تقدمة
جنة الشوك
تقدمة
جنة الشوك
جنة الشوك
جنة الشوك
تأليف
طه حسين
لا يراني الله أرعى روضة
سهلة الأكناف من شاء رعاها
صفحة غير معروفة
موفق الدين الإربلي
إني أبغض الشعر اليسير، وأكره الطريق المطروقة التي يسلكها كل إنسان، ولا أشرب من الحوض المباح، وأعاف ما تبتذله الدهماء.
كليماك
تقدمة
هذا لون من ألوان القول لم يطرقه أدباؤنا المعاصرون؛ لأنهم لم يلتفتوا إليه، أو لأنهم لم يحفلوا به، مع أنه من أشد فنون القول ملاءمة لهذا العصر الذي نعيش فيه، فنحن نعيش في عصر انتقال كما يقال لنا منذ أخذنا نعرف الحياة، وعصور الانتقال تمتاز بما يكثر فيها من اضطراب الرأي، واختلاط الأمر، وانحراف السيرة الفردية والاجتماعية عن المألوف من مناهج الحياة؛ وهذا كله يدفع إلى النقد، ويحمل على العناية بإصلاح الفاسد وتقويم المعوج، والدلالة على الخير ليقصد إليه، وعلى الشر لتتنكب سبيله، وإظهار ما يحسن وما لا يحسن في صورة قوية أخاذة، عميقة الأثر في النفوس، شديدة الاستهواء للذوق، عظيمة الحظ من ملاءمة الطبع.
ونحن نعيش في عصر ما زلنا نسمع أنه عصر السرعة، يقصر فيه الوقت مهما يكن طويلا عما نحتاج إلى أن ننهض به من الأعباء التي لم تكثر ولم تثقل على الناس في عصر من العصور، كما تكثر وتثقل وتتنوع وتزدحم في هذه الأيام؛ وهذا كله يحمل على أن نؤثر الإيجاز على الإطناب، ونقصد إلى ما يلائم وقتنا القصير وعملنا الكثير، وهذه اللحظات التي يتاح لنا فيها شيء من الفراغ للاستمتاع بلذات الأدب الخالص والفن الرفيع.
وليس من شك في أن حياتنا الحديثة قد وجدت من أدبنا الحديث مرآة صادقة تصورها أحسن التصوير وأدقه وأعظمه حظا من إمتاع العقل وإرضاء الذوق وملاءمة الطبع؛ فقد عرفنا المقالة منذ أواخر القرن الماضي، وعرفنا أنواعها المختلفة وفنونها المتباينة ومحاولاتها الناجحة لتصوير ما نحتاج إلى أن يصور لنا من ضروب الحياة التي نحياها، ناقدة مرة ومقرظة مرة أخرى، معلمة مرة ومعنية بالإمتاع الفني مرة أخرى، متناولة للسياسة على اختلاف ألوانها، وللحياة الاجتماعية على تباين أشكالها، وللحياة العقلية على تنوع فروعها.
ثم عرفنا القصة التي تقصد تارة إلى الأدب الخالص، وتارة إلى تصوير الحياة المصرية أو الحياة الإنسانية بوجه عام. وعرفنا الكتب التي يهجم أصحابها فيها على ضرب من ضروب الحياة ينقدونه نقدا مباشرا، أو على لون من ألوان الحياة يحببونه إلى الناس ويدعونهم إليه، أو على مسألة من مسائل العلم، أو قضية من قضايا الفلسفة، أو مذهب من مذاهب الأخلاق، أو اتجاه من اتجاهات الفن والأدب. كل ذلك وأكثر من ذلك قد ظهر به أدبنا الحديث، وانتهى منه إلى حظ لا بأس به، ولكنه مهما يبلغ من الرقي، ومهما يعظم حظه من التنوع والاختلاف والخصب؛ فلن يغني عن هذا الفن الجديد القديم الذي ينقد في سرعة وخفة ودقة وإيجاز، ويحاول مع هذا كله أن يكون كلاما مختارا يروق بلفظه ومعناه كما يروق بصيغته وأسلوبه، ويصلح من أجل هذا كله لأن يكون أدبا يجد القارئ فيه ما يحب أن يجد في الأدب من لذة العقل والذوق والقلب والأذن واللسان جميعا.
وقد قلت إن هذا الفن جديد قديم، ولا بد من أن أفسر هذه العبارة التي تظهر متناقضة، وهي على ذلك صادقة كل الصدق، ملائمة كل الملائمة لحقائق التاريخ الأدبي العام من جهة، ولحقائق التاريخ الأدبي العربي من جهة أخرى. وأول حقيقة يجب تقريرها هي أن هذا الفن كغيره من فنون القول قد نشأ منظوما لا منثورا؛ فهو منذ نشأته الأولى في الأدب اليوناني مذهب من مذاهب الشعر ولون من ألوانه، نشأ يسيرا ضئيلا، ثم أخذ أمره يعظم شيئا فشيئا، حتى سيطر أو كاد يسيطر على الأدب اليوناني في الإسكندرية وغيرها من الحواضر اليونانية، في العصر الذي تلا فتوح الإسكندر. وقد نشأ كذلك في الأدب اللاتيني ضئيلا يسيرا، حتى إذا اتصل الأدباء اللاتينيون بالأدب اليوناني عامة والأدب الإسكندري خاصة؛ ترجموا ثم قلدوا ثم برعوا، حتى أصبح هذا الفن من فنون الشعر اللاتيني ممتازا أشد الامتياز وأعظمه في القرنين الأول والثاني للمسيح، أي في العصر المجيد من عصور الإمبراطورية الرومانية.
أما في أدبنا العربي فقد تأخرت نشأته شيئا ما؛ فلم يكد يعرفه الأدب الجاهلي، أو نحن لا نعرف من الأدب الجاهلي ما يمكنا من أن نقطع بأن الشعراء الجاهليين قد حاولوا أو قصدوا إليه. ولم يعرفه الأدب الإسلامي،
صفحة غير معروفة
1
وأكبر الظن أن الشعراء الإسلاميين لم يعرفوه؛ لأنهم لم يرثوه عن الفحول الجاهليين، ولأنهم لم يشهدوا حياة متحضرة مترفة كالتي عرفها شعراء الإسكندرية وشعراء روما، وإنما عرفوا حياة قد اتصلت بالحضارة ولكنها لم تبرأ من البداوة، وقد حفظت تراثا قديما ضخما ومذهبا في الشعر مألوفا، أخص ما يمتاز به طول النفس؛ حتى يؤدي الشاعر ما يحتاج إلى تأديته في أناة ومهل، لا تمتاز بالقصر ولا بالاختصار.
فلما كان العصر الثاني من عصور الحضارة الإسلامية، أزهر في العراق هذا الأدب العباسي الجديد، وظهر هذا الفن في الأدب العربي قويا خصبا مختلفا ألوانه في البصرة والكوفة وبغداد، ولكن حياته لم تطل، وإنما اقتضت ظروف السياسة والأدب أن يعدل الشعراء الفحول عنه عدولا يوشك أن يكون تاما، وأن يستخفي به بعض الشعراء وبعض الكتاب، بل بعض الذين لا تعرف لهم سابقة في الشعر ولا في النثر، لأسباب قد أبينها في غير هذا الحديث.
