصاه دق الناقوس، وانتهى درس مبادئ علم النفس العملي.
وبعدما انصرف الأطفال إلى اللعب وعادت السيدة نارايان إلى مكتبها سأل ويل: ما مغزى هذا كله؟
أجابت سوزيلا: المغزى هو أن نجعل الناس يدركون أنهم ليسوا تحت رحمة الذاكرة أو التصورات الخيالية كلية. فإذا اضطرب المرء لما يجري في رأسه استطاع أن يفعل شيئا للتخلص من هذا الاضطراب. الأمر كله أن نعلمه ما يفعل ونمكنه بعد ذلك من الممارسة؛ وهي الطريقة التي يتعلم بها المرء كيف يكتب أو يعزف بالمزمار. هؤلاء الأطفال الذين رأيتهم كانوا يتعلمون طريقة غاية في البساطة؛ طريقة سوف ننميها فيما بعد حتى تصبح وسيلة للتحرر. ولن يكون التحرر كاملا بطبيعة الحال. ولكن نصف الرغيف أفضل كثيرا من انعدام الخبز. إن هذه الطريقة لن تسوقك إلى الكشف عن طبيعتك البوذية، ولكنها تعينك على الاستعداد لهذا الكشف؛ تعينك بتحريرك من مطاردة ذكرياتك الأليمة لك، ومطاردة الندم والقلق على المستقبل من غير مبرر.
قال ويل: صدقت، وأحسنت اختيار اللفظ حينما قلت: المطاردة. - ليست المطاردة أمرا محتوما؛ فإن بعض الأشباح يمكن طردها بسهولة كبرى، كلما ظهر شبح منها عالجه بالخيال، وعامله كما تعاملنا مع تلك المينات، ومعك ومع السيدة نارايان. غير زيه وأعطه أنفا آخر، وعدده، ثم مره بالانصراف، واستدعه مرة أخرى واجعله يقوم بعمل يثير الضحك، ثم امحه محوا. تصور ما كان بوسعك أن تفعله بأبيك لو كنت تعلمت قليلا من هذه الحيل الصغيرة في طفولتك! لقد كنت تحسبه عملاقا مخيفا. ولكن ذلك لم يكن ضروريا. كنت تستطيع بخيالك أن تحول هذا العملاق إلى صورة أخرى خيالية، بل إلى مجموعة من الصور الخيالية، فترى عشرين منها ترقص على كعوب أقدامها وتغني وتنشد: رأيت في المنام أني أقطن قاعات من المرمر. إن دراسة مختصرة في مبادئ علم النفس العملي كان من الممكن أن تجعل حياتك مختلفة كل الاختلاف.
وفكر ويل؛ وهما يتجهان نحو العربة الجيب التي كانت بانتظاره فيما كان يمكنه أن يفعل في حادث وفاة مولي. أي طقوس كان يمكنه أن يمارسها بالتعاويذ الخيالية يطرد بها الأرواح الشريرة التي كانت تتلبس بها تلك الشيطانة البيضاء التي تعطرت بالمسك وجسدت رغباته المقيتة المسعورة؟
وبلغا عربة الجيب، وسلم ويل سوزيلا المفاتيح واستقر في مقعده بشيء من المشقة. واقتربت منهما عربة قديمة صغيرة من ناحية القرية محدثة ضجيجا عاليا وكأنها تحت دافع عصبي لتعوض حجمها الصغير. ودارت العربة على طريق سير العربات وهي ما تزال تقعقع وتهتز، وأخيرا توقفت إلى جوار عربة الجيب.
والتفتا، وألفيا موروجان مطلا من نافذة العربة أوستن الملكية، ووراءه كانت تجلس الراني بحجمها الضخم مرتدية الموصلين الأبيض ومنتفخة كركام السحاب. وانحنى ويل في اتجاهها واستخرج منها ابتسامة غاية في اللطف، سرعان ما اختفت عندما التفتت إلى سوزيلا التي ردت الراني تحيتها بإيماءة بعيدة برأسها.
وسألها ويل في أدب جم: هل أنتم على سفر بالعربة؟
قالت الراني: حتى شيفا بورام فقط.
وأضاف إلى ذلك موروجان بشيء من مرارة النفس قائلا: إذا استطاع هذا القفص الصغير المحطم أن يتماسك حتى هناك.
وأدار مفتاح الحرارة، وخرج من المحرك صوت أخير يشبه الفواق ثم توقف تماما.
وواصلت الراني حديثها قائلة: هناك قوم لا بد لنا من لقائهم. وبنغمة مفعمة بدلالات التآمر أضافت قولها: ولعل من الأصح أن أقول إن هناك شخصا واحدا.
وابتسمت لويل وكادت أن تغمز له بعينها.
وزعم ويل أنه لم يدرك أنها تتحدث عن باهو، وعلق بقوله: صدقت. دون أن يلتزم برأي ما، وأشفق عليها من الجهد والقلق اللذين لا بد أن يقتضيهما الحفل الذي يقام في الأسبوع القادم بمناسبة بلوغ موروجان سن الرشد.
وقاطعه موروجان بسؤاله: ماذا تفعل هنا؟ - قضيت بعد الظهر مهتما اهتماما عميقا بالتربية في بالا.
ورددت الراني العبارة الأخيرة فقالت: التربية في بالا.
ومرة أخرى قالت بنغمة حزينة وبفاصل بين الكلمتين: التربية، في بالا. وهزت رأسها.
قال ويل: أنا شخصيا أعجبت بكل ما رأيت وسمعت عنها؛ من المستر مينون والمديرة حتى الدرس في مبادئ علم النفس العملي كما تعلمه السيدة ماك فيل، محاولا بهذه الأخيرة أن يستدرج سوزيلا إلى الحديث.
وأشارت الراني بإصبع الاتهام الغليظة إلى الفراغات التي ظهرت في الحقول السفلية، وما زالت تتجاهل سوزيلا عن عمد.
وسألت: هل رأيت هذه يا مستر فارنبي؟
وكان قد رآها فسألها: وأين في غير بالا يجد المرء فزاعات جميلة، قديرة، ولها دلالتها الميتافيزيقية في آن واحد؟
قالت الراني بصوت يتهدج من الشعور بالسخط والاكتئاب: وهذه الفزاعات لا تفزع الطيور فتبعدها عن الأرز فحسب، بل تفزع كذلك الأطفال وتبعدهم عن فكرة تجسيد الآلهة. ورفعت رأسها وقالت: استمع!
وكان قد انضم إلى كريشنا وماري ساروجيني خمسة أو ستة أصحاب، وكلهم يلعب بشد الخيوط التي تهز العرائس الخارقة للطبيعة. وصدرت عن المجموعة أصوات عالية تغني سويا.
وعندما تكرر الغناء للمرة الثانية تبينت كلمات الأنشودة لويل. كانوا ينشدون:
شدوا هيا شدوا،
بالإرادة القوية شدوا،
الأرباب تهتز،
والسماء في مكانها ثابتة.
قال: برافو. ثم ضحك.
وقالت الراني منفعلة: هذا لا يسرني، ولا يضحكني، إنها مأساة، وأي مأساة.
وأصر ويل على موقفه وقال: أنا أعلم أن هذه الفزاعات الفاتنة كانت من اختراع جد موروجان.
قالت الراني: كان جد موروجان رجلا يدعو للإعجاب، غاية في الذكاء، وبنفس الدرجة غاية في الانحراف؛ مواهبه عظيمة، ولكن للأسف، يستخدمها في الشر والإيذاء! وأسوأ من هذا كله أنه كان مليئا بالروحانية الكاذبة. - الروحانية الكاذبة؟ شخص ويل ببصره نحو أضخم نموذج للروحانية الصادقة، ومن خلال الرائحة الأخاذة لمنتجات البترول استنشق رائحة خشب الصندل التي تشبه رائحة البخور التي ينفثها العالم الآخر. الروحانية الكاذبة؟
وفجأة ألفى نفسه في حالة من التعجب - وتخيل وقد أخذته الرعدة - على أية صورة تكون الراني إذا هي تجردت فجأة من صفتها الصوفية وتعرضت عارية للضوء بكل ضخامتها وشحمها. والآن تخيل هذا الجسم البدين العاري مضروبا مرة في ثلاثة، ثم مرتين، ثم عشر مرات؛ لقد طبق السيكولوجيا العملية التطبيقية بروح الانتقام!
وأخذت الراني تكرر قولها: نعم، الروحانية الكاذبة. يتحدث عن التحرر، ولكنه - بسبب رفضه العنيد لاتباع الطريق الحق - يعمل دائما لمزيد من العبودية، ويمثل دور المتواضع. ولكن في قلبه كل الكبرياء - يا مستر فارنبي - حتى لقد رفض أن يعترف بأية سلطة روحانية أعلى من سلطته. السادة، تجسد الآلهة، والتقاليد الموروثة العظمى؛ كل ذلك ليس له عنده معنى؛ ومن ثم كانت هذه الفزاعات المخيفة؛ ومن ثم كان نشيد الكفر الذي تعلم الأطفال التغني به. إنني حين أفكر في هؤلاء الصغار المساكين الأبرياء وكيف يزج بهم عمدا على طريق الانحراف أكاد لا أطيق نفسي يا مستر فارنبي، وأجد ...
قال موروجان الذي كان ينظر في قلق وبشكل واضح إلى ساعة معصمه، اسمعي يا أمي. إذا أردنا أن نعود على وقت العشاء؛ فالأفضل أن ننصرف الآن.
وكان يتكلم بنغمة السلطة الجافة. وأحس بصورة واضحة وهو يمسك بعجلة قيادة السيارة - على الرغم من أنها أوستن قديمة صغيرة - أنه أضخم حقا من حقيقته. وأدار محرك السيارة دون أن ينتظر من الراني ردا، وزاد من سرعتها تدريجيا ولوح بيده ثم انطلق.
قالت سوزيلا: تخلصنا تخلصا حسنا. - ألا تحبين مليكتك العزيزة؟ - إن دمي يغلي منها.
وأنشد ويل: اضربي بقدمك. ساخرا منها.
قالت: صدقت. وهي تضحك. ولكن لسوء الحظ ليس من المعقول في هذه المناسبة أن ترقص رقصة الراكشاسي على المزمار. وتألق وجهها فجأة بنار الشر، وبغير إنذار لكمته في أضلعه لكمة قوية تدعو إلى العجب وقالت: الآن أحس أنني مرتاحة.
الفصل الرابع عشر
أدارت محرك السيارة وانطلقا؛ هبطا إلى الطريق الجانبي، ثم صعدا إلى الطريق العام الذي يقع بعيدا عن الطرف الآخر للقرية، ثم اتجها نحو مجمع محطة التجارب، وتوقفت سوزيلا عند بيت صغير سقفه من القش، كغيره من البيوت، وصعدا ست درجات إلى الفراندة، ثم دخلا حجرة المعيشة التي طليت جدرانها باللون الأبيض.
وعلى اليسار كانت هناك نافذة متسعة، علقت بين العمودين الخشبيين الواقعين على جانبيها البارزين أرجوحة، فأشارت إليها وقالت: هذه لك، وتستطيع أن ترفع ساقيك. ولما جلس ويل في الأرجوحة الشبكية سألته بعدما سحبت مقعدا من الأغصان اللينة وجلست إلى جواره، قالت: فيم نتحدث؟ - هل نتحدث عن الخير والحق والجمال؟
ثم ابتسم ابتسامة عريضة وقال: أم هل نتحدث عن القبح والشر وعما هو أكثر صدقا؟
قالت وقد تجاهلت محاولته أن يتفكه: نستطيع في ظني أن نواصل الحديث عندما انتهينا إليه في المرة الماضية ؛ نتحدث عنك. - هذا بعينه هو ما اقترحته؛ القبح، والشر، والأصدق من كل صدق رسمي.
سألته: هل أنت تستعرض أسلوبك في الحديث، أم هل أنت تريد أن تتحدث عن نفسك فعلا؟
أكد لها أنه يريد ويستميت في ذلك فعلا: بمقدار ما أستميت في عدم الرغبة في حديثي عن نفسي. ومن ثم، كما رأيت، كان اهتمامي الذي لا يفتر بالفن، والعلم، والفلسفة، والسياسة، والأدب؛ أي شيء إلا ما له في النهاية أية أهمية.
وساد صمت طويل، ثم بدأت سوزيلا تتحدث عن كاتدرائية ولز وكأن ذكراها قد عادت إليها عرضا، وعن استدعاء الغربان، وعن الإوز العراقي الأبيض الذي يسبح بين انعكاسات السحب الطافية. وبعد بضع دقائق كان هو أيضا يسبح.
قالت: كنت سعيدة جدا طوال الوقت الذي قضيته في ولز، سعيدة بشكل عجيب، وكذلك كنت أنت، أليس كذلك؟
لم يحر ويل جوابا، وكان يستعيد في ذاكرته تلك الأيام التي قضاها في الوادي الأخضر، قبل أن يتزوج مولي، وقبل أن يتحابا. ما أروع السكون! ويا له من عالم صلب حي بغير ديدان، عالم الحشائش والزهور المتفتحة! حينما سرى بينهما شعور طبيعي لم تشبه شائبة، شعور لم يحس مثله منذ تلك الأيام البعيدة وقتما كانت عمته ماري ما تزال على قيد الحياة؛ ذلك الشخص الوحيد الذي أحبه فعلا، ثم كانت مولي خليفة لها. أية سعادة! لقد انتقل الحب إلى مفتاح آخر؛ ولكن اللحن والإيقاع الثري الدقيق هو بعينه. وفي الليلة الرابعة من مقامها طرقت مولي الجدار الذي كان يفصل بين حجرتيهما، ووجد باب غرفتها مفتوحا إلى نصفه فتحسس طريقه في الظلام إلى الفراش الذي كانت أخت الرحمة تبذل فيه الجهد لتؤدي دور الزوجة العاشقة، وهي عارية مطمئنة الضمير. وبذلت جهدها ولكنها فشلت فشلا ذريعا.
وفجأة، كما كان يحدث تقريبا كل مساء، سمع رياحا عاصفة ووقع الأمطار فوق الخضرة الكثيفة، وقد كتم بعد المسافة صوت المطر؛ واشتد وقع الأمطار المنهمرة كلما اقترب رذاذها. ومرت بضع ثوان طرقت بعدها قطرات المطر زجاج النوافذ، كما كانت تفعل بنوافذ مكتبه في ذلك اليوم الذي تم فيه لقاؤهما الأخير. وذكر قولها: هل تعني حقا ما تقول يا ويل؟
آلمته الذكريات وأخجلته مما جعله يحس الرغبة في النحيب، وعض شفتيه.
سألته سوزيلا: فيم تفكر؟
إنه لم يكن يفكر، بل كان يراها فعلا، ويسمع صوتها فعلا وهي تقول: هل تعني حقا ما تقوله يا ويل؟
ومن خلال وقع قطرات المطر رن في أذنه ما أجاب به حينما قال: نعم أنا حقا أعني ما أقول.
وخف صوت سقوط الأمطار على زجاج النافذة - ولم يدر إن كان هنا أم هناك، الآن أو حينذاك - وخف هبوب العاصفة حتى أمسى تمتمة وهمسا.
وأصرت سوزيلا على سؤالها: فيم تفكر؟ - أفكر فيما فعلت بمولي. - وما ذاك؟
لم يرد أن يجيب. ولكن سوزيلا كانت عنيدة متصلبة. - خبرني ماذا فعلت.
وعصفت الريح مرة أخرى بشدة حتى شخشخت النوافذ واشتد سقوط المطر، وكأنه - كما ظن ويل - قد اشتد عمدا. وأمطرت السماء بصورة تحتم عليه أن يستمر في تذكر ما لم يرد أن يذكر، وأن يتفوه بصوت عال بأمور مخجلة ينبغي له أن يحتفظ بها لنفسه مهما كان الثمن. - خبرني.
وعلى الرغم من نفسه، وعلى مضض، أخبرها بما حدث. - هل تعني حقا ما تقول يا ويل؟ وبسبب بابز - نعم بابز، كان الله في عونه، صدقت أم لم تصدقي! - كان فعلا يعني ما يقول، وخرجت مولي والمطر ينهمر. - وعندما رأيتها للمرة الثانية كانت في المستشفى.
وسألته سوزيلا: وهل كان المطر ما يزال منهمرا. - نعم كان ما يزال ينهمر. - كما ينهمر الآن؟ - تقريبا. والواقع أن ما سمعه ويل هذا المساء لم يكن ذلك الرذاذ الذي يسقط في المناطق الاستوائية، بل كان ذلك الطبل الذي كان يدق نافذة الحجرة الصغيرة التي كانت مولي تلفظ فيها أنفاسها الأخيرة.
وكان يقول لها من خلال وقع سقوط المطر: هذا أنا، أنا ويل. ولم يحدث شيء ما. وفجأة أحس بيد مولي تتحرك بين راحتيه حركة تكاد ألا تحس. كانت تضغط على يديه بإرادتها، وبعد بضع ثوان ارتخت يدها بغير إرادتها ارتخاء نهائيا. - خبرني ثانية يا ويل.
هز رأسه؛ فلقد كانت الذكرى أليمة مذلة.
وأصرت على قولها: خبرني مرة أخرى، فتلك هي الوسيلة الوحيدة.
وبجهد جهيد بدأ يروي القصة البغيضة مرة أخرى. هل حقا كان يعني ما يقول؟ نعم، كان حقا يعني ما يقول؛ يعني الإيذاء، وربما يعني القتل «وهل يعرف الإنسان ما ينوي حقا؟» «كل شيء لبابز أو ضاعت الدنيا» ليست دنياه بطبيعة الحال؛ دنيا مولي. وفي وسط هذه الدنيا الحياة التي أوجدتها. تنطفئ جذوتها من أجل تلك الرائحة العطرة في جنح الظلام، ومن أجل استجابات عضلية، من أجل متعة كبرى، ومن أجل تلك المهارات التي لا حياء فيها ولكنها تسكر المرء وتبلغه الذروة. - مع السلامة يا ويل. وانغلق الباب وراءها محدثا طقطقة خفيفة حادة.
وأراد أن يسترجعها، ولكن عشيق بابز تذكر المهارات، والاستجابات، وتذكر جسما يفوح منه شذى العطر ويتأوه من فرط اللذة. تذكر كل ذلك، ووقف عند النافذة يرقب السيارة وهي تشق طريقها وسط الأمطار، راقبها وهي تدور عند الناصية وقد امتلأت نفسه بشعور الانتصار المشين. لقد تحرر أخيرا! بل بات أكثر تحررا - كما تبين له ذلك بعد ثلاث ساعات وهو في المستشفى - مما كان يظن؛ لأنه كان الآن يحس ضغط أصابعها خفيفا في النهاية، ويحس رسالة حبها النهائية. ثم توقفت هذه الرسالة عندما ارتخت يدها وفجأة وبصورة مرعبة انقطعت أنفاسها. وهمس قائلا: لقد ماتت. وأحس بالاختناق: لقد ماتت.
قالت سوزيلا وقد قطعت صمتا طويلا: افرض أنك لم تكن مسئولا عن موتها، وافرض أنها ماتت فجأة دون أن يكون لك دخل في وفاتها. ألا يكون موتها في هذه الحالة مؤسفا كذلك؟
سألها: ماذا تقصدين؟
قالت: أقصد أن الأمر لا يقتصر على مجرد الشعور بالذنب لوفاة مولي. إنما هو الموت نفسه، والموت في حد ذاته، هو الذي تراه مروعا. والآن تذكرت ديوجولد وأضافت قولها: إنه شر لا معنى له.
كرر عبارتها: «شر لا معنى له.» ثم قال: نعم، وربما كان هذا هو الذي حتم علي أن أكون شاهدا محترفا للإعدام؛ لأنه يخلو كلية من المعنى؛ ولأنه وحشي للغاية. تابعت رائحة الموت في الدنيا كلها من أقصاها إلى أقصاها، جشعا كالنسر الوحشي. المرتاحون في هذه الدنيا ليست لديهم أية فكرة عن أحوال العالم. ولست أقصد أحواله في الأوقات الشاذة، كأيام الحرب، ولكن في كل حين، إي والله في كل حين. وبينما كان يتكلم كان يرى - رؤية مختصرة شاملة مفصلة كل التفصيل كرؤية الغريق - كل المناظر البغيضة التي شهدها خلال رحلاته التي تقاضى عليها أجرا عاليا لكل جحيم وكل مجزرة تعافها النفس حتى لا تصلح للرواية. الزنوج في جنوب أفريقيا، والرجل يختنق في غرفة الغاز في سان كنتين، والأجسام التي تكوى في بيت ريفي بالجزائر، والجماهير في كل مكان، ورجال الشرطة ورجال المظلات في كل مكان، والأطفال ذوو البشرة السوداء في كل مكان، وأصحاب الأرجل الخشبية، وأصحاب الكروش، والذباب فوق جفونهم القذرة، والروائح المقززة للجوع والمرض في كل مكان، ورائحة الموت النتنة. وفجأة، من خلال رائحة الموت النتنة، كان يتنفس شذى المسك الذي كانت تتعطر به بابز. يتنفسه ممزوجا ومشبعا برائحة الموت. يتنفس شذاها ويذكر فكاهته عن كيمياء المطهر والفردوس، المطهر تتراثيلين ديامين وهيدروجين كبريتيد، والفردوس سميترينيتر وبسيبوتيل تولوين مع بعض الشوائب العضوية المنوعة، ها، ها، ها! (ألا ما أحلى متع الحياة الاجتماعية!) ثم - وعلى حين غرة - تحل محل روائح الحب والموت رائحة حيوان نتنة؛ رائحة كلب.
واشتد هبوب الريح وطرقت قطرات المطر زجاج النوافذ وانتشرت على سطحه.
سألته سوزيلا: أمازلت تفكر في مولي؟
أجاب: كنت أفكر في شيء نسيته تماما، ولا أحسب أني جاوزت الرابعة من عمري عندما حدث، والآن تعود الصورة إلى ذاكرتي. تايجر المسكين.
سألته: من كان تايجر المسكين!
تايجر، كلبه الأحمر الجميل، تايجر مصدر النور الوحيد في ذلك البيت الكئيب الذي قضى فيه طفولته، تايجر العزيز. وسط المخاوف والبؤس وفيما بين الطرفين، الكره السافر لكل شيء وكل إنسان من أبيه، ورقة الشعور والتضحية بالنفس من أمه. كان تايجر يبدي حسن النية بغير جهد، ويظهر الصداقة تلقائيا ، يثب وينبح تعبيرا عن سرور لا يمكن كبته! كانت أمه تضعه في حجرها وتحدثه عن الله وعن يسوع. ولكن تايجر كان يحدثه عن الله أفضل مما كانت ترويه له أمه من قصص الإنجيل. كان تايجر عنده هو التجسيد. وذات يوم أصاب هذا الحيوان المقدس سل الكلاب.
