مقدمة
...
جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية
وهو رد على بعض علماء الزيدية فيما اعترض به على دعوة التوحيد الوهابية
تأليف: الشيخ الإمام عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى
الشرك بالله سبب الاختلاف بين أهل نجد والرافضة
1 / 47
بسم الله الرحمن الر حيم
وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
(أما بعد): فإنه قد وصل إلينا كتابكم الذي فيه الاعتراض على الجواب الذي قد أتاكم العام الماضي صحبة رسولكم؛ واعتراض المعترض عليه فاسد من وجوه كثيرة، وهو يدل على جهالة قائله ومكابرته ومعاندته لأهل البيت النبوي، وغيرهم من أهل السنة والجماعة المقتدين بكتاب الله، وسنة رسوله ﷺ كما سنبينه -إن شاء الله تعالى-.
والجاهل يبين جهله وضلاله بالأدلة، فإذا عاند وكابر صار جهاده بالسيف، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ١.
أما قوله: إن سبب الاختلاف بين السائل والمسؤول هو أن عَلِيًّا ﵇ فارقه وحاربه معاويةُ بن أبي سفيان ﵁، وقتل علي ﵁ بعد أن كانت الحرب بينهما أربعين يوما إلى آخره.
فنقول: هذا مما يدل على جهل المعترض أو تجاهله، وذلك أن الاختلاف الذي بيننا وبينكم ليس هذا سببه، وإنما سبب الاختلاف والعداوة والمقاتلة لمن قاتلناه هو: الشرك بالله، الذي قد انتشر وذاع في سائر البلاد، من يَمَنٍ وشام ومغرب
_________
١ سورة الحديد آية: ٢٥.
1 / 48
ومشرق، وهو: الاستغاثة بالصالحين ودعوتهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد الذي قال الله فيه وفيمن فعله: ﴿مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ ١.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ ٢. وقال تعالى في حق الأنبياء: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ٣. وقال لنبينا ﷺ ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ ٤. وقال تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ٥.
وقد صح عندنا بالنقل المتواتر أن هذا يُفْعَل عندكم في كثير من بلاد اليمن ولا تُزِيلُونه ولا تُنْكِرُونه على مَن فعله، والأوثان والبنايات التي على القبور موجودة عندكم. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليٌّ ﵁ ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ ألا أَدَعُ تمثالا إلا طمستُه، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" ٦.
_________
١ سورة المائدة آية: ٧٢.
٢ سورة النساء آية: ٤٨.
٣ سورة الأنعام آية: ٨٨.
٤ سورة الزمر آية: ٦٥.
٥ سورة يونس آية: ١٠٦.
٦ورُوِيَ: "ألا تَدَعَ تمثالا" بالخطاب إلخ.
1 / 49
فصل الأقوال والآراء في قتال الحسين ليزيد
...
فصل الأقوال والآراء في قتال الحسين – ﵁ ليزيد
كيفية التغيير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأما قوله: ومما نشأ من هذا الافتراق أن كثيرا من علماء أهل السنة، والجماعة حكموا بأن الحسين بن علي باغ على يزيد بن معاوية.
فيقال: قد اختلف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، وكذلك أهل البيت؛ فذهبت طائفة من أهل السنة ﵃ من الصحابة، فمَن بعدهم كسعد بن أبي وقاص، وأسامة ابن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر ﵃، وغيرهم، وهو قول أحمد بن حنبل، وجماعة من أصحاب الحديث، إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان -إن قدر على ذلك-، وإلا فبالقلب فقط، ولا يكون باليد، وسل السيوف، والخروج على الأئمة، وإن كانوا أئمة جور.
واستدلوا بأحاديث صحاح عن رسول الله ﷺ منها ما أخرجاه في الصحيحين، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ أنه قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرا فمات، إلا مات ميتة جاهلية" ١. وفي لفظ: "من فات الجماعة شبرا فمات، مات ميتة جاهلية" ٢. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية" ٣ الحديث.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: "قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر فقلت: فهل بعد ذلك الخير شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: نعم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول الله،
_________
١ البخاري: الفتن (٧٠٥٣)، ومسلم: الإمارة (١٨٤٩)، وأحمد (١/٣١٠) .
٢ البخاري: الفتن (٧٠٥٤)، ومسلم: الإمارة (١٨٤٩)، وأحمد (١/٢٧٥،١/٢٩٧)، والدارمي: السير (٢٥١٩) .
٣ مسلم: الإمارة (١٨٤٨)، والنسائي: تحريم الدم (٤١١٤)، وأحمد (٢/٢٩٦،٢/٣٠٦،٢/٤٨٨) .
1 / 70
فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك"والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.
وذهبت طائفة أخرى من الصحابة ﵃ ومن بعدهم من التابعين، ثم الأئمة بعدهم إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يقدر على إزالة المنكر إلا بذلك، وهو قول علي بن أبي طالب، وكل من معه من الصحابة ﵃؛ كعمار بن ياسر، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم، وهو قول أم المؤمنين، ومن معها من الصحابة؛ كعمرو بن العاص، والنعمان بن بشير، وأبي العادية السلمي وغيرهم، وهو قول عبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وهو قول كل من قام على الفاسق الحجاج؛ كعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وأبي البختري الطائي، وعطاء السلمي، والحسن البصري، والشعبي، ومن بعدهم؛ كالناسك الفاضل عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وعبيد الله بن حفص بن عاصم، وسائر من خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومع أخيه إبراهيم بن عبد الله، وهشيم بن بشير، والوراق، وغيرهم.
