ومما أخبرني القاضي العلامة صفي الدين وبركة المسلمين: أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه، قال: كنت كثيرا أقوم من مجلسه الخاص وقد مضى من الليل أكثره، ولا أجد لي من القوة إلا ما أحمل بها نفسي إلى منزلي من الإشتغال والعمل في كتب العامة والخاصة وهو معي في ذلك، فلا أرى له مثلما أجد من التعب بل يزداد صبره واجتهاده، وأترك شيئا مما كنت أعينه فيه فأجده قد أصلحه، وأذهب من عنده، غير مرة على هذه الحالة وكتبه مرصوفة، فآتي الصبح فأجدها مفتحة مطالعا فيها أو في أكثرها، فما خلتها إلا كما ترى الحجارة الكثيرة عند العمار الماهر المطيق، ومما رأيت أنا من مثل ذلك أنه دعاني مرة قبل صلاة الفجر في منزله من درب الأمير وسألني بعد الصلاة عن شيء وبسط، ثم تناول شيئا من الطعام بعد القهوة، ثم تحدث قليلا ثم قال لي: اسكن أنام قليلا، ثم اضطجع قليلا إلا وهو يغط ثم انتبه وطلب قهوة ثم قال لي: إني لم أدرس، وكان قراءة الفضلاء عليه في البحر الزخار(1)، فدرس نحو خمس ورق، وأحضر من كتب الفن المذكور اثنين وعشرين كتابا طالع موضع المعشر منها ثم علمها، ثم أمر بفتح الباب لأهل القراءة، فترى هذه القوة وبركة الأوقات الخارقة للمعتاد.
ومن ذلك أني عرضت عليه الحسابات والتقريرات والتذاكر وأهلها فكانت فوق مائة ألف وستين ألفا، فأقسم بالله أنه أمرها على نظره الكريم نظر تحقيق وسؤال عن كل شيء باسمه في ساعة أو ساعتين، وأثبت شيئا وأبدل غيره بتحقيق، وما حصلناها إلا بليال مع معاونة كاتبين:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد(2)
صفحة ١٠