سألته سوزيلا: وماذا حدث بعد ذلك؟ - سلته كانت في المطبخ، وكنت هناك جاثما إلى جوارها، أربت عليه. ولكن شعره يختلف في ملمسه عما كان عليه قبل مرضه، أحسه لزجا، وتفوح منه رائحة كريهة، ولولا أني كنت أفرط في حبه لوليت هاربا، لم أحتمل أن أقترب منه. ولكني أحبه، أحبه أكثر من أي شيء وأكثر من أي إنسان. وبينما كنت أربت عليه كنت أقول له إنه سوف يشفى بعد قليل، في وقت قريب؛ صباح الغد. وفجأة يرتعد وأحاول أن أهدئ من رعدته فأمسك برأسه بين يدي، بغير جدوى. وتتحول الرعدة إلى تقلص مريع، وكنت أشعر بالاشمئزاز إذا نظرت إليه، ويتملكني الخوف؛ خوف شديد. وبعدئذ تهدأ الرعدة والرعشة وبعد برهة قصيرة يسكن سكونا مطلقا. وإذا رفعت رأسه وألقيته من يدي سقط الرأس مكانه ثقيلا، كما تسقط قطعة اللحم وبداخلها عظام.
وتهدج صوت ويل، وسال الدمع على خديه، وأخذ يرتعد من النشيج كأنه طفل في الرابعة من عمره يبكي كلبه ويجابه حقيقة الموت المزعجة التي لا يستطيع إدراكها. ثم في لمح البصر تغير ما يجري في وعيه كالعربة تدير مفتاحها فتغير من سرعتها، وعاد رجلا رشيدا، ولم يعد يسبح في الخيال.
ومسح عينيه وتمخط من أنفه وقال: أنا آسف، ولكن هذا كان أول عهدي بالفزع الأكبر؛ كان تايجر صديقي، وكان عزائي الوحيد، ومن الواضح أن ما حدث كان شيئا فوق طاقة الفزع الأكبر. وحدث مثل ذلك مع عمتي ماري؛ الشخص الوحيد الذي أحببته فعلا وأعجبت به ووثقت فيه، ثم أصابها الفزع الأكبر!
قالت سوزيلا: زدني علما بما حدث.
تردد ويل، ثم هز كتفيه وقال: ولم لا؟ كانت ماري فرانسيس فارنبي الأخت الصغرى لأبي. تزوجت في الثامنة عشرة من عمرها، سنة واحدة قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، من جندي في الجيش العامل، فرانك وماري، وماري وفرانك. أي انسجام بينهما، وأي إحساس بالسعادة! وضحك، ثم استرسل قائلا: حتى خارج بالا يمكن أن يجد المرء هنا وهناك جزرا يسودها العيش الكريم، جزرا صغيرة، بل - ومن حين إلى آخر - جزرا كاملة مثل تاهايتي؛ ولكنها دائما محاطة بالفزع الأكبر. كانا في شرخ شبابهما يعيشان في جزيرتهم بالا الخاصة بهم. وذات صباح جميل في 4 أغسطس من عام 1914م ذهب فرانك وراء البحار في حملة عسكرية. وفي ليلة عيد الميلاد ولدت ماري طفلا مشوها عاش حتى شهدت أمه بعينيها ما يمكن أن يفعله الفزع الأكبر إذا حل بالإنسان. الله وحده يستطيع أن يصنع مخلوقا بهذه البلاهة وضعف العقل. ولست بحاجة إلى أن أقول إن فرانك أصيب بعد ثلاثة أشهر بشظية من قنبلة ومات متسمما من جراحه. وصمت ويل قليلا ثم واصل حديثه قائلا: حدث كل ذلك قبل عهدي. عندما عرفت عمتي ماري لأول مرة كانت في العشرينيات من عمرها، تكرس نفسها لخدمة المسنين؛ المسنين في المؤسسات، والمسنين المحبوسين في بيوتهم، والمسنون يطول بهم العمر وهم عبء على أبنائهم وأبناء أبنائهم؛ أمثال سترلد براج وتيثونس.
1
وكلما اشتد عجز المعمر الذي لا رجاء فيه، وأمعن في نزواته وبالغ في شكواه كان أفضل لديها. كنت في صغري أمقت أشد المقت العجائز الذين كانت عمي ماري تعنى بهم. رائحتهم كريهة، قبحهم مخيف، يبعثون الملل ودائما غاضبون. ولكن عمتي ماري كانت تحبهم من كل قلبها؛ تحبهم مهما كانت الظروف، تحبهم على الرغم من كل شيء.
وكانت أمي تتحدث كثيرا عن فعل الخير في المسيحية. ولكني لسبب ما لم أصدق ما كانت ترويه لي، كما أني لم أحب قط كل الأشياء التي كانت تضحي بنفسها من أجلها وهي ترغم نفسها على ذلك إرغاما؛ لم تكن محبة، بل كان واجبا تؤديه. ولكني لم أكن مع عمتي ماري في أدنى شك. كان حبها أشبه بالإشعاع الطبيعي، شيئا يكاد يحسه المرء إحساسه بالضوء والحرارة. وعندما كانت تأخذني لأقيم معها في الريف، وفيما بعد عندما كانت تفد إلى المدينة وأزورها كل يوم تقريبا، كنت أحس كأني أخرج من ثلاجة إلى ضوء الشمس. كنت أحس الحياة تدب في بدني في الضوء الصادر عنها، في دفئها المشع. وبعدئذ فعل الفزع الأكبر فعله. وكانت تتفكه به أول الأمر، وبعد العملية الأولى قالت: أنا الآن أمازون.
2
سألته: ولماذا شبهت نفسها بالأمازون؟ - لأن الأمازونيات كن يبترن أثداءهن اليمنى؛ كن محاربات والثدي يقف عقبة في الطريق وهن يطلقن السهام بالقسي الطويلة. وكرر عبارته: «الآن أنا من الأمازون.» واستطاع بمخيلته أن يرى البسمة على وجهها الذي يشبه وجه النسر، وأن يسمع بذاكرة الأذن نغمة السرور في صوتها الواضح الرنان. واستطرد قائلا: وكان لا بد بعد بضعة أشهر من بتر الثدي الآخر. وكانت بعد ذلك الأشعة السينية والمرض ثم الانهيار شيئا فشيئا. وارتسمت على وجه ويل الضراوة والقسوة، واستطرد قائلا: لولا أن حالتها كانت شنيعة فوق الوصف، لقلت إن الأمر مدعاة حقا للضحك. إنها صورة رائعة لسخرية القدر! هنا روح يشع منه الخير والحب والمحبة النادرة، ثم - ولسبب غير معروف - يحدث شيء من الخلل. وبدلا من أن يستهين الجسم بهذا الخلل، نرى أن جزءا منه يخضع للقانون الثاني للديناميكا الحرارية. ومع تدهور الجسم يفقد الروح فضيلته، هويته الخاصة. ففارقتها بطولتها، وتبخرت منها المحبة وطيبة القلب، ولم تعد في الشهور الأخيرة من حياتها العمة ماري التي أحبها وأعجب بها. كانت إنسانا آخر، إنسانا لا يكاد يتميز عن أسوأ العجائز وأضعفهم الذين صادقتهم في ماضيها وكانت لهم سندا قويا، «وكانت هذه آخر وأروع لمسة من لمسات القدر الساخر»، لا مناص من إذلالها والحط من قدرها. ولما بلغت أدنى درجات الحطة، ألقى بها إلى الموت في عزلتها، ببطء وبألم شديد.
وألح في قوله إنها كانت في عزلة، لا يستطيع أحد - بطبيعة الحال - أن يعينها، ولا يمكن لإنسان أن يكون إلى جوارها. إن الناس قد يقفون إلى جانبك وأنت تعاني الألم أو تعالج سكرات الموت. ولكنهم في الواقع إلى جوارك في عالم آخر. أما في عالمك فأنت وحيد تماما. وحدك في آلامك وفي موتك، كما تكون وحدك في حبك، وحتى في المتعة التي لا تكون أبدا إلا مشتركة.
روائح بابز وتايجر، ورائحة العمة ماري وهي تموت بعدما أحدث السرطان ثقبا في الكبد وشاعت في جسمها المهزول رائحة نفاذة عجيبة؛ رائحة الدم الفاسد. ووسط هذه الروائح، التي كان يعيها متقززا أو كالمخمور. كان هناك شعور منعزل؛ شعور الطفل، والصبي، والرجل، في عزلة دائمة، وحيدا لا سبيل إلى الخروج من وحدته. ثم قال: وفوق كل شيء آخر، لم تزد هذه المرأة في عمرها عن الثانية والأربعين. ولم ترد أن تموت، ورفضت أن تقبل ما كانوا يفعلون بها. ولكن الفزع الأكبر كان لا بد أن يشدها بقوته إلى أسفل. وكنت هناك، وشهدت ما حدث. - ومن أجل ذلك كنت من الرافضين؟
ورد عليها بقوله: وهل يمكن لأي إنسان إلا أن يكون رافضا؟! الرضا تظاهر، وتفكير إيجابي وحسب. ولكن الحقيقة الأساسية النهائية هي الرفض دائما. «لا» للروح، «لا» للحب، «لا» للعقل، «لا» لأي مغزى ولأي إنجاز!
هذا تايجر مليء بالحيوية، مرح، فيه شيء لله. ثم يتحول بفعل الفزع الأكبر إلى حزمة من المهملات يأتي الطبيب البيطري ويؤجر على إزالتها، ثم هذه العمة ماري بعد تايجر، تتكسح وتتعذب، وبعدئذ تسحل في الوحل، وتنحط، وأخيرا تتحول - كما تحول تايجر - إلى حزمة من المهملات. غير أن الحانوتي في حالتها هو الذي وكل إليه إبعادها. وقد جيء بقسيس مأجور ليوهمنا أن كل شيء على ما يرام بمعنى سام وبنظرة بيكويك. وبعد عشرين عاما جيء بقسيس مأجور آخر ليكرر هذا الإجراء المعقد العجيب بعينه بجوار نعش مولي. إذا كنت كغيري من الناس قد قاتلت مع الوحوش في أفسيس،
3
فأي فائدة لي من هذا إذا لم يبعث الموتى؟! دعنا نأكل ونشرب؛ لأننا في الغد سوف نموت.
وضحك ويل كالضبع مرة أخرى: أي منطق صارم، أي إحساس، وأي قواعد خلقية مهذبة!
ولكنك من الرافضين، فلماذا تثير أي اعتراض ؟ - أنت على حق، وما كان ينبغي لي، ولكن الإنسان بطبيعته يعشق الجمال، ويحب أن يرفض بأسلوب جميل. وأشاح بوجهه ليعبر عن اشمئزازه وهو يردد قوله: دعنا نأكل ونشرب؛ لأننا في الغد سوف نموت. وكشر في نظرته تعبيرا عن شعوره بالاشمئزاز.
قالت سوزيلا: ومع ذلك فالنصيحة رائعة بمعنى ما. الأكل والشرب والموت، ثلاثة مظاهر أولية للحياة العالمية غير الشخصية. الحيوانات تعيش هذه الحياة العالمية غير الشخصية دون علم بطبيعتها. وعامة الناس يعرفون طبيعتها ولكنهم لا يعيشونها. وإذا هم فكروا فيها جديا يرفضون قبولها. أما الشخص المستنير فهو يعلمها، ويعيشها، ويقبلها قبولا كاملا. إنه يأكل ويشرب وإذا جاء أجله يموت؛ ولكنه يأكل وهو مكترث، ويشرب وهو مكترث، ويموت وهو مكترث.
وسأل متهكما: ويبعث مرة أخرى مع الموتى؟ - هذا سؤال كان بوذا يرفض أن يناقشه. إن الاعتقاد في حياة أبدية لم يساعد إنسانا قط على العيش في الأبدية. وبطبيعة الحال لم يساعده على ذلك عدم الاعتقاد؛ لذلك يجب أن تتوقف بتاتا عن الإدلاء بالحجج التي تؤيد أو الحجج التي تدحض (هذه هي نصيحة بوذا) وامض في عملك. - أي عمل؟ - عمل كل إنسان؛ الاستنارة، ومعناها: الآن، وفي هذا المكان، المهمة الأولى لممارسة كل أنواع اليوجا التي تزيد من وعيك.
قال ويل: ولكني لا أريد المزيد من الوعي، بل أريد أن أكون أقل وعيا. أقل وعيا بالأهوال كموت عمتي ماري، والأحياء الشعبية في راندنج لوبو. أقل وعيا بالمناظر المؤذية والروائح الكريهة؛ بل والروائح المستساغة أحيانا. وقد أضاف ذلك عندما تذكر رائحة الكلب وسرطان الكبد ونفحة الطيب التي كانت تهب عليه من الركن القرنفلي. أقل وعيا بدخلي الكبير مع فقر الآخرين فقرا ينزلهم عن المكانة الإنسانية أقل وعيا بصحتي الممتازة في خضم الملاريا والدوسنتاريا، وأقل وعيا بمتعتي الجنسية المحصنة من الأمراض وسط خضم من الأطفال الذين يموتون جوعا، «اللهم سامحهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون». إنها نعمة. ولكني لسوء الحظ أعلم ما أفعل. ولكني أعلمه أكثر مما ينبغي. ثم تطلبين إلي بعد ذلك أن أكون أكثر وعيا مما أنا عليه؟
قالت: أنا لا أطلب إليك شيئا، إنما أنا أنقل إليك فقط نصيحة توارثها حكيم عن حكيم بدءا من جوتاما وانتهاء براجا العجوز. وابدأ بأن تكون على وعي تام بما تظن من تكون؛ إن ذلك يعينك على أن تصبح على وعي بمن أنت في الواقع.
هز كتفيه وقال: يظن المرء أنه فذ وعجيب وأنه مركز الكون. في حين أنه ليس في الواقع سوى معوق بسيط في سير الإنتروبيا
4
المستمر. - هذا بعينه هو النصف الأول من رسالة بوذا؛ الزوال. ليست هناك روح باقية، وحزن لا مناص منه. ولكن بوذا لم يقف عند هذا الحد، ولرسالته نصف آخر. هذا التباطؤ المؤقت في الإنتروبيا هو كذلك حقيقة من الحقائق المثالية الصافية، وعدم وجود الروح الباقية هو كذلك الطبيعة البوذية. - عدم وجود الروح؛ هذا أمر من اليسير مجابهته. ولكن ماذا عن وجود السرطان، ووجود الانهيار البطيء؟ وماذا عن الجوع وكثرة النسل والكولونيل ديبا؟ هل هؤلاء كذلك من المثالية البحتة؟ - طبعا. ولكني لست في حاجة إلى أن أقول إنه يستحيل إطلاقا على أولئك المنغمسين إلى الأذقان في أي من هذه الشرور أن يكشفوا عن طبيعة بوذا في نفوسهم. إن الصحة العامة والإصلاح الاجتماعي شرطان مسبقان لا غنى عنهما لأي نوع من أنواع الاستنارة العامة. - ولكن على الرغم من الصحة العامة والإصلاح الاجتماعي فإن الناس يموتون. وأضاف ساخرا: حتى في بالا. - ولذلك كانت بوذية ديانا
5
من النتائج الطبيعية للرفاهية؛ كل يوجات الحياة والموت لا بد منها، لكي تكون على وعي - حتى عند الآلام النهائية - بمن أنت في الواقع، على الرغم من كل شيء.
وسمع وقع أقدام على خشب الفراندة، وصوت طفلة ينادي: أماه!
وردت سوزيلا: أنا هنا يا عزيزتي.
وانفتح الباب الخارجي على مصراعيه ودخلت الغرفة ماري ساروجوني على عجل.
وقالت بأنفاس متقطعة: أمي. إنهم يريدونك أن تحضري فورا. إن جدتي لاكشمي ... ووقع بصرها لأول مرة على إنسان في الأرجوحة الشبكية، فذعرت وكفت عن الكلام، ثم قالت: لم أكن أعلم أنك هنا.
ولوح لها ويل بيده دون أن يتكلم، وردت عليه بابتسامة آلية، وعادت تقول لأمها: ساءت حال جدتي لاكشمي فجأة، ولا يزال جدي روبرت في محطة المرتفع العالي، ولم يمكن الاتصال به تليفونيا. - هل أتيت عدوا طوال الطريق؟ - إلا في الأماكن شديدة الانحدار.
وطوقت سوزيلا الطفلة وقبلتها، ثم نهضت على قدميها في خفة وكأنها تتأهب لعمل ما.
وقالت: إنها أم ديوجولد.
قال: هل هي ...؟
وصوب نظره نحو ماري ساروجيني، ثم عاد فنظر إلى سوزيلا. هل الموت من المحظورات؟ وهل يجوز للمرء أن يتحدث عنه في حضرة الأطفال؟ - تريد أن تقول هل هي تموت؟
أومأ برأسه إيجابا.
قالت سوزيلا: كنا نتوقع موتها طبعا، ولكن ليس اليوم؛ فقد بدت اليوم أحسن حالا ثم هزت رأسها وقالت: لا بد أن أذهب وأكون إلى جوارها حتى إن كانت في عالم آخر. ثم أضافت قولها: الواقع أنه ليس عالما آخر تماما كما تظن، أنا آسفة لأننا نترك عملنا ناقصا. ولكن سوف تكون هناك فرص أخرى. والآن ماذا تريد أن تفعل؟ تستطيع أن تبقى هنا، وأستطيع أن أنزلك عند الدكتور روبرت، وتستطيع أن ترافقني وماري ساروجيني. - كمحترف لمشاهدة الإعدام.
وأجابت مؤكدة: لا، ليس بهذه الصفة، بل كإنسان، بحاجة إلى أن يعرف كيف يعيش ثم كيف يموت. بحاجة ماسة إلى ذلك، كشأننا جميعا.
قال: بل بحاجة إلى ذلك أكثر من أغلب الناس. ولكن ربما كنت عائقا. - إذا كنت تستطيع ألا تعوق نفسك فلن تكون عائقا لغيرك.
وتناولت يده وساعدته على النزول من الأرجوحة. وبعد دقيقتين كانا يسيران بالعربة بعد بركة اللوتس، وتمثال بوذا الضخم وهو يتأمل تحت رأس الأفعى، والعجل الأبيض، وولجا البوابة الرئيسية للمجمع، وقد انتهى سقوط المطر، وفي سماء خضراء ومضت السحب الضخمة كأنها ملائكة السماء، وناحية الغرب كانت الشمس متوهجة كأنها من الخوارق.
غروب الشمس والموت، الموت ومن أجله كانت القبلات، القبلات والميلاد ثم الموت لجيل آخر ممن يشاهدون غروب الشمس.
سأل ويل: ماذا تقولون لمن يأتيه الموت عندكم؟ هل تقولون لهم ألا يزعجوا أنفسهم بالخلود ، وأن يواصلوا المسير؟ - إذا أردت أن تضع السؤال في هذه الصيغة أقول لك نعم هذا بعينه هو ما نفعل. نستمر في حالة الوعي؛ هذا هو فن الموت كله. - وأنتم تعلمون هذا الفن؟ - أريد أن أضع الحقيقة في صيغة أخرى. إننا نعاونهم على الاستمرار في ممارسة فن العيش حتى وهم يموتون. أن يعرف المرء من هو في الحقيقة، وأن يستشعر الحياة العامة غير الشخصية التي تعيش في كيان كل منا؛ هذا هو فن العيش، وهذا ما نستطيع أن نعين من يموتون منا على الاستمرار في ممارسته، حتى النهاية، وربما بعد النهاية.
سألها: بعد النهاية؟ ولكنك قلت إن هذا شيء تفترضون أن من يجيئه الموت منكم لا يفكر فيه. - إننا لا نسألهم أن يفكروا فيه، إنما نحن نعاونهم - إذا كان هناك شيء من هذا - على أن يمارسوه. إذا كان هناك شيء من هذا (كررت العبارة) وإذا كانت الحياة العامة مستمرة بعدما تنتهي الحياة الخاصة بالفرد. - وهل أنت شخصيا تعتقدين أنها مستمرة؟
ابتسمت سوزيلا وقالت: إن ما أراه أنا شخصيا ليس في صميم الموضوع. وكل ما يهم هو ما يمكن أن أمارسه لا شخصيا؛ وأنا على قيد الحياة، وأنا أموت، وربما وأنا من الأموات.
وسارت بالعربة حتى مكان أوقفتها فيه وأوقفت محركها ودخلا القرية على الأقدام. وكان عمل اليوم قد انتهى، واشتد الزحام في الشارع الرئيسي حتى تعذر عليها المسير.
وأعلنت سوزيلا أنها سوف تواصل المسير وحدها، ثم التفتت إلى ماري ساروجيني وقالت لها: كوني بالمستشفى بعد ساعة، لا قبل ذلك. وخلفتهما لتشق طريقها بين جماعات المشاة، وسرعان ما اختفت عن الأنظار.
قال ويل وهو يبتسم للطفلة التي كانت تجاوره: أنت الآن مسئولة.
فأومأت برأسها جادة وأمسكت بيده وقالت: هيا بنا إلى الميدان لنشاهد ما يجري فيه.
وسألها ويل وقد شرعا في المسير في الشارع المزدحم: ما عمر جدتك لاكشمي؟
أجابت ماري ساروجيني: إنني في الواقع لا أدري. ولكنها تبدو مسنة جدا. وربما كان ذلك لأنها مصابة بالسرطان.
سألها: هل تعرفين ما هو السرطان؟
وكانت ماري ساروجيني على علم تام به، قالت: إنه ما يحدث عندما ينسى جزء منك كل ما يتعلق ببقية الأجزاء، ويسلك مسلك المجانين، ينتشر وينتشر كأن العالم ليس به أحد غيره. وتستطيع أحيانا أن تعالج الأمر، ولكنه في العادة يواصل الانتشار حتى يموت المصاب. - وهذا ما حدث - كما فهمت - لجدتك لاكشمي. - وهي الآن بحاجة إلى شخص يساعدها على الموت. - وهل أمك كثيرا ما تعاون الناس على الموت؟
أومأت برأسها وقالت: نعم، إنها تتقن ذلك كل الإتقان. - هل شهدت في حياتك أحدا يموت؟
أجابت ماري ساروجيني، وقد بدت عليها الدهشة لأن يوجه إليها مثل هذا السؤال وقالت: طبعا. وأخذت تحسب في عقلها وقالت: شهدت خمسة أشخاص وهم يموتون، أو ستة إذا عددنا الأطفال. - أنا لم أر أحدا قط يموت وأنا في مثل سنك. - عجبا! - شهدت كلبا فقط. - موت الكلاب أسهل من موت الناس؛ لأن الكلاب لا يتحدثون عن الموت قبل وقوعه. - وما هو إحساسك نحو ... نحو من يموت من الناس؟ - الموت أسهل من ميلاد الأطفال. الميلاد مريع، أو على الأقل يبدو مريعا. ولكنك يجب أن تذكر أن الميلاد لا يؤذي أبدا؛ فلقد استبعدوا هنا الألم.
قال ويل: صدقت أو لا تصدقين، أنا لم أر قط في حياتي طفلا يولد.
ودهشت لذلك ماري ساروجيني وقالت: أبدا؟ حتى حينما كنت في المدرسة؟
وتخيل ويل ناظر مدرسته وهو بملابسه الرسمية الكاملة يقوم على تربية ثلاثمائة صبي في ثياب سوداء ويقودهم في رحلة إلى الراقدين بالمستشفى، وقال بصوت مرتفع: حتى حينما كنت في المدرسة. - لم تر أحدا يموت، ولم تر طفلا يولد، كيف عرفت الحقائق؟
قال: في المدرسة التي كنت أذهب إليها لم نعرف الحقائق، وكل ما عرفناه هو الألفاظ.