ثم كانت عصور الضعف الأدبي، فذهب هذا الفن من فنون القول فيما ذهب، واستؤنفت في عصرنا الحديث حياة أدبية تقليدية عني فيها أدباؤنا بعمود الشعر، ولم يخالفوا عن سنة الفحول من الجاهليين والإسلاميين والمحدثين، فلم يحفلوا بهذا الفن الذي لم يزدهر في تاريخ الشعر العربي إلا وقتا قصيرا، وقد نقلت الآداب اليونانية واللاتينية إلى اللغات الأوروبية في العصر الحديث، فقلد الشعراء الأوروبيون في هذا الفن كما قلدوا في غيره من الفنون، ثم ابتكروا فيه كما ابتكروا في غيره من الفنون، حتى أغنوا آدابهم منه بألوان رائعة، ولكن النهضة الشعرية التي دفع الأوروبيون إليها منذ أواخر القرن الثامن عشر، صرفتهم عنه إلى مذاهب أخرى من الشعر صرفا يوشك أن يكون تاما.
فأنت ترى من هذه الخلاصة القصيرة القاصرة أننا بإزاء فن من فنون الشعر عرفته الآداب الكبرى القديمة والحديثة، وسبق إليه اليونان كما سبقوا إلى غيره من فنون الشعر والنثر. فإذا كان في هذا اللون الذي يعرض عليك في هذا الكتاب من ألوان الكلام شيء جديد، فهو أنه يعرض عليك نثرا لا شعرا؛ لأن الذي يقدم إليك هذا الكتاب لم يتح له قرض الشعر من ناحية، ولأنه كغيره من الكتاب القدماء في الأدب العربي لا يكره أن يزاحم الشعراء على فنون الشعر، وأن يوسع ميدان النثر على حسابهم بين حين وحين. وقديما طرق الكتاب في البصرة وبغداد وغيرهما من الحواضر الإسلامية فنونا كان الشعراء يحتكرونها لأنفسهم، فلم يمنعهم ذلك من أن يجيدوا التقليد، ثم لم يمنعهم ذلك من أن يجيدوا الابتكار، ثم لم يمنعهم ذلك من أن يكونوا أئمة يذهب الشعراء في الشعر مذهبهم في النثر، وما أظن أن حل المنظوم ونظم المنثور يدلان على شيء غير هذا الذي أشرت إليه.
ولكن من حقك أن تسألني عن هذا الفن الغريب الذي أطلت القول في تاريخه دون أن أبين لك حقيقته، وأعرض عليك خصائصه، وأفرق لك بينه وبين غيره من فنون الشعر، وليس المهم هو أني أحسنت ابتغاء الوسيلة إلى نفسك أو لم أحسنه، حين بدأت بهذا الكلام الكثير عن فن لم أبين لك عن حقيقته ولا عن خصائصه، وإنما المهم هو أن أكشف لك عن هذه الحقيقة، وأعرض عليك هذه الخصائص؛ لنستطيع أن نمضي معا على شيء من البصيرة والثقة فيما نستأنف من القول.
ويجب أن أعترف بأني لا أعرف لهذا الفن من الشعر في لغتنا العربية اسما واضحا متفقا عليه، وإنما أعرف له اسمه الأوروبي؛ فقد سماه اليونانيون واللاتينيون «إبيجراما» أي نقشا، واشتقوا هذا الاسم اشتقاقا يسيرا قريبا من أن هذا الفن قد نشأ منقوشا على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى، وفي معابد الآلهة، وعلى التماثيل والآنية والأداة؛ البيت أو الأبيات من الشعر، يؤدون فيها غرضا قريبا أول الأمر، ثم أخذ هذا الفن يعظم ويتعقد أمره، حتى نأى عن الأحجار، واستطاع أن يعيش في الذاكرة وعلى أطراف الألسنة، ثم استطاع أن يعيش على أسلات الأقلام وفي بطون الكتب والدواوين. وقد أطلق اليونانيون واللاتينيون كلمة «إبيجراما» أول الأمر على هذا الشعر القصير الذي كان ينقش على الأحجار، ثم على كل شعر قصير، ثم على الشعر القصير الذي كانت تصور فيه عاطفة من عواطف الحب أو نزعة من نزعات المدح، أو نزغة من نزغات الهجاء، ثم غلب الهجاء على هذا الفن، ولا سيما عند الإسكندريين وشعراء روما، وإن لم يخلص من الغزل والمدح. فلما كان العصر الحديث لم يكن الشعراء الأوروبيون يطلقون هذا الاسم إلا على الشعر القصير الذي يقصد به إلى النقد والهجاء.
أما أدبنا العربي فإنه لم يحفل بأن يلتمس لهذا الفن اسما خاصا، وإنما هو يقسم الشعر من حيث الطول والقصر إلى القصيدة والمقطوعة، وهو يطلق اسم القصيدة على الشعر الذي تتجاوز أبياته السبعة عند بعض النقاد والعشرة عند بعضهم الآخر، ويطلق اسم المقطوعة على الأبيات التي لا تتجاوز السبعة أو العشرة، ومثل هذا يقال في الرجز؛ فالأرجوزة هي التي تزيد على سبعة أبيات أو عشرة أبيات، والمقطوعة هي التي لا تزيد على هذا العدد أو ذاك. وواضح أن كلمة المقطوعة يمكن أن تدل على كل مذهب شعر لم يزد على هذا العدد أو ذاك مهما يكن موضوعه، ومهما يكن مذهب الشاعر فيه؛ فهي لا تدل على هذا المعنى المحدود كما تدل كلمة «إبيجراما» عليه عند اليونانيين واللاتينيين والفرنج، ولكن هذا لا يمنع أن هذا الفن قد وجد في أدبنا العربي وجودا قويا بعيد الأثر عظيم الخطر، على النحو الذي وجد عليه في الإسكندرية وروما وفي الحواضر الأوروبية في العصر الحديث.
وأول ما يمتاز به هذا الفن أنه شعر قصير، فإذا طال فهو قصيدة في الغزل وفي المدح أو الهجاء؛ فالقصر إذن خصلة مقومة لهذا الفن. ثم يمتاز بعد هذا القصر بالتأنق الشديد في اختيار ألفاظه، بحيث ترتفع عن الألفاظ المبتذلة دون أن تبلغ رصانة اللفظ الذي يقصد إليه الشعراء الفحول في القصائد الكبرى، وإنما هو شيء بين ذلك، لا يبتذل حتى يفهمه الناس جميعا فتزهد فيه الخاصة، ولا يرتفع حتى لا يفهمه إلا المثقفون الممتازون والذين يألفون لغة الفحول من الشعراء.
