ثانيتهما: ما يفيده الحصر المستفاد من تقديم المعمول على العامل من وجوب تخصيص الاستعانة بالله وحده فيما وراء ذلك، قال: وهو روح التوحيد وكمال الدين الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكذابين من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا
ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما
[الأحزاب: 71].
وأما السيد محمد رشيد رضا فيقول " إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه هو الإله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية المعنوية، قال: ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم واسم الرب الأكرم إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف، والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى:
ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه
[هود: 123] فهذه الاستعانة هى ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفا على قرن العبادة بالتوكل فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقيق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبى وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب.
قال: وبهذا البيان تعلم أن لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى بل الكمال والأدب في الجمع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبيده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا وجعلهم خدما يقومون بأمرها لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشاها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، وهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته فالعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه حيث جعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل، قال: هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه لا يجد من يتوجه إليه سواه إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد، وأتبع ذلك قوله أن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام، به وفي هذا تكريم للإنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة، ولا من هدي الشريعة فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وتذكير له من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم بأنه مستغن بكسبه عن عناية ربه فيكون من الهالكين في عاقبة أمره، هذا كلامه وهو ككلام أستاذه في إثبات كون الاستعانة بالله وعدم إشراك غيره فيها من لوازم الإيمان ومقتضيات التوحيد، وإنما بين كلاميهما خلاف لفظي، فالأستاذ الإمام يرى أن الاستعانة فيما كان داخلا في إطار الأسباب التي منحها الله عباده جائزة أن تكون بأولئك الذين أجرى الله الأسباب على أيديهم وعلى ذلك يحمل نحو قوله تعالى:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
[المائدة: 2] أما تلميذه السيد محمد رشيد رضا فهو ينظر إلى أن أولئك ليسوا مستقلين بالأسباب وإنما وهبهم الله تعالى من فضله التفوق فيها وسخرهم بحكمته لإعانة المحتاجين إليها فالمستعين بهم إنما يستعين في الحقيقة بالله واهب الأسباب ومقدرها فيجب على المؤمن ألا يغفل عن هذه الحقيقة عندما يطلب من غيره قضاء حاجته.
هذا وقد يفهم من كلامه في الأسباب العامة وقوله إنها موهوبة للناس كافة أنه يرى تكافؤ جميع الناس فيها، وهو أمر ترده المشاهدة فإن الناس متباينون في المواهب منهم من وهب حصافة الرأي، ومنهم من وهب قوة البدن ومنهم من وهب الحذق في أعمال خاصة وهذا لتكون حياة الناس قائمة على أسس الاجتماع ولو تساوى الناس في مواهبهم لاستغنى كل أحد بنفسه واستكفى بموهبته ولكن الله سبحانه يريد بذلك تذكير الناس بفقرهم واحتياجهم، لئلا يغتر إنسان بما أوتي فيدعي أنه أوتيه باستحقاق، فتجد الملك بحاجة إلى الحجام والقين والحداد والطباخ كحاجته إلى المستشارين والوزراء فسبحان الغني الذي تفرد بالعزة والكبرياء.
صفحة غير معروفة