خروج الحسين لقتال يزيد ومخالفة الصحابة له
وقد ذكر ابن كثير في تاريخه عن طاوس، عن ابن عباس قال: استشارني الحسين بن علي في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس لنشبت يدي في رأسك، فلم أتركك تذهب، فكان الذي رد علي أن قال: لأن أُقتل في مكان كذا أحب إلي من أن أقتل بمكة، قال: وكان هذا الذي سلى نفسي عنه.
وقال غير واحد عن شبابة بن سوار: حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي، قال: سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر: أنه كان بمكة، فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ثلاث ليال، فقال: أين تريد؟ قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال ابن عمر: لا تأتهم، فأبى،
1 / 71
فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا: "إن جبريل أتى النبي ﷺ فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وذلك بضعة من رسول الله ﷺ والله لا يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم" فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر، وبكى، وقال: أستودعك الله من قتيل.
وقال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين بن علي على الخروج، وقد قلت له: اتق الله في نفسك، ولا تخرج على إمامك، والزم بيتك. وقال أبو واقد الليثي: بلغني خروج الحسين، فأدركته، فناشدته الله أن لا يخرج، فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع.
وقال جابر بن عبد الله: كلمت حسينا فقلت له: اتق الله، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني. وقال سعيد بن المسيب: لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له، وكتب إليه المسور بن مخرمة: إياك أن تغتر بكتب أهل العراق، ويقول لك ابن الزبير: ألحق بهم فإنهم ناصروك، إياك أن تبرح الحرم، فإنهم إن كان لهم بك حاجة، فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك، فتخرج في قوة وعدة، فجزاه خيرا، وقال: أستخير الله في ذلك.
وكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كتابا يحذره أهل الكوفة، ويناشده الله أن يشخص إليهم، فكتب إليه الحسين: "إني رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله ﷺ وأمرني بأمر أنا ماض له، ولست بمخبر بها أحدا، حتى ألاقي عملي".
وذكر محمد بن سعد ﵀ بأسانيده: أنه لما بايع معاوية الناس ليزيد، كان حسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية؛ كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم، فأبى، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم، فقال له الحسين: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويشيطوا دماء الناس ودماءنا.
1 / 72
فأقام الحسين على ما هو عليه من الهموم مدة يريد أن يسير إليهم، ومدة يجمع الإقامة عنهم، فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله، إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبكم قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك بالكوفة يقول: "والله لقد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني".
وكلمه في ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فلم يطع أحدا منهم، وصمم على المسير.
وقال له ابن عباس: والله أني أظنك ستقتل بين نساءك وولدك، كما قتل عثمان، فلم يقبل منه.
وكذلك أخوه محمد بن الحنفية نهاه عن ذلك وأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمد بن الحنفية ولده فلم يبعث معه أحدا منهم، حتى وجد حسين في نفسه على محمد.
والمقصود من هذا: أن ابن عباس وغيره من الصحابة أنكروا على الحسين خروجه على يزيد، ونهوه عن ذلك؛ خوفا عليه مما جرى عليه وعلى أهل بيته، ولكن لا رادّ لما قضى الله.
وما جرى على الحسين ﵁ وعلى أهل بيته مما يعظم الله به أجورهم، ويرفع به درجاتهم ﵃ أجمعين-.
وأهل السنة يبغضون يزيد، ومنهم من يلعنه، ليس كما يظنه المعترض فيهم ويرميهم به من بغضهم عليا وأهل بيته، يعرف ذلك كل من طالع كتب القوم.
1 / 73
فصل في بيان مذهب الزيدية من البدع
وأقوال الْمُحدِّثين في الإمام زيد بن عليّ وبراءتهم من الشّيعة
وأما قوله: (ومن عجائب الانحراف عن آل محمد: أن عالم أهل السنة والجماعة الذهبي لما عدّد في ميزانه المذاهب الإسلامية قال ما معناه عن يحيي بن معين: وللزيدية مذهب بالحجاز، وهو معدود من مذاهب أهل البدع. فهذا يخبرك بأن علماء أهل السنة والجماعة لم يعرفوا طريقة أهل بيت رسول الله ﷺ ... إلى آخره.
فيقال: هذا من أعظم الجهل؛ فإن علماء أهل السنة والجماعة، خصوصا أئمة الحديث؛ كيحيى بن معين، وأشباهه من أخبر الناس بأحوال الرجال، ويقولون الحق الذين يدينون الله به، لا يخافون في الله لومة لائم. فإذا كان للزيدية مذهب ينسبونه إلى زيد بن علي- وأهل العلم يعرفون كذبهم وافتراءهم عليه في ذلك- بينوه إذا كان ذلك مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما كان عليه علماء أهل البيت كعلي وابن عباس، وليس كل من انتسب إلى أحد من أهل البيت، أو غيرهم من الأئمة يكون صادقا في انتسابه إليهم ونقله عنهم.
فهؤلاء الروافض الذين يسبون الشيخين وجمهور الصحابة ويكفرونهم، ينتسبون إلى علي وأولاده، ويقولون: نحن شيعة آل محمد، أفكانوا صادقين في ذلك؟ كلا، بل هم أعداؤهم حقا، وأهل البيت براء منهم. وكذلك اليهود والنصارى ينتسبون إلى أنبيائهم، ويزعمون أنهم على دينهم، وعلى طريقتهم، وهم قد باينوهم أشد المباينة.