ومصدر ذلك أن هذا الفن إنما ازدهر وعظم خطره في عصور الحضارة المترفة التي تدعو إلى التأنق وتدفع إلى التكلف، وتباعد بين الناس وبين عصور البداوة وآدابها الجزلة التي تبهر وتروع، ولكن ذوقها يختص به المثقفون الممتازون دون هذه العامة التي تحيا حياة مبتذلة وتصورها تصويرا مبتذلا. والواقع أن الشعراء الذين عنوا بهذا الفن عناية خاصة، فوضعوا له أصوله وقوانينه، قد كانوا من شعراء القصور في الإسكندرية وروما وفي كثير من الحواضر الأوروبية، وقد كانوا من الشعراء المتصلين بالقصور اتصالا قويا أو ضعيفا في العصر العباسي الأول. فالشاعر اليوناني المبرز في هذا الفن «كليماك» قد كان شاعر القصر في الإسكندرية أيام بطليموس الثاني، والشاعر اللاتيني المبرز في هذا الفن «مارسيال» قد كان شاعر القصر في روما أيام الإمبراطور «دوميسيانوس»، والشعراء العرب الذين عنوا بهذا الفن في البصرة والكوفة وبغداد قد كانوا يتصلون بقصور الخلفاء والأمراء والوزراء في هذه الحواضر الثلاث من عواصم الإسلام؛ فليس غريبا أن يتأثر هؤلاء الشعراء بهذه الحياة الناعمة المترفة التي تكون في القصور، وليس غريبا أن يلائموا بين ما يختارون لمعانيهم من الألفاظ وبين ما في هذه الحياة المترفة من التأنق والتكلف والامتياز. وليس معنى هذا أن الألفاظ التي تختار لهذا الشعر يجب أن يبعد بها التأنق كل البعد عن الابتذال، أو ينأى بها كل النأي عن جزالة الفحول، وإنما معناه أن الشاعر يجب ألا يلجأ إلى الألفاظ المبتذلة المسرفة في الابتذال، أو الرصينة المغرقة في الرصانة، إلا حين يدعوه الفن إلى ذلك ويضطره إليه اضطرارا.
صفحة غير معروفة
ثم يمتاز هذا الفن بعد هاتين الخصلتين، أو قل إن شئت قبل هاتين الخصلتين، بخصلة ثالثة تتصل بالمعنى، وهي أن يكون هذا المعنى أثرا من آثار العقل والإرادة والقلب جميعا، فليس هو شعرا عاطفيا يصدر عن القلب أو يفيض به الطبع، وليس هو شعرا يصنعه العقل وحده، وإنما هو مزاج من ذلك يسيطر الذوق عليه قبل كل شيء. أثر العقل فيه أنه نقد لاذع، أو هجاء ممض، أو تصوير دقيق لشيء يكره أو يحب؛ وهذا كله يحتاج إلى بحث وتفكر وإلى روية وتأمل، ولا يأتي مستجيبا لعاطفة من العواطف أو هوى من الأهواء. وأثر الإرادة فيه أنه لا يأتي عفو الخاطر ولا فيض القريحة، وإنما يقصد الشاعر إلى عمله وإنشائه، ويستعد لتجويده والتأنق فيه. وأثر القلب فيه أنه يفيض عليه شيئا من حرارته وحياته، ويجري فيه روحا من قوته التي يجدها عندما يقبل على الخير أو عندما ينفر من الشر، عندما يرضى، وعندما يسخط؛ فالمعنى في هذا الشعر يجب أن يكون قويا حتى حين يظهر فيه الابتذال، وكل هذا لا يأتي إلا إذا صح التعاون بين القلب والإرادة والعقل والذوق على هذا الإنشاء.
ثم يمتاز هذا الفن بخصلة أخرى لا أدري كيف أصورها، ولكن سأحاول ذلك كما أستطيع، وهي أن تكون المقطوعة منه أشبه شيء بالنصل المرهف الرقيق ذي الطرف الضئيل الحاد، قد ركب في سهم رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرمية، ثم ينفذ منها في خفة وسرعة ورشاقة لا تكاد تحس. ومن هنا امتاز هذا الفن بالبيت الأخير أو البيتين الأخيرين من المقطوعة؛ فهما يقومان منها مقام الطرف الضئيل النحيل الرقيق الرشيق من نصل السهم، فإذا كانت المقطوعة بطيئة الحركة ثقيلة الوزن، فليست من هذا الفن في شيء. وإذا أردت أن تلتمس لهذا الفن صورا شعرية تحقق هذه الخصال كلها في أدبنا العربي فاعمد إلى شعر بشار وحماد ومطيع وأصحابهم في البصرة والكوفة وبغداد؛ فستجد من ذلك أكثر مما تريد وأكثر مما تحب.
وهنا أصل إلى الخصلة الأخيرة التي شاعت في هذا الفن عند القدماء من اليونانيين واللاتينيين والعرب، وإن لم تكن شاملة ولم تبلغ أن تصير قانونا من قوانين الفن، وهي هذه الحرية المطلقة التي يتجاوز بها أصحابها حدود المألوف من السنن والعادات والتقاليد، والتي تدفع أصحابها إلى الإفحاش في اللفظ، وإلى الإفحاش في المعنى، وإلى التحرر مما يفرضه الذوق النقي على الرجل الكريم حين يتحدث إلى الناس أو حين يتحدث عن الناس. وأنت واجد من هذا شيئا كثيرا عند بشار وأصحابه في البصرة والكوفة وبغداد، كما أنك واجد منه شيئا كثيرا عند «كليماك» و«مارسيال» وأصحابهما من شعراء الإسكندرية وروما، ولعلك تجد شيئا من هذا عند بعض الشعراء المحدثين قبل الثورة الفرنسية في إيطاليا وفرنسا، ولكنه قليل بالقياس إلى ما تجده عند القدماء.
من هذا كله تتبين حقيقة هذا الفن وخصائصه، وتتبين بنوع خاص أنه لون من ألوان الشعر الهجائي، يقصد به إلى القصر والخفة والحدة ليكون سريع الانتقال، يسير الحفظ، كثير الدوران على ألسنة الناس، يسير الاستجابة إذا دعاه المتحدث في بعض الحديث، أو الكاتب في بعض ما يكتب، أو المحاضر في بعض ما يحاضر، ثم ليكون مضحكا للسامعين والقارئين بما فيه من عناصر الخفة والحدة والمفاجأة، ثم ليكون بالغ الأثر آخر الأمر في نفوس الأفراد والجماعات، يدفعهم إلى ما يريد أن يدفعهم إليه من الخير، ويردهم عما يريد أن يردهم عنه من الشر، في غير مشقة ظاهرة أو جهد عنيف.
وليس من شك في أنك قد ارتعت حين بلغت هذا الموضع من هذا الحديث؛ قد ارتعت من جهة، وثار في نفسك حب الاستطلاع من جهة أخرى، فأنا أصور لك فنا من فنون النقد اللاذع والهجاء الممض، الذي هو أشبه بالسهام التي لا تنزع عن القوس إلا أصمت وأردت من تصيب. وأنا أصور لك فنا من فنون الهجاء لا يتورع أصحابه عن فاحش اللفظ وقبيح المعنى وسيئ الرأي في الحياة والأحياء، وأنا أقدم لك هذا التصوير بين يدي كلام أزعم أن بينه وبين هذا الفن صلة؛ فأنت مشفق مرتاع، تسأل نفسك إلام أريد بهذا الكتاب؟ وما هذه السهام الرقيقة الرشيقة الموسومة المسمومة التي أرسلها؟ وإلى من أريد أن أرسلها؟ كل هذه الأسئلة تخطر لك؛ فتثير في نفسك روعا وإشفاقا، وتثير في نفسك شوقا إلى المعرفة وكلفا بالاستطلاع. فلا تشفق ولا ترتع، ولا تمن نفسك الأماني، ولا تخدعها بالغرور؛ فليس في هذا الكتاب هجاء، وقد انقضى عصر الهجاء منذ زمن طويل، وليس في هذا الكتاب سهام موسومة أو مسمومة، فقد انقضى عصر التراشق بالسهام منذ عهد بعيد، ولست أريد بهذا الكتاب إلى أحد؛ فإني لا أعرف من أمر الذين ألفتهم من قريب أو من بعيد إلا خيرا.
