هل معنى الكلام عن الصبر أن الإنسان يعيش فى حلقات متصلة من الآلام؟ لا يحتاج معها إلا إلى المواساة والتعزية!. لا، فالحياة الإنسانية أضوأ من ذلك وأرحب، إن البشر لا يعيشون كما يعيش الأولاد فى كنف أب قاس القلب، أو كما تعيش الرعية فى سلطان أمير غليظ الرقبة. وما أغزر النعم التى تنهمر على الناس ليلهم ونهارهم من المهد إلى اللحد، وهى نعم لو قدروها قدرها، أو أحسنوا استغلالها لملأت قلوبهم بالحمد، وأطلقت ألسنتهم بالثناء. بل لو غلغلنا البصر فى التكاليف التى تستدعى الصبر لاستبان لنا أنها إلى النعمة أدنى منها إلى المحنة. فالمحرمات المحظورة، والواجبات المطلوبة، والأعباء المفروضة، والآلام العارضة، تلك جميعا ليست ضرائب يقدمها الإنسان لمن يحتاج إليها أو يستكثر بها، كلا بل تلك مدارج للكمال الإنسانى، وحصانات للفطرة السماوية أن تتلوث أو تستمرئ الحضيض.!! أما رب العالمين فهو يعطى ولا يأخذ، وهو يطعم ولا يطعم، وهو يجير ولا يجار عليه. (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين) . والقرآن الكريم فى شتى سوره أحصى أصول النعم، وذكر أمثلة شتى لما غمر الناس منها، وارتقب من أصحاب الضمائر الحية أن يشكروا صاحبها، وأن يعرفوا حقه فيها، بعد ما بسطها بأروع أسلوب. وفى هذا القرآن سورة باسم الرحمن عدت جملة من نعم الدنيا والآخرة؟ وفى ثنايا هذا العد الموقظ المذكر توجه للإنس والجن بهذا السؤال. (فبأي آلاء ربكما تكذبان) . توجه إليهم عشرات المرات، يحمل التقريع بقدر ما يحمل التعليم والتذكير إن شكر الله على أنعمه حق، ولكن ما اكثر النعم وأقل الشاكرين!! والكلمة الشائعة فى الترجمة عن شكر الإنسان لربه هى الحمد. والحمد كلمة تعنى مع الشكر الثناء على الله، وتمجيد ذاته، ومن ثم كانت 182 أرجح وأذيع. والمهم أن يرددها المسلم، وهو شاعر بالمنة والجميل، مقر من أعماقه بأن الله مصدر ما اندفق عليه من خير، وأهل ما صعد إليه من شكر... فى كل طرفة عين، ونبضة قلب، يتعرف الله إلى عباده عن طريق ما يمنحهم من بركاته، وينزل عليهم من خيراته. وهى بركات وخيرات متجددة على اختلاف الليل والنهار، فلا غرو إذا استقبلها الناس بمعرفة من أسداها. وشكره!. (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) . وقد أمر الله الناس أن يشكروه لأن قلة الشكر خسة يجب التنزه عنها، إنك لو أطعمت امرأ شهرا أو شهرين، أو قضيت عنه دينا أو دينين، أو رفعته درجة أو درجتين، ثم تجهم لك بعد هذه الأيادى وأعرض عنك لرأيت أن فراغ الحياة من مثله واجب. وأن بقاءه على ظهر الأرض قذى يتحرك!. فما ظنك بمن خلق من عدم، وأطعم وستر، وأغدق وأمد الأعوام بعد الأعوام؟ عندما يرى عبده قد حاز كل هذه النعم ثم عادى مسديها؟. (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين). (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) . إن الله أمر الناس أن يشكروه لأن الكنود نذالة، ولأن الإصرار عليه يجعل حق صاحبه فى الحياة الكريمة صفرا، ولأنه ما يليق بإنسان أن يستقبل فضل مولاه بكرة وأصيلا ثم يدير له ظهره ويتولى عن إجابة أمره. إن الأمر بالشكر ليس تكليف مشقة يصبر الناس على أدائه، بل هو طريق كمال ينبغى أن يسير الناس فيه بهمة وقدرة (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) والإقرار بالجميل، وركون الفؤاد إلى صانعه يجعل المرء أهلا للمزيد، لأن النعمة تثمر فيه، كما يثمر الماء فى الأرض الخصبة، ولذلك لا يضن عليها بالقليل والكثير، أما الأرض السبخة فإن انعدام الأمل فى ريها يجعل إرسال الماء إليها عبثا، ولذلك يقطع عنها... قال تعالى:
صفحة ١٧١