وكذلك أهل البدع من هذه الأمة ينسبون مذاهبهم الباطلة إلى رسول الله ﷺ أو إلى أصحابه. وكلام علماء أهل الحديث والسنة في زيد بن علي، وأمثاله من علماء أهل البيت معروف مشهور.
1 / 74
قال أبو حاتم البستي: لما ذكر قتل زيد بن علي بالكوفة قال: كان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم، وكانت الشيعة تنتحله. انتهى.
ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهم رفضه قوم، فقال: رفضتموني، فسموا رافضة لرفضهم إياه. ولا يبغض علماء أهل الحديث، ويتكلم فيهم إلا من هو من أهل البدع والكذب والفجور.
وقد تقدم كلام أحمد في ابن أبي قتيلة لما قيل له: إن أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، يعني أنه لا يتكلم فيهم إلا من هو منافق؛ لأن الله حفظ بهم الدين، وميزوا بين صحيح الأخبار وسقيمها، ولهذا قال أحمد بن هارون الفلاس: إذا رأيت الرجل يقع في يحيى بن معين، فاعلم أنه كذاب يضع الحديث.
وقال ابن حجر- في كتاب "تهذيب التهذيب في معرفة الرجال": زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسين المديني روى عن أبيه، وأخيه، وأبي جعفر الباقر، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن أبي رافع، روى عنه ابناه حسين وعيسى، وابن أخيه جعفر بن محمد، والزهري، والأعمش، وشعبة، وسعيد بن هشيم١ وإسماعيل، وزبيد اليامي، وزكريا بن أبي زائدة، وعبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، وأبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، وابن أبي الزناد، وعده ابن حبان في الثقات.
وقال: روي عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ. وقال السدي عن زيد بن علي: "الرافضة حربي، وحرب أبي في الدنيا والآخرة".
وروى الحافظ أبو الحجاج المزي بإسناده عن الفضل بن مرزوق، قال: سألت عمر بن علي، وحسين بن علي: هل فيكم إنسان مفترضة طاعته؟ فقال: لا، والله ما هذا فينا، مَن قال هذا فهو كذاب، فقلت لعمر بن علي: رحمك الله، إنهم يزعمون أن النبي ﷺ
_________
١ في تهذيب التهذيب: سعيد بن خيثم.
1 / 75
أوصى إلى علي، وأن عليا أوصى إلى الحسن، وأن الحسن أوصى إلى الحسين، وأن الحسين أوصى إلى ابنه علي، وابنه علي أوصى إلى ابنه محمد بن علي؟ فقال: "والله لقد مات أبي، فما أوصى بحرفين، ما لهم -قاتلهم الله-؟ والله أن هؤلاء إلا متأكلة بنا".
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: سمعت علي بن الحسين، وكان أفضل هاشمي رأيته، يقول: "أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم، حتى صار علينا عارا".
فانظر -رحمك الله- إلى ما نقله أهل العلم عن أهل البيت علي بن الحسين وأولاده، يتبين لك أن الشيعة من الرافضة والزيدية هم المنحرفون عن آل محمد، لا أهل السنة والحديث.
فصل في قول ابن معين في مذهب الزيدية
وأما قوله: (ويا ليت شعري، هل سمع ابن معين من رسول الله ﷺ أنه عد مذهب أولاده من البدع؟) .
فهذا من عظيم جهل المعترض وافترائه على ابن معين وغيره من أهل السنة والجماعة؛ فإن ابن معين لم يقل: إن مذهب زيد بن علي وآبائه وأجداده من البدع، بل قال ما نقله عنه المعترض: وللزيدية مذهب بالحجاز، وهو معدود من مذاهب أهل البدع -يعني بذلك الزيدية الذين ينتسبون إلى زيد بن علي، وليسوا على طريقته-، ومجرد الانتساب إلى زيد أو غيره من أهل البيت لا يصير به الرجل متبعا لطريقتهم حتى يعرف طريقتهم، ويتبعهم عليها، كما قال الحسن البصري ﵀ في قوله ﷺ: "المرء مع من أحب"١ إن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم، فلا تغتروا.
وابن معين ﵀ سمع حديث رسول الله ﷺ أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ٢ فهذه كلمة جامعة بين فيها ﷺ أن كل من أحدث ما يخالف أمر الله ورسوله فهو مردود عليه. وكذلك قوله في حديث العرباض بن
_________
١ البخاري: الأدب (٦١٦٨)، ومسلم: البر والصلة والآداب (٢٦٤١)، وأحمد (١/٣٩٢،٤/٤٠٥) .
٢ البخاري: الصلح (٢٦٩٧)، ومسلم: الأقضية (١٧١٨)، وأبو داود: السنة (٤٦٠٦)، وابن ماجه: المقدمة (١٤)، وأحمد (٦/١٤٦،٦/١٨٠،٦/٢٤٠،٦/٢٥٦،٦/٢٧٠) .
1 / 76
سارية: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" ١، والرسول ﷺ أُعطي جوامع الكلم، فأفاد أمته، وأعلمهم -صلوات الله وسلامه عليه-: " أن كل بدعة ضلالة "٢.
فإذا تبين لأهل العلم أن طائفة من طوائف الزيدية أو غيرهم، خالفوا ما عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، بينوا للناس أنهم أهل بدعة، وضلالة لئلا يغتر بهم الجاهل، كما بينوا فساد مذهب الرافضة المنتسبين إلى علي وأولاده، وكذلك بينوا فساد مذهب القدرية المنكرين أن يكون الله خلق أعمال العباد وقدرها عليهم، وكذلك بينوا فساد مذهب الخوارج الذين كفّروا عليا وعثمان ومن والاهما؛ وهم مع ذلك ينتسبون إلى الرسول ﷺ وإلى أبي بكر، وعمر، ويتولونهما، ويستدلون بآيات من القرآن لا تدل على ما قالوه.