ولست أريد بهذا الكتاب إلى شيء إلا النقد الذي يسمونه بريئا في هذه الأيام، والنقد الذي يوجه إلى ألوان من الحياة لا إلى أفراد بأعينهم من الناس. ومن المحقق أني لم أخترع هذا الكلام من لا شيء، ولم أشتق هذه الصور من الهواء، ولم ألتمسها في الصين ولا في اليابان ولا في بلاد الهند والسند، وإنما أنا أعيش في مصر، وأشارك المصريين في الحياة التي يحيونها، وآخذ بحظي مما في هذه الحياة مما يرضي وما يسخط، وأنا بعد ذلك أعرف أقطارا من الأرض سافرت إليها وأقمت فيها، أو قرأت عنها في الكتب والأسفار، وأنا بعد هذا وذاك أعرف أجيالا من الناس عشت بينهم، أو قرأت أخبارهم وعرفت آثارهم فيما استطعت أن أظهر عليه من آثار الناس في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. ولست أزعم كما زعم أبو العلاء أني أعرف الناس جميعا، وأني قد تلوت أجيال الناس جميعا؛ فقد كان أبو العلاء غاليا حين قال:
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أنبائهم طرف
وأنا واثق كل الثقة بأن كثيرا من أبناء الزمان قد مروا في هذه الدنيا وليس عندي من أنبائهم طرف طويل أو قصير، ولكني واثق بأني عرفت الناس، وبلوت أخبارهم وآثارهم إلى حد ما، وتأثرت بما بلوت من ذلك؛ فسخطت حينا ورضيت أحيانا، وأظهرت ما وجدت من السخط والرضا في صراحة واضحة تغنيني عن التلميح الغامض.
ثم أنا أثق بعد هذا بأن ما يقال في نقد الناس وحمدهم إنما هو أشبه بالمرايا، يرى الناس فيها أنفسهم؛ لأننا لا ننقد عفاريت الجن، ولا نحمد الملائكة الأبرار، وإنما ننقد ونحمد ما نرى وما نعلم من أعمال الناس وآثارهم.
صفحة غير معروفة
فأنا صادق حين أقول إنك لن تجد في هذا الكتاب هجاء لاذعا، ولا نقدا ممضا، وأنا صادق حين أقول إنك ستجد في هذا الكتاب مرايا يمكن أن ترى الناس فيها أنفسهم، وليس عليهم ولا علي من ذلك بأس؛ فما أكثر ما نرى أنفسنا في كثير مما نقرأ من آداب القدماء والمحدثين، مهما تكن اللغات والعصور والظروف والبيئات التي تنشأ فيها هذه الآداب.
وأنت بعد هذا كله مضطر إلى أن تخفف من شوقك إلى المعرفة وكلفك بالاستطلاع؛ فإني لا أريد أن أعلمك شيئا، ولن تتعلم من هذا الكتاب شيئا، وإنما هو كلام ستقرؤه؛ فترضى عنه أو تسخط عليه من الناحية الفنية الخالصة لا أكثر ولا أقل.
وواضح أني لم أذهب مذهب القدماء في الاندفاع مع الحرية الجامحة؛ فالأدب العربي الحديث أكرم علي وآثر عندي، وأنت وأنا أكرم على نفسي من أن أذهب هذا المذهب الذي قد مضى مع أصحابه القدماء.
وإذا أردت أن تعرف الحق الصريح من أمر هذا الكتاب، فإني منبئك به في سذاجة يسيرة لا تكلفك مشقة ولا جهدا؛ لأني أنا لم أتكلف في هذا الكلام مشقة ولا جهدا، فأنا رجل أحب القراءة، وأحب القراءة المختلفة المتنوعة؛ أقرأ في الأدب العربي القديم والحديث، وأقرأ في الآداب الأوروبية القديمة والحديثة، وأجد في هذه القراءة متعة تكسب الحياة قيمة خاصة. ولكن قد أقف عند هذا الفن أو ذاك من فنون الأدب وقفة خاصة، فأسأل نفسي: أيوجد هذا الفن في اللغة العربية أم لا يوجد؟ أو أسأل نفسي: أتستجيب اللغة العربية لهذا الفن إن دعيت إليه أم لا تستجيب؟ ثم أسأل نفسي: أقادر أنا على أن ألائم بين هذا الفن وبين اللغة العربية أم غير قادر؟ ولا أكاد ألقي على نفسي هذا السؤال الأخير حتى أطلب إلى صاحبي أن يأخذ القلم والقرطاس، ثم آخذ في الإملاء ويأخذ هو في الكتابة، فأما إن أحسست شيئا من التوفيق إلى ما أردت؛ فأنا ماض في المحاولة حتى أنتهي بها إلى بعض غايتها، ثم أذيع ذلك في الناس ليقرءوا وليرضوا وليسخطوا، وليقلد منهم المقلد، وليعرض منهم المعرض. وأما إن أحسست عجزا عن هذه الملاءمة؛ فأنا أجدد المحاولة مرة ومرة، حتى إذا استيأست أعرضت عن الإملاء، وأعرض صاحبي عن القلم والقرطاس. والذين يقرءون ما أذعت في الناس من الكتب منذ أكثر من ربع قرن يستطيعون أن يروا ذلك في كثير مما أذعت فيهم، وأن يتبينوا في وضوح وجلاء أني أستجيب حين أكتب - وحين أكتب في الأدب خاصة - لشيئين اثنين: أحدهما ما أرى من رأي أو أجد من عاطفة وشعور، والآخر امتحان قدرة اللغة العربية على أن تقبل فنونا من الأدب لم يطرقها القدماء، وامتحان قدرتي أنا على أن أكون الصلة بين اللغة العربية وبين هذه الفنون والآداب. وقد قرأت فيما قرأت كثيرا من شعر القدماء والمحدثين في اللغة العربية وفي غيرها من اللغات التي أستطيع أن أفهمها، وأعجبني هذا الفن من فنون النقد والهجاء، ورأيت أن العرب قد أخذوا بحظ منه في القرن الثاني فأجادوا، ولكنهم لم يكادوا يتجاوزون هجاء الأشخاص، وهذا العبث الذي كان القدماء يألفونه ويتهالكون عليه، ثم رأيت أن هذا الفن قد ذوى زهره وغاض ماؤه حين انقضى العصر العباسي الأول، وأن الشعراء الفحول قد عادوا إلى الهجاء الطويل، واستأنفوا مذهب القدماء من أعلام الجاهلية والإسلام.
ولم أكن صاحب شعر ولا قدرة على النظم؛ فلم أحاول إذن أن أرد لهذا الفن حياته كما ألفها أيام بشار وأصحابه، ولكن ما يمنعني أن أذهب في هذا الفن مذهب القدماء على أن أتخذ النثر أداة مكان الشعر؟!
