قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين .
ومضى أبو جعفر يصرف أمور الدولة كما يشتهي هو لا كما تشتهي أمور الدولة حتى ملأ الأرض رعبا ورهبا، وحتى كان الخوف قوام الصلة بينه وبين القريب والبعيد.
وقد توفي أمير المؤمنين، وانتقلت الخلافة إلى أخيه، ولكن أبا جعفر مطمئن القلب رضي البال، قد امتلأت نفسه ثقة بنفسه، وأمن المكروه كل المكروه، فهو مستيقن أن قصور الخلفاء لم تعرف قط وزيرا يشبهه قوة وإيذاء وحسن تصريف للأمور، فلن يستغني عنه أمير المؤمنين. ولكنه يصبح ذات يوم وقد وجد الشك اليسير الخفي إلى قلبه العنيف الأبي سبيلا؛ لأنه رأى فيما يرى النائم جارية من جواريه تلك تبسم له ابتسامة حزينة، وتنأى عنه رويدا رويدا، وهي تقول في صوت تكاد تخنقه العبرات: وداعا أبا جعفر، لقد حمدت صحبتي لك، ومعاشرتي إياك، ولكن قضي علينا أن نفترق، قال أبو جعفر: ويحك من تكونين؟ قالت: أنا صديقتك، السطوة، أتنسى يوم التقينا في جنتنا هذه على شط نهرنا هذا، وقد أفاق أبو جعفر في ذلك اليوم مضطرب النفس بعض الشيء، وهم أن يتلو الآية الكريمة فلم ينطلق بها لسانه، وإنما ألح الشك على نفسه إلحاحا.
ولم يأت أصيل ذلك اليوم حتى كان أبو جعفر في سجن أمير المؤمنين المتوكل. قد جرد من سطوته وجفوته، وثروته وقسوته، ورد إلى حال الشقي البائس الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، والذي يدعو فلا يستجاب له، ويتمنى فلا يحفل أحد بتمنيه، ويشكو فلا يرق أحد لشكاته.
وقد صبر أبو جعفر على السجن ما كان السجن سهلا يسيرا، ولكنه لم يلبث أن استحال إلى العذاب يصب عليه في الليل، وقد وكل السلطان به من يسامره، حتى إذا أحس منه راحة أو شيئا يشبه الراحة نخسه بالمسلات ليرده إلى الألم، وليجدد عهده بطعم العذاب، وقد صبر أبو جعفر على هذا العذاب ما واتته قوته، واحتملت طبيعته شدة البأس، ولكنه يرى ذات يوم على باب الحجرة التي يعذب فيها من حجرات السجن صورة يعرفها ولا ينكرها، يراها يقظان، وقد كان يرى صاحباتها نائما، وهو ينظر في وجهها نظرة المشوق إليها المفتون بها، وكلما زاد إليها نظرا، ازداد إليها شوقا، وبها كلفا، وهو يدعو بقلبه كله ونفسه كلها، وهي تريد أن تستجيب له وتود لو تخطو هذه الخطوات القليلة التي تدنيها منه، وتقربها إليه، ولكنها ترد عن ذلك ردا رقيقا فترسل إلى أبي جعفر نظرات حلوة فيها حنان وعطف وإشفاق، وإذا لسان أبي جعفر ينطلق بهذه الكلمة في صوت هادئ يقطعه الألم: الرحمة.
قال الذين يعذبونه، وقد ظنوا أنه يسترحمهم: إنما الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، وهل رحمت شيئا قط؟ ولم يطلب أبو جعفر إليهم رحمة، وإنما عرف صاحبته تلك التي رآها في جنته تلك على شاطئ دجلة فسماها باسمها.
ومنذ ذلك اليوم لم ينطق أبو جعفر إلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حتى حين أدخل في التنور الذي كان يعذب به الناس، ولم ينطق لسانه بغير هذه الكلمة حتى مات.
ضمير حائر
آوى إلى سريره راضيا ناعم البال، وهب من سريره موفورا طيب النفس، ونام بين ذلك نوما هادئا هانئا لم تنغصه مروعات الأحلام، ولم يكد يخرج من غرفته حتى تلقاه الصبية من بنيه وبناته بوجوه مشرقة تتألق فيها نضرة النعيم، وثغور جميلة تبسم عن مثل اللؤلؤ المنضود، وحملت إليه أصواتهم الرخصة العذبة تحية الصباح فردها عليهم في صوت حلو يجري فيه الحزم الصارم، ويشيع فيه الحنان الرقيق، وأنفق معهم ساعة حلوة يداعب هذه ويلاعب ذاك، ثم خلص منهم بعد جهد، وفرغ لنفسه ليصلح من شأنه قبل أن يغدو إلى عمله، وكان عمله خطيرا، وكان اهتمامه لهذا العمل، وعنايته به أعظم منه خطرا؛ لأنه كان قوي الضمير حريصا أشد الحرص على أداء الواجب كاملا، وكان أبغض شيء إليه أن يتهمه أحد أو أن يتهم هو نفسه بأيسر التقصير.
ولم تكن عنايته بحسن زيه، وجمال شكله أقل من عنايته بالعمل والواجب، فقد استقر في نفسه منذ بلغ الشباب أن من كمال المروءة أن يكون الرجل حسن المنظر جميل الطلعة ما وسعه ذلك، وأن تقع عليه العين فلا تقتحمه، وتبلغه الأبصار فلا تزور عنه ولا تعدوه إلى سواه، ذلك أدنى أن يحببه إلى النفوس، ويحسن مكانه في القلوب، ويجعل محضره خفيفا، وعشرته شيئا يطلب، ويرغب فيه.
صفحة غير معروفة