يجري إليه الجرو يمسكه بين أسنانه. تتجمع حوله الكلاب الضالة، والأطفال يتجمعون ينظرون بعيون واسعة يغطيها الذباب. أردافهم عارية. تلسعها العصا الخيزران. - امشي يا وله إنت وهو من هنا!
صوته يشبه صوت رئيس الخفر، والشط يشبه الجسر في الكفر، لكن الشارع مرصوف بالأسفلت، ولمبات النيون معلقة فوق الأعمدة، وفوق كل عمود صورة، واحدة متكررة والوجه واحد. يطل من الإطار المذهب. مربع الرأس يشبه الملك رمسيس. له قرنان يلتويان إلى الأمام كالإله رع. - نفيسا.
من فوق جفونها المغلقة رن الاسم. غريبا ومألوفا. يشبه اسمها. تخفي رأسها تحت اللحاف من القطن. له غطاء أحمر من الساتان. الوسادة غطاؤها أبيض. تعلوه بقع سوداء بلون الكحل. حول عينيها دوائر مرسومة بالقلم. تذوب في الليل مع قطرات العرق، وخيط من الماء الشفاف ينساب من زاوية العين. نهداها مضغوطان داخل مشد من المطاط، «الأستيك». حول كل نهد سلسلة من الخرز، شفتاها مصبوغتان بالبوبة الحمراء، وفوق كل خد بقعة مستديرة بلون الدم. - نفيسا يا نفيسا. - يا بنت الإبليسا. - يا مشعللة النار - في قلوب الكل.
متخفية تحت الغطاء لا تطل عليهم. تعرف وجوههم دون أن تفتح عينيها. رءوسهم صلعاء تفوح منها رائحة كولونيا. ذقونهم ناعمة محلوقة بالموسى. أنفاسهم لها رائحة النفط المحروق. يخفون عيونهم وراء زجاج أسود. يجلسون في غرفة الانتظار يتلمظون. أنوفهم منتصبة الشعيرات، تهتز مع الهواء، كشوارب القطط تتشمم الشواء. يموءون تحت يديها بالوجع. يغرز أحدهم أسنانه في عنقها من الخلف، يقضم قطعة لحم. يملأ أذنها بكلمات نابية. - يا ساقطة!
تسد أذنيها بقطع من القطن. تحمل عنهم عبء الإثم. يتراكم الإثم تحت ضلوعها كالورم. يدفعون لها ثمن الدواء، ووجبة عشاء لطفلها. ترفع وجهها نحو السماء تخاطب الله: يا رب. تبدو لمن يراها أنها تكلم نفسها. تلكزها العصا في كتفها. - مخاطبة الرب ممنوعة يا نفيسا. - والرب لا يخاطب الأنثى يا نفيسا. - يا خارجة من التقفيصا يا نفيسا.
في ظلمة الليل تهرب. لا تعرف أين تذهب. حتى الرب أصبح ملكا لهم. يبنون له البيوت بالطوب والإسمنت المسلح. يحبسونه داخل جدران عالية ونقوش فوق الحجر. داخل أغلفة من الجلد وورق المطبعة، وحروف مصبوبة من الرصاص، وهي لا تفك الحرف، ولا تملك ثمن الكتاب، ويتراكم الإثم وراء الإثم تحت ضلوعها. تحسه بيدها ينهض كقطعة من القلب. تحمله فوق صدرها كالطفل وتمشي. تمشي في النهار والليل. تنام وهي تمشي. عيناها فوق الطريق حتى نهاية الشط، بيت أمها في الكفر. رائحة الخبيز والحليب. ذرات التراب والروث. جلباب أمها مكوم فوق الفرن. تفوح منه رائحة الدم. فوق الأرض أوراق شجرة ميتة، وكراسة باهتة أكلت أوراقها العتة. روح جدها الميت واقفة بجوار بيت الأدب. مشنة خبز مقدد يغطيها الذباب. فردة حذاء كانت تذهب بها إلى المدرسة. جلباب أخيها معلق في الحائط فوق مسمار صدئ يمتلئ بالهواء ويهتز بصوت هامس كصوت أخيها: نفيسا.
عيناها ترتفعان نحو السقف. تطل السحلية برأسها من الشق. عيناها تدمعان. تتوقف البقرة في الساقية وتنشج بصوت خافت. ترفع الحمارة رأسها وتمسح عرقها بكفها. قطرات دمع تتساقط من أوراق الشجر كالمطر.
وهي تمشي عيناها مفتوحتان جافتان. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة. رائحة بارود ونفط يحترق. الناس يسيرون فوق الأرصفة بعيون مغلقة. أفواههم مفتوحة يلهثون. الزحام شديد والأجساد تتكدس بعضها فوق بعض. طوابير طويلة ممدودة بامتداد الأفق. يتدافعون بالأذرع والأرجل. يتناطحون بالرءوس. كفوفهم مرفوعة مفتوحة نحو السماء. يتساقط الرغيف مثل قرص الشمس. ساحن وأحمر يطقطق بنار الفرن. يتطاير فوق رءوسهم كالكرة. يخرجون من الصفوف والطوابير تتعرج. يسود الهرج والمرج. تلسعهم العصا الخيزران. - النظام! النظام!
يسري الصوت في أذنيها كالريح تصفر، والصفير يدوي في الكون كآلاف الصفافير. آلاف الأصوات تهتف: النظام! النظام! وآلاف الأنفاس تلهث: يسقط! يسقط! الكل يهتف، والكل صامت، وهي تفتح فمها عن آخره لتصرخ، لكن صوتها محبوس لا يخرج. صدرها مربوط بمشد من الجلد كالحزام. قدماها داخل حذاء مفتوح له كعب عال. يكشف عن أصابعها الخمس مدهونة بلون أحمر. تطرقع فوق الأسفلت بصوت عال: طق طق طق طق طق.
يأتيها الصوت من خلفها. امرأة أخرى تتبعها. وقع قدميها فوق الأرض له الإيقاع ذاته. ظلها مرسوم إلى جوارها. يمشي معها خطوة بخطوة. ثوبها أسود بلون ثوبها. نهداها عاريان تحت ضوء القمر.
صفحة غير معروفة