فلنجرب إذن، ولنمتحن أنفسنا، ولنمتحن لغتنا، ولنمتحن ذوق القراء، وقد جربت وأذعت مقطوعات قليلة لا تبلغ الست أو السبع في الأهرام؛ فرضي الناس وسخطوا، وأثنوا وعابوا. ولست أريد من الإنتاج الأدبي إلى أن أذوق الرضا والسخط جميعا؛ وإذن فلنمض في التجربة، وقد مضيت، وهأنذا أقدم إليك مائة ونصف مائة من هذه المقطوعات، فاقرأ إن شئت، وارض إن أثارت القراءة في نفسك الرضا، واسخط إن أثارت القراءة في نفسك السخط، وأنا أعفيك من الثناء والتقريظ مخلصا، وأبيح لك النقد والعيب مخلصا أيضا، وأتمنى أن يتاح للشباب من القراء أن يحاولوا من ذلك مثل ما حاولت، ويبلغوا من ذلك أكثر مما بلغت؛ فالله يشهد ما كتبت ولا خطبت ولا حاضرت إلا وفي نفسي أمنية هي أن أدفع الشباب إلى أن يعلموا ويعملوا وينتجوا، ويتاح لهم أكثر مما أتيح لي من النجاح والتوفيق.
جنة الشوك
دعاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: علمني كلمات أتجه بهن إلى الله في أعقاب الصلوات الخمس؛ فإني أجد في نفسي حاجة إلى الدعاء في هذه الأيام الشداد.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سل الله يا بني أن يعصمك من صغر النفس الذي تضخم له الأجسام، ومن ضيق العقل الذي تتسع له البطون، ومن قصر الأمل الذي تمتد له أسباب الغرور.
صفحة غير معروفة
وكنت حاضر هذا الحديث بين الأستاذ الشيخ والطالب الفتى؛ فقلت في نفسي: ما أجدر الشباب المصريين أن يتخذوا من هذا الدعاء لأنفسهم برنامجا وشعارا!
فيض
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فسر لي قول القائل: «فاض الإناء».
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا مجاز يا بني في كل أمر تجاوز حده حتى أصبح لا يطاق. ألم تسمع قول الشاعر:
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة
ولكن تفيض النفس عند امتلائها
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أعرف أوعية لا تمتلئ، وآنية لا تفيض.
قال الأستاذ الشيخ مبتسما: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى: خزائن الأغنياء التي مهما يصب فيها من المال فهي ناقصة، وجهنم التي يقال لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ وعقول العلماء التي لا تبلغ حظا من المعرفة إلا طمعت في أكثر منه.
قال الأستاذ الشيخ ضاحكا: لقد أصبحت حكيما منذ اليوم، ولكن تعلم أن إناء واحدا قد يفيض؛ فيصبح مضربا للأمثال، ومصدرا للعبر، وبعيد الأثر في حياة الأجيال. ألا تذكر سيل العرم ؟!
صفحة غير معروفة
حرية
قال أحد أمراء الموصل وكان أريبا، لأحد ندمائه وكان أديبا: «ما شر ما يمتحن به الأديب؟»
قال النديم وهو يبتسم: «فقدان الذوق الذي يجعل أدبه فاترا خيرا منه البارد.» وأطرق النديم لحظة، ثم قال للأمير: «وما شر ما يمتحن به صاحب السلطان؟»
قال الأمير وقد ظهر في وجهه العبوس: «ثناء الذين لا يحسنون الثناء، يقولون فينا فلا يصدقهم أحد، ويقولون فينا فلا نصدقهم نحن؛ لأنهم يقولون فينا وهم لا يصدقون أنفسهم.» قال أحد الجلساء: «فما يمنعكما أن تحظرا على الأديب الذي لا ذوق له أن يحدث أدبا، وعلى المادح الذي لا فن له أن يحدث مدحا؟!»
قال الأمير وعلى ثغره ابتسامة خير منها العبوس: «فإن الحرية تأمرنا أن نخلي بين الناس وبين ما يقولون من الجد والهراء.»
حرية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم تر إلى فلان ولد حرا، وشب حرا، وشاخ حرا، فلما دنا من الهرم آثر الرق فيما بقي من الأيام على الحرية التي صحبها في أكثر العمر؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أضعفته السن؛ فلم يستطع أن يحتمل الشيخوخة والحرية معا، وأنت تعلم أن الحرية تحمل الأحرار أعباء ثقالا.
أدب
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أليس قد أدبنا الإسلام بأن نجلس بحيث ينتهي بنا المجلس؟
صفحة غير معروفة
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بلى، ولكن إذا انتهى بك المجلس إلى حيث تجاور من لا تحب أن يعرف السلطان أنك جاورته، فلا عليك أن تتخطى رقاب الناس، وتجلس حيث تأمن الغضب ولا تتعرض للائمة، وقد أدبتنا الحياة بأن الضرورات تبيح المحظورات.
حرية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يظهر سيرة الأحرار ويخفي سيرة العبيد؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذلك أحرى أن يظهره على دخائل الأحرار لينقلها إلى سادته.
حرية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يرى آراء المسرفين من أهل الشمال، ويسير سيرة المسرفين من أهل اليمين؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأن له عقل الحر وأخلاق العبيد.
وصول
لم يكن شيئا ثم ارتقى حتى أصبح شيئا مذكورا، وقد سلك في تصعيده من الحضيض إلى القمة طريقا وعرة ملتوية، يغمرها ضوء الشمس المشرقة المحرقة أحيانا، وتنظر إليها الشمس من وراء نقاب من السحاب أحيانا أخرى، ويحجبها ظلام قاتم فاحم في كثير من أجزائها. فلما ارتقى إلى القمة واطمأن في مكانه منها، نسي ماضيه كله، وأعرض عن مستقبله كله، وعاش ليومه الذي هو فيه.
نسي الماضي فلم يتعظ، وأعرض عن المستقبل فلم يتحفظ، ومضى مع هواه طاغيا باغيا، حتى أخاف الناس من نفسه، وأخاف نفسه من الناس؛ فلم يأمن إلى أحد، ولم يأمن إليه أحد. وإذا هو مضطر إلى أن يظهر الحب لقوم يبغضهم أشد البغض، وإذا الناس من حوله مضطرون إلى أن يظهروا له حبا متهالكا، ويضمروا له بغضا مهلكا، وإذا الأسباب بينه وبين الناس ترث، حتى إذا أيسر الأمر لينتهي بها إلى الانقطاع.
صفحة غير معروفة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد سمعت منك ولكني لم أفهم عنك، وإنك لتحدثني بالألغاز منذ حين، فماذا تعني وإلام تريد؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن حب الاستطلاع إن نفع في بعض الوقت فقد يضر في بعضه الآخر، وما عليك أن تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء! إنما هي مرايا تنصب للناس، فلينظر فيها من يشاء وليعرض عنها من يشاء، وربما كان الإعراض عنها خيرا من النظر فيها؛ فقد ينظر فيها من يحب الاستطلاع مثلك، فيسوءه ما يرى لأنه يرى نفسه.
