173

جواهر التفسير

تصانيف

وهو مسلك اقتصادي وسط بين التبذير والتقتير، وهو الأليق بالتوجيه العام للناس، أما مسلك الصديق - رضي الله عنه - فهو مسلك لا يليق إلا بالقلة النادرة من الذين عزفوا عن الدنيا نهائيا، فلم يفتحوا عليها أبصارهم ولم تمل إلى شيء من حطامها قلوبهم، وحكم هؤلاء ووصفهم لا ينسحبان على عامة المؤمنين { ولكل درجات مما عملوا }.

واختلف في الإنفاق المقصود هنا، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه زكاة الأموال، أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق، ويعني ذلك أن الانفاق النفلي غير مقصود هنا، وهو يتفق مع قوله الذي أخرجه عنه المذكورون أن المراد بالصلاة الصلوات الخمس، ويحتمل أن يكون استناده على اقتران الانفاق بالصلاة في الآية.

ومن المعلوم أن الصلاة شقيقة الزكاة، ولا تذكر غالبا إلا مقترنة بها.

وروى ابن جرير عن الضحاك، قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن المثبتات الناسخات.

وروى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - وآخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النفقة المقصودة هنا هي نفقة الرجل على أهله وذلك قبل أن تنزل الزكاة.

واختار ابن جرير أنها شاملة لجميع النفقات بما في ذلك النفقات الواجبة، كالزكاة والانفاق على العيال. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنها النفقة في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله، وأخرج مثله ابن المنذر عن سعيد بن جبير، وصدر القطب - رحمه الله - في هيميانه القول بشمول هذا الانفاق للنفقات الواجبة، كالزكاة وإقراء الضيف بشمول هذا الانفاق للنفقات الواجبة، كالزكاة وإقراء الضيف الواجب وتنجية المضطر، ونفقة من لزمتهم نفقته، وأداء ما وجب من الكفارات، ونحو ذلك، ونفقات التطوع في وجوه الأجر، وهو يتفق في ذلك مع الفخر الرازي الذي نص في تفسير الآية على شمول هذا الانفاق لنوعيه الواجب والمندوب، ومن دواعي الاستغراب أن يقول ذلك الفخر في تفسير هذا الانفاق الذي مدح به المؤمنون مع أنه نفسه حصر الصلاة - التي مدحوا بإقامتها في هذه الآية نفسها - في الصلوات المفروضة كما تقدم.

وابن عطية لا يعد الاختلاف عن السلف في هذا خلافا، وإنما يحمله على قصد التمثيل بحسب ملاءمة الظروف التي تحيط بهم حال السؤال، ويرى الألوسي احتمال ذلك، وحكى عن بعضهم أنه عد ذلك خلافا. ويرى العلامة ابن عاشور أن الانفاق على النفس والعيال لا يدخل فيما مدحوا به، لأنه مما تدعو إليه الجبلة وتقتضيه الضرورة، فلا يعتني الدين بالتحريض عليه، وهو يتفق في رأيه هذا مع الامام محمد عبده، ويضيف الامام إلى ذلك بأن ما تعورف على تسميته بالجود والكرم كقري الضيوف ابتغاء عوض كالشهرة والجاه أو الأنس بالأصحاب، لا يعد من الانفاق المقصود هنا، ورأيهما لا يتفق مع ما ثبت من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الانفاق على العيال، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ".

وروي من طريق ثوبان مرفوعا:

" أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ".

صفحة غير معروفة