فلم تكن هذه حاله قبل 20 سنة، وإنما كان فتى نحيفا ضعيفا ونحيلا ضئيلا رشيق الحركة كثير الاضطراب لا يعرف السعي الهادئ، ولا المشي المطمئن، وإنما كان يجري على الأرض أو كان يجري فوق الأرض، كأنه شيء من هذه الحيوانات الصغيرة الخفيفة التي ملئت نشاطا وقوة وحياة، والتي تريد أن تطير في الجو لولا أن الله لم يرزقها جناحين.
ولم تكن هذه حاله إذا انتقل من حيز إلى حيز فحسب، وإنما كانت هذه حاله أيضا إذا استقر في مكان، وأقبل على عمل من الأعمال. فقد كان متحركا دائما مضطربا دائما، لا تكاد العين تلحظه إلا رأت شيئا من شخصه يتحرك فوجهه ملتفت مرة إلى يمين ومرة إلى شمال، ورأسه يرتفع حينا أو ينخفض حينا آخر، ويداه تذهبان وتجيئان، ورجلاه تداعبان الأرض مداعبة متصلة، ولسانه لا يكاد يستقر في فمه، وإنما هو متحرك دائما ببعض القول، ولم يكن شخصه المعنوي أقل حركة واضطرابا من شخصه المادي؛ فقد كان عقله مفكرا دائما، وكان قلبه متوثبا دائما، وكان انطلاق لسانه في فمه مصورا دائما لهذا العقل الذي لا يني في التفكير، ولهذا القلب الذي لا يفتر عن الشعور، وكان على هذا كله، ولهذا كله، ومع هذا كله لا أدري، متوقد الذهن حاد الذكاء، لا تعرض له مسألة من المسائل إلا سبق أترابه إلى تعمقها، والنفوذ إلى دقائقها، واستخراج ما كان يمكن أن يستخرج منها، وكان على ذلك أو لذلك أو مع ذلك لا أدري، ماكرا شديد المكر عابثا غاليا في العبث، حتى أحبه أترابه أشد الحب، وخافوه أعظم الخوف، أحبوه لذكائه وخفته، وخافوه لتفوقه ولحيلته هذه الواسعة، وعبثه هذا المتصل، ودعابته هذه التي لا تنقضي.
وكانوا يسمونه فيما بينهم الثعلب، وربما بهرهم مكره، وتعاظمتهم حيلته الواسعة فسموه الثعلبان. يرون في هذه الصيغة خطأ أو صوابا مبالغة فيما يريدون أن يخلعوا عليه من صفات الثعلب من الخفة والرشاقة، ومن المكر والدهاء.
ولم يكن أترابه من التلاميذ وحدهم هم الذين يعجبون به، ويعجبون منه، وإنما كان أساتذته كذلك يكبرون ذكاءه، ويقدرون نشاطه، ويرضون عن جده في الدرس، واجتهاده في التحصيل وإسراعه إلى الإجابة كلما ألقي سؤال، وتفوقه في الامتحان مهما يكن عسيرا، وهم من أجل ذلك كانوا يرعونه، ويتعهدونه بالسؤال عنه، والتشجيع له، والتتبع لتقدمه في الدرس حتى كأنه كان ابنا لكل واحد منهم، وكان إعجاب رفاقه به، ورعاية أساتذته له يشعرانه الرضى عن نفسه، والثقة بها، ويملآن قلبه أملا حلوا في مستقبل باسم سعيد، وكان مع ذلك من أسرة متواضعة أشد التواضع، ضيقة الحال أشد الضيق، تجد الجهد كل الجهد في كسب القوت فضلا عما تحتاج إليه من مرافق الحياة، وكان الصبي يرى ذلك، ويشقى بآثاره، ولكنه لم يكن يحفل به كثيرا؛ لأنه كان راضيا عن نفسه وأثقالها، مطمئنا إلى أمله الباسم الحلو، ومستقبله الرضي السعيد، وقد أتم الدرس الابتدائي، وهم أهله أن يصرفوه عن التعليم؛ ليوجهوه إلى بعض العمل لعله يعينهم على بعض ما يلقونه من البؤس، ويشقون به من الضيق، ولكن الصبي بكى، وأغرق في البكاء حتى رقت له أمه، ورثي له أبواه، وتكلفت الأسرة ما تكلفت فجد الأب في الكسب، وخرجت الأم عما بقي لها من حلية، وتوسط بعض أساتذته في إعفائه من أجر التعليم فظفر بالمجانية، ومرق من التعليم الثانوي كما يمرق السهم من الرمية لم تعرض له عقبة إلا ذللها، ولا صعوبة إلا قهرها، لم يعرف الرسوب في الامتحان، ولم يعرف التخلف عن الأقران، وإنما كان السابق المتفوق دائما حتى إذا انقضت تلك الأعوام الثلاثة التي كان التلاميذ ينفقونها في التعليم الثانوي كان الفتى قد جمع شهادتين من شهادات الحكومة كما كان أبوه يقول لأمه إذا خلا إليها، وكما كانت أمه تقول لصاحباتها إذا تحدثت إليهن.