ضمائر
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألا تحدثني عن هذه الضمائر التي تفعل ما تشاء، ثم تستتر وراء أفعالها، وجوبا مرة، وجوازا مرة أخرى؛ فهي دانية نائية، وبادية خافية، وهي ملحوظة غير ملفوظة، ومعقولة غير مقولة، وهي على ذلك تكلف الأساتذة والتلاميذ هما ثقيلا، وعناء طويلا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما أنت وهذه الضمائر البريئة النقية! إنما هي بنات الوهم، قد فرضها العلماء رياضة لعقول الطلاب، على التحليل والإعراب، وهي لا تؤذي أحدا من قريب أو بعيد. فإذا علمت علمها، وذلك يسير؛ فدعها وشأنها، وتحدث عن ضمائر أخرى أشد في حياة الناس خطرا، وأبعد في أعمالهم أثرا، تستخفي في أعماق النفوس، عابسة تشيع الابتسام المريب، ومظلمة تنشر الضوء المخيف.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد عدت إلى ما دأبت عليه من الألغاز، فوضح لي بعض ما تقول!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما تقول في ضمائر الأطباء حين يعودون المرضى، وفي ضمائر المرءوسين حين يتلقون أمر الرؤساء، وفي ضمائر الطلاب حين يسمعون دروس الأساتذة، وفي ضمائر بعض الأصدقاء حين يبتسمون للأصدقاء؟
وكنت حاضر هذا الحديث، فتلوت قول الله عز وجل:
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .
جحود
صفحة غير معروفة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قد سمعنا منك وفهمنا عنك، وأعجبنا بك، ولكنا لم نؤمن لما حدثتنا به صباح اليوم؛ فقد فسرت لنا ما تقرأ في الكتب، ولم تفسر لنا ما نرى في الحياة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى في صوت يكاد يبين عن خوف دفين: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد أنبأتنا، كما أنبأتنا الكتب، بأن من قدم إلى الناس خيرا لقي منهم خيرا، ومن قدم إلى الناس شرا لقي منهم شرا، وقصصت علينا من كتاب المكافأة في ذلك قصصا رائعة، وأخبارا بارعة، ولكنا ننظر فنرى الصنيعة لا تكاد تغرس في قلوب الناس حتى تستحيل إلى شجرة الزقوم، تلك التي وصفها القرآن الكريم، بأنها طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم.
قال الأستاذ الشيخ وعلى وجهه ابتسامة رفيقة رقيقة: فإن هذه الشجرة كما وصفها القرآن الكريم، تخرج في أصل الجحيم، وليست قلوب الناس كلهم جحيما؛ وإن منها لجنات يستحيل فيها الشر خيرا، والمساءة إحسانا؛ فاجعل ما نقوله لك من هذا عزاء عما تقوله لك الحياة، وقدم الخير غير يائس من أن تجزى عليه بمثله.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أكره أن أتجر بالمعروف، وأوثر أن أقدم الخير لا ألتمس له جزاء، وأوثر إذا لم يكن بد من الجزاء أن أنتظره من الله الذي لا يذهب العرف بينه وبين الناس.
وكنت حاضر هذا الحديث، فذكرت قول مؤرخ روماني عظيم قلما ينظر فيه الأدباء المعاصرون: «إن الصنيعة لا تزال محتفظة بقيمتها ما دام شكرها يسيرا؛ فإذا جلت عن الشكر جوزيت بالكفر والجحود.»
حمارا رهان
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أي صديقيك شر: هذا الذي يوادك حين تستغني عنه ويحادك حين تحتاج إليه، أم هذا الذي يكلؤك حين ترزؤك النقمة، ويشنؤك حين تفجؤك النعمة؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كلاهما مريض يا بني يحسن أن نلتمس له الطب ونقدم إليه الدواء، فأما أولهما فعلته الأثرة التي تفسد المروءة، وأما ثانيهما فعلته الحسد الذي يلبس ثوب الكبرياء.
وكنت حاضر هذا الحديث، فلم أستطع أن أدافع ضحكا عريضا؛ فنظر الشيخ وتلميذه إلي في شيء من وجوم كأنهما يتسألان عن هذا الضحك، فقلت: أذكرتماني قصة العبادي؛ فقد قيل له: أي حماريك شر؛ هذا الذي يبطئ بك حين تحتاج إلى السرعة، أم هذا الذي يسرع بك حين تحتاج إلى الأناة؟ فقال: «هذا ثم هذا.»
صفحة غير معروفة
حلة
هم أمير الموصل أن يهدي إلى أحد ندمائه خلعة نفيسة، ثم غضب عليه لبعض الأمر قبل أن تبلغه الهدية، وكان النديم طويلا في السماء عريضا في الفضاء، وقد أراد الأمير أن يغيظه؛ فأهدى خلعته إلى نديم آخر له كان قصيرا لا يكاد يرتفع عن الأرض، وضيقا لا يكاد يشغل من الفضاء إلا حيزا ضئيلا. وتلقى النديم هدية الأمير جذلان راضيا، فلما دخل فيها ضاع بين ثناياها؛ لأنها لم تفصل على قده. فأما الأمير وحاشيته فضحكوا وأغرقوا في الضحك، وأما النديم فلم يشك في أن الخلعة قد خلقت له، وأما الناس فقد جعلوا كلما رأوه يشيرون إليه، ويقول بعضهم لبعض: انظروا إليه، إنه يرفل في حلة فلان!
وقار
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أترى إلى وقار فلان حين يسعى؟ إن الناس ليعجبون بما يصطنع من الأناة والمهل.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو استطاع أن يسعى وهو واقف، وأن يتحرك وهو ساكن، لفعل.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ليته يأخذ نفسه بمثل ما يأخذ به جسمه من الوقار!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات! ذاك شيء لا يتاح إلا لأولي العزم.
ذاكرة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أرى ذاكرة الشعوب إلا كهذه اللوحات السود التي توضع للطلاب والتلاميذ في غرفات الدرس وحجراته يثبت عليها هذا الأستاذ ما يمحوه ذاك، وهي قابلة للمحو والإثبات، لا تستبقي شيئا ولا تمتنع على شيء.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا حق، ولكن وراء هذه اللوحات السود في ضمائر الشعوب، لوحات أخرى ناصعة تحفظ ما يسجل التاريخ من أعماق الناس، ومن وراء هذه وتلك كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم يسأل أصحابها عنها يوم لا تنفع خلة ولا شفاعة. فأضعف الناس عقلا وأوهنهم عزما وأكلهم حدا هو الذي لا يحفل إلا بلوحاتك السود، والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكي والبصيرة النافذة هو الذي يحفل بما وراءها من هذه اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ، والرجل كل الرجل هو الذي يمتاز بالضمير الحي والقلب النقي والنفس الزكية؛ فلا يحفل بهذه ولا تلك، وإنما يحفل بهذا الكتاب الذي تحصي الحفظة فيه على الناس أعمالهم، لتعرض عليهم بين يدي الله في يوم مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون.
