إذا تدبرت ذلك، اتضح لك أن من لاحت له معالم الحقيقة وانكشفت لبصيرته أعلام الحق فتعامى عنها مستمسكا بما ورثه من العقائد، لن يكون سالما، وكذلك الذي لا يكلف نفسه مؤونة البحث عن الحق والتفتيش عن الصواب، أما الذي ينشد الحق ويتبع كل بارقة تلمع له من نوره ويحرص على أداء واجباته الإجتماعية من غير تفريط فيها فذلك الذي ترجى له السلامة عند الله.
على أن الحجة قد قامت على الناس بما يسمعون عنه من أخبار النبوات وأحوال النبيين وما عليهم إلا أن يفتشوا عن ضالتهم المنشوده والله لا يضيع عمل عامل
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69].
ونحن نسلم أن الشرع هو الحكم في العقائد والأعمال ولكنا نرى وجوب استخدام العقل مع تعذر الوصول إلى الشرع وهذا يقضي أن يتجنب الإنسان كل ما يستقبحه عقله قبل التوصل إلى حكمه الشرعي ولا ريب أن العقول السليمة كلها تقضي بمنع الإعتداء والظلم والفساد، لأجل ذلك ذهب من ذهب من علمائنا - كالإمامين أبي سعيد وابن بركه - إلى وجوب تحكيم العقل عند تعذر الوصول إلى الشرع حتى في الأمور العملية ولهذه المسألة مباحث ليس من غرضنا استيفاؤها، فمن أرادها فليطلبها من مظانها ككتاب الإستقامة للإمام الكدمي ومشارق أنوار العقول للإمام السالمي رحمهما الله.
الثاني: من بلغته الدعوة على وجه يؤدي إلى النظر، فساق همته إليه واستفرغ جهده فيه ولكن لم يوفق إلى الإيمان بما دعي إليه، وانقضى عمره وهو جاد في الطلب، وهذا القسم لا يتكون إلا من أفراد متفرقين في الأمم ولا ينطبق على شعب بأسره من الشعوب، فلا يظهر له أثر سلبي في أحوال شعب أو أمة، وما يكون لهما من سعادة أو شقاء في الحياة الدنيا، أما منزلة صاحب هذه الحالة في الدار الآخرة، فقد نقل الإمام محمد عبده عن بعض الأشاعرة، أنه ممن ترجى له رحمة الله تعالى، وعزا صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري، وعزا الإمام محمد عبده إلى الجمهور - بناء على رأيهم - أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد، الذي أنكر التنزيل واستعصى على الدليل وكفر بنعمة العقل ورضي بحظه من الجهل.
هذا ملخص ما قاله في أصحاب هذا القسم، ولكنني أستبعد جدا أن يتجه إنسان إلى الحق غير راغب عن شيء منه ولا مؤثر لهواه عن بعض ما يقتضيه الحق ويستلزمه الرشد مستخدما كل الوسائل الممكنة له في الوصول إليه، ثم يحال بينه وبينه لأن الله تعالى يقول: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } والله لا يخلف الميعاد، فلا يتصور هذا بحال وإذا ضل الإنسان عن جملة الحق أو عن بعضه فما هو إلا نتيجة تقصيره في البحث أو اتباعه الهوى بعدما تبين له الهدى، ومثل هذا لا يصح أن ترجى له رحمة الله، لأن رحمة الله إنما هى للمتقين.
الثالث: من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها فكانت عقائدهم نابعة من أهوائهم، وهم أصحاب البدع المنحرفون في إعتقادهم عن هداية الوحي، وهم الذين مزقوا شمل الأمة، لإنحرافهم عن نهج سلفها الصالح، وأشار الإمام محمد عبده إلى طرف من آثار هؤلاء في الناس، فذكر أن الرجل منهم يأتي إلى دوائر القضاة، فيستحلف بالله العلي العظيم أنه لم يفعل ما نسب إليه فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه فإذا أتاه المستحلف من طريق آخر وحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية، لم يلبث أن يتغير لونه وتتزلزل أركانه ويرجع في قسمه ويقول الحق، مقرا بأنه فعل ما حلف أولا بالله أنه لم يفعله، تكريما لاسم ذلك الشيخ وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو ينزل به نقمة إذا حلف باسمه كاذبا، ويرد الإمام محمد عبده هذا الضلال إلى الضلال في الإيمان بالله وما يجب له من الوحدانية في الأفعال، ثم أشار بعد ذلك إلى الضلالات المتنوعة التي عرضت على دين الإسلام وسلكت بهذه الأمة سبلا معوجة، لا توصل إلى حق ولا رشد، وذكر أن من أشنع هذه الضلالات أثرا وأشدها ضررا خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر والاختيار والجبر والوعد والوعيد وتهوين مخالفة الله على النفوس، ثم ذكر أنه لا بد لمن أراد تمحيص الإعتقاد ومعرفة ما فيه من الضلال والرشاد من تنزيه القرآن عن إدخال أي شيء مما في أدمغة الناس من المعتقدات فيه وبدون ذلك لا يمكن معرفة الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان، فلا يدرى ما هو الموزون به، ثم أوضح أن معنى ذلك أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون.
الرابع: الذين ضلوا في الأعمال وحرفوا الأحكام عما وضعت له نتيجة الخطأ في فهم مقاصد الشعائر الدينية والواجبات الاجتماعية التي فرضت في الإسلام وضرب الإمام محمد عبده لذلك مثلا: الإحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي جزء من الحول الثاني هروبا من الزكاة المفروضة، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية، ولا يعلم أنه بذلك يهدم ركنا من أركان دينه ويعمل عمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره وذلك محال على الله سبحانه وتعالى.
ومثل هذا التحايل الذي ذكره الأستاذ الإمام، الحيل الربوية التي كثيرا ما يستخدمها الذين لا يرعون للدين حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، نحو ما تعارف عليه الناس من بيوع الإقالة، فتجد أحدهم إذا احتاج يبيع عقارا للآخر بثمن معلوم ولا يشترط الإقالة إلى مدة معلومة ويتفق البائع والشاري على أن يستأجر البائع المبيع من المشتري في كل شهر بقدر معلوم من غير أن يتخلى عنه ويقبضه المشتري، وفي هذا العقد حرم متعددة:-
صفحة غير معروفة