عند باب عنبر الرجال توقف. عدل العمامة ومن فوقها الريشة. ملأ صدره بالهواء حتى انتفخ. «أنا فوق! فوق الجميع!» ثم فتح الباب ودخل. السكون كامل والعنبر غارق في الظلمة. صفوف منتظمة من الأسرة فوقها أجساد مصفوفة غائبة في النوم. أطل عليهم من فوق. مط أنفه إلى أعلى. مخلوقاته هكذا كمان يسميهم. كلهم ينامون إلا هو لا ينام الليل.
سار بين الصفوف يحرك رأسه يمينا ويسارا. فمه معوج في ابتسامة. النظام مستتب والطاعة كاملة. لا أحد يخرج عن قاموس الكون. الكل نائم والعيون مغلقة.
تجمد في مكانه فجأة. عينان مفتوحتان رآهما تبحلقان في عينيه. الرموش منتصبة و«النني» أسود لامع. شعر رأسه كثيف غير محلوق. خصلة نافرة فوق جبهته. يرفعها بأصابع مدببة - ينظر إليه دون أن يطرف له جفن. عرفه على الفور. إنه إبليس لا أحد غيره. اقترب منه بخطوات بطيئة. رمقه طويلا في صمت ثم لكزه في كتفه بإصبع مدبب. - صاحي يا ولد؟ - ...
لم يرد عليه. راقد كما هو محملق في السقف، كأنما لم يكلمه أحد. مستغرق في تفكير عميق. أمام عينيه صورة لا تغيب. البوابة تنفتح وهي تدخل باندفاعة قوية كالريح - تقذف بشعرها وراء ظهرها كالفرس الجامحة، عيناها واسعتان مرفوعتان. فيهما نظرة حادة كالسكين. من تحتها لمعة حانية كعين أمه. - رد علي يا ولد! - ...
شفتاه مطبقتان لا تنفرجان عن صوت. منذ رآها تدخل من البوابة وهو يتذكر أمه. طويلة ممشوقة الجسم كالسهم. تمشي أمام العمدة لا ينحني لها رأس. رءوس الرجال تنحني وعيونهم تنكسر، وهي تمشي مرفوعة الرموش لا يطرف لها جفن. قدمها كبيرة حافية مثل قدم النبي. تدوس عليها بكل ثقلها. عظامها قوية. تقبض على الفأس وتشق الأرض نصفين. صوتها في أذنيه كصفير الريح: أوع يا ابني رأسك تنحني قصاد العمدة زي أبوك! مات أبوه في الدار بالحمى. لطمت النسوة خدودهن وانطلق الصراخ، إلا أمه لم تصرخ. لم تلطم خديها. غسلت شعرها وربطت رأسها بمنديل أبيض. أمسكته من يده وسارت به إلى الكتاب. اشترت له كراسة وقلم رصاص. - انطق يا إبليس!
رآه واقفا أمامه في الظلمة. رأسه ضخم ملفوف بالعمامة. عيناه صغيرتان تلمعان كعيني الشيخ مسعود. يضربه على أطراف أصابعه بالمسطرة. سمع يا ولد سورة الملايكة. لم يكن قد تعلم الكتابة بعد. يحفظ الآيات عن ظهر قلب. يرددها بصوت خافت وعيناه مغمضتان:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك . - الخليفة اسمه إيه يا ولد؟
يحملق في السقف لا يعرف الإجابة. صوت أمه يهمس في أذنه: اسمه العمدة يا ابني. يغمض عينيه ويرى الملائكة واقفين صفوفا. الصف وراء الصف. داخل الجلاليب البيضاء. يهتفون بصوت واحد: أتجعل فيها من يفسد فيها؟
يدوي الهتاف في أذنيه كهدير الشلالات. - يسقط الخليفة الفاسد!
يفتح عينيه ويهمس في أذن زميله: اسمه العمدة مش الخليفة. - عمدة إيه؟ ده كان أيام زمان. - أيام الملك؟ - ملك إيه؟ - أنت مش عايش في الدنيا؟ - واسمه إيه دلوقت؟ - اسمه الجنرال.
صفحة غير معروفة