صفحة غير معروفة
إخاء
كانا صديقين وفيين، قد صفا بينهما الود، وارتفعت بينهما الكلفة، واشتدت حاجة كليهما إلى صاحبه، حتى لم يكونا يفترقان إلا كارهين، وقد استقام لهما الود الخالص، والحب الصفو، ما لم يقدر أحدهما لصاحبه على شيء من متاع الدنيا، ثم أتيح لأحدهما حظ من قوة؛ فأسدى إلى صاحبه طرفا من خير، فما هي إلا أن تستحيل الصلة بينهما إلى شيء معقد أشد التعقيد، فيه الاعتراف بالجميل، والاعتراف بالجميل يكدر صفو المودة. وفيه الاستزادة من النفع، ودخول المنفعة بين الأصدقاء مفسد للصداقة. وفيه الموجدة إذا لم ينل صاحب المنفعة ما يبتغي، وحاجة من عاش لا تنقضي، كما يقول الشاعر القديم، ودخول الموجدة بين الأصدقاء، حين لا يبلغ أحدهم من نفع صاحبه ما يريد، أول مراتب العداء. وفيه الحسد، والحسد يأكل المودة كما تأكل النار الحطب. ثم فيه الجحود، والجحود لا يفسد الود وحده، ولكنه يفسد المروءة أيضا؛ أيجب إذن أن يعجز الأصدقاء عن أن ينفع بعضهم بعضا لتصح بينهما الصداقة، وليخلص بينهما الإخاء؟ لا أدري! ولكني أعلم أن ليس أخطر على المودة الخالصة من دخول المنفعة بين صديقين.
إخاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إن الشاعر يخيرنا بين الوحدة واحتمال الإخوان على علاتهم حين يقول:
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه
مقارف ذنب مرة ومجانبه
فأي الأمرين تحب لي أن أختار؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن الشاعر لم يخيرك، وإنما ألزمك الخصلة الثانية؛ فأنت لا تستطيع أن تنسل من الحياة الاجتماعية، كما لم يستطع أبو العلاء أن ينسل منها؛ فاحتمل الحياة الاجتماعية كلها، واصبر لما فيها من المحن.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وترى إخاء الإخوان محنة؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أي محنة!
صفحة غير معروفة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: كيف ذاك؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إذا وفى لك الإخوان امتحنت في وفائهم، وفرضت عليك المروءة ألا تفتر ولا تبطر، ولا تستغل الوفاء فتشق عليهم بما لا يطيقون، وإن تنكر لك الإخوان امتحنت في تنكرهم وفرضت عليك المروءة ألا تقسو ولا تظلم ولا تتجنى ولا تنتظر منهم فوق ما يطيقون. وأنت ممتحن بعد ذلك في نفسك، تفرض عليك المروءة أن تفي لهم إذا وفوا، وتصفوا لهم إذا صفوا، وتعرفهم حين ينكرونك وتنصحهم حين يغشونك، وتبرهم حين يغدرونك، وتعطيهم أكثر مما يعطونك، وتسير من إخائهم على مثل الشوك.
صدقني، إن إخاء الإخوان محنة لا يثبت لها إلا أولو العزم.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أوثر الوحدة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات! تلك أمنية تبتغى ولا تنال.
إخاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: كيف تقولون في إعراب هذا البيت:
أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أما النحويون فيقولون: إن «أخاك» منصوب على الإغراء؛ لأن الشاعر يرغب في حب الإخوان والوفاء لهم.
صفحة غير معروفة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وأما أنت؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وأما أنا فأعربه منصوبا على التحذير، وأغير فيه كلمة واحدة، فأنشده:
أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بكل سلاح
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إنك لشديد التشاؤم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى:
وهل أنا إلا كالزمان إذا صحا
صحوت وإن ماق الزمان أموق
إخوان
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في عيون الأخبار أن المأمون قال: الإخوان ثلاث طبقات؛ طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء لا يحتاج إليه إلا أحيانا، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا.
صفحة غير معروفة
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: عسى المأمون يا بني أن يكون مصيبا في أيامه، ولكنك تعلم أننا نعيش في أيام شح فيها الغذاء، وقل فيها الدواء، وانتشر فيها الداء. وأخلق بمن بقي من الإخوان أن يكونوا كما بقي لنا من الحياة: جوع لا يدفعه غذاء، وداء لا يشفيه دواء.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإذن؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وإذن فاعمل صالحا، وانتظر الجنة التي وعد الله عباده الصالحين، والتي لا يحرم أهلها غذاء، ولا يشكون داء، ولا يلتمسون دواء، ولا يعدمون أخا وفيا، وصديقا رضيا، وخليلا صفيا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإلى أن أدخل الجنة إن أتيح لي دخولها؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فاتل قول الله عز وجل:
واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
ذوق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إنكم لتعلموننا من العلم ما يفسد علينا الذوق والحكم جميعا.
قال الأستاذ الشيخ وهو يبتسم لتلميذه الفتى: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ذاك أني قرأت بيتا كان طبعي خليقا أن يعجب به، لولا أنكم تعلموننا الشك وسوء الظن، والبحث عن الأسباب التي تدعو الشاعر إلى أن يقول، والكاتب إلى أن يكتب. فلما قرأت هذا البيت من الشعر وهم طبعي أن يرضى عنه ويعجب به ويطيل تعمقه والتفكير فيه، سألت نفسي كما علمتموني أن أسألها: ألا يمكن أن يكون مصدر هذا البيت رغبا أو رهبا أو حسدا؛ فأدركني فتور الهمة وكلال الحد.
صفحة غير معروفة
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما هذا البيت؟!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: هو بيت قاله رجل من ذوي الرأي كان يرد دائما عن باب الحجاج:
ألا رب نصح يغلق الباب دونه
وغش إلى جنب السرير يقرب
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما عليك أن يكون مصدر هذا البيت رغبا، أو رهبا، أو حسدا، أو غير ذلك من عواطف الشر والخير؟! أتراك تعرض عن الزهرة الجميلة، والوردة النضرة، والعشب ذي الرواء والبهجة، حين تعلم ما يتخذ البستاني من الوسائل إلى استنباتها وجعلها زينة للحياة؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فاستمتع بالأدب، وتعمق معانيه، وذق جماله، كما تستمتع بالحديقة، واجعل بحثك عن التاريخ الأدبي كبحث أستاذ الزراعة عن أصول الزهر والشجر، ولا يصرفك عن المتعة، ولا يزهدك في اللذة، ولعله أن يغريك بهما، ويرغبك فيهما. أليس من الرائع أن يخرج الله الحي من الميت، والجميل من القبيح!
معارضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في عيون الأخبار لابن قتيبة أن عمرو بن عبيد مر بجماعة عكوف، فقال: ما هذا؟ قالوا: سارق يقطع! فقال: لا إله إلا الله، سارق السر يقطعه سارق العلانية. فهل تنبئني إلام أراد؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان عمرو بن عبيد زعيما من زعماء المعتزلة، وكان زاهدا في الدنيا مخلصا للدين، وكان شجاعا لا يخشى في الحق لومة لائم؛ وما أراد بقوله هذا إلا أن يصف عامل البصرة بأنه كان سارقا لأموال المسلمين، يسرقها جهرة لأنه لا يخاف أحدا، منافقا في إمضاء حكم الله، يعاقب على إثم يسير يستخفي به صاحبه، وهو يقارف أعظم الآثام وأضخمها. فإن اجتمع لك زهد عمرو بن عبيد في الدنيا وحرصه على الدين وشجاعته على مواجهة الحكام بما لا يحبون؛ فانهض بتبعات السياسة، وإن لم تجتمع لك هذه الخصال؛ فالتمس لنشاطك سبيلا أخرى.