وهذا الجاهل يظن أن من انتسب إلى زيد بن علي، وغيره من أهل البيت لا يذم ولا يعاب، ولو خالف الكتاب والسنة. وهذا جهل عظيم لا يمتري فيه إلا من أضله الله، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، نعوذ بالله من الخذلان.
_________
١ أبو داود: السنة (٤٦٠٧)، والدارمي: المقدمة (٩٥) .
٢ أبو داود: السنة (٤٦٠٧)، وابن ماجه: المقدمة (٤٢) .
فصل الشيعة المعتدلون من أئمة الحديث وأما قوله: (وممن رموه بالتشيع: أهل السنة والجماعة المذكورون: علي بن المديني شيخ البخاري، وعبد الرزاق الصنعاني، وأحمد بن عقدة، والدارقطني، والحاكم ... إلخ. فيقال: هذا مما يبين لك معرفة أهل الحديث بأحوال الرجال، وبعدهم عن التعصب والهوى، وهؤلاء الأئمة الذين عددتهم هم عند أهل السنة والجماعة من أئمة العلم يقتدون بهم، ويأخذون عنهم، ويرحلون إليهم، ولو كان فيهم بعض التشيع الذي لا يخرجهم عن أن يكونوا أئمة هدى يقتدى بهم، والتشيع الذي
فصل الشيعة المعتدلون من أئمة الحديث وأما قوله: (وممن رموه بالتشيع: أهل السنة والجماعة المذكورون: علي بن المديني شيخ البخاري، وعبد الرزاق الصنعاني، وأحمد بن عقدة، والدارقطني، والحاكم ... إلخ. فيقال: هذا مما يبين لك معرفة أهل الحديث بأحوال الرجال، وبعدهم عن التعصب والهوى، وهؤلاء الأئمة الذين عددتهم هم عند أهل السنة والجماعة من أئمة العلم يقتدون بهم، ويأخذون عنهم، ويرحلون إليهم، ولو كان فيهم بعض التشيع الذي لا يخرجهم عن أن يكونوا أئمة هدى يقتدى بهم، والتشيع الذي
1 / 77
لا يخرج صاحبه عن الحق، لا يذم به صاحبه، ولا يخرجه عن أهل السنة والجماعة، فإن لفظ التشيع ليس مذموما في الشرع، بل قال -تعالى- لما ذكر نوحا ﵇، قال بعده: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ﴾ ١ أي: من أهل دينه، وإنما صار مذموما عند أهل السنة لما كان أهل البدع كالرافضة وأمثالهم الذين يسمون أنفسهم الشيعة يقولون: نحن شيعة آل محمد، وهم قد كذبوا في ذلك، بل هم أعداؤهم؛ لأنهم خالفوا هديهم، وسلكوا غير طريقتهم.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله، وصالح المؤمنين" ٢.
_________
١ سورة الصافات آية: ٨٣.
٢ البخاري: الأدب (٥٩٩٠)، ومسلم: الإيمان (٢١٥)، وأحمد (٤/٢٠٣) .
فصل افتراء الشيعة على أهل السنة، الانحراف عن آل البيت وتولي الدّول الجائرة وأما قوله: (وسبب انحراف من ذكر عن أهل البيت وشيعتهم أنهم تولوا -اليوم- الدول الجائرة، وأطاعوهم، وصححوا ولايتهم، واستدلوا على ذلك بأحاديث كثيرة رووها، فلما سمعها أهل بيت رسول الله ﷺ وجدوها مخالفة لكتاب الله -تعالى- في قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ١. وقوله: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ ٢. وقوله: ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ ٣، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم تقريرا لمذهبهم، وردوها للقاعدة التي قررها أهل الأصول، وأهل الحديث في أنه لا يجب على الخصم قبول رواية خصمه، فيما يقرر مذهبه الذي يرى خصمه أنه عنده بدعة) . فيقال: الجواب عن هذا الكلام من وجوه: (أحدها): أن هذا كذب على _________ ١ سورة البقرة آية: ١٢٤. ٢ سورة هود آية: ١١٣. ٣ سورة الكهف آية: ٥١.
فصل افتراء الشيعة على أهل السنة، الانحراف عن آل البيت وتولي الدّول الجائرة وأما قوله: (وسبب انحراف من ذكر عن أهل البيت وشيعتهم أنهم تولوا -اليوم- الدول الجائرة، وأطاعوهم، وصححوا ولايتهم، واستدلوا على ذلك بأحاديث كثيرة رووها، فلما سمعها أهل بيت رسول الله ﷺ وجدوها مخالفة لكتاب الله -تعالى- في قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ١. وقوله: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ ٢. وقوله: ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ ٣، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم تقريرا لمذهبهم، وردوها للقاعدة التي قررها أهل الأصول، وأهل الحديث في أنه لا يجب على الخصم قبول رواية خصمه، فيما يقرر مذهبه الذي يرى خصمه أنه عنده بدعة) . فيقال: الجواب عن هذا الكلام من وجوه: (أحدها): أن هذا كذب على _________ ١ سورة البقرة آية: ١٢٤. ٢ سورة هود آية: ١١٣. ٣ سورة الكهف آية: ٥١.
