وما بأيديهم من نسخ التوراة المحرفة شاهد على أنهم أضل الناس اعتقادا في الله، وأبعدهم عن أن يقدروه حق قدره، تعالى الله عما يقولون وعما يعتقدون علوا كبيرا، ومن كانت هذه عقيدته فليس ببعيد أن يعتقد أنه يخدع الله سبحانه فضلا عن اعتقاده مخادعة المؤمنين.
ثالثها: أن المراد بمخادعتهم لله مخادعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر اسم الله عز وجل بدلا من اسمه تشريفا له وإعلاء لقدره وإعلاما أنه محفوف بعصمة الله ومحاط بعنايته، فلا يخلص إليه شيء من كيد الكائدين، وذلك كما أخبر تعالى أن مبايعته صلى الله عليه وسلم هي مبايعة لله وذلك في قوله:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح: 10].
وهذا الوجه مع ما فيه من التنويه بقدره صلى الله عليه وسلم غير خال من الضعف، فإن إطلاق اسم الله مع قصد رسوله لا يصح إلا بقرينة كما في آية المبايعة.
وأجيب عن الثاني بوجوه أيضا:
أولها: أن وزن فاعل لا يستلزم المشاركة دائما، فقد يأتي خاليا من معناها، نحو عالج المريض، وناهز الاحتلام، فإن الفعل فيها جميعا صادر من جهة واحدة، فلا يبعد أن يأتي خادع بمعنى خدع، وكثيرا ما يكون ذلك لقصد المبالغة، ومن المعلوم أن المنافقين كانوا يجهدون أنفسهم في خدع المؤمنين وابتكار الحيل والأساليب المؤدية لهذا الغرض، فكان فعلهم كأنما يصدر من أكثر من جهة، وتؤيد هذا التأويل قراءة يخدعون الله وهو إنما يدفع هذا الاشكال دون الذي قبله.
ثانيها: أن المؤمنين أمروا من قبل الله بالاغضاء عن بوادر المنافقين وفلتات ألسنتهم وهفوات أفعالهم وكبوات تصرفاتهم التي يستشف من ورائها النفاق، كما أمروا أن يعاملوهم معاملة أنفسهم، فكان ذلك مما يجرئهم على الاسترسال في غيهم والانهماك في فسادهم، متخيلين أنهم قد أحرزوا أنفسهم من الخطر ووقوها المخاوف بهذا الصنيع، فكان هذا الأمر منه تعالى شبيها بخدعهم، لأن من ورائه ما ينتظرهم من العقاب الأليم والعذاب العظيم، فجاز أن يستعار لهذه المعاملة اسم الخداع، ولما كان صدور ذلك من المؤمنين بإذن منه تعالى، صح إسناد ذلك إليه وإليهم، ونحوه في إسناد الخدع إلى الله في قوله تعالى:
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم
[النساء: 142].
صفحة غير معروفة