نظرت إليه الطفلة، وهزت رأسها، ثم رفعت يدا صغيرة سمراء وضربت جبهتها ضربة لها دلالتها، وقالت: هذا جنون، أم هل كان معلموك أغبياء؟
ضحك ويل وقال: كانوا مربين أصحاب العقول الجبارة يؤمنون بأن العقل السليم في الجسم السليم ويتمسكون بتقاليدنا الغربية السامية. والآن خبريني ، ألم تخافي أبدا؟ - من منظر النساء وهن يلدن؟ - لا، من منظر الناس وهم يموتون ، ألم يروعك هذا؟ - وبعد لحظة من الصمت قالت: نعم روعني. - وماذا صنعت؟ - صنعت ما علموني أن أصنع؛ حاولت أن أتبين أي جانب مني خاف ولماذا خاف. - وأي جانب وجدت؟
أشارت ماري ساروجيني بسبابتها إلى فمها المفتوح وقالت: هذا. هذا الذي يقوم بالكلام. كان فيجايا يسميه «المتحدث الصغير». إنه يتكلم دائما عن كل شيء كريه أذكره، وكل شيء ضخم عجيب مستحيل أتصور أني أستطيع أداءه. إنه هو الذي يخاف. - لماذا يخاف؟ - في ظني أنه يخاف لأنه لا يكف عن الحديث عن كل الأمور المفزعة التي قد تحدث لصاحبه. يتحدث أحيانا جهرا وأحيانا سرا. ولكن هناك بين جنبي جانبا آخر لا يخاف قط. - وما هو؟
ذلك الجانب الذي لا يتكلم؛ إنه يكتفي بأن ينظر ويصغي ويحس ما يجري في باطني. وأضافت ماري ساروجيني إلى ذلك قولها: وهو أحيانا يرى بغتة أن كل شيء جميل حقا. لا، لقد أخطأت، إنه يرى الجمال في كل حين. ولكني لا أستطيع ذلك؛ اللهم إلا إذا نبهني وذلك عندما يحدث فجأة. كل شيء جميل، جميل، جميل، حتى قذارة الكلاب وأشارت إلى عينة منها عند أقدامهما تقريبا.
ومرقا من الشارع الضيق إلى السوق. وكانت الخيوط الأخيرة من الشمس الغاربة لا تزال تسقط على برج المعبد المخروط، وعلى تلك الأبراج الصغيرة القرنفلية المقامة على سطح صالة البلدية. أما في السوق فقد كانت هناك بوادر الشفق، كما أسدل الليل ستاره فعلا تحت شجرة التين الضخمة. وقد أشعلت النسوة البائعات فوق الأكشاك المصابيح التي تدلت في حبال عقدت على غصون الأشجار. وظهرت تحت ظلال الأشجار بقع لها شكلها ولونها، ومن فراغ تكاد لا تراه العين برز أشخاص سمر البشرة إلى الضوء لحظة ثم اختفوا ثانية في الفراغ المجهول. وفي المساحات التي تقع بين الأبنية المرتفعة رنت أصوات حديث بالإنجليزية المختلطة بلغة أهل بالا، كما ترددت الضحكات، والصيحات ونغمات الغناء ونباح الكلاب وصياح الببغاوات. وفوق أحد الأبراج القرنفلية الصغيرة قبعت مينتان تصيحان بغير كلل نداء الانتباه والرأفة. ومن مطبخ في العراء وسط الميدان هبت نكهة طعام شهي يطهى فوق النار، نكهة البصل والفلفل، والسمك المقلي، والكعك، والأرز المغلي، ومن خلال هذه الروائح القوية الطيبة هبت رائحة زكية حلوة صافية كالأثير، هي رائحة أكاليل الزهر ذات الألوان المتعددة معروضة للبيع بجوار نافورة مياه، وتذكر المرء بالعالم الآخر.
احلولك الظلام وفجأة أشعلت المصابيح التي تدلت من أقواس عليا فوق الرءوس، وتلألأت عقود النسوة وخواتمهن وأسوارهن براقة لامعة على بشرتهن المتوردة النحاسية الزيتية. وفي ضوء المصابيح المتدلية بدت خطوط أجسادهن وأشكالهن أكثر سحرا وأظهر صورة وأقوى وجودا. وفي محاجر العيون وتحت الأنوف والأذقان اشتد عمق الظلال، وبرزت النهود الصغيرة وقد شكلها الضوء والظلام، وظهرت الخطوط والتجاعيد واضحة في أوجه العجائز.
وسارا بيدين متشابكتين وسط الزحام.
وحيت ماري ساروجيني امرأة نصفا، ثم اتجهت نحو ويل وسألته: هل أنت ذلك الرجل الذي وفد من الخارج؟
وأكد لها أنه من الخارج من كل جانب من جوانبه تقريبا.
وحدقت فيه لحظة في صمت، ثم ابتسمت له مشجعة وربتت على خده.
قالت: كلنا في غاية الأسف لك.
وانطلقا، حتى بلغا حاشية مجموعة من الناس تجمعت عند سفح درجات المعبد لتستمع إلى شاب يعزف على آلة موسيقية طويلة الرقبة تشبه العود ويغني بلغة بالا. وكان يعزف نغما متلاحقا مرة، متقطعا كزقزقة الطير مرة أخرى، وينتهي بنغمة عالية قوية بهيجة في أعقابها صيحة. وتضحك الجماهير، ويتلو ذلك بعض الفواصل الموسيقية وبيت أو بيتان من النشيد، ثم يضرب المغني ضربته الأخيرة على الوتر. وردد الحاضرون صياح الاستحسان وعلت ضحكاتهم وأخذت جماعة منهم تعلق على ما سمعت بعبارات غير مفهومة.
سأل ويل: ماذا يعني كل هذا؟
أجابت ماري ساروجيني: إنه نشيد للبنين والبنات وهم يتزاوجون.
وأحس بريبة المذنب. ولما تطلع إلى وجه الفتاة المطمئن أدرك أنه لم يكن ثمت داع لقلقه؛ إذ كان من الواضح أن تزاوج البنين والبنات أمر مسلم به تماما كالذهاب إلى المدرسة أو تناول ثلاث وجبات كل يوم، أو الموت.
واستمرت ماري ساروجيني في حديثها قائلة: إن ما أضحكهم هو قوله: إن بوذا المستقبل لن يغادر منزله ليجلس تحت شجرة بوذا، فسوف تأتيه الاستنارة وهو في فراشه مع الأميرة.
سألها ويل: وهل تظنين هذه فكرة حسنة؟
أومأت برأسها مؤكدة وقالت: ومعنى ذلك أن الأميرة سوف تستنير كذلك.
قال ويل: أصبت كبد الحقيقة، وإني باعتباري رجلا لم أفكر في الأميرة.
وضرب العازف على أوتار العود ضربات متلاحقة عجيبة، أتبعها بنغمات متماوجة وشرع يغني بالإنجليزية هذه المرة، وأنشد:
الكل يتحدث عن الجنس،
لا تأخذهم مأخذ الجد،
مومسا كانت أم راهبا،
بولس كان أم فرويد،
إذا أنت أحببت،
استحالت شفتاك،
واستحال ثدياها بمعجزة،
إلى طبيعتهما،
إلى الصورة المثلى،
والفراغ المطلق.
وانفتح باب المعبد على مصراعيه. وهبت رائحة البخور ممتزجة بروائح البصل والسمك المقلي من حولهم. وبرزت امرأة عجوز وفي حذر شديد أحنت ظهرها المهتز وهي ترقى درجة بعد درجة.
وسألته ماري ساروجيني وهما يتأهبان للمسير: من هو بولس، ومن هو فرويد؟
وقص لها قصة الخطيئة الأولى وقصة الخلاص. وأصغت إليه الفتاة باهتمام مركز.
وعلقت بقولها: إنني لا أدهش لما جاء في الأغنية، بألا نأخذهما مأخذ الجد.
قال ويل: ونأتي بعد ذلك إلى الدكتور فرويد ونظرية مركب أوديب.
قالت ماري ساروجيني: أوديب؟
6
هذا اسم استعراض للعرائس، شهدته في الأسبوع الماضي، وسوف يعرضونه مرة أخرى هذا المساء. هل تحب أن تشاهده؟ إنه لطيف.
قال: لطيف؟ لطيف؟ كيف تقولين عنه ذلك. وقد تبين أن المرأة العجوز هي أمه وقد شنقت نفسها، وفقأ أوديب عينيه؟
قالت ماري ساروجيني: ولكنه لم يفقأ عينيه. - بل لقد فعل في البلد الذي وفدت منه. - ليس هنا. إنه يقول فقط أنه سوف يفقأ عينه، وهي تقول إنها تحاول فقط أن تشنق نفسها. وقد تم إنقاذهما بالحديث مع كل منهما. - من فعل ذلك؟ - فتى وفتاة من بالا.
سأل ويل: كيف تدخلا في الأمر؟ - لست أدري، ولكنهما هناك. نحن نسمي المسرحية هنا «أوديب في بالا»؛ ولذلك كان وجودهما لا بد منه. - تقولين أنهما تحدثا إلى جوكاستا وأنقذاها من الانتحار، وإلى أوديب وأنقذاه من أن يعمي نفسه؟
نعم، وفي الوقت المناسب. وكان ذلك عندما لفت الحبل حول رقبتها. وعندما أمسك بدبوسين ضخمين. ولكن الفتى والفتاة من بالا قالا لهما ألا يتصرفا تصرفا أحمق، والأمر كله لم يكن سوى مصادفة، فهو لم يعرف أن الرجل العجوز أبوه. ومع ذلك فإن الرجل العجوز هو الذي بدأ بالعدوان وضربه على رأسه فأفقد أوديب صوابه، ولم يكن أحد قد علمه رقصة راكشاسي على المزمار. ولما نصبوه ملكا تزوج الملكة العجوز؛ وهي في الحقيقة أمه. ولكن كليهما لم يكن على علم بذلك. وبطبيعة الحال كل ما كان ينبغي لهما عمله عندما عرفا الحقيقة أن يتخليا عن الزواج. وقصة زواجه بأمه كانت سببا في أن يموت كل إنسان بفيروس؛ كل هذا هراء، اخترعه قوم أغبياء كان علمهم محدودا. - ولقد ظن الدكتور فرويد أن كل الأولاد الصغار يريدون فعلا أن يتزوجوا من أمهاتهم ويقتلوا آباءهم. والأمر على عكس ذلك مع البنات؛ إنهن يردن أن يتزوجن من آبائهن.
سألت ماري ساروجيني: أي الآباء وأي الأبناء، عندنا الكثير منهم. - تقصدين في نادي التبني المتبادل؟ - في نادينا اثنان وعشرون منهم. - الأمان في كثرة العدد؟ - ولكن أوديب المسكين لم ينتم إلى ناد من هذه النوادي. ثم إنهم - فوق ذلك - علموه تلك الحكايات المريعة التي تروي غضب الآلهة على الناس كلما ارتكبوا خطأ من الأخطاء.
وشقا طريقهما في الزحام حتى بلغا ساحة سورت بالحبال بها مائة أو يزيدون من المشاهدين الذين استووا على مقاعدهم. وفي أقصى الساحة لمحا مقدمة خشبية زاهية اللون في حمرة ذهبية تتألق في ضوء مصابيح قوية سلطت عليها، هي مقدمة مسرح العرائس. وأخرج ويل حفنة من قطع النقود الصغيرة كان قد أعطاها إياه الدكتور روبرت ودفع ثمن تذكرتين، ودخلا ثم جلسا فوق مقعد أعد لشخصين.
دق الناقوس وارتفع ستار المسرح الصغير في غير جلبة، ووقعت عيونهما على أعمدة بيضاء قائمة على أرض خضراء، تشكل واجهة قصر طيبة الملكي، وظهر تمثال لإله من آلهة اليونان له شعر كث في خديه جالسا وسط سحابة تعلو المثلث الذي أقيم في أعلى واجهة المبنى. ومن اليمين دخل قسيس شبيه بالإله تماما إلا أنه أصغر حجما وأقل فخارا في ردائه، وانحنى للمشاهدين ثم اتجه صوب القصر وصاح بصوت كصوت المزمار لا يتفق بتاتا مع اللحية المهيبة للقسيس بصورة مضحكة، صاح قائلا: «أوديب!» ودقت الطبول إيذانا بانفتاح الباب للملك القادم متوجا ينتعل حذاء يبلغ منتصف الساق كان يلبسه ممثلو التراجيديا اليونانية، وحياه القسيس بانحناءة الاحترام، ثم سمح الملك الدمية له بالكلام.
قال صاحب الصوت المزماري: استمع إلى مآسينا.
أطرق الملك برأسه وأصغى.
قال: إني أسمع أنات الرجال على فراش الموت، وأسمع عويل الأرامل، ونحيب من فقدوا أمهاتهم، وتمتمة دعاء وتضرع.
قال الإله المتلفع بالسحاب: تضرع! حياكم الله، وربت على صدره.
قالت ماري ساروجيني هامسة: أصابهم فيروس، كالحمى الآسيوية، بل وأسوأ منها.
قال القسيس متبرما بصوته الرفيع: إننا لا نكف عن الابتهال، ونقدم الضحايا الثمينة، كلنا أطهار، نكفر عن خطايانا بتعذيب أنفسنا أيام الاثنين والأربعاء والجمعة. ولكن طوفان الموت يزداد انتشارا ويزداد عدد الموتى يوما بعد يوم، أعنا أيها الملك أوديب، أعنا. - الله وحده يعين.
صاح الإله المعتلي: حياك الله، حياك الله. - ولكن كيف؟ - الله وحده يملك القول.
قال الإله بصوته العميق: صحيح، صحيح تماما. - لقد ذهب كريون شقيق زوجتي إلى العرافة يستشيرها. وعندما يعود - ولا بد أن يعود على عجل - سوف نعرف ما تنصح به السماء.
وصححه صاحب الصوت العميق قائلا: بل ما تأمر به السماء.
ضحك المشاهدون وسألت ماري ساروجيني: هل كان الناس حقا بكل هذه الحماقة؟
قال لها ويل مؤكدا: حقا وصدقا.
وبدأ الفونوغراف يعزف نشيد الموتى.
ومن اليسار إلى اليمين سار على خشبة المسرح في بطء شديد موكب الثاكلين في ثياب الحداد يحملون النعوش المكسوة بالملاءات، دمية بعد دمية. وما إن اختفت المجموعة جهة اليمين حتى عادت ثانية من اليسار، وكأن الموكب بغير نهاية وجثث الموتى بغير حصر.
قال أوديب وهو يشهد مرور الموكب: هذا ميت، وهذا ميت، آخر، وآخر، وآخر.
قال صاحب الصوت العميق: هذا درس لهم. كل إنسان يتحول إلى شيء تافه!
واستمر أوديب في كلامه فقال:
نعش الجندي، ونعش البغي،
والطفل في برودة الصخر،
ينضم إلى ثديين لم يرضعا،
يحسان ألما خفيفا،
والشابة في هلع تنصرف،
عن الوجه الأسود المنتفخ،
الذي كان فيما مضى،
يرفع الرأس عن الوسادة يفضضها بنوره القمر،
متلهفا للقبل،
ماتوا، كلهم ماتوا،
يبكيهم من من بعدهم يموتون،
ويحملهم من حكم عليه بالفناء،
وبخطى ثقيلة يسيرون،
إلى حديقة من أشجار السرو،
وهناك تستقبلهم حفرة عميقة،
ومنهم تفوح الروائح الكريهة،
في وجه القمر.
وبينما كان يتحدث دخلت من ناحية اليمين دميتان أخريان، فتى وفتاة، في أبهى حلة بالية، واتجها إلى الناحية الأخرى نحو الثاكلين في ثوب الحداد، ووقفا بذراعين متشابكتين على خشبة المسرح على يسار الوسط بقليل.
وما إن انتهى أوديب من كلامه حتى قال الفتى:
ولكنا نحو الحدائق الوردية نسير،
وهناك يتلى هراء من طقوس الرؤيا،
يبعث في الأذهان،
من جلود ممسوسة،
ولحم يذوب،
الأبدي الموجود في كل الوجود.
ومن الفضاء الأعلى دمدم صاحب الصوت العميق سائلا: وماذا عني؟ الظاهر أنكم نسيتم أنني من العالم الآخر الكامل.
وواصل الموكب الحزين الذي لا يكاد ينتهي مسيره نحو المقابر. والآن سكت المترنمون بنشيد الموت، وخفت الموسيقى فلم تسمع إلا نغمة واحدة من البوق والطبل، واستمرت إلى ما لا نهاية، ورفع الفتى يده وقال: أنصتوا! هذا اللحن الرتيب، هذه النغمة الموسيقية المتكررة. وأخذ الثاكلون يرددون سويا على آلات غير منظورة. - الموت، الموت، الموت، الموت ...
قال الفتى: ولكن الحياة تعرف أكثر من نغمة واحدة.
وقاطعته الفتاة بقولها: الحياة تستطيع أن تغنى بصوت عال وصوت منخفض. - وهذا النغم الرتيب الذي لا ينتهي، نغم الموت، يجعل الموسيقى أكثر غنى.
قالت الفتاة: نعم أكثر غنى.
وشرع الصادح والثلاثي يتغنون غناء شجيا.
وأخذ اللحن الرتيب والغناء يخفتان تدريجا حتى انتهيا إلى الصمت، واختفى آخر الثاكلين وأوى الفتى والفتاة إلى ركن قصي يستطيعان فيه أن يتبادلا القبلات، دون أن يزعجهما أحد.
ودقت الطبول مرة أخرى، ودخل كريون،
7
بدينا يرتدي سترة قصيرة ضيقة، قادما لتوه من دلفي. وفي جعبته كثير من إجابات الكهان. ودار الحديث لبضع دقائق بين كريون وأوديب بلغة أهل بالا، وقامت ماري ساروجيني بدور المترجم. - يسأل أوديب ماذا قالت الآلهة، ويرد الآخر إن ما قالته الآلهة هو أن كل ما حدث يرجع إلى أن رجلا ما قتل الملك العجوز، الملك الذي سبق أوديب، ولم يستطع أحد أن يلقي القبض عليه، وهو ما يزال حيا في طيبة، وهذا الفيروس الذي يفتك بالناس جميعا أرسلته الآلهة نوعا من أنواع العقوبة؛ هذا ما روى كريون عما قيل له. ولست أدري لماذا يجازى كل هؤلاء الناس الذين لم يعتدوا على أي أحد. ولكن هذا ما قال إن الآلهة قد أفضت به إليه، ولن يختفي الفيروس حتى يقبضوا على الرجل الذي قتل الملك العجوز ويطردوه من طيبة. ويقول أوديب - طبعا - إنه سوف يقوم بكل شيء بمستطاعه ليعثر على الرجل ويتخلص منه.
وشرع الفتى يلقي خطابا من الركن الذي أوى إليه - وكان الخطاب هذه المرة بالإنجليزية:
هذا الإله،
الذي يكون على حقيقته،
عندما يكون غامضا متساميا،
يتكلم هراء غير رباني،
حينما يكون واضح الكلام،
في غضبة الأسد يقول،
الخطيئة سبب الوباء،
وعليكم يكون الندم،
ونقول: هذه قذارة فاكسحوها.
وضحك المشاهدون. وفي أثناء ذلك ظهرت مجموعة أخرى من الثاكلين من الجانبين وعبرت المسرح في بطء شديد.
قالت الفتاة: كارونا، الرأفة. إن معاناة الأغبياء واقعية كأية معاناة اخرى.
وأحس ويل بلمسة على ذراعه، وتلفت وإذا به ينظر إلى الوجه العابس الجميل، وجه موروجان.
قال موروجان غاضبا: كنت أبحث عنك في كل مكان. وكأن ويل قد أخفى نفسه عمدا لا لشيء إلا لكي يغضبه. ورفع صوته في الكلام فالتفتت إليه رءوس كثيرة، ونادى بعضهم يطلب الصمت.
واستمر الصبي في تذمره بغض النظر عن صياح الاحتجاج وقال: لم أجدك عند الدكتور روبرت، ولم أجدك عند سوزيلا. - الصمت، الصمت ...
وصاح صاحب الصوت العميق صيحة عالية من بين السحب التي كانت تحيط به وقال: الصمت! وأضاف متضجرا: إن الأمور تتأزم وإلهكم لا يستطيع أن يسمع حديث نفسه.
قال ويل وقد اشترك بضحكه مع الضاحكين: حسنا، حسنا. ونهض قائما وهرع إلى باب الخروج يتبعه موروجان وماري ساروجيني.
سألته ماري ساروجيني: ألا ترى النهاية؟ ثم التفتت إلى موروجان وقالت في نغمة التأنيب: كنت تستطيع أن تبقى.
قال موروجان في اقتضاب: كوني في حالك.
ووضع ويل إحدى يديه على كتف الطفلة وقال: لحسن الحظ إن روايتك للنهاية كانت من الوضوح بحيث لم أرد أن أشهدها بعيني رأسي. ثم أضاف متهكما: وبالطبع صاحب السمو يحب دائما أن يكون في المحل الأول.
واستل موروجان ظرف خطاب من جيب البيجاما الحريرية البيضاء التي كانت تخطف عين الممرضة الصغيرة وسلمها لويل قائلا: هذه الرسالة من أمي، وهي عاجلة.
وعلقت ماري ساروجيني وهي تشم عبير خشب الصندل الحلو الذي كان يفوح من رسالة الراني، وقالت: ما أحلى رائحتها!
وفض ويل الرسالة وهي من ثلاث ورقات في زرقة السماء مزينة بخمس نجوم زهرات من اللوتس ذهبية اللون تحت تاج ملكي. ما أكثر الكلمات التي تحتها خط، وما أكثر الكلمات التي كانت مخطوطة بحرف التاج! وشرع يقرأ:
لقد كان صوتي الضعيف يا عزيزي فارنبي على حق؛ كعادته! قيل لي مرارا وتكرارا عن الدور الذي قدر لصديقنا المشترك أن يؤديه لبالا الصغيرة المسكينة «وعن طريق المعونة المالية التي سوف تسمح له بالا بالإسهام بها للحملة الصليبية الروحية» للعالم أجمع؛ ولذلك لم تكن مفاجأة لي عندما قرأت البرقية «التي وصلت منذ بضع دقائق عن طريق باهو المخلص وزميله في السلك السياسي في لندن» أن أعلم أن اللورد «أ» قد أعطاك السلطة الكاملة «والتي تخول لك من غير شك» في أن تتفاوض نيابة عنه؛ نيابة عنا؛ لأن مصلحته هي مصلحتك ومصلحتنا «لأننا جميعا صليبيون كل بطريقته الخاصة» ومصلحة الروح!
وليس وصول برقية اللورد «أ» هو النبأ الوحيد الذي أنهيه إليك؛ فالحوادث (كما علمنا اليوم مساء من باهو) تسير على عجل نحو نقطة التحول الكبرى في تاريخ بالا؛ تسير على عجل أكثر مما ظننت من قبل أن يكون في حدود الإمكان. ولأسباب بعضها سياسي: «الحاجة إلى تعويض الانهيار الذي أصاب حديثا شعبية الكولونيل «د»»، وبعضها اقتصادي: «أعباء الدفاع أثقل من أن تتحملها راندنج وحدها»، وبعضها فلكي: «يقول الخبراء إن هذه الأيام مواتية بصورة فذة لمغامرة مشتركة يسهم فيه الحمل «أنا وموروجان» وذلك النموذج للعقرب، الكولونيل «د»»، تقرر التعجيل بالإجراء الذي كان محددا له أصلا ليلة خسوف القمر في نوفمبر القادم. ولما كان الأمر كذلك فإنه من الضرورة بمكان لثلاثتنا هنا أن نجتمع بغير إبطاء لكي نقرر ما يجب عمله، في هذه الظروف الجديدة سريعة التغير، لكي ننهض بمصالحنا الخاصة؛ المادية والروحية. إن «الصدفة» المزعومة التي أتت بك إلى شواطئنا في أشد اللحظات حرجا في هذا الزمن كانت - كما يتبين قطعا لك - إلهية بصورة واضحة. وبقي علينا أن نتعاون كصليبيين مخلصين مع تلك القوى المقدسة التي تناصر قضيتنا بصورة لا لبس فيها؛ لذلك لا بد أن تحضر فورا. وموروجان عنده عربة يحضرك بها إلى بيتنا المتواضع، حيث تلقى بالتأكيد يا عزيزي فارنبي استقبالا حارا جدا من المخلصة لك فاطمة ر.