صفحة غير معروفة
معارضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإني أقرأ في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة أن طارقا صاحب شرطة خالد القسري مر بابن شبرمة وطارق في موكبه، فقال ابن شبرمة:
أراها وإن كانت تحب كأنها
سحابة صيف عن قريب تقشع
اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فاستعمل ابن شبرمة بعد ذلك على القضاء، فقال له ابنه: أتذكر يوم مر بك طارق في موكبه وقلت ما قلت؟ فقال: يا بني، إنهم يجدون مثل أبيك ولا يجد مثلهم أبوك، إن أباك أكل من حلوائهم وحط في أهوائهم. فهل تنبئني بمغزى هذا الحديث؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: مغزاه يسير كل اليسر؛ فقد كان ابن شبرمة كغيره من أخيار الناس الذين لا تطيب أنفسهم عن متاع الدنيا، فعارض السلطان لأنه كان طامعا في بعض ما عنده، فلما ولي القضاء رضي على السلطان وسخط على نفسه؛ رضي على السلطان لأنه ولاه، وسخط على نفسه لأنه لم يستطع أن يصبر على الحرمان.
ورحم الله ابن شبرمة! فقد كان له من الشجاعة حظ حسن حين اعترف لابنه بأنه أكل من حلوائهم وحط في أهوائهم؛ لأنه إن لم يستجب لهم حين دعوه وجدوا غيره ممن يلي القضاء مكانه، أما هو فلن يجد غير السلطان قوة توليه القضاء.
فوازن يا بني بين شجاعة عمرو بن عبيد الذي أيأس نفسه من السلطان، فانتهى بمعارضته إلى غايتها، وشجاعة ابن شبرمة الذي أطمع نفسه فيما عند السلطان، فانتهى بشجاعته إلى أن تمثل بيتا من الشعر.
معارضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم تر إلى فلان يطالب بالجلاء السريع - متى وضعت الحرب أوزارها - إلى أوروبا؟!
صفحة غير معروفة
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إلى أن يلي الحكم أو يشارك فيه.
معارضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وثب فلان أمس من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يئس من رضا الحكام؛ فابتغى رضا الشعب.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم يكن يقال: لا معنى لليأس مع الحياة، ولا معنى للحياة مع اليأس.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن مدت له أسباب الحياة ودعاه الأمل إلى يمين، فوثبة أخرى ترده من رضا الحكام إلى ما يريد. ما دام الإنسان قادرا على أن يذهب ويجيء، فلا جناح عليه في أن يذهب ويجيء!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: والمبدأ؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: المبدأ وسيلة لا غاية!
وصف
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في كتاب الكامل للمبرد أن النبي
صفحة غير معروفة
صلى الله عليه وسلم
قال للأنصار في حديث جريء: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع.» فما أدري أي الأمرين أبلغ أثرا في النفس: أخلاق الأنصار هذه، أم وصف النبي لها؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كلاهما رائق رائع يملأ النفس إعجابا وحبا، ولكن خلف بعد الأنصار خلف يكثرون عند الطمع، ويقلون عند الفزع، وانظر حولك فسترى ما يملأ النفوس من ذلك روعة وروعا.
عقوق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألا تحدثني عن سنمار هذا الذي كثر الحديث عنه في هذه الأيام: من هو؟ وما شأنه؟ وفيم يكثر الناس عنه الحديث؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: «زعموا يا بني أنه رجل رومي بنى للنعمان بن المنذر قصرا أو قصرين لا أدري، فلما أتم عمله على أحسن وجه وأكمله؛ رضي النعمان عنه، ولكنه أشفق أن يبني لغيره من الملوك مثل ما بنى له، فأمر به فألقى من أعلى القصر فاندقت عنقه فمات. والناس يضربونه مثلا لمن يقدم إلى الناس خيرا وإحسانا فيجزونه بالشر والمساءة، ولكن في الدنيا أفرادا كثيرين يمكن أن يسمى كل واحد منهم سنمار، ولكنه يلقى من حالق فلا تندق عنقه، ويساق إليه الشر فلا يؤذيه، ويكاد له الكيد فلا يبلغ منه شيئا، تستطيع أن تسميه سنمار الخالد؛ لأنه لا يبني لأصحاب السطوة والبأس، وإنما يبني للشعوب؛ ولأنه لا يبني للشعوب دورا ولا قصورا ولا شيئا من هذه الآثار التي يبلغها البلى ويدركها الفناء، وإنما يبني لها فنا وأدبا وفلسفة وعلما وإصلاحا. ألا تذكر مصارع النابغين من الأدباء والعلماء والفلاسفة؟ ألا ترى أنك لا تزال تستمتع بآثارهم؟!»
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وسيستمتع الناس بعدنا بآثارهم، حتى يرث الله الأرض ومن عليها!
فن
قال شهريار ذات يوم لزوجه شهرزاد: تعلمين أني لم أفهم بعد لماذا قطعت عني قصصك الجميل!
قال شهرزاد: لأمرين يسيرين؛ أحدهما أني أخذت في هذا القصص أحقن دمي، وأعصم نفسي من الموت، وأصرفك عن سفك الدماء، وقد بلغت من هذا كله ما أريد. الثاني أن الجهد الفني ممتع حقا إذا نشأ عن الرغبة والاختيار، بغيض حقا إذا نشأ عن الرهبة والإكراه، وقد أخذت نفسي بما تكره ما دعت إلى ذلك ضرورة، وقد آن لي أن آخذ بحظي من الحرية؛ فلا أقص إلا حين أريد أنا، لا حين تريد أنت، ولا حين تريد الظروف.
صفحة غير معروفة
خصام
قال شهريار ذات يوم لزوجته شهرزاد: تعلمين أنك مخطئة حين تقدرين أني سلوت عن سفك الدماء، وأنك مخطئة حين تظنين أنك حقنت دمك فلا يراق، وعصمت نفسك فلن تزهق؛ وإني لأحس شيئا من الظمأ إلى الدم، وأخشى أن يكون دمك أول ما يروي ظمئي.
قالت شهرزاد: إن كنت إنما تخوفني بذلك لأعاود القصص، فلن تبلغ مما تريد شيئا؛ لأن الخوف إن أنتج الفن مرة فلن ينتجه مرتين، وإن كنت جادا في هذا النذير فرو ظمأك وانقع غلتك؛ فلن يدل هذا إلا على أن علتك أعضل من أن يشفيها الفن، ولست أكره أن يكون دمي أول ما يروي ظمأك؛ فقد تجد من الندم ما يشفي هذه العلة التي عجز الفن عن شفائها. وأنت بعد مخير بين أن تصبر على هذا الظمأ البغيض فتصبر على ما تكره، وبين أن تنقع هذه الغلة فتضطر بنيك إلى اليتم وتظمئهم إلى دمك.
قال شهريار: فإن قتلتك وقتلت بنيك أيضا؟
قالت شهرزاد: إذن تصبر على الثكل حتى تلتمس الري لظمئك في دمك؛ فتغمد في صدرك الخنجر الذي تريد أن تغمده في صدورنا.
قال شهريار وقد ظهر عليه روع شديد: حجرا محجورا.
موعظة
قالت شهرزاد ذات يوم لزوجها شهريار: تعلم أني لم أفهم بعد لماذا لم تكتف بالانتقام من زوجك التي خانتك، فأردت أن تنتقم من النساء جميعا.
قال شهريار: إنها الفتنة! واقرئي إن شئت قول الله عز وجل:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .
صفحة غير معروفة