وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتلبس دار الهجرة بادىء الأمر بالنفاق، إذ كان الناس فيها بين مؤمن صادق الايمان، وكافر يجاهر بكفره، سواء كان يهوديا أو وثنيا، حتى تحقق للاسلام النصر المؤزر في غزوة بدر الكبرى التي كانت إيذانا بظهور الحق واكتساحه الباطل، فرجفت القلوب المريضة ممن تخلف عن ركب الايمان من الأوس والخزرج وأحلافهم من اليهود، وكان بنو قينقاع أحلاف الخزرج، وبنو قريظة والنضير أحلاف الأوس.
واليهود من طبعهم الحقد الأسود، والكراهة المتأصلة للحق والعداء المستحكم لأهله، وقد شعروا أن دعوة الحق التي اتخذت من المدينة مركزا لها سوف تبتز منهم سلطانهم الروحي وسوف تكشف ما كانوا يطوونه عن الناس من قبائح صنعهم عبر تاريخهم الطويل، كقتلهم الأنبياء بغير حق وافترائهم على الله بتحريف ما أنزل، فكان ذلك الشعور نارا حامية تتأجج بين جوانحهم فتلهب صدورهم بإوار الحسد للدعوة ورجالها.
ومن بين أفراد الأوس والخزرج من كان لم ترق له هذه الدعوة، كعبد الله بن أبي ابن سلول، الذي فكر أن الايمان والهجرة قد اختطفا من يديه أعز ما كان يطمح إليه؛ وهو تتويجه ملكا على يثرب بعد التناحر الطويل بين قبيلتيها، وكان ذلك على وشك أن يتم لولا إكرام الله المدينة ومن فيها بإبدالهم ما فيه عز الدنيا وسعادة الآخرة، وهو إشراق أنوار النبوة في ربوعها، وتحول أهلها من الضلالة إلى الهدى، ومن التشتت إلى الوئام، فلا عجب إذا وقف عبدالله بن أبي موقف الخصم اللدود من هذه الدعوة لهذا السبب، مع ما كان متلبسا به من خبث الطوية وانحراف الطبع وفساد الفطرة، وعندما هزت أصداء الانتصار الحاسم الذي أحرزه الاسلام في غزوة بدر أركان المشركين والمفسدين، أخذ يحسب يهود المدينة والذين بقوا على الكفر من الأوس والخزرج ألف حساب لمستقبل هذا الدين، فدلتهم خسة طباعهم على إظهار - هذه المجموعة المتخلفة عن الايمان من الأوس والخزرج مع ثلة من اليهود - الاسلام بألسنتهم مع بقائهم على عقيدة الكفر وشرور الأعمال وخبث النوايا، وكانوا يهدفون من ذلك إلى أمرين:
أولهما: الأمن على أنفسهم وأموالهم من سطوة الاسلام مع ما في ذلك من مشاركة المسلمين في منافع الحياة الدنيا.
ثانيهما: انتهاز الفرص المواتية لطعن الاسلام من الخلف وإثارة الاضطراب بين المسلمين من الداخل.
فتم بهذا ميلاد عهد المواجهة بين الاسلام وعدو ماكر خبيث يرتدي ملابس الأصدقاء، ذلكم العدو هو النفاق الذي كان يعد أخطر من الكفر الصريح، غير أن الوحي كان واقفا لهؤلاء المنافقين بالمرصاد، فكان ينزل بين حين وآخر ببيانه البليغ ليفضح طواياهم، ويعري دخائلهم، ويكشف مؤامراتهم.
وبما أن هذه الطائفة جمعت بين الكفر بالله الذي أخلدت إليه في سريرتها وبين الهزء بالمؤمنين، ومعاملتهم بالكذب والخداع كانت بحق أشد وأنكى وأدهى وأمر من الطائفة السالفة الذكر وهي طائفة الكفار، ولذلك خصت تلك بآيتين فقط، بينما تتابعت في هذه إحدى عشرة آية تصمهم بقوارع إنكارها، وتمطرهم بصيب وعيدها.
ومما يجب أن لا يعزب عن فهم اللبيب أن هذه الطائفة لم تنته بانتهاء عهد النبوة، ولم تنعدم بانعدام أولئك الأفراد، فما أكثر المنافقين في عصور ما بعد النبوة الذين يتمسحون بالدين لقصد نقض عراه، ودك قواعده، ومن بين هؤلاء من يخدع الناس بمظهر عنايته بالدين.
فيجب على المسلمين أن يكونوا من أمثالهم على بصيرة، وكفى بالقرآن كاشفا عن سماتهم التي يتميزون بها وأحوالهم التي يختصون بها دون غيرهم.
ولعمري ليست هذه العناية البالغة بهتك أستار المنافقين وإعلان أسرارهم على الملأ لأجل حفنة منهم كانت تندس بين صفوف الاسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي لأجل تنبيه الأمة بمخاطر أعقابهم الذين لا يخلو منهم عصر ولا يسلم منهم جيل.
صفحة غير معروفة