وأقر إخواننا أهل زوارة أن حجة الله قائمة بالعقل والكتب والرسل كما نقول ولا يشترط السمع وهو مشكل، فهل يقول صاحب الجزيرة وأهل الفترة في المحشر وفي النار: {بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن انتم إلا في ضلال كبير} ونحو هذه الآية مما فيه الإقرار من الكفار بأن الرسل جاءتهم ونحوها مما فيه عتابهم بعدم إتباع الرسل، فهل يقال لهم: سمعتم الرسل وكذبتم وهم لم يسمعوا الرسل، وقد يكون في كل زمان نذير كقس بن ساعدة لكن ليس يصل أهل عصره كلهم وكلامنا فيمن لم يصله، ولذلك قلت من لم يصله سماع يؤاخذ على عدم معرفة الله تعالى لأنه قد وصلته حجة التوحيد بمشاهدة وجود ذاته والسماء والأرض والسحاب والمطر والنبات والجبال والأحوال، وقد يقال: إذا وجب التوحيد بدلائل الصنع ولا صنعة بلا صانع ولا فعلة بلا فاعل ولا نعمة بلا منعم والشيء لا يوجد نفسه، أوجب عليه عقله شكر الصانع المنعم فيخرج ليعلم ما يشكره به فيبقى من لم يجد الخروج إلى ذلك فلا يصل إلى تفاصيل الشرع فلا يكلف بها إذ لا تكليف بما لا يطاق وشكر المنعم عندي وجب بالعقل كما يؤخذ من كلام الشيخ درويش فيجب عليه بعقله شكره ونزل القرآن بإيجاب الشكر فقال بعض أصحابنا بوجوبه شرعا للأمر به في القرآن وإنا أقول ما في القرآن عتاب لهم لم لا تشكرون مع أن النعم ركز في القلوب وجوب الشكر عليها ويناسب ذلك قوله (ص): «جلبت القلوب على حب من أحسن إليها» فإنه أنسب بالإحسان إلى المحبوب وكون شكر المنعم عقليا مذهب المعتزلة لأنهم يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين يبنون الأحكام الشرعية على العقل ويقولون: كل ما قبحه الشرع يقبحه العقل وما حسنه يحسنه العقل ويقولون: إن العقل يدرك تفاصيل الشرع ولو لم يكن الوحي بها، ولست أقول بذلك ومذهب بعض أصحابنا والأشعرية أن شكر المنعم واجب شرعا لا عقلا وبحث الأشعرية مع المعتزلة بأن العقل يدرك الحسن والقبح لكن يلزم أن لا يكون وجوب الشكر عقليا فإن العقل إذا خلي ونفسه لم يدرك فيه الحسن لأن المصلحة التي اشتمل عليها الشكر إما راجعة إلى المشكور وذلك باطل لغنى الله تعالى عن العبادة والشكر ولعدم احتياجه وهو الغني على الإطلاق وإما إلى الشاكر والنعمة الواصلة إلى الشاكر حقيرة عند الله تعالى كما جاء الحديث: «إن الدنيا كلها لا تسوى عند الله جناح بعوضة» وإنه ضرب لها مثلا بما يخرج من ابن آدم من العذرة وإنها كذراع خنزير منتن بال عليه كلب في يد مجذوم وربما كان الشكر عليها ذما كما لو أعطاك سلطان فلسا ومدحته به عند الناس فإن المدح به ازدراء بالسلطان فلولا أن الشرع أوجب الشكر عليها لم يجب ويجاب بأن الشكر ليس على نعم الدنيا فقط بل عليها وعلى الآخرة والدين وبأن أدنى شيء من النعم ليس حقيرا بل جليل لأن خالقه الله تعالى إنا لا نستغني عنه لو منعه الله تعالى بلا تعويض لمثله أو تعويض ما فوقه وفائدة الشكر عائدة إلى الشاكر دنيا وأخرى أو في إحداهما وإنما حقارة الدنيا وذلك الحقير المجازى به منها حقيران عند الله تعالى بالنظر إلى دينه ونعمه الأخروية وإما بالنظر إلينا فهما عظيمان عنده أوجب علينا تعظيمهما من حيث أنهما نعمة من الله تعالى ونهانا أن نحتقر بقليل منها وكفى عيبا على الأشعرية أن يقولوا من لم تبلغه دعوة نبيء كائنا من كان وتركه فهو ناج ولو كان ذلك النبيء نبيء زمانه ولو لم يكن على دين نبيء قبله وسواء الفروع والأصول من التوحيد وتوابعه وكان الشيخ عبد الله الفزاري إمام إخواننا أهل زوارة يقول حجة الله