على تفسير رب العالمين، وإذا تأملت في أحوال عجائب النبات والمعادن والحيوان، وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان، قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من معنى الحمد لله رب العالمين، وأن المراد بالعالمين ما سوى الله، ولكنه جُمِعَ جمْع مذكر سالمًا على سبيل التغليب، لأن العرب لا يطلقون هذا اللفظ، إلا على الجمل التي تتمايز أفرادها، ويكون لها صفات تقرّبها من العاقل الذي جعلت له هذا الجمع، وقد نبه تعالى الحامد بقوله: ﴿رب العالمين﴾، على أنه يملك عبادًا غيره.
ولما كانت مرتبة الربوبية، لا تُستجمع الصلاحَ إلَّا بالرحمة، أتبع ذلك بصفتي: الرحمن الرحيم، ترغيبًا في لزوم حمده، وذلك لأنه ربما يختلج في خاطر البعض أن لفظ "الرب"، يفهم منه الجبروت والقهر، فأراد تعالى أن يذكرهم برحمته وإحسانه، فذكر هذين الاسمين الشريفين، ليبين له أن ربوبيته تعالى لهم، ربوبية رحمة وإحسان، وليعرفهم أن هذه الصفة، هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات، وما ذلك إلا لتتعلق القلوب به، وتقبل على ما فيه اكتساب مرضاته بانشراح واطمئنان.
فإن قال قائل: كيف يتأتى الوصف بصفة ﴿الرحمن الرحيم﴾ مع ما شرعه الله من العقوبات في الدنيا، ومع ما أعده لخلقه من العذاب في الآخرة لمن يتعدى حدوده، وينتهك محارمه، أجيب بأن هذا وإن سمي قهرًا ظاهرًا، فإنه في الحقيقة تربية للناس، وزجرٌ لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية، وفي الانحراف عنها شقاؤهم وبلاؤهم، وفي الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم، فهو في حقيقته وغايته، رحمة لمن تأمله ببصيرته، فهو تعالى مُرَبٍّ رؤوف، يربي عبده بالترغيب فيما ينفعه، والإحسان إليه إذا قام به، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة، إذا اقتضت ذلك الحال، وهذا من تمام معنى ﴿الرحمن الرحيم﴾.
ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكًا، وكانت الربوبية لا تتم إلا بالملك المفيد للعزة، المقرون بالهيبة، المشعر بالبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر أتبع ذلك بقوله: ﴿مالك يوم الدين﴾ ترهيبًا من سطوة مجده، و"اليوم" ما يتم فيه مقدار أمر ظاهر، ومنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فإن المراد
1 / 36