طوى ويل الأوراق الثلاث العطرة الزرقاء التي خطت فيها الرسالة وأعادها إلى الظرف. ولم يرتسم على وجهه أي تعبير، ولكنه كان يخفي وراء هذا القناع من اللامبالاة غضبا شديدا. غضب لهذا الفتى سيئ الخلق الماثل أمامه، فاتنا في بيجامته الحريرية البيضاء، كريها في سخفه المدلل، وغضب عندما شم من الخطاب نغمة أخرى لتلك المرأة الهمجية البشعة التي بدأت بإفساد ابنها باسم محبة الأم وطهارة النفس، وهي الآن تحثه باسم الله وباسم جماعة من الأسياد الواصلين لكي يصبح صليبيا روحانيا يرمي القنابل تحت راية جو ألديهايد التي تفوح برائحة البترول. وغضب - فوق هذا وذاك - من نفسه لأنه تمادى في مشاركته لهذا الزوج السخيف الخبيث في مؤامرة - الله وحده يعلم مقدار دناءتها - ضد الأصول الإنسانية التي لم يمنعه قط رفضه لما يشيع بين الناس من الإيمان بها والتحرق شوقا إليها.
قال موروجان بنغمة تظاهر فيها بالثقة : هل ننصرف الآن؟ وكان واضحا أنه يفترض أن من المبادئ المسلم بها أن فاطمة ر، حينما تصدر أمرا كانت الطاعة بالضرورة واجبة بغير تردد.
أحس ويل أنه بحاجة إلى بعض الوقت تبرد فيه حرارة الغضب فلم يسارع بالرد عليه. بل أشاح بوجهه لكي يشاهد الدمى التي ابتعدت عنه الآن. وكانت جوكاستا وأوديب وكريون يجلسون على درجات سلم القصر ينتظرون فيما يبدو وصول تيريسياس.
8
وفي أعلى ظهر صاحب الصوت العميق وقد أخذته سنة من النوم. كما كانت مجموعة من الثاكلين المتشحين بثوب الحداد تعبر المسرح. وعلى مقربة من أضواء مقدمة المسرح بدأ الفتى البالي يلقي خطابا في شعر منثور:
الضياء والرأفة،
أمران بسيطان بساطة يعجز عنها التعبير.
وهذه البساطة لبثت جيلا بعد جيل.
بانتظار الحيل الفكرية،
التي تعرف الواحد في المتعدد،
وأن كل شيء هنا حاضر،
وأن الحقيقة مستترة في الخيال.
انتظرت ولا تزال تنتظر،
في تيه من العبث،
وفي غموض شديد،
يتشابكان بغير تمييز،
النزوة تختلط بالمحبة،
والصدق بوظيفة الكلية،
والجمال في الطعام المهضوم،
والصفراء، والسائل المنوي،
واسم الله مع الطعام،
واسم الله مع غياب الطعام،
أو رنين الأجراس،
وهي تدق فجأة،
دقة، دقتين، ثلاث دقات،
في آذان مصغية.
وضرب العازفون على أوتار القيثار، ونفخ النافخون أنفاسا طويلة في المزمار.
وقال موروجان مرة أخرى: هل ننصرف الآن؟
ولكن ويل رفع يده ليسكته. وتحركت إلى وسط المسرح الفتاة الدمية وهي تغني:
ثلاثة مليارات من خلايا المخ،
من الداخل إلى الخارج،
ذلك هو الفكر،
وبلايين من أشواط البليارد،
تحدد للإنسان إيمانه وشكه،
الإيمان عندي تصادم بينها،
والمنطق عندي إنزيم لديها،
والأدرينالين القرنفلي رؤياي،
والأدرينالين الأبيض جرائمي،
أنا التنظيم المحسوس،
لعشرات من حركاتها،
وكل ذرة في وحدتها،
تنبئ بالضرورة من أكون.
نفد صبر موروجان فأمسك بويل من ذراعه وقرصه قرصة قوية، وصاح قائلا: هل أنت آت؟
والتفت إليه ويل غاضبا، وجذب ذراعه ليخلصها من قبضة الفتى وقال له: ما هذا الذي تصنع بي، أيها الأحمق الصغير؟
وشعر موروجان بشيء من الخوف فغير من نغمته وقال: أردت أن أعرف هل أنت مستعد للذهاب إلى أمي؟
أجابه ويل: لست مستعدا، ولم أذهب.
وصاح موروجان بنغمة تنم عن دهشة بالغة وقال: كيف لا تذهب، وهي بانتظارك، وهي ... - قل لأمك إنني آسف وعندي موعد سابق مع إنسان يحتضر. - ولكن الأمر غاية في الأهمية. - وكذلك الموت.
وأخفض موروجان صوته وقال هامسا: إن شيئا ما يحدث.
ومن خلال ضجيج الزحام المضطرب صاح ويل: أنا لا أستطيع أن أسمعك.
وتلفت موروجان حواليه وجلا، ثم خاطر برفع صوته قليلا وقال: إن شيئا ما يحدث، شيئا خطيرا.
وبالمستشفى شيء يحدث أشد خطرا!
وبدأ موروجان يتكلم وقال: لقد سمعنا لتونا ... ثم تلفت حواليه مرة أخرى، وهز رأسه، وأكمل العبارة قائلا: لا، أنا لا أستطيع أن أخبرك بالأمر هنا؛ ولذلك لا بد لك أن تأتي إلى المنزل، الآن؛ ليس لدينا وقت نضيعه.
ونظر ويل إلى ساعته وردد عبارته: ليس لدينا وقت نضيعه. ثم التفت إلى ماري ساروجيني وقال: لا بد من الذهاب.
أي الطرق نسلك؟
قالت: سأريك. وانطلقا بأيد متشابكة.
وقال موروجان متوسلا: مهلا، مهلا! ولما توقف ويل وماري ساروجيني عن المسير شق طريقه في الزحام ليلحق بهما، وصاح في أعقابهما: ماذا أقول لها؟
وقد كان ما بدا على الصبي من فزع مذلا له بصورة تدعو إلى الضحك. وتغيرت حال ويل من الغضب إلى التفكه، وضحك ضحكة عالية، ثم توقف عن المسير وسأل: ماذا تقولين لها يا ماري ساروجيني؟
قالت الطفلة: أقول لها ما حدث بالضبط؛ أقصد لو كانت أمي. وبعد إعادة التفكير قالت: ولكن الراني ليست أمي، وتطلعت إلى موروجان وسألته: هل تنتمي إلى ناد من نوادي التبني المتبادل؟
وطبعا لم يكن موروجان ينتمي إلى أي ناد منها. كما كانت فكرة هذه النوادي عند الراني من الكفر؛ لأن الله وحده هو الذي يجعل المرأة أما. وأرادت هذه الصليبية الروحانية أن تكون وحدها مع هذه الفريسة التي أعطاها الله إياها .
هزت ماري ساروجيني رأسها وقالت: ليس لك ناد. هذا أمر مريع! لو كان لك ناد لذهبت إلى إحدى أمهاتك ومكثت معها بضعة أيام.
وتملك الرعب قلب موروجان عندما خطر له أنه سوف ينهي إلى أمه الوحيدة نبأ فشله في مهمته. وفي حالة هستيرية عاد إلى الموضوع بصيغة أخرى، وظل يردد قوله: لست أدري ماذا تقول.
قال له ويل: هناك وسيلة واحدة تعرف بها ماذا سوف تقول. اذهب إلى بيتك واستمع.
وتوسل إليه موروجان أن يرافقه وشدد قبضته على ذراع ويل.
قال ويل: قلت لك لا تمسني. فسحب يده القابضة فورا، وابتسم ويل مرة أخرى، ورفع عصاه مشيرا بها للوداع وقال: خيرا فعلت، طبت مساء يا صاحب السمو، ثم التفت إلى ماري ساروجيني وقال بروح مرحة: أرني الطريق يا ماك فيل.
وسألته ماري ساروجيني: هل كنت تتصنع أم هل كنت غاضبا فعلا؟
وأكد لها أنه فعلا غضب وصدقا. ثم تذكر ما شهده في جيمنازيوم المدرسة، ودمدم بالنغمات الأولى لأغنية راكشاسي المزمارية، وضرب على الرصيف بعصاه ذات الطرف الحديدي.
قال: هل كان ينبغي لي أن أضرب بقدمي؟ - ربما كان أفضل. - هل تظنين ذلك؟ - سوف يمقتك بعدما يتخلص من الرعب الذي تملكه.
هز ويل كتفيه، مستهينا إلى أقصى حد، ثم أخذ الماضي يتراجع والمستقبل يقترب وهما يبتعدان عن قوس المصابيح التي كانت تضيء السوق ويصعدان الشارع المظلم شديد الانحدار الذي يتلوى حتى المستشفى، وعندئذ بدأت تتغير حالته النفسية. قال لها: أرني الطريق يا ماك فيل؛ ولكن إلى أين يتجه الطريق، ومن أين يتبعد؟ إنه يتجه نحو مظهر آخر من مظاهر الفزع الأكبر ويبتعد عن كل أمل في الاستمتاع بسنة التحرر التي وعده بها جو ألديهايد والتي كان من الميسور (لأن بالا كان محكوما عليها بالهلاك على أية حال) وليس من الخيانة ولا مما يتنافى مع الأخلاق أن يظفر بها، ولا يبتعد عن الأمل في الحرية فحسب، بل ربما يبتعد كذلك عن أي رجاء في أجر عال يتقاضاه نظير استعباده كمراقب محترف للإعدام. إذا شكت الراني لجو وإذا سخط عليه جو سخطا شديدا، فهل يعود. هل يحاول أن يجد موروجان، ويقدم له الاعتذار ويفعل ما تأمره به تلك المرأة المريعة؟ وعلى بعد مائة ياردة في أعلى الطريق بدت له أضواء المستشفى وهي تتلألأ بين الأشجار.
قال: دعنا نسترح لحظة.
سألته ماري ساروجيني جزعة: هل أنت متعب؟ - قليلا.
وتلفت إلى الوراء واستند على عصاه وألقى على السوق نظرة. وفي ضوء قوس المصابيح تألقت صالة البلدية باللون القرنفلي كأنها جرعة ضخمة من شراب التوت. وفوق قمة برج المعبد رأى مجموعة من التماثيل الهندية في ترتيب فوضوي إلى آخر حد وقد علا بعضها بعضا فوق الأفاريز؛ أفيال ومجموعة من البوذيساتفا، والعفاريت، وبنات خارقات للطبيعة ذوات نهود بارزة وأرداف ضخمة، ومجموعة من تماثيل شيفا وهي تطفر مرحا، وصفوفا من بوذات سبقت وبوذات المستقبل هادئة منتشية. وفي أسفل المساحة التي تقع بين صالة البلدية وهذه التماثيل الميثولوجية، كان جمهور من الناس يتزاحم، وظهر بين الزحام وجه عابس وبيجاما بيضاء من الساتان. فهل يعود؟ ربما كان ذلك هو التصرف الصحيح، الآمن، الحكيم. ولكن صوتا باطنيا، وليس صوتا ضعيفا كصوت الراني، ولكنه صوت جهير صاح به: قذارة! قذارة! هل هو الضمير؟ كلا. الأخلاق؟ لا قدر الله! إنما قذارة زائدة، وقبح، وانحطاط لا يرضاها نداء الواجب؛ هذه أشياء لا يمكنه كرجل صاحب ذوق أن يسهم فيها.
قال لماري ساروجيني: هل نواصل السير؟
ودخلا دهليز المستشفى. وكانت لدى الممرضة الجالسة عند المكتب رسالة من سوزيلا إليهما، مؤداها أن تذهب ماري ساروجيني مباشرة إلى منزل السيدة راو حيث تستطيع هي وتوم كريشنا أن يقضيا ليلتهما. أما فارنبي فعليه أن يتوجه فورا إلى الغرفة رقم 34.
قالت الممرضة: الطريق من هنا وفتحت بابا متأرجحا.
وتقدم ويل، وبفعل شرطي منعكس قال تلقائيا في أدب جم: شكرا. وابتسم، ولكنه بشعور المكتئب المستاء في أعماقه أخذ يعرج نحو المستقبل المخوف.
قالت الممرضة: الباب الأخير على اليسار، وعادت إلى مكتبها في الدهليز، وقالت والباب ينغلق من خلفه: والآن أتركك لتسير وحدك.
وأخذ يردد لنفسه: وحدي، وحدي. وتطابق المستقبل المخوف مع الماضي الذي يطارده، وتمثل له الفزع الأكبر بغير حدود في الزمان والمكان. إن هذا الممر الطويل بجدرانه الخضراء شبيه كل الشبه بالممر الذي سلكه منذ عام ليصل إلى الغرفة الصغيرة التي رقدت فيها مولي تلفظ أنفاسها الأخيرة، وعاوده الحلم المزعج. وبحكم القضاء والقدر، وبوعي منه، تقدم نحو قمة الأحلام المزعجة، الموت، صورة أخرى من الموت.
وأخذ يعد دقات قلبه، اثنتان وثلاثون، ثلاث وثلاثون، أربع وثلاثون ... وطرق الباب وأخذ يصغي إلى دقات القلب، وانفتح الباب. وإذا به أمام رادا الصغيرة وجها لوجه.
همست قائلة: كانت سوزيلا بانتظارك.
وسار ويل وراءها في الغرفة، وانعطف حول إحدى الستائر فوقعت عينه على صورة جانبية لسوزيلا هي ظلها في ضوء المصباح، وعلى سرير مرتفع، ووجه نحيل أسمر ملقى على وسادة، وذراعين لا تزيدان عن عظام يكسوها الجلد، وعلى يدين كأنهما مخلبان. الفزع الأكبر مرة أخرى. ارتعد وابتعد. وأشارت رادا إلى مقعد بجوار النافذة المفتوحة فجلس عليه وأغمض عينه؛ أغمضها ماديا عن الحاضر ولكنه بذلك فتحهما في دخيلة نفسه على ذلك الماضي البغيض الذي ذكره به الحاضر. رحل بمخيلته إلى تلك الغرفة التي استلقت فيها العمة ماري، أو على الأصح من كانت في وقت ما العمة ماري، أما آنئذ فهي شخص آخر لا تكاد تعرفه، شخص آخر كأنه لم يسمع بفعل الخير وبالشجاعة وهما لب حياة العمة ماري، شخص آخر امتلأت نفسه حقدا على كل ما اقترب منه بغير تمييز، كارهة لهم أيا كانوا لا لشيء إلا لأنهم لم يصابوا بالسرطان؛ لأنهم لا يتألمون، ولم يحكم عليهم بالموت قبل الأوان، ومع هذا الحسد الخبيث لما يتمتع به غيرها من صحة وسعادة كانت تتبرم بمرارة إشفاقا على نفسها، وتستشعر اليأس القاتل.
لماذا يحدث هذا لي؟ لماذا؟
في مخيلته استطاع ويل أن يسمع هذا الصوت الأجش الشاكي، وأن يرى هذا الوجه الذي تشوه وسالت فوقه الدموع. وقد كانت الشخص الوحيد الذي أحبه فعلا وأعجب به من كل قلبه . ومع ذلك فقد أحس نحوها بالازدراء وهي تنهار؛ الازدراء بل المقت الشديد.
ولكي يفر من الماضي فتح عينيه، فرأى رادا جالسة على الأرض، تضع ساقا على ساق، معتدلة، وقد جلست جلسة التأمل، وظهرت سوزيلا مثلها في سكون المتأمل جالسة في كرسيها إلى جوار السرير. ثم نظر إلى الوجه المستلقي على الوسادة، وكان كذلك ساكنا، في هدوء يكاد أن يكون هدوء الموت البارد. وفي الخارج في ظلمة الخضرة صاح طاووس على حين غرة. وتلت فترة من الصمت اشتد عمقه بالقياس إلى هذا الصياح، الصمت الحافل بالمعاني الملغزة المريعة.
وضعت سوزيلا إحدى يديها على ذراع المرأة العجوز وقالت: لاكشمي، وأعادت النداء بصوت أعلى: لاكشمي، وما عتم الوجه الذي اكتسى بهدوء الموت جامدا لا يتحرك.
قالت سوزيلا: لا تسترسلي في النوم.
لا تسترسل في النوم؟ ولقد كان النوم - النوم المصطنع الذي أعقب الحقن - بالنسبة للعمة ماري فترة الراحة الوحيدة من تمزق النفس الذي أصابها من إشفاقها على نفسها ومن المخاوف التي ألحت عليها. - لاكشمي!
وعادت الحياة إلى وجهها.
وقالت السيدة العجوز همسا: لم أكن في الحقيقة نائمة. إنما هو الضعف المميت، وكأني أطفو بعيدا عن هذا المكان.
قالت سوزيلا: ولكن لا بد لك أن تكوني هنا، ولا بد لك من أن تعلمي أنك هنا، في كل حين. ودفعت وسادة أخرى تحت كتفي المرأة العجوز، ومدت يدها إلى زجاجة بها أملاح لها رائحة خاصة كانت موضوعة على النضد الصغير المجاور للسرير.
واستنشقت لاكشمي، وفتحت عينيها وحدقت في وجه سوزيلا، وقالت: لقد نسيت كم أنت جميلة، ولكن ديوجولد كان دائما ذا ذوق حسن. وارتسم على وجهها الأعجف للحظة واحدة شبح ابتسامة مزعجة. وبعد لحظة أخرى غيرت من لهجة حديثها وقالت: ما رأيك يا سوزيلا؟ هل سنراه ثانية؟ أقصد هناك؟
وفي صمت ربتت سوزيلا على يد المرأة العجوز، ثم ابتسمت بغتة وقالت: كيف كان الراجا العجوز يصوغ هذا السؤال؟ هل تظنين أننا سوف نراه هناك؟ - وماذا تظنين أنت؟ - أظن أننا خرجنا جميعا من ضياء واحد وأننا جميعا سوف نعود إلى نفس الضياء.
ودار بذهن ويل أن هذه كلها كلمات في كلمات في كلمات. وبجهد جهيد رفعت لاكشمي إحدى يديها وأشارت في اتهام إلى المصباح الذي كان على النضد المجاور للسرير.
وهمست قائلة: إنه يتوهج في عيني.
خلعت سوزيلا المنديل الحريري الأحمر الذي كانت تلف به رقبتها ولفت به ظلة المصباح المصنوعة من الرق. وتحول الضوء من أبيض كاشف بلا مواراة إلى معتم وردي يشع الدفء وكذلك الضوء - كما طاف بمخيلة ويل - الذي سقط على فراش بابز المتغضن كلما أضاء الإعلان عن شراب بورترزجين باللون القرمزي.
قالت لاكشمي: هذا أفضل. وأغمضت عينيها، ثم عادت إلى الكلام بعد فترة طويلة من الصمت وقالت فجأة: الضوء، الضوء، إنه لا يزال يسطع، وسادت فترة من السكون، ثم همست أخيرا بقولها: ما أجمله، ما أجمله! وفجأة جفلت وعضت شفتها.
ووضعت سوزيلا يد المرأة العجوز بين راحتيها وسألتها هل الألم شديد؟
قالت لاكشمي: يكون الألم شديدا لو كان من آلامي، ولكنه - لست أدري كيف - ليس من آلامي. الألم هنا، وأنا في مكان آخر. الأمر شبيه بما يتكشف للمرء عندما يتعاطى عقار الموكشا، لا شيء في الواقع يتعلق به، حتى الألم. - هل لا زلت ترين الضوء؟
هزت لاكشمي رأسها وقالت: عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء أستطيع أن أقول لك متى اختفى، اختفى عندما بدأت أقول إن الألم ليس في الواقع من آلامي. - مع أن ما قلت كلام طيب. - أعلم ذلك. ولكني كنت أعبر عنه «بالكلام». وارتسم على وجه لاكشمي مرة أخرى شبح العادة القديمة، عادة الانزعاج لغير ما سبب.
سألتها سوزيلا: فيم تفكرين. - في سقراط. - سقراط؟ - ثرثرة في ثرثرة في ثرثرة؛ حتى حينما تناول تلك المادة فعلا، لا تجعليني أتكلم يا سوزيلا، عاونيني على أن أخرج من ضياء نفسي.
وبعد فترة من السكون قالت سوزيلا: هل تذكرين ذلك الوقت الذي ذهبنا فيه جميعا إلى معبد شيفا القديم الذي يقع فوق محطة المرتفع الشاهق؟ أنت وروبرت وديوجولد وأنا والطفلان، هل تذكرين؟
وابتسمت لاكشمي مسرورة بالذكرى. - أذكر خاصة ذلك المنظر الذي يشاهده الرائي من الجانب الغربي للمعبد؛ المنظر الذي يمتد فوق البحر، اللون الأزرق، والأخضر والأرجواني؛ وظلال السحب كالمداد. والسحب نفسها؛ الثلج، والرصاص، والفحم النباتي، ولون الساتان. ثم ألقيت سؤالا ونحن نشاهد المنظر. هل تذكرين يا لاكشمي؟ - تقصدين سؤالي عن الضوء الصافي؟
قالت سوزيلا مؤكدة: نعم عن الضوء الصافي. لماذا يتحدث الناس عن «العقل» وكأنه ضوء؟ هل لأنهم رأوا ضوء الشمس فوجدوه من الجمال بحيث يمسي من الطبيعي أن يطابقوا طبيعة بوذا مع أصفى ما يمكن من كل ضوء صاف؟ أم هل وجدوا ضوء الشمس جميلا لأنهم - بالشعور أو باللاشعور - شاهدوا منذ بدء حياتهم للعقل الأكبر رؤى على شكل الضوء؟ وقالت سوزيلا وهي تبتسم لنفسها: وكنت أول من أجاب. وكنت قبل ذلك قد قرأت شيئا لأحد السلوكيين الأمريكان ولم أكف عن التفكير، ولم أقدم إليك سوى «وجهة النظر العلمية». إن الناس يسوون بين العقل «أيا كانت طبيعته» وهلوسة الضوء؛ لأنهم كثيرا ما شاهدوا الشمس وهي تغرب وتأثروا بها أشد التأثر. ولكن روبرت وديوجولد لا يريان هذا الرأي، ويصران على أن الضوء الصافي هو الذي يسبق. - إن المرء يولع بغروب الشمس لأنه يذكره بما يجري دائما - عرف أو لم يعرف - داخل جمجمته وخارج الزمان والمكان. وقد وافقتهما لاكشمي؛ هل تذكرين؟ قلت: «كنت أود أن أؤيدك يا سوزيلا»، على الأقل لأنه ليس من الصواب أن يكون رجالنا على حق في كل الأوقات، ولكنهم في هذه الحالة مصيبون بشكل واضح جدا، وبالطبع كانوا مصيبين وبالطبع كنت مخطئة كل الخطأ. وليست بي حاجة إلى القول إنك عرفت الإجابة الصحيحة قبل أن تسألي السؤال.