تعالى قامت على المكلفين بسماع السامع منهم ولو لم يسمع الباقون فيطلق على من لم يسمع أنه سمع وإن سماع السامع ولو واحد إسماع لمن لم يسمع وإن من سمع فسماعه بفضل الله ومن لم يسمع قطع الله عذره بحكمه وعدله فهو معذب على الإشراك وعلى ترك الفرائض وعلى فعل المعاصي كل ذلك بسماع السامع ولم لم يسمع هو وسماع السامع سمع له وحقيقة هذا وقولنا بقطع عذر من لم يسمع واحدة فما عيب عليهم عيب علينا ولو اختلفت الألفاظ وزادت ونقضت وإنما يتخلص عن ذلك بقولي: إن من لم يسمع مكلف بالتوحيد لوجود أدلته في الخلق أين ما كانوا ويناسبه كل مولود يولد على الفطرة وقوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها } في أحد أوجه وقوله تعالى {ولقد ءاتينا إبراهيم رشده} أو يتخلص بقولي: ذلك مع ما ضممت إليه من أنه إذا أدرك التوحيد أداه إلى شكر المنعم فيخرج لينظر بم يشكره به، لكن مذهبنا أن شكر المنعم وجب بالشرع لا بالعقل بقي صاحب الجزيرة الذي لا يجد الخروج ولعله لا يوجد، وزعمت المعتزلة فيمن لم يسمع وله عقل صحيح أنه مكلف بكل ما يدركه عقله وحطوا عنه كل ما لا يدركه حتى يسمع ويناسب ما ذهبت إليه قول أصحابنا أنه من سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وآمن وغاب ونزل بعد غيبته ما لم يسمعه من فرض كصلاة أو تحريم ما لا يدرك تحريمه بالعقل ونزل ما نسخ ما سمع فإنه لا يكلف بما بعد غيبته حتى يصله الخبر ومن كلام أصحابنا الله أرأف وأكرم من أن يؤاخذ من كان في الصين أمرا أمر به من كان في الحجاز ومن كلام أصحابنا أن الحجة قامت بالكتاب والرسل مع العقل فإن كان من حين النزول كما قال به بعض أصحابنا فتكليف ما لا يطاق بأن يكلف أهل الأرض كلهم بما نزل به جبريل في الحين قبل رجوعه إلى السماء وإن كان مدة فما قدرها وما الفرق بين هذه المدة وما بعدها وما قبلها وإلى م تنتهي فقد تطول جدا ويناسب ما ذهبت إليه أن من كان على دين نبيء ولم تبلغه دعوة نبيء بعده معذور وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فذا هداهم إلى التوحيد بالأدلة التكوينية لم يعاقبهم ولم ينسبهم إلى الضلال حتى يبين لهم دلائل السمع بالبلاغ، قال بعض الأشاعرة: الخلاف في أهل الفترة إنما هو بالنظر إلى عقائد التوحيد وإما عدم تكليفهم بالفروع فمحل اتفاق وهو مناسب لقولي: إنهم مكلفون بالتوحيد إذا لم يسمعوا؛ لأن معهم دلائله وهي المعجزات التكوينية والعرب الجاهلية إن لم تصله دعوة إسماعيل عليه السلام فقد وصلتهم دعوة موسى أو غيره من أنبياء بني إسرائيل ومن لم تصله هلك بجعل التوحيد والمعتزلة تعتبر العقل قبل ورود الشرع فما حكم به فهو حكم الله تعالى وضعه في العقل فالعقل يقضي بإباحة الضروري الذي تدعوا الحاجة إليه دعاء تاما كالتنفس وبتحريم الاختياري المشتمل على فساد فعله كالظلم وبوجوب المشتمل على فساد تركه كالعدل وبندب المشتمل على مصلحة فعله كالإحسان وبكراهة المشتمل على مصلحة تركه وبإباحة الذي لم يشتمل على صلاح أو فساد وإن لم العقل في الاختياري لعدم إدراكه كأكل حيوان مخصوص أو الفاكهة قبل العلم بالإباحة فبعض قال بالمنع لأن الفعل تصرف في ملك الله تعالى بغير إذنه والعالم كله أعراضه وأجسامه ملك لله وبعض قال بالإباحة؛ لأنه تعالى خلق العبد محتاجا، فله ما احتاج إليه حتى يمنعه من شيء وبعض بالوقوف لتعارض الدليلين، وهذه أقوال ثلاثة للأشعرية أيضا كالمعتزلة ومن كلام المعتزلة ما أدركه العقل فهو الشرع عند من لم يسمع وما لم يدركه فهو محطوط عنه.
صفحة ٨