1 / 78
أهل السنة والجماعة، لا يمتري فيه أحد عرف مذهبهم، وطالع كتبهم، فإنهم لم ينحرفوا عن أهل البيت، بل من أصول الدين عندهم: محبة أهل البيت النبوي، وموالاتهم، والصلاة عليهم في الصلاة وغيرها، ولو ذهبنا نذكر نصوصهم في ذلك لطال الكلام جدا.
(الثاني): أنهم لم يتولوا الدول الجائرة، كما ذكره هذا المعترض، بل هم يبغضونهم ويكرهونهم، ويسمونهم ظلمة، وأئمة جور، وإنما أوجبوا طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، ويستدلون على ذلك بأحاديث ثابتة عن رسول الله ﷺ منها أنه قال: "على المرء السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية؛ فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"١ وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، وأنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا ويموت ميتة جاهلية" ٢.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة من رواية أهل البيت وغيرهم من الصحابة ﵃ بأسانيد ثابتة بنقل العدول من أهل الحديث.
(الوجه الثالث): أن أهل السنة والجماعة لم يصححوا ولايتهم، إلا إذا تولوا على الناس، وبايعهم على ذلك أهل الشوكة، وأهل الحل والعقد، فإذا كان كذلك صحت ولايته، ووجبت طاعته في طاعة الله، وحرمت طاعته في المعصية، ولكن لا يجوزون الخروج عليه، ومحاربته بالسيف؛ لأن ذلك يؤول إلى الفتن العظيمة، وسفك الدماء، والهرج الكثير. هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهذا القول هو الذي تدل عليه النصوص النبوية، وعليه كثير من أهل البيت.
(الوجه الرابع): أن قوله في الأحاديث التي يستدل بها أهل السنة على السمع والطاعة لولي الأمر، فلما سمعها أهل البيت وجدوها مخالفة لكتاب الله، كذب ظاهر على أهل البيت ﵈؛ فإن كثيرا من أهل البيت، مذهبهم مذهب
_________
١ البخاري: الأحكام (٧١٤٤)، ومسلم: الإمارة (١٨٣٩)، والترمذي: الجهاد (١٧٠٧)، وأبو داود: الجهاد (٢٦٢٦)، وابن ماجه: الجهاد (٢٨٦٤)، وأحمد (٢/١٧،٢/١٤٢) .
٢ البخاري: الفتن (٧٠٥٤)، ومسلم: الإمارة (١٨٤٩)، وأحمد (١/٢٧٥،١/٢٩٧)، والدارمي: السير (٢٥١٩) .
1 / 79
أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، هذا الحسن بن علي ﵁ انخلع لمعاوية ﵁ وبايعه، وأمر كل من بايعه، وبايع أباه بمبايعة معاوية، والسمع والطاعة له، وهو عند هذا المعترض وأمثاله من أئمة الجور. وأما عند أهل السنة والجماعة فهو من خيار ملوك الإسلام، وأعدلهم، وأحسنهم سيرة، ونهى أخاه الحسين عند موته عن طاعة سفهاء الكوفة.
وهذا ابن عباس، وهو من أئمة أهل البيت، نهى ابن عمه الحسين ﵁ عن الخروج، وكذلك محمد بن الحنفية، وعبد الله بن جعفر ﵃، وهؤلاء من أئمة أهل البيت، وقد تقدم النقل عنهم بذلك. وذكرنا من رواه من الأئمة.
(الوجه الخامس): أن أهل السنة ﵏ بينوا أن هذه الأحاديث المروية عنهم في السمع والطاعة لولي الأمر هي الموافقة لكتاب الله حقا، لا تخالفه، بل القرآن يصدقها، ويدل على ما دلت عليه؛ لأن الجميع من عند الله. والرسول ﷺ أعلم بكتاب الله من أهل البدع، وكذلك أصحابه، وأهل بيته.
قال العلماء: كان جبريل ينزل على النبي ﷺ بالسنة كما ينْزل بالقرآن، وقد أمر الله بطاعة رسوله ﷺ في القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وأخبر أن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر في القرآن، فقال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ ١ الآية، قال أئمة التفسير: هم العلماء والأمراء.
(الوجه السادس): أن هذه الآيات التي ذكر أنها تخالف هذه الأحاديث، قد بين أهل التفسير معناها، وليس فيها ما يخالف كلام الرسول ﷺ ولا ما يدل على مراد هذا المعترض، وأشباهه من أهل البدع؛ كالخوارج، والمعتزلة. ونحن نذكر كلام أئمة التفسير ﵏ في هذه الآيات؛ لنبين بطلان ما ذهب إليه هذا المعترض.
قال أبو حيان ﵀ في تفسيره المسمى بالبحر: والعهد -يعني في الآية-
_________
١ سورة النساء آية: ٥٩.
1 / 80
الإمامة، قاله مجاهد، أو النبوة قاله السدي، أو الأمان قاله قتادة، وروي عن السدي واختاره الزجاج، أو الثواب، قاله قتادة أيضا، أو الرحمة قاله عطاء، أو الدين قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه قاله ابن عباس، أو الأمر من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ ١. ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ ٢، أو إدخاله الجنة من قوله: " كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة"، أو طاعتي٣ قاله الضحاك، أو الميثاق، أو الأمانة، والظاهر من هذه الأقوال: أنها الإمامة؛ لأنها هي المصدر بها، فأعلم الله إبراهيم ﵇ أن الإمامة لا تنال الظالمين. انتهى كلامه.