وهمست لاكشمي قائلة: إنني لم أعرف شيئا قط، بل استطعت فقط أن «أرى».
وقالت سوزيلا: أذكر ما قلته لي عن رؤيتك للضوء الصافي. هل تريدينني أن أذكرك به؟
وأومأت المرأة المريضة برأسها موافقة.
قالت سوزيلا: كانت المرة الأولى وأنت في الثامنة من عمرك، عندما وقعت عيناك على فراشة برتقالية على ورقة من أوراق الشجر ترفرف بجناحيها في ضوء الشمس، وفجأة تألق الضوء الصافي - الذي يرمز للحقيقة الكبرى المثالية البحتة - من خلالها، كأنه شمس أخرى.
وهمست لاكشمي: بل أشد إشراقا منها. - ولكنه ضوء أخف، فأنت تستطيعين أن تحدقي في الضوء الصافي ولا يصيبك العمى. واذكري هذا الآن، فراشة على ورقة خضراء، ترفرف بجناحيها؛ وإذا بطبيعة بوذا حاضرة حضورا كليا، إنه الضوء الصافي الذي يفوق ضوء الشمس في إشراقه. وكنت حينذاك في الثامنة فقط من عمرك. - وماذا فعلت لأستحق ذلك؟
وتذكر عندئذ ويل تلك الأمسية التي سبقت وفاة عمته ماري بأسبوع أو ما يقرب منه والتي حدثته فيها عن تلك الأوقات السعيدة التي قضياها معا في بيتها الصغير قريبا من أروندل، البيت الذي كانت وصية عليه، والذي قضى به أحسن أيام عطلاته، يشعل النار في أعشاش الدبابير فيطردها منها بدخانها، ويقوم بالرحلات فوق العشب أو تحت أشجار الزان، ويذكر لفائف السجق في بوجنور، وقارئة البخت الغجرية التي تنبأت له أن يصل إلى منصب وزير المالية، وتذكر حامل الصولجان في الكنيسة بردائه الأسود وأنفه الأحمر الذي طاردهما خارج كاتدرائية تشيتشستر؛ لأنهما أغرقا في الضحك. وكررت العمة ماري في مرارة: أغرقتما في الضحك، أغرقتما في الضحك ...
وواصلت سوزيلا حديثها قائلة: والآن عودي بذاكرتك إلى ذلك المنظر الذي بدا من معبد شيفا، واذكري تلك الأضواء والظلال على سطح البحر، وتلك البقع الزرقاء التي تتخلل السحاب، اذكريها، ثم أطلقي العنان لفكرك، أطلقي له العنان حتى يظهر اللافكر. أشياء في الفراغ، وفراغ في الحقيقة الكبرى، والحقيقة الكبرى في صورة أشياء مرة أخرى، داخل عقلك. اذكري ما جاء في سوترا
9
وعيك المشرق، الفراغ، الذي لا ينفصل عن الجسم المشرق العظيم، لا يخضع لميلاد أو موت، إنما هو نفس الضوء الثابت الذي لا يتغير، هو بوذا أميتابها.
10
وكررت لاكشمي العبارة قائلة: هو نفس الضوء، ومع ذلك فقد أظلمت الدنيا كلها مرة أخرى.
قالت سوزيلا: أظلمت لأنك تجهدين نفسك، وأظلمت لأنك تريدينها أن تضيء، اذكري ما اعتدت أن تقولي لي وأنا طفلة صغيرة: بخفة يا بنيتي ، بخفة، تعلمي أن تصنعي كل شيء بخفة، فكري بخفة، واعملي بخفة، واشعري بخفة، نعم اشعري بخفة، حتى إن كنت بعمق تشعرين. دعي الأمور تحدث بخفة، واجهيها بخفة. وكنت في تلك الأيام جادة بشكل غير معقول. كنت صغيرة متزمتة لا تجد الفكاهة إلى نفسي سبيلا. بخفة، بخفة شديدة؛ هذه أغلى نصيحة قدمت لي. والآن أنا أقول لك نفس هذا الكلام يا لاكشمي ... بخفة، يا عزيزتي، بخفة حتى في ساعة الموت. ليس هناك أمر ثقيل، أو ينذر بالشر، أو أكيد. لا فصاحة في الكلام، ولا هزات في الموسيقى، ولا تشخيص يحس صاحبه أنه يحاكي المسيح أو جوته أو نيل الصغيرة. وبالطبع لا لاهوت ولا ميتافيزيقا. مجرد حقيقة الموت وحقيقة الضوء الصافي. ألقي كل أعبائك وسيري إلى الأمام، حواليك رمال متحركة، تجذب قدميك، وتحاول أن تسيخ بك إلى هوة الخوف والإشفاق على النفس واليأس؛ لذلك يجب أن تخففي الوطأ في المسير، مهلا يا عزيزتي، على أطراف أصابع قدميك، لا أعباء على ظهرك، ولا حتى حقيبة الإسفنج، تخلصي من كل العوائق.
تخلصي من كل العوائق ... ذكرت ويل هذه العبارة بعمته المسكينة ماري وهي تغوص إلى أبعاد أعمق وأعمق كلما خطت خطوة في الرمال المتحركة، أعمق وأعمق حتى غابت نهائيا وإلى الأبد في الفزع الأكبر وهي تكافح وتحتج حتى آخر رمق في حياتها. ونظر مرة أخرى إلى ذلك الوجه الأعجف المستلقي على الوسادة ورأى على شفتيه ابتسامة.
واستمع إلى همس أجش ينادي: الضوء، الضوء الصافي، إنه أمامي، أراه وأنا أحس الألم، على الرغم من الألم.
سألتها سوزيلا: وأين أنت؟ - هناك، في الزاوية. حاولت لاكشمي أن تشير. ولكن الإصبع المرفوعة اهتزت وسقطت على الملاءة بلا حراك، أرى نفسي هناك، وتستطيع هي أن ترى جثماني فوق الفراش. - هل تستطيع أن ترى الضياء؟ - لا، الضياء هنا، حيث يستلقي جسدي.
وانفتح باب غرفة المريضة في هدوء، والتفت ويل وأمكنه أن يرى شبح الدكتور روبرت النحيل يخرج من وراء الستار إلى الشفق الوردي.
ونهضت سوزيلا وأشارت إليه ليجلس مكانها فوق الفراش، وجلس الدكتور روبرت، وانحنى إلى الأمام، وأمسك بيد زوجته في إحدى يديه ووضع يده الأخرى على جبينها.
وهمس قائلا: هذا أنا. - أخيرا ...
قال لها إن شجرة قد سقطت فوق خط التليفون. ولم يمكن الاتصال بمحطة المرتفع العالي إلا بالمسير على الطريق. وقد بعثوا برسول في عربة. ولكن العربة تحطمت، فضاع من الزمن أكثر من ساعتين، وختم الدكتور روبرت حديثه قائلا: ولكن أحمد الله فقد استطعت أن أكون هنا في النهاية.
وتنهدت المرأة التي تعاني سكرات الموت تنهدا عميقا، وفتحت عينيها لحظة، وتطلعت إليه وهي تبتسم، ثم أغمضت عينيها ثانية، وقالت: عرفت أنك حضرت.
وبصوت هادئ قال: لاكشمي، لاكشمي. وسحب أطراف أصابعه فوق جبينها المجعد مرة تلو المرة وهو يقول: محبوبتي. وسال الدمع على خديه، ولكن صوته كان ثابتا وتحدث بحنان يصدر عن قوة لا عن ضعف.
وهمست لاكشمي: لم أعد هناك.
وفسرت سوزيلا لحميها هذه العبارة وقالت: كانت هناك في الزاوية وهي تنظر إلى جسدها هنا في الفراش. - ولكني عدت الآن، أنا والألم، أنا والضياء، أنا وأنتم؛ كل ذلك معا.
وصاح الطاووس مرة أخرى، ومن خلال أصوات الحشرات التي تعد في هذه الليلة الاستوائية نوعا من الصمت، ومن بعيد ولكن في وضوح تام سمع صوت موسيقى مرحة، بالمزامير وعلى الأوتار وبدق الطبول المستمر.
قال الدكتور روبرت: أنصتوا. هل تستطيعون أن تسمعوا؟ إنهم يرقصون.
ورددت لاكشمي وراءه: يرقصون، يرقصون.
وهمست سوزيلا: يرقصون برقة كأن لهم أجنحة.
وارتفع صوت الموسيقى مرة أخرى وطرقت الأسماع.
قالت سوزيلا: موسيقى الغزل يا روبرت. هل تذكر؟ - وهل أنسى أبدا؟!
وقال ويل لنفسه: هل يستطيع المرء أن ينسى أبدا؟ هل يستطيع المرء أن ينسى تلك الموسيقى الأخرى البعيدة، وقريبا منه، في سرعة وضحل غير عاديين صوت أنفاس النزع الأخير تطرق أذني صبي صغير؟ في البيت القائم على الجانب الآخر من الشارع كان شخص ما يتدرب على موسيقى براهمز فالس التي كانت عمته ماري تحب أن تعزفها، وأخذت تعد ضرباتها، واحد، اثنين، ثلاثة، واحد، اثنين، ثلاثة، ثم ... وووواحد، اثنين، ثلاثة، واحد، واحد، اثنين، ثلاثة، واحد، و... وهنا اهتزت تلك المرأة الغريبة البغيضة، التي كانت فيما مضى العمة ماري وتنبهت من سباتها المصطنع وفتحت عينيها، وظهر على وجهها الشاحب النحيل تعبير عن أسوأ حالة من حالات المرض الخبيث، وكادت تصيح بصوت أجش لا يميز السامع قائله: اذهب وقل لهم كفوا عن العزف. وتحولت آثار المرض الخبيث إلى آثار اليأس، وشرعت هذه الغريبة - هذه الغريبة البغيضة التي تدعو إلى الإشفاق - في النحيب ولم تتمالك نفسها. دقات موسيقى براهمز فالس: تلك كانت قطع الموسيقى - بين كل ما تملك من الأنغام - التي أحبها فرانك أكثر من أي شيء آخر.
وهبت نفحة أخرى من الهواء البارد جلبت معها نغمة أعلى من تلك الموسيقى المرحة البهيجة.
قال الدكتور روبرت: هؤلاء الشباب الذين يتراقصون، وهذا الضحك وهذه الشهوة، وتلك السعادة التي لا تشوبها شائبة! كل ذلك هنا، يخلق جوا، كأنه مجال من مجالات القوة. سرورهم وحبنا - حب سوزيلا، وحبي - كل ذلك يأتلف ويقوي بعضه بعضا؛ الحب والسرور يلفك يا عزيزتي، الحب والسرور يرفعانك إلى هدوء الضوء الصافي، استمعي إلى الموسيقى. هل لا زلت تسمعينها يا لاكشمي؟
قالت سوزيلا: لقد شطحت مرة أخرى، حاول أن تستعيدها.
ودفع الدكتور روبرت إحدى ذراعيه تحت جسدها المهزول ورفعه قليلا إلى وضع الجلوس، وتدلى رأسها على أحد الجانبين واستند إلى كتفه.
وظل يهمس لها: حبيبتي، حبيبتي ...
وانفرج جفناها لحظة. وفي همس يكاد لا يسمع كرر ويل قوله: اشتدي بريقا. وعندئذ ارتسمت على شفتيها ابتسامة السعادة، قوية حتى لتكاد أن تكون ابتهاجا، وغيرت من ملامح وجهها.
ومن خلال دموعه بادلها الدكتور روبرت الابتسام، وأخذ يربت على شعرها الأشيب ويقول: الآن تستطيعين أن ترحلي يا عزيزتي. وأخذ يردد قوله: ارحلي، ارحلي، ارحلي عن هذا الجسم المسكين العجوز. إنك لم تعودي بحاجة إليه. دعيه يسقط عنك. اتركيه راقدا هنا ككومة من الثياب البالية.
وفغر فوها في وجهها الأعجف، وفجأة تحولت أنفاسها إلى غطيط.
وضمها الدكتور روبرت إلى صدره وهو يقول: حبيبتي، عزيزتي ، ارحلي الآن، ارحلي، اتركي جسدك البالي هنا، واذهبي يا عزيزتي إلى الضياء، إلى السكون ، إلى السكون الحي، سكون الضوء الصافي ...
ورفعت سوزيلا إحدى اليدين المرتخيتين ولثمتها، ثم التفتت إلى رادا الصغيرة.
وقالت لها همسا وقد لمست كتفها: آن لك أن تذهبي.
تنبهت رادا من تأملاتها وفتحت عينيها وأومأت برأسها، واتجهت في صمت على أطراف أصابع قدميها صوب الباب وكأنها تزحف زحفا، واستدعت سوزيلا ويل بإشارة منها، وسارا معا خلف رادا. وفي صمت سار ثلاثتهم في الممر خارج الغرفة، وعند الباب المتأرجح استأذنت رادا بالانصراف.
وقالت همسا: أشكركما على استبقائكما لي معكما.
قبلتها سوزيلا وقالت: بل الشكر لك لأنك عاونت لاكشمي على تخفيف الأمر عليها.
وتبع ويل سوزيلا عبر الردهة حتى زلفا إلى الظلام الدافئ العطر. وفي صمت هبطا من الجبل متجهين نحو السوق.
وأخيرا قال وهو تحت ضغط عجيب أراد به أن يخفي مشاعره ويتظاهر بنوع رخيص من السخرية: أظن أنها ستسرع الآن لتمارس شيئا من الماثيونا مع صديقها الفتى.
وقالت سوزيلا في هدوء: الواقع أنها مكلفة بالسهر في أداء واجبها. وإذا لم يكن الأمر كذلك فماذا يمنع انتقالها من يوجا الموت إلى يوجا الحب؟
ولم يجب ويل في الحال؛ فقد كان يفكر فيما حدث بينه وبين بابز ليلة تشييع مولي. يوجا نقيض الحب، يوجا الإدمان الممقوت، والشهرة وبغض النفس الذي يعزز النفس ويجعلها أكثر مدعاة للبغض.
وأخيرا قال: أنا آسف فقد حاولت أن أكون ممجوجا. - هذا شبح أبيك، وسوف نحاول أن نبعده عنك.
وعبرا ساحة السوق وبلغا الآن - عند نهاية الشارع القصير الذي يسلكه الخارج من القرية - المكان المكشوف الذي كانت تقف فيه عربة الجيب. وعندما ساقت سوزيلا العربة إلى الطريق العام سطع شعاع المصابيح الأمامية على عربة صغيرة خضراء كانت تسير هابطة من الجبل صوب الطريق الجانبي. - أليست هذه هي العربة أوستن الصغيرة الملكية؟
قالت سوزيلا: هي بعينها، وتعجبت إلى أين كانت الراني وموروجان يتجهان في هذا الوقت من الليل.
وخطر ببال ويل أنهما لا يقصدان خيرا. وبدفعة مفاجئة أفضى لسوزيلا بمهمة رحلته التي كلفه بها جو ألديهايد، وبمداولاته مع الملكة الأم والمستر باهو.
واختتم حديثه قائلا: ولديك ما يبرر إبعادي عن البلاد غدا. وأكدت له أن ذلك لا يمكن أن يتم الآن وهو بسبيل تغيير رأيه، وأضافت قولها: ومع ذلك فإن ما فعلته لا يمكن أن يكون له تأثير على القضية الحقيقية. عدونا هو البترول بوجه عام. وليس هناك فارق بين أن تستغلنا شركة جنوب شرقي آسيا للبترول أو شركة ستاندارد في كلفورنيا. - هل تعلمين أن موروجان والراني كانا يتآمران ضدك؟ - إنهما لا يخفيان ذلك. - لماذا إذن لا تتخلصين منهما؟ - لأن الكولونيل ديبا يعيدهما في الحال. الراني هي أميرة راندنج. إذا نحن طردناها كان ذلك سببا في اشتعال الحرب. - ماذا إذن تستطيعين أن تفعلي؟ - أحاول أن أردهما إلى الصواب، وأن أجعلهما يغيران رأيهما، وآمل في نتيجة طيبة، وأستعد لأسوأ الظروف. - وماذا أنت فاعلة إذا حلت بك أسوأ الظروف؟ - أحاول أن أستغل الموقف أحسن استغلال؛ فالفرد حتى في أسوأ المجتمعات يستبقي شيئا من الحرية. الإنسان يفكر بينه وبين نفسه، ويتذكر ويتخيل بينه وبين نفسه، ويحب بينه وبين نفسه، ويموت وحيدا، حتى تحت حكم الكولونيل ديبا. وصمتت قليلا ثم سألته: هل سمح لك الدكتور روبرت بتعاطي عقار الموكشا؟ وأومأ برأسه إيجابا، فقالت: هل تحب أن تجربه؟ - الآن؟ - الآن، إذا كان لا يهمك أن تسهر الليل كله بفعله. - ليس عندي ما هو خير من ذلك.
وحذرته سوزيلا قائلة: ربما وجدت أنك لم تحب قط شيئا أسوأ منه، فعقار الموكشا قد يسمو بك إلى السماء. وقد يقذف بك في الجحيم. وقد يدفع بك إليهما معا في وقت واحد أو بالتناوب. وربما دفع بك (إن كنت حسن الحظ، أو إن أنت تأهبت لذلك) إلى ما وراء كل منهما، ثم إلى ما وراء ذلك، وتعود إلى نقطة الابتداء؛ إلى هنا، إلى روثامستد الجديدة، وإلى عملك المعتاد، ولكن الآن بالطبع هذا الفعل المعتاد مختلف كل الاختلاف.
الفصل الخامس عشر
دقة، دقتان، ثلاث دقات، أربع ... وهكذا حتى اثنتي عشرة، أعلنت بها الوقت الساعة التي كانت بالمطبخ. أي تناقض هذا ، لأن الزمن لم يعد له وجود! إن جرس الساعة يدق دقات مزعجة لا معنى لها وسط أحداث الحاضر التي لا يحدها زمان، وسط اللحظة الراهنة لا تفتأ تتغير لا بأبعاد الثواني والدقائق ولكن بأبعاد الجمال، والدلالة، والكثافة، والإلغاز الذي يزداد عمقا. - سعادة مشرقة. خرجت الكلمات من أضحال عقله كالفقاقيع، وطفت على السطح ثم اختفت في متاهات الضوء الحي التي كانت تنبض وتتنفس من وراء عينيه المغمضتين، سعادة مشرقة. هذا هو أقرب وصف لما آراه. ولكن ذلك الحدث الذي لا يحده زمان والذي لا يفتأ يتغير كان شيئا لا تستطيع الكلمات أن تعبر عنه إلا بالكاريكاتير والتصغير، ولا يمكنها إطلاقا أن تنقله. لم تكن سعادة فقط بل كان كذلك إدراكا، إدراكا لكل شيء، دون معرفة بأي شيء. المعرفة تقتضي أن يكون هناك من يعرف والأوجه المختلقة المتعددة للمعروف ولما يمكن أن يعرف. أما الآن، وراء عينيه المغمضتين فلا شاهد ولا مشهود. ليست هناك إلا حقيقة واحدة يمارسها، وهي اتحاده في شعور من السعادة مع وحدة الوجود.
1
وفي رؤى متعاقبة اشتد الضوء إشراقا، والإدراك عمقا، واشتد الإحساس بالسعادة إلى درجة مستحيلة لا تطاق. قال لنفسه: يا إلهي العزيز! ثم سمع صوت سوزيلا آت من عالم آخر. - هل تشعر أنك تريد أن تقول لي شيئا عما يحدث؟
وانقضى بعض الوقت حتى استطاع ويل أن يجيب على سؤالها؛ فقد كان النطق عسيرا، لا بسبب عائق مادي. ولكن لأن الكلام كان يبدو شيئا من السخف الذي لا يتحقق من ورائه هدف. وأخيرا همس قائلا: الضياء. - وأنت هناك تنظر إلى الضياء؟
وبعد فترة طويلة من صمت التفكير قال: أنا لا أنظر إليه، إنما أنا هو، وكرر قوله مؤكدا: أنا هو.
وفي حضور الضياء كان غيابه، وليام آسكويث فارنبي؛ لم يكن هناك هذا الشخص لا في أساسه ولا جوهره. في الأساس والجوهر لم يكن هناك شيء سوى السعادة المشرقة، والإدراك الذي لا يعرف ، والاتحاد مع الوحدة في وعي بغير حدود لا يفرق بين شيء وآخر. هذه - كما اتضح له - هي الحالة الطبيعية للعقل. كما كان هناك - بصورة لا تقل تأكيدا - ذلك المراقب المحترف للإعدام، ذلك المقبل في إدمان على بابز والذي يمقت نفسه لهذا السبب. كان هناك كذلك ثلاثة آلاف مليون نوع من أنواع الشعور كل منها منفصل عن الآخر، وكل منها مركز لعالم من عوالم الأحلام المزعجة، عالم يستحيل فيه لأي مخلوق ذي عينين أو ذرة من الإخلاص مع النفس أن يقبل الأمور على علاتها. أية معجزة خبيثة تلك التي حورت الحالة الطبيعية للعقل إلى هذه الجزر الشيطانية التي تنعزل كل واحدة منها عن الأخرى، جزر البؤس والانحراف؟
وفي دنيا السعادة والإدراك هذه كانت تعود إلى الذاكرة بين الحين والحين ذكريات قديمة وآثار متخلفة من المشاعر السابقة كالوطاويط نظهر في ضوء الشمس الغاربة. ومن هذه الذكريات القديمة فلسفة أفلوطين،
2
ومذهب المعرفة الروحية،
3
ومذهب الواحد الأحد وما يتفرع منه. وهكذا أخذ يعود إلى الماضي السحيق حتى أحس الهول المتراكم. ومن المشاعر المتخلفة الشعور بالغضب والاشمئزاز عندما أصبحت الأهوال المتراكمة ذكريات معينة لما رآه وفعله، ولما أصابه من غيره وأصاب غيره منه، وهو (وليام آسكويث فارنبي) الآن لا وجود له أساسا.
ولكن خلف هذه الذكريات المضطربة ومن حولها ومن داخلها بشكل ما ذلك العالم السماوي، عالم السعادة والطمأنينة والإدراك. وقد تبدو بعض الوطاويط في ضوء الشمس الغاربة. ولكن هناك حقيقة ثابتة، وهي أن معجزة الخلق الرهيبة قد انقلبت؛ فبعد أن كان بائسا منحرفا بصورة خارقة للطبيعة تحول إلى عقل محض، إلى عقل على حالته الطبيعية. ليست له حدود، ولا يميز شيئا عن شيء، سعيدا سعادة مشرقة، مدركا بغير معرفة.
الضوء الآن، والضوء في هذا المكان. ولما كان المكان بغير حدود والزمان بغير توقيت فلم يكن هناك شخص خارج الضوء لينظر إلى الضوء، أمست الحقيقة هي الوعي والوعي هو الحقيقة.
ومن ذلك العالم الآخر، في مكان ما إلى اليمين طرق أذنه للمرة الثانية صوت سوزيلا .
سألته: هل أنت سعيد؟
اكتسحت موجة من إشعاع أشد إشراقا كل تلك الأفكار والذكريات المضطربة، ولم يعد هناك الآن شيء سوى الشفافية البلورية للنعمة والسعادة.
