تنهدت جدتها تنهيدة طويلة. مدت عنقها المعروق وجذبت نفسا من الهواء، شهيق عميق، طردته بصوت كالصفارة أو الزفير الطويل. مصمصت شفتيها وانقلبت الشفة السفلى فوق ذقنها المتهدل فوق عنقها. - قصيدة شعر؟!
أغمضت عينيها وهمست: أبانا الذي في السماوات. فتحت عينيها، والتقت عيونهما. - نامي يا جنات، إخزي عين الشيطان. - الشيطان؟ - كان جدك يقول عليه شيطان الشعر.
وانفرجت شفتاها عن ابتسامة. تقلص فمها واعوج، ثم اتكأت بكوعها ونهضت. دست قدميها داخل الشبشب. كانت تسميه «البانتوفلي». سارت بخطواتها البطيئة الزاحفة، وضعت شلتة مربعة فوق الأرض وجلست تلهث. مدت ذراعها تحت السرير وأخرجت صندوقا خشبيا طويلا، يشبه تابوت الموتى.
كانت تطل عليها من فوق السرير. تراها ترسم الصليب فوق صدرها. تفتح الصندوق بيد مجعدة ترتعش. تفوح رائحة النفتالين أو الفورمالين كما تسميه جدتها، تخفي رأسها تحت اللحاف. تظن أن جسد جدها ممدد داخل الصندوق، لكنها ترى الفستان الأبيض ذا الكرانيش. الدانتيلا الرقيقة كأجنحة الفراشات. طرحة الزفاف من الشيفون الشفاف. ذيل الفستان طويل يجرجر على الأرض، تطويه جدتها طبقة فوق طبقة. فوق عينها طبقة من الماء كالدموع. لا تجف ولا تسقط. في قاع الصندوق كراسة غلافها أصفر باهت. أطرافها متآكلة. تفتحها وترفعها تحت عينيها حتى تلامس أنفها. تغمض جفونها. تنام وهي جالسة، ثم تفتح عينيها. ترص حبات النفتالين في قاع الصندوق ومعه الإنجيل.
وفي الليل تسمعها تضحك بصوت كالبكاء المتقطع، تردد كأنما تغني لنفسها: النفتالين يأكل العتة، والعتة تأكل الإنجيل ، والنار تأكل العتة، ومين يدخل الجنة؟ أنا! أنا داخلة الجنة! أنا! أنا!
يتحشرج صوتها وهي تعد على أصابعها أنا! أنا! يصبح صوتها مشروخا كصوت جدها تسمعه في الصباح، أنا داخل الجنة وإنتي داخلة النار! أنا داخل الجنة! أنا ... أنا ... أنا ... الجنة ... الجنة ... وإنتي النار! النار! ... فين الشاي؟ الشاي ده بارد! عاوز الشاي سخن! سخن قوي زي النار، زي النار.
ثم يسعل ويبصق في الحوض، يدق الأرض بعصاه. يشفط الشاي من الكوب بصوت عال. يتمخط في منديل أبيض. يلقيه في سبت الغسيل ثم يخرج.
في قاع سبت الغسيل يرقد سرواله الأبيض من البوبلين الخفيف، يشبه سراويل النساء، بلا رجلين، تسميه جدتها «كات». تقبض عليه بأصابعها. تقربه من أنفها تتشمم. تمط شفتيها إلى الأمام. - راح لها إمبارح. - مين يا نينة؟ - واحدة واكلة عقله. - زي العتة؟ - أيوه تمام! - جدي حيروح الجنة والا النار؟ - جدك رايح النار حدف!
تغمض عينيها وتنام. في الحلم ترى جدها يشوى في النار. يدور حول سيخ من الحديد. له رأس يشبه رأس خروف العيد. قبل الفجر يهتز جسدها فوق السرير. تصطك الأعمدة النحاسية. ترى جدتها تنهض. تخرج سروال جدها من سبت الغسيل، تمسكه بإصبعين اثنتين. الإبهام والسبابة، كأنما تمسك صرصارا ميتا. تلقيه في الطشت. تصب عليه الجاز. ترتفع ألسنة اللهيب في الحمام، حمراء طويلة تتلوى كذيول السحالي، وتسمع صرختها من وراء الباب. طويلة كالصفارة، ممدودة بامتداد الليل. - يا هووووووه ...
كأنما كانت تنادي على الإله يهوه. قرأت عنه في الكتاب المقدس. إله البراكين والزلازل. تنادي عليه ليغرق الأرض ويزلزلها. لتقوم القيامة ويأتي يوم الحساب.
صفحة غير معروفة