وقد جمع لك كلام المفسرين في هذه الآية في هذا المختصر، ولم يذكر أحد من المفسرين أن الآية تدل على الخروج على ولي الأمر ومقاتلته بالسيف، وأنه لا يطاع إذا أمر بطاعة الله وطاعة رسوله. وأهل السنة أهل عدل وإنصاف واتباع للحق؛ لأنهم لم يأمروا بطاعة ولي الأمر في المعصية، بل أمروا بطاعته إذا أمر بطاعة الله، فإذا أمر بالمعصية، فلا سمع له ولا طاعة. لكن لا يجوزون الخروج عليه٤ ولا يكون عندهم إماما في الدين إذا كان ظالما.
والآية تدل على أن الظالم لا يكون إماما في الدين، وليس فيها ما يدل على أنه إذا غصب الناس، وتولى عليهم، وصار معه أهل الشوكة، وأهل الحل والعقد لا تجوز طاعته في الطاعة ومبايعته، فيتبين بما ذكرنا: أن هذه الآية ليس فيها دليل على ما ذهب إليه أهل البدع، والله أعلم.
وأما الآية الثانية التي احتج بها وهي قوله -تعالى-: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ ٥، فقال أبو العالية: في معنى ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
_________
١ سورة آل عمران آية: ١٨٣.
٢ سورة يس آية: ٦٠.
٣ هذا تفسير لكلمة (عهدي) من الآية، وبقية الألفاظ تفسير للعهد فيها غير مضاف.
٤ لأن خروج الناس عليه والشوكة بيده مدعاة للفتن الداخلية، واقتتال الأمة بما يجعل بأسها بينها، ويقوي أعداءها عليها، ولكن عدم طاعتها له في المعصية تضطره إلى التزام الشريعة. وأما أهل الحل والعقد فيجب عليهم إقرار الإمامة في قرارها الشرعي إذا قدروا.
٥ سورة هود آية: ١١٣.
1 / 81
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ ١،
قال: المعنى: لا ترضوا بأعمالهم، وقال ابن عباس: معنى الركون: الميل، وقال السدي، وابن زيد: لا تداهنوا الظلمة، وقال سفيان: لا تدنوا من الذين ظلموا.
وقال جعفر الصادق: ﴿إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ إلى أنفسهم؛ فإنها ظالمة، وقيل: لا تشبهوا بهم. ذكر هذه الأقوال كلها أبو حيان النحوي في تفسيره "البحر"، ولم يذكر أحد من المفسرين أن الآية تدل على أن الظالم إذا تولى على الناس وقهرهم بشوكته وسلطانه، لا تصح ولايته، ولا تجوز طاعته إذا أمر بطاعة الله.
وجميع أهل السنة والجماعة متفقون على أن الركون إلى الظلمة لا يجوز على ما فسره علماء التفسير، كابن عباس، وأبي العالمية، فلا يجوز الميل إليهم، ولا الرضى بأعمالهم التي تخالف كتاب الله وسنة رسوله. وكذلك لا تجوز مداهنتهم، بل ينكر عليهم ما فعلوه من المنكر بلسانه إذا قدر على ذلك، فإن لم يقدر أنكره بقلبه، كما في الحديث المرفوع أنه لما ذكر الظلمة قال: " من أنكره فقد سلم، ومن كره فقد برئ، ولكن من رضي وتابع" ٢ ٣. فتبين بما ذكرناه أن الآية لا تدل على ما ذهب إليه هذا المعترض، ومن نحا نحوه من أهل البدع.
وأما الآية الثالثة وهي: قوله -تعالى-: ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ ٤، قال أهل التفسير: ﴿الْمُضِلِّيْنَ﴾ يعني الشياطين؛ لأنهم الذين يضلون الناس، ﴿عَضُدًا﴾ قال قتادة: أعوانا يعضدونني إليها، والعضد كثيرا ما يستعمل في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ ٥ أي: سنعينك ونقويك به، فهذا إخبار عن كمال قدرته، واستغنائه عن الأنصار والأعوان، والله ﵎ لا يحتاج إلى إعانة أحد من خلقه، بل هو الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فهل في هذه الآية ما يدل على مقصود هذا المعترض، الجاهل بوجه من الوجوه؟
(الوجه السابع): أن يقال: احتجاجه بهذه الآيات على معارضة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ في السمع والطاعة لولي الأمر ومناصحته، من جنس
1 / 82
احتجاج الخوارج وأشباههم على بطلان ولاية علي وإمامته، بقوله -تعالى-: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ ١. وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ٢، وإنما أتوا من قلة معرفتهم بتفسير كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ومن جنس احتجاج الرافضة، ومَن نحا نحوهم على كفر الصحابة، وظلمهم بقوله -تعالى-: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ ٣. وكذلك احتجاجهم على إمامة علي بعد رسول الله ﷺ بقوله -تعالى-: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ٤ الآية.
وكذلك احتجاج الجهمية، والمعتزلة على نفي الصفات الواردة في القرآن والسنة بقوله -تعالى-: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ ٥ وقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ٦. وكل هذه الآيات لا تدل على ما ذهبوا إليه، وإنما تدل على ما أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة، والتابعين ﵃؛ لأن القرآن يصدق بعضه بعضا، وكذلك الأحاديث يصدق بعضها بعضا، والسنة الصحيحة لا تخالف الكتاب؛ لأن الجميع من مشكاة واحدة ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ ٧.
(الوجه الثامن): أن يقال: قوله: (ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم عنه) كذب ظاهر، وتمويه على الجهال الأصاغر، فإن الأحاديث التي فيها السمع والطاعة لولي الأمر قد رواها جماعة كثيرة من الصحابة من أهل البيت وغيرهم، ولم يردها علماء أهل البيت، بل تلقوها بالقبول كما تقدم النقل عنهم بذلك ٨. وبينا أن أهل البيت اختلفوا في جواز الخروج على أئمة الجور.