وبغير أن ينطق، ودون أن يفتح عينيه ابتسم وأومأ برأسه إيجابا.
واصلت حديثها قائلة: هذا ما أسماه إيكهارب
4
الله. سعادة ساحرة، مكثفة بدرجة لا يتصورها العقل وتجل عن الوصف. ووسط هذه الحالة يتجلى الله ولا ينطفئ نوره. «يتجلى الله ولا ينطفئ نوره» ... ما أصدق هذا القول! ولشد ما كان تأثيره على ويل فأخذ يقهقه من غرابة التشبيه، وقال وهو يلهث: هل يكون نور الله كالنور ينبعث من بيت يحترق؟ أو كالنور في احتفالات الرابع عشر من شهر يوليو! وانفجر مرة أخرى في ضحكات عالية.
ومن وراء جفنيه المغمضين تدفقت السعادة المشرقة إلى أعلى كأنها شلال منعكس. تدفقت إلى أعلى من اتحاد إلى اتحاد أكمل، ومن انعدام الشخصية إلى ما يجاوز الذاتية بدرجة مطلقة.
كرر لنفسه: هل يكون نور الله كنور الرابع عشر من شهر يوليو! ومن قلب تيار السعادة المتدفق إلى أعلى أطلق ضحكة أخرى تنطوي على الفهم والتمييز.
سألته سوزيلا: وما رأيك في الخامس عشر من شهر يوليو، والصبيحة التالية؟ - ليست هناك صبيحة تالية.
هزت رأسها وقالت: إنني أشتبه في أن تكون في حالة نيرفانا. - وماذا يضير في هذا؟ - هذا روح محض، نقاؤه مائة في المائة؛ هذا شراب لا يستسيغه إلا أشد الناس إدمانا في التأمل. البوذيساتفا يخففون النيرفانا بمقادير متساوية من الحب والعمل. - هذه حالة أفضل. - تقصد أنها ألذ؛ لذلك كان إغراؤها قويا. الإغراء الوحيد الذي يرضى عنه الله، إنه ثمرة الجهل بالخير والشر. ثمرة حلوة المذاق، كأنها المنجة الفاخرة! هي الطعام الذي تناولته الآلهة بلايين السنين. وفجأة ظهر الإنسان، وتفجرت معرفة الخير والشر، فأنبت الله نوعا جديدا من الثمرات أقل في مذاقه حلاوة. وقد طعمت منذ لحظة شريحة من المنجة الفاخرة الأولى؛ لذلك فأنت تستطيع أن تدرك الله.
وسمع صريرا صادرا من أحد المقاعد، وخشخشة ثياب، ثم سلسلة من أصوات الحركة التي لم يستطع تفسيرها. ماذا كانت تصنع؟ كان يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال لو أنه فتح عينيه. ولكن من ذا الذي يهمه حينذاك ما كانت تصنع؟ لم يعد لأي شيء أهمية سوى بريق هذا التيار من السعادة والإدراك الذي يندفع إلى أعلى.
قالت: من المنجة الفاخرة إلى ثمرة المعرفة؛ سوف أفطمك على مراحل متدرجة.
طرق أذنه طنين. ومن الأضحال طفت إلى سطح الشعور فقاعة من فقاقيع المعرفة. كانت سوزيلا تضع أسطوانة على قرص الحاكي المستدير، وبدأ الفونوغراف يدور.
وسمعها تقول: هذا جوان سباستيان باخ. أقرب الموسيقى إلى السكون، أقربها إلى الروح الصافي مائة في المائة على الرغم من ارتفاع النغم.
وتحول الطنين إلى أصوات موسيقية، وانبثقت إلى أعلى فقاعة أخرى من فقاقيع المعرفة، وكان يستمع إلى كونسرتو براندنبرج الرابع.
كانت بطبيعة الحال هي بعينها كونسرتو براندنبرج الرابع التي كثيرا ما استمع إليها في الماضي، هي بعينها، ومع ذلك فهي على أتم اختلاف معها. هذا الأليجرو (الموسيقى الخفيفة السريعة) كان يعرفه عن ظهر قلب. ومعنى ذلك أنه كان في أحسن وضع ممكن ليتأكد أنه لم يسمع به قط من قبل، فأولا أنه لم يكن هو - وليام آسكويث فارنبي - الذي كان يصغي. وكانت الأليجرو تكشف عن نفسها باعتبارها عنصرا في الحدث الراهن العظيم. كانت مظهرا لا يبعد إلا خطوة واحدة عن السعادة المشرقة، وربما كان ذلك وصفا لها لطيفا، ففي ظروف أخرى يكون هذا الأليجرو هو السعادة المشرقة، هو الفهم الذي لا يستند إلى معرفة لكل شيء يدرك من خلال ناحية معينة من نواحي المعرفة. كان الوعي الذي لا يميز مجزءا في نغمات وعبارات موسيقية ومع ذلك فما يزال هو هو بعينه بكل مغزاه. وكل ذلك بطبيعة الحال لم يخص أحدا ما؛ فقد كان في نفس الوقت هنا، وهناك، وفي اللامكان. إن الموسيقى التي استمع إليها - باعتباره وليام آسكويث فارنبي - مائة مرة من قبل، ولدت مرة أخرى وعيا لا يمتلكه؛ ولذلك كان الآن يستمع إليها لأول مرة. إن كونسرتو براندنبرج الرابع - وهو ليس ملكا له - من روعة الجمال وعمق المعنى الكامن فيه ما يفوق كثيرا أي شيء التمسه من قبل في نفس هذه الموسيقى عندما كانت ملكا خاصا له.
ثم طفت فقاعة معناها: يا لك من أبله! وكأنها تعليق ساخر. وهذا الأبله دأب على ألا يقبل أي أمر من الأمور إلا ما كان منه في مجال الجمال. وكان دائما ينكر - لأنه لا يمثل إلا نفسه - كل جمال وكل معنى يتمنى قبوله. لم يكن وليام آسكويث فارنبي سوى مصفاة قذرة، يتسرب إليه منها البشر، والطبيعة، بل والفن الذي يعشقه بعدما تعتمه كله سحابة داكنة ويتلوث بالوحل، وتقل قيمته، ويتغير، ويصبح أقبح من حقيقته. أما في هذا المساء فلأول مرة يكون وعيه بقطعة من الموسيقى مباشرا لا يعوقه عائق. بين عقله والصوت، وبين عقله والنموذج، وبين عقله والدلالة، لا توجد بلبلة من سير الأشخاص التي لا علاقة لها بالموضوع، والتي تغرق الموسيقى أو تخلق نشازا ليس له معنى. كونسرتو براندنبرج الرابع هذا المساء حقيقة نقية، لا يفسده تاريخ شخصي، ولا أفكار ثانوية، ولا غباوات متأصلة يغطي بها الأبله المسكين الذي يرفض كل شيء وبخاصة في الفن - شأنه في ذلك شأن كل نفس أخرى - يغطي بها معطيات الخبرة المباشرة.
لم يكن كونسرتو براندنبرج الرابع هذا المساء مجرد شيء غير مملوك في حد ذاته، بل كان كذلك - بطريق المستحيل - حدثا راهنا في فترة من الزمن لا تنتهي. وربما كان من الأصح أن نقول بغير زمان «بطريقة أكثر استحالة، نظرا لأنه كان يتألف من ثلاث حركات ويعزف بسرعته المعتادة». وبندول الإيقاع يسيطر على كل عبارة من عباراته. ولكن مجموع العبارات لم يكن مدى من الثواني والدقائق. كان هناك «إيقاع» ولم يكن هناك زمن. ماذا كان هناك إذن؟
أجاب ويل رغما عنه: «الخلود»؛ لأن هذه الكلمة كانت من تلك الألفاظ الميتافيزيقية السخيفة لا يحلم رجل مهذب الفكر أن ينطق بها حتى لنفسه، بله أن يتفوه بها أمام الجمهور. وقال بصوت مرتفع: الخلود يا إخواني، الخلود، هراء في هراء . ولم يكن لسخريته - كما توقع - أي تأثير؛ ففي هذه الليلة كان لهذه الكلمة من الدلالة المحسوسة ما لغيرها من الكلمات الأخرى التي يحرم ورودها على اللسان. وبدأ يضحك.
سألته: ما يضحكك؟
أجاب: الخلود. وسواء صدقتني أم لم تصدقني، إنه حقيقة ككل ما يفرزه جسم الإنسان.
ووافقته وقالت: حسنا ما قلت!
ولبث هناك ممعنا في الإصغاء لا يتحرك، يتابع بأذنه وبصيرته تيارات الصوت المتشابكة، وتيارات الضوء التي تقابلها وتنسجم معها، والتي تتدفق في تسلسل متعاقب غير محدودة بزمن. وكل جملة من هذه الموسيقى المألوفة المبتذلة كانت كشفا غير مسبوق لصورة من صور الجمال تندفع إلى أعلى كأنها نافورة غزيرة المياه، وتتتابع الرؤى، وكل منها جديد مذهل في حد ذاته، تيار يتداخل في تيار؛ تيار عزف الكمان المنفرد، وتيارات الأسطوانتين، والتيارات المتنوعة من البيان القيثاري والأوركسترا الصغيرة المؤلفة من أوتار متنوعة، كل منها منفصل، متميز، منفرد؛ ومع ذلك فكل تيار كان منسجما مع غيره، كل منها كان على طبيعته بفضل علاقته بالكل الذي هو جزء منه.
وسمع صوته الباطني يقول: يا إلهي.
ووسط هذه التغيرات المتتابعة بغير حدود زمنية كانت الأسطوانات تنفث نغمة طويلة واحدة. نغمة لا تشوبها نغمات جانبية أعلى، واضحة، صافية، فارغة كأنها من السماء. نغمة (وقد خرجت هذه اللفظة فوارة كأنها فقاعة) من التأمل الصافي. وهنا وردت على خاطره كلمة فاحشة أخرى غير موحية وقد اكتسبت الآن معنى ماديا ويمكنه أن ينطق بها دون إحساس بالخجل. تأمل صاف، لا يعبأ بشيء، يجاوز إمكان الحدوث، ويخرج عن إطار الأحكام الخلقية. ومن خلال الأضواء المندفعة إلى أعلى لمح في ذاكرته صورة لوجه رادا المشرق وهي تتحدث عن الحب باعتباره تأملا، وصورة أخرى لرادا وهي تجلس ساقا على ساق في سكون عميق مركز في مؤخرة السرير الذي كانت لاكشمي تلفظ فوقه أنفاسها الأخيرة. هذه النغمة الطويلة الصافية كانت معنى كلماتها والتعبير المسموع لصمتها، ومع هذا الفراغ السماوي لصوت المزمار الذي يدعو إلى التأمل كان يتدفق دائما من خلاله وبحذائه صوت الكمان الثري ، ذبذبة في ذبذبة عاطفية قوية. وتحيط بهما معا - نغمات الانفصال الذي يدعو إلى التأمل ، ونغمات الاشتباك العاطفي - شبكة من النغم الحاد الجاف تنبعث من أوتار البيان القيثاري. الروح والغريزة، العمل والرؤيا؛ تحيط بها كلها شبكة العقل، يدركها بالفكر المنطقي. ولكن من الواضح أنه يدركها من الظاهر فقط في حدود الخبرة التي تختلف اختلافا أساسيا عن الإطار الذي يزعم الفكر المنطقي أنه يوضحه.
قال: إنه شبيه بالوضعي المنطقي. - أي شيء؟ - ذلك البيان القيثاري.
كالوضعي المنطقي ذلك ما كان يجري في إضحال عقله. أما في الأعماق فإن ذلك الحدث الأكبر - حدث الضوء والصوت - كان يتكشف في بيان سرمدي، كالوضعي المنطقي يتحدث عن أفلوطين وجولي دي ليسبيناس.
5
وتغيرت الموسيقى مرة أخرى، وأصبح الكمان هو الذي يواصل (بنغمه العاطفي) نغمة التأمل الطويلة. في حين أن الأسطوانتين كانتا تعزفان موضوع المشاركة بالعمل، وتكررانه بما يدعو إلى الانفصال. وهنا بين الحين والحين كان يتردد الوضعي المنطقي، في سخف وإن يكن ليس عنه غنى، يحاول أن يشرح في لغة لا تتناسب مع الحقائق كل ما كان يدور.
وفي الخلود الذي كان واقعا كإفرازات الجسم البشري استمر في إصغائه لهذه التيارات الصوتية المتداخلة، واستمر يشاهد التيارات الضوئية المتشابكة، واستمر في كونه فعلا (هناك. وهنا في اللامكان) كل ما رأى وكل ما سمع. والآن - على حين غرة - تعرضت صفة الضوء لشيء من التغير، فلقد انتفت صفة الاستمرار عن تلك التيارات المتشابكة التي كانت أول عامل من عوامل التميز المرن لفهم ما يقع على الجانب الأبعد لكل معرفة تفصيلية، وحلت محلها - فجأة - هذه الأشكال التي ينفصل أحدها عن الآخر في تتابع لا ينتهي؛ وهي أشكال لا تزال محملة بصورة واضحة بالنغمة المشرقة للوجود الذي لا يميز شيئا عن شيء، ولكنها الآن محددة، منعزلة، متفردة. ظهرت له سلسلة من الكواكب المضيئة، فضية ووردية، صفراء وخضراء شاحبة وزرقاء جنطيانية، وقد برزت من مصدر خبيء للأشكال، ومع توقيت الموسيقى تجمعت عن عمد في صفوف جميلة مركبة تركيبا لا يصدقه العقل، نافورة لا تنفد تنتشر في تشكيلات يحسها. وفي تشابك من النجوم الحية. وأخذ يرمقها ويحيا حياتها كما يحيا حياة الموسيقى التي كانت تسايرها، وهي تتكاثر في تشابكات أخرى ملأت الأبعاد الثلاثة لفضاء داخلي، وتتحول باستمرار إلى بعد أبدي آخر من أبعاد النوع والدلالة.
سألته سوزيلا: ماذا تسمع؟
وأجاب: أسمع ما أرى، وأرى ما أسمع. - صف لي ما تشاهد.
وبعد صمت طويل أجاب ويل: مرآها ومسمعها هو الخلق.
ولكنه ليس الخلق الذي يتم دفعة واحدة، إنما هو الخلق الذي يتواصل ولا يتوقف. - خلق متواصل من لا شيء ولا مكان إلى شيء ما ومكان ما؛ هل هو كذلك؟ - هو كذلك. - أنت تحرز تقدما.
لو واتاه اللفظ، ولو كان اللفظ عند النطق به أقل تفاهة، لشرح لها ويل كيف أن الفهم الذي لا يستند إلى معرفة والسعادة المضيئة يفضلان حتى موسيقى جوهان سباستيان باخ.
وقالت سوزيلا مرة أخرى: أنت تحرز تقدما ثم أضافت: ولكن لا يزال أمامك طريق طويل. هل تحب أن تفتح عينيك الآن؟
هز ويل رأسه مؤكدا رفضه. - آن الأوان لكي تعطي نفسك فرصة لاكتشاف حقائق الأشياء.
تمتم قائلا: حقائق الأشياء هي هذا الذي أرى.
وأكدت له انها ليست هي، وقالت: إن كل ما رأيت وسمعت وكنت ليس إلا الحقيقة الأولى. والآن لا بد لك أن ترى الحقيقة الثانية. تنظر، ثم تضم الحقيقة الأولى إلى الحقيقة الثانية وتجعل منهما حقيقة واحدة؛ لذلك افتح عينيك يا ويل وافتحهما واسعتين.
أخيرا قال وعلى مضض: ليكن ذلك. وفتح عينيه وهو يستشعر الخوف من حظ سيئ ينتظره. وقد اختفى الضوء الداخلي في نوع آخر من الضوء، وحل محل نافورة الأشكال والأجرام السماوية الملونة وهي مصطفة صفوفا يراها رأى العين والأشكال المشبكة التي تتغير قصدا تكوين ثابت يتألف من أعمدة وخطوط قطرية ومسطحات وأسطوانات منحنية، وكلها منحوت من مادة تشبه العقيق الحي، وكلها يخرج من مصدر واحد للؤلؤ الحي النابض. ونظر ويل إلى هذا في ذهول وشيء من عدم الإدراك كرجل أعمى بل من عماه حديثا ليجابهه للمرة الأولى لغز الضوء واللون. وبعد انتهاء عشرين فاصلة موسيقية من كونسرتو براندنبرج الرابع طفت في شعوره فقاعة من فقاقيع التفسير.
وفجأة عرف ويل أنه ينظر إلى مائدة صغيرة مربعة، خلفها مقعد هزاز، وخلف المقعد حائط غفل أبيض. وكان تفسير ذلك مطمئنا له؛ ذلك أن اللغز الذي واجهه في الأبدية التي مارسها - فيما بين فتح عينيه وظهور المعارف التي شاهدها - قد اشتد عمقه من جمال لا تفسير له إلى ذروة من الغربة المضيئة التي امتلأت بها نفسه وهو ينظر بشيء من الفزع الميتافيزيقي. وهذا اللغز المخيف لم يكن سوى قطعتين من أثاث وحائط فسيح. وخفت مخاوفه. ولكن دهشته تضاعفت، كيف يمكن لأشياء مألوفة عادية أن تكون على هذه الصورة؟ لم يكن ذلك قطعا بالإمكان. ولكن ها هو ذا قد حدث.
وانتقل اهتمامه من التكوينات الهندسية بالعقيق البني إلى خلفيتها اللؤلؤية، وكان يعرف أن اسمها «جدار» ولكنها في واقع الخبرة عملية حية، وسلسلة متصلة من التحول من الجص والطلاء إلى مادة خارقة للطبيعة؛ إلى لحم المسيح الذي ما فتئ يتغير وهو ينظر إليه من مجد إلى مجد. حاولت الكلمات الفقاعية أن تفسر ما رآه على أنه طلاء أبيض للجدار. ولكن روحا لها قدرة التشكيل كانت تثير في مخيلته سلسلة لا نهاية لها من الألوان الأخرى التي يتميز كل منها تماما عن غيره، باهتة أحيانا غزيرة أحيانا أخرى، برزت له من مكان مستتر وألقت نورها المتوهج على ذلك الجلد السماوي المتألق.
يا للعجب! ولا بد أن تكون هناك معجزات أخرى، عوالم أخرى يغزوها وتغزوه، وأدار رأسه يسارا (وقد ظهرت الكلمات الفقاعية الملائمة في الحال) فوقعت عينه على المنضدة ذات السطح المرمري التي تناولا عليها طعام العشاء. ثم توالت الفقاعات كثيفة يتلو بعضها بعضا. إن هذه الرؤية التي تسمى «المنضدة» يمكن أن يراها الإنسان على أنها صورة رسمها فنان تكعيبي عجيب، إنسان ملهم مثل جوان جري
6
بروح تراهيرن
7
وموهبة لرسم المعجزات بالأحجار الكريمة وبألوان أوراق الزنبق التي تتغير أطيافها.
وأدار رأسه قليلا نحو اليسار وأذهله بريق المجوهرات التي رآها. أي مجوهرات هذه! ألواح ضيقة من الزمرد والتوباز، ومن الياقوت الأحمر والياقوت الأزرق واللازورد، كلها يتوهج، صفا فوق صف، أشبه ما تكون بقوالب الطوب الأحمر الكثيرة في أحد جردان أورشليم الجديدة. وأخيرا - وليس في البدء - كانت الكلمة، في البدء كانت الجواهر، والنوافذ المصنوعة من الزجاج الملون، وجدران الفردوس، والآن فقط. وفي النهاية البعيدة ظهرت الكلمة (خزانة الكتب) للنظر.
رفع ويل بصره من الجواهر الناطقة وإذا به في قلب منظر طبيعي من المنطقة الاستوائية. لماذا؟ وأين؟ ثم تذكر أنه (وهو في عالم آخر) عندما دخل الغرفة أولا كان قد لاحظ فوق خزانة الكتب صورة كبيرة رديئة بالألوان المائية، بين الكثبان الرملية وآجام النخيل يجري مصب نهر يأخذ في الاتساع كلما اتجه نحو البحر، وتبدو فوق الأفق آكام السحب ترتفع في السماء الشاحبة، ومن أضحال نفسه خرجت كلمة «ضعيفة» كالفقاعة تطفو فوق سطح الماء. ومن الواضح أن الصورة من رسم هاو للفن موهبته محدودة.
ولكن هذا الخاطر ليست له الآن أية أهمية؛ لأن المنظر الطبيعي لم يعد صورة، وإنما هو موضوع الصورة؛ هو نهر حقيقي، وبحر حقيقي، ورمال حقيقية تتوهج في ضوء الشمس، وأشجار حقيقية باسقة في سماء حقيقية، حقيقية إلى ما لا نهاية، حقيقية إلى حد المطلق.
وهذا النهر الحقيقي الذي يختلط بالبحر الحقيقي هو كيانه شخصيا وقد احتوته القدرة الإلهية، وظهرت فوق السطح فقاعة لفظية تتساءل في سخرية: هل هي القدرة الإلهية بين علامات التنصيص، أم القدرة الإلهية التي تدعو إلى التعجب بالمعنى البكويكي الحديث؟ هز ويل رأسه، والجواب عنده كان هي القدرة الإلهية فحسب؛ ليست القدرة التي يمكن أن يعتقد فيها المرء، ولكنها القدرة الواقعية التي تواجهه وتفصح عن نفسها. ومع ذلك فهذا النهر لا يزال نهرا، وهذا البحر هو المحيط الهندي. وليسا شيئا آخر في ملابس تنكرية، إنما هما هما بعينيهما بغير لبس، ولكنهما كذلك القدرة الإلهية بغير لبس.
سألته سوزيلا: أين أنت الآن؟
لم يدر رأسه نحوها وقال: في السماء على ما أظن . وأشار إلى صورة المنظر الطبيعي. - ما زلت في السماء! متى تهبط على الأرض؟
ومن الأضحال الغرينية خرجت فقاعة من فقاقيع الذكريات. - في مكان أعمق يحتويه الضياء، كما قال ورودزورث. - ولكن وردزورث تحدث كذلك عن موسيقى الإنسانية الساكنة الحزينة.
قال ويل: ليس في صورة المنظر الطبيعي التي أشاهدها - لحسن الحظ - بشر.
وضحكت ضحكة خفيفة وقالت: ولا أي حيوان. سحب فقط وخضروات تخدع بمنظرها البريء. ويحسن بك لذلك أن تنظر إلى ما فوق الأرض.
وأرخى ويل بصره. وتمثلت له الفواصل في ألواح خشب الأرضية في صورة نهر بني اللون، وهذا النهر عبارة عن رسم تخطيطي في دوامة لا تفتر عن الدوران للحياة الدنيوية المقدسة. ووسط هذا الرسم تقع قدمه اليمنى، عارية تحت أربطة الصندل الذي ينتعله، ولشد ما كانت دهشته حينما أدرك أن لهذه القدم أبعادا ثلاثة وكأنها قدم من المرمر لتمثال بطل من الأبطال تسطع عليه الأضواء. ومن الألفاظ العفوية التي تفسر له ما يشاهد، الألواح، الفواصل، القدم. ارتد إليه اللغز الذي لا سبيل إلى حله ولكنه مفهوم، على ما في ذلك من تناقض. مفهوم ذلك الفهم الذي لا يستند إلى المعرفة وهو الفهم الذي كان ما يزال مهيأ له على الرغم من الأشياء المحسة والألفاظ التي برزت من الذاكرة.