وكان أبوه حريصا أشد الحرص على أن يضاعف الجد والكد، وكانت أمه شديدة الحرص على أن تلتمس عملا كريما في أسرة كريمة ليستطيع الفتى أن يمضى في درسه حتى يظفر بالشهادة الثالثة، وإنما هي أعوام تنفق في هذه المدرسة أو تلك من المدارس العليا؛ ليصبح الفتى رجلا متفوقا ممتازا يستطيع أن يطمح إلى مناصب المتفوقين الممتازين بين رجال الدولة الذين يحلون ويعقدون، وينقضون ويبرمون، ولكن لله في خلقه حكمة بالغة لا يعرف كنهها، ولا تدرك أسرارها، فلم يكد يتقدم الصيف في ذلك العام حتى اعتل أبو الفتى أياما، ثم تقطعت به أسباب الحياة وأسباب الأمل جميعا ففارق هذه الدار، ولم ينعم بما كان يتمنى به من ظفر ابنه بالشهادة الثالثة، واشتغاله بخدمة الحكومة في منصب من هذه المناصب الممتازة التي لا يظفر بها إلا المتفوقون الممتازون، ولم ير الفتى بدا من أن يتلمس العمل ليحيا، ولتحيا أمه، وفي الشهادة الثانوية مقنع للشاب الذي يريد عملا متوسطا، بل في الشهادة الابتدائية مقنع في ذلك الوقت للصبي الذي يريد عملا متواضعا، وما هي إلا أن يسعى الفتى، ويعينه بعض أساتذته في هذا السعي، وإذا هو يظفر بمنصب متوسط في بعض الدواوين، وقد ضمن لأمه ولنفسه الغذاء والكساء كما يقال في هذه الأيام، ولكن الفتى حول يحسن مقارعة الدهر لا يسد عليه مسلك من مسالك الحياة إلا فتح له مسلك آخر من مسالكها كما يقول الشاعر القديم، والتعليم في ذلك الوقت ميسر أكثر مما هو في هذه الأيام لقلة المتعلمين، وشدة الحاجة إليهم. فما يمنع صاحبنا أن يختلف إلى الديوان وجه النهار، وإلى مدرسة المعلمين آخره، وقد فعل، وما هي إلا أعوام حتى يبشر أمه أنه قد نال الشهادة الثالثة، وإذا علمه يتغير، وأجره يرتفع، وإذا هو لا يقنع لأمه ونفسه بالغذاء والكساء، وإنما يضيف إليهما شيئا من طيبات الحياة، وقد جعل رضى الفتى عن نفسه يشتد، وجعلت ثقة الفتى بنفسه تزداد، وجعل الأمل يهدي إليه ابتسامات فيها شيء من سعة، وجعل المستقبل يدعوه بإشارات فيها شيء من إلحاح، وقد سأل الفتى نفسه ما الذي يمنعه من أن يختلف إلى عمله وجه النهار، وإلى مدرسة الحقوق آخره، وما الذي يرغبه عن ذلك، وليس له أرب في هذه الحياة الفارغة التي يحياها أترابه من الشبان إذا تقدم النهار، وقد فعل، وما هي إلا أعوام حتى يقبل الفتى سعيدا محبورا فينبئ أمه بأنه قد ظفر بالشهادة الرابعة، والشيخة راضية؛ لأن ابنها يرقى ويرقى، ويكدس الشهادات لنفسه تكديسا، والشيخة محزونة؛ لأن زوجها لا يشاركها في هذا الرضى، ولا يشاطرها هذا النعيم، والفتى مقبل على أيامه ينتهبها انتهابا، وقد زاد رضاه عن نفسه، وثقته بها، وقد زاد ابتسام الأمل له سعة، واشتد دعاء المستقبل عليه إلحاحا، وهو يسأل نفسه لم لا يظفر بشهادة خامسة، وبشر أمه ذات يوم بأنه قد ظفر بهذه الشهادة الخامسة، ولكنه أنبأها في الوقت نفسه بنبأ مزق قلبها تمزيقا، وأجرى دموعها على خديها غزارا. فقد عرفت له الدولة نبوغه، وقدرت تفوقه، ورأت أن الشهادة السادسة يجب أن تضاف إلى الشهادات الخمس، وأن هذه الشهادة السادسة لا تطلب من مصر، وإنما هي بعيدة، بعيدة، يعبر لها البحر، وتطلب من بلاد الإنجليز، ولم يكن الفتى أقل من الدولة اعترافا بنبوغه، ولا إقرارا بحقه في الظفر بالشهادة السادسة، والعلم يطلب ولو في الصين، والشهادات تطلب ولو في بلاد الإنجليز، ولا يتقدم الصيف حتى يكون الثعلب قد هيأ نفسه للرحلة البعيدة، والغياب الطويل، وقد غاب ما غاب، ثم آب ومعه الشهادة السادسة والشهادة السابعة، وإذا هو رجل مرموق لا يذكر إلا أكبره ذاكروه، ولا يرى إلا أشير إليه بالبنان؛ هذا فلان، أترى إلى فلان، إنه ذو الشهادات السبع.
وقد أكبرته الدولة، وعرفت له حقه وحق شهاداته هذه الكثيرة التي يمكن أن تبسط على جدار من جدران مكتبه فتكسوه كله بهذا الورق الجميل يملأ الثناء الجميل، وقد رضي الفتى عن نفسه كل الرضى، ووثق بها كل الثقة، ولكنه زهد في الشهادات كل الزهد، وأدركه شيء يشبه التخمة، فاتجه نشاطه اتجاها آخر ملائما كل الملائمة لطبيعة الحياة المصرية في ذلك الوقت.
فقد كانت الثورة المصرية قد غيرت أشياء كثيرة من أمور الناس، ومن أمور الحكم، ومن أمور المستقبل الذي يطمع فيه الشباب. نشأ نظام الأحزاب، ونشأ الصراع بين هذه الأحزاب.
ونشأت الفرص الكثيرة التي ينتهزها الأذكياء؛ ليستفيدوا من صراع الأحزاب، ونظر الثعلب ذات يوم فإذا الحياة المصرية كلها تلقي في نفسه أنه قد خلق للفوز، وأن الفوز قد خلق له؛ لأن الحياة المصرية لم تكن في وقت من الأوقات ملائمة لخفة الثعالب ورشاقتها وذكائها ونهمها منها في هذه الأيام، وما ينبغي لمن يريد الفوز في هذه العواصف العاصفة، وفي هذه المصالح المشتبكة، والخصومات المتصلة، والمنافع المعقدة إلا أن يكون فطنا، وصاحبنا شديد الفطنة، لبقا، وصاحبنا عظيم الحظ من اللباقة، خفيفا، وصاحبنا أخف من النسيم، ماكرا، وصاحبنا أمكر من المرأة، صامتا، وصاحبنا أشد صمتا من الصخرة الصماء.
وقد ينبغي أن يضيف المرء إلى هذه الخصال ليبلغ ما يجب من الفوز، خصلة أخرى تشتق من هذه الخصال جميعا، فيتلطف حتى يشعر الأحزاب جميعا بأنها جميعا محتاجة إليه، وحتى يشعر المرافق العامة جميعا بأنها كلها تستطيع أن تنتفع به، وحتى يشعر الساسة جميعا بأنه رجل فن لا رجل سياسة، وقد استطاع صاحبنا أن يبلغ من هذه الخصال كلها ما أراد.
فقد كان ثعلبا في المدرسة الابتدائية، وكان ثعلبا في المدرسة الثانوية، وكان ثعلبا في الدواوين التي اختلف إليها وجه النهار، وفي المدارس التي اختلف إليها آخره، وكان ثعلبا في بلاد الإنجليز، وعاد منها أشد إغراقا في خصال الثعلب، ومكنته شهاداته السبع من أن يتثعلب في فروع مختلفة من فروع العلم والمعرفة.
صفحة غير معروفة