_________
١ سورة الزمر آية: ٦٥.
٢ سورة المائدة آية: ٤٤.
٣ سورة المائدة آية: ٥٤.
٤ سورة المائدة آية: ٥٥.
٥ سورة مريم آية: ٦٥.
٦ سورة الشورى آية: ١١.
٧ سورة النساء آية: ٨٢.
٨ بقي شيء آخر: وهو أن رواة الأحاديث الذين دونوها ومحصوا أسانيدها، ليسوا خصوما فيها لآل البيت، ولا للشيعة وغيرهم من المبتدعة، بل يروون عن كل من ثبت عندهم عدالته في الرواية، وإن كان مخالفا لهم في بعض الأصول والفروع، لا يتعصبون لمذهب أحد في الرواية؛ فالمجتهد منهم يروي كل ما سمعه من الرواة، ويتبع ما صح عنده بحسب فهمه، ومن نشأ على مذهب كالذهبي والمزي وابن حجر العسقلاني لا يأبى أن يصحح ما خالف مذهبه، وأن يضعف ما وافقه، فتمحيص الأسانيد عندهم مقدم على كل شيء، وعلماء الشيعة المتعصبون من الزيدية والإمامية يعلمون هذا، ولكنهم يوهمون عوامهم أن حفاظ الحديث خصوم لهم؛ ليقطعوا طريق الأدلة الصحيحة عليهم.
1 / 83
فمنهم من يرى ذلك ويفعله، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يفعله، بل ينهى عنه ويكرهه. ولو لم يكن إلا فعل الحسن ﵁ لكفى به تكذيبا لما حكاه هذا المعترض، ولكن هذا وأشباهه من أهل البدع ينتسبون إلى أهل البيت، وينقلون مذاهبهم الباطلة عنهم، فينسبونها إليهم، ويكذبون عليهم، ولا يميزون بين الصدق والكذب، فلا نقل صحيح، ولا عقل مليح، نسأل الله العفو والعافية.
فصل في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة وحديث الوصية بآل البت ... فصل في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة وحديث الوصية بآل البيت وأما قوله: (ولقد قرر هذا الواقع على أهل بيت رسول الله ﷺ ما حذر عنه الأمة والصحابة من لا ينطق عن الهوى ﷺ فيما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: "إنكم محشورون إلى الله؛ حفاة، عراة، غرلا" ١ الحديث، وكذلك حديث ابن مسعود وما في معناهما، وكذلك قوله: وقد فسر هذين الحديثين للذين ذكرهما ﷺ بمخالفة كتاب الله ﷿ وأهل بيت رسول الله ﷺ ما أخرجه الطبراني في "الكبير" عن زيد بن أرقم قوله ﷺ "إني لكم فرط"٢ الحديث وما في معناه من الأحاديث) . فالجواب عن ذلك من وجوه: (أحدها): أن يقال: حديث ابن عباس، وحديث ابن مسعود المتفق عليهما وما في معناهما من الأحاديث الصحيحة٣ قد رواها أهل العلم، وفسروها بأن المراد بها الذين ارتدوا بعد موت رسول الله ﷺ، فقاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة معه، كأصحاب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة، ومن معهم من قبائل العرب، فجهز أبو بكر ﵁ الجيوش، وأمَّر عليهم خالد بن الوليد، وقاتلهم حتى قتل منهم على الردة جماعة كثيرة، ودخل _________ ١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٣٤٩) والرقاق (٦٥٢٤)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (٢٨٦٠)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٢٣) وتفسير القرآن (٣١٦٧،٣٣٣٢)، والنسائي: الجنائز (٢٠٨١،٢٠٨٢،٢٠٨٧)، وأحمد (١/٢٢٠،١/٢٢٣،١/٢٢٩،١/٢٣٥،١/٢٥٣)، والدارمي: الرقاق (٢٨٠٢) . ٢ البخاري: المغازي (٤٠٨٥)، ومسلم: الفضائل (٢٢٩٦)، والنسائي: الجنائز (١٩٥٤)، وأحمد (٤/١٤٩،٤/١٥٣،٤/١٥٤) . ٣ التي فيها أن بعض من يرد عليه ﷺ الحوض، تذودهم الملائكة، ويعللون طردهم بقولهم له ﷺ: "إنك لا تدري مما أحدثوا بعدك"، فيقول: "بعدا لهم وسحقا".