وفجأة، وبطرف عينه، لمح حركة اندفاع سريع. وتحقق له أن الانفتاح للسعادة والفهم هو كذلك انفتاح للفزع، ولعدم الإدراك بتاتا. وبدأ قلبه يدق بشدة أرجفته، وكأن هذا القلب مخلوق غريب يسكن صدره ويضطرب من ألم مبرح. واعتقد على كره منه أنه يوشك أن يلاقي الفزع الأكبر فأدار رأسه وأخذ ينظر حواليه.
قالت مطمئنة له: هذه إحدى سحليات توم كريشنا التي يلهو بها.
كان الضوء ساطعا كأي وقت سبق. ولكن السطوع هذه المرة كان يرمز إلى شيء آخر. وميض الشر المطلق يشع من كل قشرة رمادية خضراء على ظهر المخلوق الذي تراءى له، كما يشع من عينين كالسبج، ومن حلقه القرمزي النابض، ومن أطراف خياشيمه المسلحة وفمه المشقوق. وصرف عنه النظر، ولكن عبثا؛ لأن الفزع الأكبر كان يتطلع إليه من كل شيء يقع عليه البصر. إن تلك التكوينات التي رسمها فنان تكعيبي للغز انقلبت الآن إلى آلات معقدة تنفث الضغينة. وذلك المنظر الطبيعي الاستوائي الذي مارس فيه اتحاده مع الله؛ بات الآن - وفي نفس الوقت - أشبه بتلك الصور المقلدة التي تعافها العين والتي شاعت في العهد الفيكتوري، أو كأنها السعير في حقيقته. وصفوف المجوهرات الناطقة خيم عليها وهي على رفوفها حلك الظلام كأشد ما يكون الظلام. هذه الجواهر التي خرجت من أعماق الأعماق تبدو الآن رخيصة، مبتذلة بدرجة لا توصف! وبعد أن كانت ذهبا ولؤلؤا وأحجارا ثمينة لم تعد الآن إلا كزينة شجرة عيد الميلاد، والبريق الزائف يشع من الصفيح الملون والبلاستيك. لا يزال كل شيء ينبض بالحياة، ولكنها الحياة التي تلمسها في أخس صالات البيع والشراء التي تقع فوق سطح الأرض. وهذا - كما أكدت الموسيقى الآن - هو ما تخلقه دائما القدرة الكبرى؛ شيء شبيه بمحلات ولورث على النطاق العالمي، محلات مليئة بالأهوال التي تنتج على أوسع نطاق. أهوال الابتذال، وأهوال الألم، والقسوة، وانعدام الذوق والبلاهة والحقد المقصود.
واستمع إلى سوزيلا وهي تقول: إنها ليست وزغة،
8
ليست واحدة من السحالي المنزلية اللطيفة الصغيرة. إنها من ذلك النوع الغريب الضخم تسربت من الخارج، إنها من مصاصات الدماء، ولكنها - بطبيعة الحال - لا تمص الدماء، حلوقها حمراء؛ هذا كل ما في الأمر، يتحول وجهها إلى اللون الأرجواني إذا أنت أثرتها؛ ومن ثم اكتسبت ذلك الاسم السيئ. انظر إليها! إنها تتحرك هناك!
وطأطأ ويل رأسه مرة أخرى، إنها حقيقة خارقة للطبيعة؛ تلك السحلية المريعة ذات القشور، والعينين السوداوين الخاويين، وفم كفم القاتل، وحلق في حمرة الدماء ينتفخ مع بقاء الجسم ممتدا على الأرض ساكنا سكون الموت؛ هذه السحلية هي الآن على بعد ست بوصات من قدمه.
قالت سوزيلا: لقد رأت بعينيها غداءها. انظر إلى يسارك عند حافة الحصير.
أدار ويل رأسه.
وواصلت حديثها وقالت: جونجيلس جونجيلويديس.
9
هل تذكر؟
نعم كان يذكر، ذكر «فرس النبي» تلك الحشرة الضارعة التي استقرت على سريره. لكن ذلك كان في عالم آخر. إن ما رآه في ذلك العالم لم يكن سوى حشرة غريبة المنظر. أما ما يراه الآن فهو عبارة عن كائنين وحشيين طول كل منهما بوصة، رهيبين للغاية، يتلاقحان، لونهما شاحب في زرقة مخطط ومعروق بلون قرنفلي، ترفرف بأجنحتها باستمرار، كأنها أوراق الزهر يهزها النسيم، ملونة عند أطرافها باللون البنفسجي الداكن، كأنها زهور مقلدة. ولكن المرء لا يخطئ فيها الشكل الحشري، والآن تغيرت حتى ألوانها الزهرية، واستحالت تلك الأجنحة إلى زوائد لأداتين لامعتين مطليتين بالمينا مما يعرض في صالة البيع للأشياء الرخيصة، وكأنهما نموذجين صغيرين مما يراه الإنسان في الكابوس، أو آلتين مصغرتين لعملية اللقاح. والآن أدارت إحدى آلتي الكابوس - وهي الأنثى - رأسها الصغير المفلطح، وكأنها استحالت كلها فما فاغرا، عيناها بارزتان في نهاية عنقها الطويل؛ أدارت رأسها (ويا للعجب) بدأت تلتهم رأس الآلة الذكر. مضغت أولا عينا أرجوانية، ثم أردفتها بالوجه المزرق. وسقط على الأرض ما بقي من الرأس، وترنح العنق المقطوع بوحشية ولم يعقه ثقل العينين والفكين. أما الآلة الأنثى فقد أطبقت بفكيها على القطعة المقطوعة التي كانت ترشح، وأمسكت بها، في الوقت الذي ثابر فيه الذكر مقطوع الرأس على أن يحاكي في سخرية بغير انقطاع آريز
10
بين ذراعي أفروديت، وهو يلتهم التهاما.
وبطرف عينه لمح ويل حركة وثب أخرى، فأدار رأسه بحدة وأمكنه أن يرى السحلية وهي تزحف نحو قدمه، وأخذت تقترب شيئا فشيئا فوجه بصره وجهة أخرى فزعا، وأحس شيئا يمس أصابع قدمه، واستمر يدغدغ مشط القدم، ثم توقفت الدغدغة، ولكنه أحس شيئا من الثقل فوق قدمه، قشورا جافة تلمسها، وأراد أن يصيح، ولكنه كان فاقد الصوت، وحاول أن يتحرك فأبت عضلاته أن تستجيب.
وأخذت الموسيقى تعزف المقطع الأخير السريع بغير توقيت، الفزع يتقدم بنشاط ملحوظ، الفزع في زي مزركش مزخرف يقود الرقص.
الفزع متمثلا في القشور، ساكن تماما، فيما خلا النبض في حلقه الأحمر. هذا الفزع رقد على مشط قدمه يحدق بعينين لا تعبران في فريسته التي حكم عليها القدر. وقد تشابك النموذجان الصغيران للكابوس وأخذا يرتعشان كما ترتعش أوراق الزهر في الريح، ويهتزان في تشنج من أثر الآلام التي يثيرها التلاقح والموت في وقت واحد معا. وانقضت فترة كأنها قرن من الزمان طويل، واستمرت الرقصة المرحة الخفيفة، رقصة الموت، على فاصل موسيقي بعد فاصل آخر.
وفجأة أحس خمشا من أنياب صغيرة تتحرك فوق جلده. لقد زحفت مصاصة الدماء من فوق مشط قدمه إلى الأرض. ولبثت مكانها ساكنة سكونا مطلقا لفترة كأنها عمر طويل. وبسرعة غير معقولة انطلقت فوق الألواح الخشبية وفوق الحصير، وفتحت فاها الذي يشبه الشق ثم أغلقته. ومن بين الفكين القاضمين برز طرف جناح بنفسجي اللون ما زال يرفرف كورقة السحلبية يهزها النسيم. واهتزت ساقان هزا عنيفة برهة من الزمن، ثم اختفتا عن الأنظار.
ارتعد ويل وأغمض عينيه. ولكن فيما بين ما أحس من أشياء وما تذكر وما تخيل - وهو يعبر الطريق - طارده الفزع. وفي وهج الضوء الباطني امتد عمود لا نهاية له من الحشرات التي لمعت كما يلمع الصفيح ومن الزواحف البراقة، متجهة من اليسار إلى اليمين، وخارجة من مصدر خفي للكابوس نحو ذروة وحشية مجهولة. جونجيلس جونجيلويديس بالملايين، تتوسطها مصاصات للدماء لا تعد ولا تحصى، آكل ومأكول؛ إلى الأبد.
وفي أثناء ذلك، كان المقطع الموسيقي الأخير من كونسرتو براندنبرج الرابع يعزف ويعزف باستمرار بالقيثارة والمزمار والكمان. يا لها من موسيقى خفيفة مرحة تعزف نشيد الموت. يمين، شمال، يمين، شمال ... ولكن ما هي كلمة الأمر للحشرات سداسية الأرجل؟ وفجأت تحولت الحشرات سداسية الأرجل إلى حيوانات تسير على قدمين، وتحول العمود اللانهائي من الحشرات بغتة إلى عمود لا نهائي من الجند، يسيرون كأولئك الجند ذوي القمصان البنية التي كانت تسير في شوارع برلين قبل اندلاع الحرب بعام واحد، ألوف الألوف من الجند، أعلامهم ترفرف، وأزياؤهم الرسمية تتوهج ببريق جهنمي كأنهم نفايات يسطع عليها الضوء الكاشف، كالحشرات يسيرون بأعداد لا حصر لها، وكل واحد منهم يتحرك بدقة الآلة، وبالانقياد الكامل الذي تتصف به الكلاب الوفية، ووجوههم، يا لها من وجوه! لقد شهد من قبل ختام شريط الأنباء الألماني، وها هم يعودون مرة أخرى، بصورة واقعية خارقة للطبيعة حية ذات أبعاد ثلاثة.
وهذا وجه هتلر الوحشي بفمه المفتوح يصيح، وهذه وجوه المستمعين من كافة الفئات المتنوعة، وجوه ضخمة بلهاء تستقبل كل ما يلقى عليها فوق لوحة بيضاء، وجوه أناس يمشون وهم نيام بعيون مفتوحة، ووجوه شباب نوردي ملائكي تسبح في رؤى طوبوية، وجوه قديسين في حلل مزخرفة في بهجة ونشوة، وجوه المحبين وقد بلغت بهم اللذة ذروتها، شعب واحد، مملكة واحدة، قائد واحد، اتحاد في وحدة خلية النحل، فهم بغير معرفة للهراء والشعوذة.
ثم يعود شريط الأنباء إلى الصفوف المكتظة، إلى الصلبان المعقوفة، إلى الفرق النحاسية، ومنومها المغناطيسي يصيح فوق المنصة. وهنا مرة أخرى في وهج ضيائه الباطني يظهر طابور الأشخاص في الزي البني فيما يشبه الحشرات، يسير إلى غير غاية على أنغام هذه الموسيقى التافهة المزعجة، إلى الأمام أيها الجنود النازيون، إلى الأمام أيها الماركسيون، إلى الأمام أيها المسيحيون، إلى الأمام كل شعب مختار، وكل صليبي، وكل صانع للحرب المقدسة، إلى الأمام نحو الشقاء، والشر، والموت.
وفجأة وجد ويل نفسه متطلعا إلى ما سوف يتحول إليه هذا الطابور السائر عندما يبلغ نهاية المسير؛ ألوف الجثث في أوحال كوريا، كتل لا حصر لها من القاذورات تتسخ بها الصحراء الأفريقية. وهنا (وقد أخذ المنظر يتغير بسرعة ومفاجأة مذهلة) هنا ترقد الجثث الخمس الملوثة التي رآها منذ بضعة أشهر فقط، وجوهها إلى أعلى وحلوقها جريحة في فناء عزبة جزائرية. وهنا - من ماض يسبق هذا التاريخ بنحو عشرين عاما - ترقد تلك المرأة العجوز، ميتة عارية تماما وسط صخور بيت مشيد من الجص في غابة سنت جون. وهنا - بغير انتقال - غرفة نومه الرمادية الصفراء، تنعكس في مرآة خزانة الملابس صورة جسمين شاحبين، جسمه وجسم بابز، يتزاوجان في جنون بمصاحبة ذكرياته عن جنازة مولي، ونغمات موسيقى الجمعة الحزينة من بارسيفال؛ يبثها راديو اشتوتجارت.
وتغير المنظر مرة أخرى. وإذا بوجه العمة ماري يبتسم له في مرح شديد، في مكان يتزين بنجوم من الصفيح ومصابيح خيالية ثم تحول الوجه أمام عينيه إلى وجه تلك الغريبة المنتحبة الخبيثة، التي حلت محلها خلال تلك الأسابيع الأخيرة الشنيعة التي سبقت التحول النهائي إلى النفايات المتخلفة، إشعاع من الحب وعمل الخير، ثم أسدل الستار، وأغلقت النافذة، ودار المفتاح في القفل، وإذا بهما كل في مكانه؛ هي في المقبرة، وهو في سجنه الخاص محكوم عليه بالحبس الانفرادي، وذات صباح جميل لا يعرف أجله يدركه الموت. العذاب في صالة البيع الرخيصة في الدور الأسفل من المبنى، والصلب وسط زينات شجرة عيد الميلاد، في الخارج أو الداخل، والعيون مفتوحة أو والعيون مغمضة، لا مجال للهروب.
وهمس لنفسه: «لا مجال للهروب.» وأكد باللفظ الحقيقة، وحولت كلماته الحقيقة وجعلتها أمرا مؤكدا بغيضا، ينفتح تارة إلى أعلى، وتارة إلى أسفل، وإلى عمق في أثر عمق من الابتذال الخبيث، جحيم إثر جحيم من آلام ليس من ورائها البتة غاية.
وبقوة كقوة الإلهام أدرك أن هذه الآلام لم تكن فقط عديمة الجدوى، بل كانت كذلك تتراكم، وتصبح من تلقاء نفسها أبدية. ومن المؤكد، ومما يفزع كذلك، أن الموت كما جاء لمولي وكما جاء لعمته ماري ولغيرهما، لا بد أن يأتيه، ولكنه لن يبلغ هذا الحد من الخوف، ومن الاشمئزاز، ومن عذابات تأنيب الضمير، وكراهية النفس. الألم سوف يستمر إلى الأبد، على الرغم من خلوه دائما من المعنى، الإنسان في كل ناحية من نواحيه محدود بشكل بشع وبصورة تدعو إلى الازدراء، ولكنه ليس كذلك من ناحية الآلام.
هذه الجلطة الدموية المكثفة المظلمة الصغيرة في حجمها والتي يسميها المرء «أنا» ... قادرة على تحمل الآلام قدرة ليست لها حدود، وسوف تستمر الآلام إلى أبد الآبدين على الرغم من الموت. آلام الحياة، وآلام الموت، ورتابة الكروب المتتابعة في صالة البيع السفلى، والصلب الأخير في عالم زائف يتوهج وهج الصفيح والبلاستيك؛ هذه الآلام سوف تبقى دائما يتردد صداها وتتضخم على الدوام، وهذه الآلام لا تنتقل من شخص إلى آخر، والعزلة كاملة. إن وعي المرء بوجوده وعي بعزلته دائما، عزلة لا تختلف عن عزلته وهو في سرير بابز الذي يفوح منه المسك، أو عزلته وهو يشكو الألم في أذنه أو ذراعه المكسورة، أو مرضه السرطاني في دوره النهائي، أو وحدته في آلامه الدائمة، بعدما يظن أن كل شيء قد انتهى.
وفجأة أدرك أن شيئا قد طرأ على الموسيقى؛ فلقد تغير إيقاعها، دقت نغمة الانتهاء، نهاية كل شيء لكل إنسان، وعزفت موسيقى الموت القصيرة المرحة يسير على نغمتها المشاة حتى حافة الجبل، وكانوا يترنحون عند سفحه، وواصلت الموسيقى عزف مقطعها الأخير، سقطة الموت، السقوط في حفرة الموت. وفي الوقت المحدد وبالضرورة جاءت النغمتان المتوقعتان، ثم كانت الذروة، فالنهاية التي لا لبس فيها، وأعقب ذلك خمش ثم دقة حادة ساد بعدها السكون. ومن خلال النافذة المفتوحة أمكنه أن يسمع نقيق الضفادع البعيدة، وأصوات الحشرات الخشنة الرتيبة، ومع ذلك فقط ظل الصمت سائدا بشكل عجيب، وكالذباب في كتلة من العنبر، تاهت الأصوات في عالم شفاف لا لغو فيه وعجزت عن شقه أو حتى تحويره، وبقيت فيه نشازا كليا، وازداد الصمت عمقا، يتحول من كثيف إلى أكثف، لا يحده زمان، الصمت في كمين، صمت مترقب متآمر أشد خبثا من مسيرة الموت التافهة المروعة التي سبقتها.
هذه هي الهوة التي ساقه صوت الموسيقى إلى حافتها، إلى الحافة، وإلى ما بعد الحافة، إلى هذا السكون الأبدي.
همس قائلا: الألم لا نهاية له، ولا تستطيع أن تتكلم، بل ولا تستطيع أن تصرخ.
وقعقع المقعد، ورفرف الحرير، وأحس الهواء الذي جلبته الحركة على وجهه؛ كان ذلك اقتراب إنسان، ومن خلف جفنيه المغمضين أدرك بشكل ما أن سوزيلا تركع أمامه، وبعد لحظة أحس يديها وهي تمس وجهه؛ راحتاها فوق خديه، وأصابعها تعبث بعارضتيه.
وأخذت الساعة الكبيرة في المطبخ تئز ثم بدأت تدق إيذانا بالوقت. دقة، دقتان، ثلاث دقات، أربع ... وهبت في الحديقة الخارجية نسمة هامسة خشخشت بين أوراق الشجر بغير توقف، وصاح الديك، وبعد لحظة، ومن بعيد، جاء الصدى، وتلاه صدى بعد صدى في تلاحق. ثم كان صدى الصدى، وأصداء أخرى تتردد ، ألحان التحدي تتحداها ألحان أخرى، وأنغام الاعتراض تعترضها أنغام أخرى. وبعدئذ انضم إلى الجوقة صوت آخر مختلف، واضح النبرة، ولكنه ليس إنسانيا، ومن خلال صياح الديك وضوضاء الحشرات نادى: انتباه، انتباه، انتباه!
وكررت سوزيلا بعده الكلمة: انتباه! وبينما كانت تنطق بالكلمة أحست أصابعها وقد بدأت تتحرك فوق جبهته. وبخفة سارت بها من حاجبيه إلى شعره، ومن عارضتيه إلى النقطة التي تتوسط بين العينين. وأخذت تحرك أصابعها إلى أعلى وإلى أسفل، وإلى الخلف وإلى الأمام، تخفف من تقلصات العقل، وتسوي أخاديد الحيرة والألم، قالت: تنبه إلى هذا. وضاعفت من ضغط راحتيها على عظام صدغيه، ومن ضغط أطراف أصابعها فوق أذنيه، وكررت عبارتها: تنبه إلى هذا. إلى اللحظة الراهنة، إلى وجهك بين راحتي. ثم خففت من شدة الضغط، وبدأت أصابعها تتحرك مرة أخرى فوق جبهته.
ومن خلال صياح الديك الأجش الذي كان نشازا في تلك اللحظة، نادى الصوت منبها في إلحاف: انتباه، انتباه، انتبا... وهنا قبل أن تتم الكلمة سكت الصوت.
هل يتنبه إلى راحتيها فوق وجهه، أم هل يتنبه إلى وهج الضياء الباطني، أم إلى تلك النجوم المتكاثرة من الصفيح والبلاستيك، أم - من خلال صنوف الابتذال المتدفقة - إلى تلك النفاية التي كانت مولي فيما مضى، أم إلى المرآة في بيت العاهرة، إلى تلك الجثث الملقاة في الوحل والتراب والصخور المتكسرة والتي لا يحصيها العد؟ وهناك أيضا السحالي وجونجيلس جونجيلويديس بالاميين، وطوابير المشاة، وتلك الوجوه السابحة في عالم آخر، وجوه الملائكة النورديين الممعنين في الإصغاء.
وبدأ طائر المينة ينادي ثانية من الجانب الآخر للبيت: انتباه، انتباه!
هز ويل رأسه وقال: انتباه إلى ماذا؟ - إلى هذا.
وغاصت بأظافرها في جلد جبهته، ثم قالت: هذا، الآن، وفي هذا المكان، وهو ليس شيئا رومانسيا كالمعاناة والآلام، إنه مجرد الإحساس بأظافر أصابعي. وحتى إن كان ذلك أسوأ من الآلام التي عرفتها، فهو لا يمكن أن يدوم إلى الأبد أو يستمر إلى ما لا نهاية. ليس هناك أبدي، ولا لانهائي، اللهم إلا - ربما - طبيعة بوذا.
وحركت يديها ، ولكن اتصالها به هذه المرة لم يكن بالأظافر، إنما كان بالجلد، وانزلقت أطراف أصابعها على حاجبيه، وبخفة شديدة نقلتها إلى جفنيه المغمضين. ولأول ومضة عين استولى عليه خوف قاتل. هل كانت تستعد لفقء عينيه؟ وقبع مكانه متأهبا ليلقي برأسه إلى الوراء ويثب على قدميه عند أول حركة من حركاتها. غير أن شيئا لم يحدث، وتبددت مخاوفه شيئا فشيئا، وبقي وعيه بهذه اللمسة الودود التي لم يكن يتوقعها، والتي يكمن فيها الخطر، وكان الوعي حادا جدا، ولأن العينين حساستان إلى أقصى حد كان هذا الوعي كذلك مشتملا على كل نفسه بحيث لم يبق له ما يدرك به الضوء الباطني أو الأهوال والأمور المبتذلة التي تتكشف له عن طريق هذا الضوء.
وهمست قائلة له: انتبه!
وكان من المستحيل ألا ينتبه. ومهما يكن من أمر فقد تحسست بأطراف أصابعها برفق وفي رقة شديدة أعماق أعماق شعوره، واستطاع الآن أن يرى غزارة الحياة في هذه الأصابع، أي دفء يشع منها ويشعره بوخز خفيف!
تعجب قائلا: إنها كالتيار الكهربائي.
قالت: ولكن الأسلاك لحسن الحظ لا تحمل رسائل، أنت تمس وبهذا المس تمس. اتصال كامل، وليس هناك ما ينقل. الأمر كله تبادل حياة بحياة. وصمتت برهة ثم قالت: هل تدرك يا ويل أنك في هذه الساعات الطوال التي جلسناها هنا معا - وهي في حالتك قرون، وأبد الآبدين - لم تنظر إلي مرة واحدة؟ هل أنت تخشى ما يمكن أن تراه؟
وفكر في هذا السؤال وأخيرا أومأ برأسه إيجابا.
ثم قال: ربما كان الأمر كذلك. أخشى أن أرى شيئا يتحتم علي أن أشارك فيه، أمرا ربما تحتم علي أن أفعل شيئا بشأنه. - لذلك تشبثت بباخ وبالمناظر الطبيعية وبالضياء الصافي في الفراغ.
وقال شاكيا: وهو ما حرمتني من النظر إليه. - لأن الفراغ لا يجديك نفعا إلا إن أنت شهدت ضياءه في كل شيء وفي الناس، وهو أحيانا أشد عسرا.
تدبر قولها: أشد عسرا.
وطافت بذاكرته طوابير المشاة وانعكاس الأجساد في المرآة، وكل تلك الجثث الملقاة على وجوه أصحابها في الوحل، وهز رأسه وقال: هذا مستحيل.
وأصرت قائلة: لا، ليس مستحيلا، الضياء والرأفة أمران متلازمان، المتأمل الشره هو الذي يريد أن يمتلك الضياء ولا يعبأ بالرأفة، الناس الطيبون فحسب يحاولون أن يكونوا رحماء ويأبون أن يأبهوا بالضياء، وكما عهدت، المسألة هي أن تفيد من العالمين أكبر الفائدة. ثم قالت: وقد آن لك أن تفتح عينيك وترى كيف يكون شكل الكائن البشري في الواقع.
وتحركت أطراف أناملها من جفنيه إلى جبهته، ثم إلى عارضتيه، وإلى خديه، ثم إلى طرفي فكيه، وبعد لحظة أحس بهما على أصابعه. وكانت تضم يديه إلى راحتيها.
وفتح ويل عينيه ولأول مرة منذ أن تناول عقار الموكشا وجد نفسه يتفرس وجهها بإمعان.
وأخيرا همس قائلا: يا إلهي!
ضحكت سوزيلا وسألته: هل هو قبيح قبح مصاص الدماء؟
ولكن الأمر لم يكن الآن هزلا. وهز ويل رأسه قلقا، واستمر في تفرسه. كان محجرا عينيها وما يغشاهما من ظلال أمرا ملغزا، وفيما خلا هلال ضئيل من الضوء يسطع على عظام خديها. كان كذلك الجانب الأيمن من خدها بأسره معتما. أما الجانب الأيسر فقد تلألأ بإشعاع ذهبي؛ بريقه خارق للطبيعة، ولكنه بريق لا هو وهج الظلام المبتذل الخبيث الذي يراه ولا هو اللهب البهيج الذي تكشف له في الفجر البعيد لأبديته خلف جفنيه المغمضين، كما تكشف له عندما فتح عينيه في الجواهر الناطقة، وفي تكوينات الفنانين التكعيبيين العجيبين. وفي المناظر الطبيعية التي تغيرت في شكلها. إن ما يراه الآن هو تناقض الأضداد التي تلاقت لقاء لا فكاك منه، تناقض الضوء يشع من الظلام، والظلام في قلب الضياء.
وأخيرا قال: إنه ليس الشمس وليس مدينة تشارترز
11
وليس صالون البيع الجهنمي بحمد الله. إنه كل ذلك في وقت واحد. وأنت أنت، وأنا أنا؛ وإن كان كل منا يختلف عن الآخر تماما. أنا وأنت لو رسمنا رامبرانت، بل وأضعاف ذلك آلاف المرات.
وصمت لحظة، ثم أومأ برأسه ليؤكد ما ذكر ، ثم قال: نعم، هو ذاك. الشمس في تشارترز، والنوافذ ذات الزجاج الملون في صالون البيع، وصالون البيع هو كذلك غرفة التعذيب، ومعسكر الاعتقال، والمقبرة تزينها شجرة عيد الميلاد. والآن ينعكس صالون البيع، فيضم تشارترز وشريحة من الشمس، وينقلب إلى هذا؛ أنت وأنا بريشة رامبرانت. هل لذلك أي معنى لديك؟
وأكدت له أن له عندها كل معنى في هذه الدنيا.
ولكن ويل كان منشغلا بالنظر إليها بدرجة لم تمكنه من الإصغاء إلى ما كانت تقول. وأخيرا قال: أنت جميلة بشكل لا يصدقه أحد، ولو كنت قبيحة بشكل لا يصدقه أحد لما اكترثت؛ فسوف تظلين صورة من رسم رامبرانت مضاعفة آثارها خمسمائة مرة. وأخذ يكرر قوله: جميلة، جميلة، ومع ذلك لا أحب أن أتزوج منك. لا، هذا غير صحيح، بل أحب، وإلى درجة كبيرة جدا حقا. ولكني إذا لم أفعل ما اكترثت؛ فسوف أظل محبا لك، بالطريقة التي يفترض أن يحب بها المرء سواه إذا كان مسيحيا. وكرر قوله: المحبة، المحبة، إنها أيضا من تلك الكلمات التي تلوث معناها. إذا قيل «إنه يحب» أو «يمارس الحب»، فالاستعمال هنا صحيح، ولكن «المحبة» الخالصة؟ هذا فحش لا أستطيع النطق به. ولكن دعينا من هذا الآن ... وابتسم وهز رأسه وقال: صدقت أم لم تصدقي، أنا الآن أستطيع أن أفهم ما يقصدون حينما يقولون: «الله محبة.» قد يبدو ذلك هراء، ولكنه الحق. ثم إن هناك وجهك غير العادي بصورة لا تصدق. لكأني أنظر إلى كرة من البلور، صورة تتجدد في كل حين. إنك لا تستطيعين أن تتخيلي ...
ولكنها كانت تستطيع أن تتخيل وقالت: لا تنس أنني كنت هناك بنفسي. - وهل نظرت إلى أوجه الناس؟
أومأت برأسها إيجابا وقالت: نظرت إلى وجهي في المرآة، وطبعا نظرت إلى وجه ديوجولد. ورأيت عجبا! في تلك المرة الأخيرة التي تعاطينا فيها عقار الموكشا! بدا أول الأمر كأنه بطل من أبطال الأساطير المستحيلة؛ أساطير الهنود في أيسلندة، أو الفايكنج في التبت، ثم فجأة وبغير إنذار سابق صار ميتريا بوذا،
12
هو بعينه ميتريا بوذا! يشع منه الضوء، ولا زلت أرى ...
وسكتت عن الكلام، وفجأة ألفى ويل نفسه ناظرا إلى الثكل مجسدا وكأن سبعة سيوف تطعن قلبها. رأى علامات الألم في العينين السوداوين، وحول أطراف فهمها ذي الشفتين الغليظتين فعرف أن الجرح كاد أن يقتلها، وأنه لا يزال مفتوحا تسيل منه الدماء؛ عرف ذلك وفي قلبه وخز الألم. ضغط على يديها، وبالطبع لم يكن لديه ما يقول؛ لا كلمات، لا عزاء بفكر فلسفي. لم يكن هناك سوى لغز التلامس المشترك. هذا الاتصال من الجلد إلى الجلد والذي يتدفق بغير نهاية.
وأخيرا قالت: ما أسهل أن يعود المرء إلى الماضي! ذلك أمر غاية في السهولة، وكثيرا ما يتكرر. وتنفست تنفسا عميقا واعتدلت في جلستها.
وقد حدث في وجهها وفي جسمها كله تغير آخر أمام عينيه؛ فلقد رأى في ذلك الجسم النحيل قوة تكفي لمقاومة أي نوع من أنواع المعاناة، إرادة أقوى من كل السيوف التي يمكن للقدر أن يطعنها بها، رابطة الجأش، قوية العزيمة.
وعاد إلى ذاكرته ذلك الصوت الهادئ الذي كان يخاطبه في حديث متدفق لا يقاوم عن الإوز العراقي، والكاتدرائية، وعن السحب والمياه الساكنة. وبينما كان يستعيد ذكرياته بدا له وجهها متوهجا بشعور النصر. إنها قوة كامنة؛ رأى التعبير عنها، وأحس وجودها المريع فتراجع أمامها.
همس قائلا: من تكونين؟
وحدقت فيه لحظة دون أن تنبس ببنت شفة، ثم قالت في مرح وهي تبتسم: لا ترع؛ فلست أنثى فرس النبي.
وبادلها ابتسامة بابتسامة؛ وكأنه يرد ابتسامة فتاة ضاحكة تشتهي القبل وتدعو إليها في صراحة.
قال: حمدا لله. وعاد إليه الحب الذي كان قد تقلص من الفزع، عاد إليه يجرفه تيار من السعادة. - على أي شيء تحمده؟ - على أنه أعطاك نعمة الإحساس.
ابتسمت مرة أخرى وقالت: أرى أن القط قد خرج من مخبئه.
قال: كل هذه القوة، وكل هذه الإرادة المريعة التي تدعو إلى الإعجاب. كان من الممكن أن تكوني شيطانا. ولكن لحسن الحظ، وبإرادة الله ...
وفك ارتباط يده اليمنى بيدها، وبطرف سبابته الممتدة لمس شفتيها، واستطرد قائلا: نعمة الإحساس المباركة، كان فيها خلاصك، ثم قال: أقصد نصف خلاصك بتعديل للعبارة الأولى، وقد تذكر الجنون الرهيب الذي ينطوي على حب الذي أصابه في الفجوة القرنفلية. وأضاف: إنه ناحية واحدة من نواحي خلاصك؛ لأن هناك بالطبع ذلك الأمر الآخر: معرفة من أنت في الواقع. وصمت لحظة، واستطرد قائلا: ماري والسيوف تطعن قلبها، وسيرسي،
13
ونينون دي لينكلوس،
14
والآن، من؟ شخص مثل جوليانا النوريتشية
15
وكاترين الجنوية. هل أنت حقا كل هؤلاء؟
أكدت له أنها كل هؤلاء مضاف إليهن امرأة بلهاء، وأخرى شديدة القلق وأم ليست على قدر كبير من كفاية الأمومة، وهي فوق ذلك شديدة التمسك بالمبادئ حالمة في يقظتها منذ الطفولة، وكذلك تكمن في المرأة العجوز التي تعاني سكرات الموت، والتي نظرت إلي من المرآة في المرة الأخيرة التي تناولنا فيها عقار الموكشا معا. وبعد ذلك نظر ديوجولد ورأى منظره بعد أربعين عاما، وأضافت: وفي أقل من شهر بعد ذلك كان من الأموات.
ما أسهل الرجوع إلى الماضي! وما أكثر الرجوع إليه! ... وفي ظلام شبه اللغز، وفي توهج الضوء الذهبي العجيب تحول وجهها مرة أخرى إلى قناع من الآلام، واستطاع أن يرى عينيها مغمضتين داخل محجريهما المظلمين؛ فلقد عادت إلى زمن آخر وكانت وحيدة في مكان آخر، تخزها السيوف ويسيل الدم من جرحها. وكانت الديوك في الخارج تصيح، وبدأت مينة أخرى تنادي بنغمة أعلى من سابقتها قليلا مطالبة بالرأفة. - كارونا.
16 - انتباه، انتباه! - كارونا.
ورفع ويل يده مرة أخرى ولمس شفتيها. - هل تسمعين ما يقولون؟
ومضى وقت طويل قبل أن تجيب. ثم رفعت يدها وأمسكت بإصبعه الممتدة وضغطتها بشدة على شفتها السفلى، وقالت: شكرا لك.
وفتحت عينيها مرة أخرى. - لماذا تشكرينني؟ أنت التي علمتني ما أفعل. - والآن أنت الذي ينبغي لك أن تعلم معلمتك.
وكمعلمين هنديين روحانيين متنافسين كل منهما يروج لمذهبه الروحاني صاحت المينتان إحداهما تقول: كارونا، والأخرى تقول: انتباه، وكل منهما يحاول أن يغرق حكمة الآخر في المضاربة. وكان هناك في الحديقة المجاورة ديك صغير صاح بصوت قوي معلنا عن تألهه زاعما أنه وحده يملك جميع الإناث ولا يعجز عن إرضائها أبدا، متحديا كل مدع للذكورة كاذب، بإيمان من لا يقهر.
ومن خلال قناع الآلام ابتسمت سوزيلا. وقد عادت من عالمها الخاص - عالم السيوف والذكريات - إلى الحاضر، وقالت: هذا الصياح الذي يصدر عن الديك الصغير كم أعشقه! ما أشبهه بتوم كريشنا حينما يطوف سائلا كل من لاقاه أن يتحسس عضلاته. وهذه المينات التي لا يتصورها العقل، إنها تردد بإخلاص النصائح الطيبة التي لا تفقه لها معنى. إني أعبدها كما أعبد البنطم (دجاج صغير الحجم) الذي أقتنيه.
وسألها: وما رأيك في ذلك النوع الآخر من ذوات القدمين، ذلك النوع الذي لا يفتن إلى هذا الحد؟
وكانت إجابتها أن انحنت إلى الأمام، وأمسكت به من ناصيته وجذبت رأسه إلى أسفل وقبلته في أرنبة أنفه، وقالت: والآن حان الحين لكي تحرك ساقيك.
ونهضت على قدميها ومدت يدها إليه، وأمسك بها وجذبته من مقعده.
وقالت: بعض ذوات القدمين يصيح صياحا سلبيا، ويلوك كالببغاء كلاما خلوا من الحكمة.
وسألها: ما الذي يضمن لي أني لا أعود إلى الغثيان؟
وأكدت له في ابتهاج: ربما عدت إليه. ولكنك ربما عدت أيضا إلى هذا.
وتوثبا على الأقدام.
ضحك ويل: هذا عندي تجسيد خفيف للشر. وأمسكته من ذراعه وسارا معا حتى النافذة المفتوحة، وإذا برياح خفيفة تهب متقطعة وتهز سعف النخيل إيذانا باقتراب الفجر. وفي أسفل ظهرت شجيرة خبيزة تمتد جذورها في الأرض الندية التي تفوح منها رائحة لاذعة؛ وفرة بالغة من أوراق الشجر البراقة اللامعة والنباتات المتسلقة قرمزية اللون وقد أظهرها في ظلام الليل، الذي تزيد من حلكته الأشجار الباسقة، سهم من نور المصباح يخرج من الغرفة.
قال غير مصدق لما يرى: هذا مستحيل. وقد طاف بخاطره نور السماء متمثلا في الرابع عشر من شهر يوليو.
ووافقته بأن ذلك مستحيل وقالت: ولكنه - كأي شيء آخر في الكون - أمر واقع. والآن وقد أدركت وجودي، أسمح لك أن تفعل ما يثلج صدرك.
ووقف مكانه بلا حراك، يحملق ويحملق وتدور بذهنه أفكار عميقة تتزايد ودلالات عويصة تتكاثر في تتابع لا نهاية له، واغرورقت عيناه بالدموع وسالت أخيرا على خديه، فأخرج منديله ومسحها.
واعتذر قائلا: لا أستطيع أن أكفكف الدمع.
لم يستطع ذلك لأنه لم تكن لديه وسيلة أخرى يعبر بها عن الشكران، شكران لامتيازه في أن يبقى على قيد الحياة ويشهد هذه المعجزة، ولا يكفي أن نقول يشهد بل الأصح أن نقول يشارك، أو أن يكون وجها من وجوهها. الشكران لهبة السعادة المضيئة والفهم الذي لا يستند إلى معرفة. شكران لأنه في وقت واحد اتحد مع الوحدة المقدسة مع بقائه هذا المخلوق المحدود بين غيره من المخلوقات المحدودة.
قال وهو يخفي منديله: لماذا يبكي المرء حينما يكون شكورا؟ الله أعلم. ولكن هذا يحدث. وطفت فوق سطح أوحال مطالعاته الماضية فقاعة من فقاقيع التذكر. تذكر قول القائل: الاعتراف بالجميل هو جنة النعيم بعينها. ثم قال: هذا هراء، ولكني الآن أرى أن بليك
17
كان إنما يسجل حقيقة بسيطة. إنه جنة النعيم بعينها.
قالت: وهي جنة أكثر نعيما لأنها جنة فوق الأرض وليست جنة في السماء.
وعلى حين غرة، وسط صياح الديوك ونقيق الضفادع، ووسط ضوضاء الحشرات وجدل المعلمين الهنود الروحانيين، سمع صليل أسلحة آتيا من بعيد.
وتعجبت قائلة: عجبي! ما هذا؟
أجاب مبتهجا: إنهم الأطفال يلعبون بالصواريخ.
هزت سوزيلا رأسها وقالت: إننا لا نشجع هذا النوع من الصواريخ، بل ولا نقتنيها.
وفي الطريق العام الذي يقع خلف جدران المجمع تعالى صوت عربات ثقيلة تصعد في بطء شديد، وقد شق ضجيج العربات صوت جهير له صرير يلقي من خلال مكبر للصوت كلاما غير مفهوم.
وفي الظلال المخملية بدت أوراق الأشجار كقشور من اليشم والزمرد، ومن قلب بريق هذا الحشد من الجواهر لمعت قطع من الياقوت المنحوت بصورة عجيبة على شكل خمسة أنجم. شكرا، شكرا. ومرة أخرى اغرورقت عيناه بالدموع.
وقد تجمعت مقاطع من الكلمات التي خرجت من مكبر الصوت وتكاملت في ألفاظ مفهومة. وأخذ يصغي على الرغم منه.
سمع المنادي يقول: يا أهل بالا. ثم تحول الصوت في المكبر إلى مقاطع منفصلة، وكان صريرا ثم زئيرا، ثم صريرا، ثم بقية العبارة: أنا الراجا أخاطبكم ... الزموا الهدوء ... رحبوا بأصدقائكم الوافدين عبر المضيق ...
وأشرقت الحقيقة: هذا موروجان. - يصحبه جند ديبا.
صاح الصوت المتردد المنفعل قائلا: التقدم، الحياة الحديثة ... وتنقل من سيرز إلى روبك إلى الراني وكوت هومي، ثم صاح: الحق، القيم ... الروحانية الصادقة ... البترول.
قالت سوزيلا: انظر، انظر! إنهم يتجهون نحو المجمع.
وسطعت أشعة موكب المصابيح الأمامية لحظة على الخد الأيسر لتمثال بوذا الصخري إلى جوار بركة اللوتس ثم اختفت، ثم أشارت مرة أخرى إلى إمكان التحرر المنشود واختفت للمرة الثانية. وقد ظهرت هذه الأشعة من فجوة تفصل بين أجمتين من آجام الخيزران.
صاح الصوت الذي تضخم في مكبر الصوت: عرش أبي ينضم إلى عرش أسلاف أمي. أمتان شقيقتان تسيران إلى الأمام، بأيد متشابكة، نحو المستقبل ... وتعرف منذ الآن باسم مملكة راندنج وبالا المتحدة ... والكولونيل ديبا ذلك القائد السياسي الروحاني هو أول رئيس للوزراء بالمملكة المتحدة ...
اختفى موكب المصابيح الكشافة خلف سلسلة كبيرة من المباني وتشتت الصوت الصادر من المكبر حتى سكت نهائيا، ثم ظهرت الأضواء مرة أخرى ووضح الكلام.
كان المنادي يقول في غضب: الرجعيون والخائنون لمبادئ الثورة الدائمة ...
وهمست سوزيلا قائلة بنغمة تنم عن الذعر: إنهم يقفون أمام منزل الدكتور روبرت.
وصدرت عن الصوت الكلمة الأخيرة، وأطفئت المصابيح الكشافة، وأوقفت محركات العربات التي كانت تزأر بالضجيج. وفي السكون المظلم المتوقع واصلت الضفادع والحشرات مناجاتها لا تبالي، ورددت المينات نصيحتها الطيبة: انتباه، كارونا. وتطلع ويل إلى شجيرته المحترقة ورأى الحقيقة المثلى للعالم، كما رأى وجوده، يومضان بالضوء الصافي، وهو بعينه الرأفة (كما وضح الآن كل الوضوح!) ذلك الضوء الصافي الذي اختار ويل دائما - كغيره من الناس - أن يعمى عنه، وتلك الرأفة التي آثر عليها التعذيب دائما، التعذيب يتحمله أو يوقعه، في صالات البيع الرخيص، وفي عزلته الزرية، مع بابز الحية أو مع مولي الميتة في مقدمة الصورة، أو مع جو ألديهايد وسط الصورة. وفي الخلفية البعيدة ذلك العالم الكبير عالم القوى المجهولة والأعداد المتكاثرة والمصابين جماعة بالجنون، والشعوذة المنظمة.
وهناك دائما وفي كل مكان صياح المنومين المغناطيسيين أو تسلطهم وهم ساكنون، وفي أعقاب الموحين الحاكمين تسير دائما وفي كل مكان حشود المهرجين والمروجين، ومحترفي الأكاذيب، والمتعهدين الذين يقدمون أسباب اللهو التي لا تمت بصلة إلى الواقع، وضحاياهم في أزياء موحدة يكيفون منذ المهد، وتصرف أنظارهم بلا توقف، وينومون بنظام، فيواصلون المسير إلى الأمام وإلى الخلف طائعين - دائما وفي كل مكان - يقتلون ويقتلون في طاعة تامة كطاعة الكلاب المدربة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من موقف الرفض الذي له ما يبرره كل التبرير فهناك حقيقة ثابتة وسوف تبقى على ثباتها دائما وفي كل مكان؛ وهي أن هناك قدرة حتى عند المجنون على التفكير الذكي، وقدرة حتى عند من يعبد الشيطان على المحبة. ستبقى هذه الحقيقة: وهي أن أساس الوجود كله يمكن أن يظهر بتمامه في شجيرة مزهرة، أو في وجه إنسان، وستبقى أيضا هذه الحقيقة: وهي أن هناك ضياء وأن هذا الضياء هو كذلك الرأفة.
وسمعت طلقة من بندقية، ثم انفجار طلقات من بنادق آلية.
وغطت سوزيلا وجهها بيديها، وأخذت ترتجف ولا تملك زمام نفسها.
وطوق بذراعه كتفيها وضمها إليه.
إن عمل مائة عام يتحطم في ليلة واحدة، ومع ذلك فهناك حقيقة ثابتة؛ وهي حقيقة نهاية الأحزان وحقيقة الأحزان ذاتها.
وأديرت محركات العربات، وأخذت الآلات المحركة واحدة بعد الأخرى تزأر زئير الحركة، وأشعلت الأضواء الكاشفة، وبعد دقيقة من جلبة المناورة، بدأت العربات تتحرك ببطء شديد عائدة من الطريق الذي أتت منه.
ودوى مكبر الصوت بفاتحة النشيد العسكري مصحوبا بأنشودة المرح الفاسق، وعرف ويل أن هذا هو النشيد القومي لراندنج، وسكت النغم وظهر موروجان مرة أخرى.
ونادى الصوت: هذا الراجا يتحدث إليكم. وبعدما عزفت الموسيقى نغمة خاصة توحي بالإعادة، تلا المنادي مرة أخرى ذلك الخطاب الذي ألقاه من قبل عن التقدم والقيم والبترول والروحانية الحق. وبغتة - كما حدث من قبل - اختفى الموكب عن الأنظار والأسماع. وبعد دقيقة واحدة ظهر مرة أخرى مصحوبا بصوت مرتعش يصدر عن رجل يترنم بمزايا أول رئيس للوزراء بالمملكة المتحدة الجديدة.
وزحف الموكب، ومن يمينه هذه المرة سطعت الأنوار الكاشفة لأول عربة مسلحة على وجه الاستنارة الهادئ الباسم. ولبث ذلك لحظة واحدة، ثم تحرك شعاع الضوء فظهر تاثاجاتا
18
للمرة الثانية، فالثالثة، فالرابعة، فالخامسة. واختفت العربة الأخيرة، وبقيت حقيقة الاستنارة وقد انصرفت عنها في الظلام الأنظار، وخفت صوت محركات العربات، وتحول صرير مكبر الصوت الذي كان يعلن الخطاب إلى تمتمة غير واضحة، ومع سكون الضوضاء الدخيلة ظهرت الضفادع، والحشرات التي لا تفتر، وطيور المينة تصيح: كارونا، كارونا. وبنغمة أخف: انتباه!
صفحة غير معروفة