فصل في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة وحديث الوصية بآل البت ... فصل في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة وحديث الوصية بآل البيت وأما قوله: (ولقد قرر هذا الواقع على أهل بيت رسول الله ﷺ ما حذر عنه الأمة والصحابة من لا ينطق عن الهوى ﷺ فيما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: "إنكم محشورون إلى الله؛ حفاة، عراة، غرلا" ١ الحديث، وكذلك حديث ابن مسعود وما في معناهما، وكذلك قوله: وقد فسر هذين الحديثين للذين ذكرهما ﷺ بمخالفة كتاب الله ﷿ وأهل بيت رسول الله ﷺ ما أخرجه الطبراني في "الكبير" عن زيد بن أرقم قوله ﷺ "إني لكم فرط"٢ الحديث وما في معناه من الأحاديث) . فالجواب عن ذلك من وجوه: (أحدها): أن يقال: حديث ابن عباس، وحديث ابن مسعود المتفق عليهما وما في معناهما من الأحاديث الصحيحة٣ قد رواها أهل العلم، وفسروها بأن المراد بها الذين ارتدوا بعد موت رسول الله ﷺ، فقاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة معه، كأصحاب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة، ومن معهم من قبائل العرب، فجهز أبو بكر ﵁ الجيوش، وأمَّر عليهم خالد بن الوليد، وقاتلهم حتى قتل منهم على الردة جماعة كثيرة، ودخل _________ ١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٣٤٩) والرقاق (٦٥٢٤)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (٢٨٦٠)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٢٣) وتفسير القرآن (٣١٦٧،٣٣٣٢)، والنسائي: الجنائز (٢٠٨١،٢٠٨٢،٢٠٨٧)، وأحمد (١/٢٢٠،١/٢٢٣،١/٢٢٩،١/٢٣٥،١/٢٥٣)، والدارمي: الرقاق (٢٨٠٢) . ٢ البخاري: المغازي (٤٠٨٥)، ومسلم: الفضائل (٢٢٩٦)، والنسائي: الجنائز (١٩٥٤)، وأحمد (٤/١٤٩،٤/١٥٣،٤/١٥٤) . ٣ التي فيها أن بعض من يرد عليه ﷺ الحوض، تذودهم الملائكة، ويعللون طردهم بقولهم له ﷺ: "إنك لا تدري مما أحدثوا بعدك"، فيقول: "بعدا لهم وسحقا".
1 / 84
بقيتهم في الإسلام طوعا وكرها، وظهر مصداق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ ١ الآية. قال الحسن البصري ﵀: هم والله أبو بكر، وأصحابه.
وقد روى البخاري في صحيحه تفسير ذلك بما ذكرنا، فقال في ترجمة مريم من (أحاديث الأنبياء)، قال الفربري: عن أبي عبد الله البخاري، عن قبيصة قال: هم الذي ارتدوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم أبو بكر، يعني حتى قتلهم، وماتوا على الكفر.
قال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا بصيرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المذكورين.
قال الحافظ: ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قاله قبيصة راوي الخبر، ولا يبعد أن يدخل في ذلك -أيضا- من كان في زمنه من المنافقين، كما في حديث الشفاعة: "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها" ٢، فدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين.
(الوجه الثاني): أن يقال: الخوارج، ومن سلك سبيلهم يحملون هذه الأحاديث على علي ﵁ ومن والاه، ويقولون: إنهم ارتدوا، وأشركوا، فكما أنهم مخطئون ظالمون في ذلك، فكذلك الروافض، والشيعة الذين يحملون هذه الأحاديث على أصحاب رسول الله ﷺ كأبي بكر وعمر وجمهور الصحابة، أو على معاوية ومن قاتل معه عليا؛ بل قولهم أظهر فسادا، وأبعد عن الحق والصواب من قول الخوارج، فإن كان كلامهم صحيحا فكلام الخوارج أقرب إلى الصحة.
(الوجه الثالث): أن أهل البيت الذين ذكروا في حديث زيد بن أرقم، وما في معناه هم قرابة رسول الله ﷺ الذين حرمت عليهم الصدقة، قال: علي، وآل جعفر، وآل العباس، وآل أبي لهب، كما أخبر بذلك زيد بن أرقم،
_________
١ سورة المائدة آية: ٥٤.
٢ البخاري: التوحيد (٧٤٣٨)، ومسلم: الإيمان (١٨٢)، وأحمد (٢/٢٧٥) .
1 / 85
وهو راوي الخبر، كما ذكر ذلك مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، وغيرهما من أهل الحديث، وهذا لفظهما، وروايتهما: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان اليمني، حدثني يزيد بن حبان، قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة، وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه، قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا؛ رأيت رسول الله ﷺ وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت معه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدِّثْنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ فقال: يا ابن أخي، والله لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ﷺ فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه.
ثم قال: قام فينا رسول الله ﷺ يوما خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر، ووعظ، ثم قال: "أما بعد؛ ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به"١، فحث على كتاب الله ورغب فيه، وقال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"٢، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، قال: أكل هؤلاء حُرِمَ الصدقة؟ قال: نعم.
فانظر -رحمك الله- إلى كلام الصحابي، راوي الخبر، وإخباره أن أهل البيت كل من حرم الصدقة بعده٣، والرافضة والشيعة تحمل هذه الأحاديث على آل علي خاصة.
(الوجه الرابع): أن يقال: هذه الأحاديث أكثرها مطعون في صحتها، لا تقوم بها حجة، والصحيح منها لا يدل على مقصود هذا المعترض وأشباهه من أهل البدع، وذلك لأن مدلولها يعم أهل البيت، كآل علي، وآل العباس، وآل عقيل، وآل جعفر، وغيرهم ممن حُرِّمت عليه الصدقة، وتدل على أن إجماعهم حجة، وأنهم لا يجمعون على مخالفة كتاب الله وسنة رسوله.
وأما إذا اختلفوا لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر، بل يجب الرد عند التنازع إلى الله، وإلى الرسول، كما قال -تعالى-: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ٤.
_________
١ مسلم: فضائل الصحابة (٢٤٠٨)، وأحمد (٤/٣٦٦)، والدارمي: فضائل القرآن (٣٣١٦) .
٢ مسلم: فضائل الصحابة (٢٤٠٨)، وأحمد (٤/٣٦٦)، والدارمي: فضائل القرآن (٣٣١٦) .
٣ والتحقيق أنهم بنو هاشم وبنو المطلب.
٤ سورة النساء آية: ٥٩.
1 / 86