للموصوف به فلا ينبغى أن يحب بهذا السبب إلا الله تعالى، فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه، بل من عرف أعلم أهل زمانه وأجهل أهل زمانه استحال أن يحب بسبب العلم الأجهل ويترك الأعلم، وإن كان الأجهل لا يخلوا عن علم ما تتقاضاه معيشته. والتفاوت بين علم الله وبين علم الخلائق أكثر من التفاوت بين علم أعلم الخلائق وأجهلهم، لأن الأعلم ما يفضل الأجهل إلا بعلوم معدودة متناهية يتصور فى الإمكان أن ينالها الأجهل بالكسب والاجتهاد، وفضل علم الله تعالى على علوم الخلائق كلهم خارج عن النهاية إذ معلوماته لا نهاية لها ومعلومات الخلق متناهية. وأما صفة القدرة: فهى أيضا كمال والعجز نقص، فكل كمال وبهاء وعظمة ومجد واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ، حتى إن الإنسان ليسمع فى الحكاية شجاعة على وخالد رضى الله عنهما وغيرهما من الشجعان، وقدرتهما واستيلاءهما على الأقران فيصادف فى قلبه اهتزازا وفرحا وارتياحا ضروريا بمجرد لذة السماع فضلا عن المشاهدة، ويورث ذلك حبا فى القلب ضروريا للمتصف به فإنه نوع كمال، فانسب الآن قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى. فأعظم الأشخاص قوة، أوسعهم ملكا، وأقواهم بطشا، وأقمعهم لخبائث النفس، وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره ما منتهى قدرته؟. وإنما غايته أن يقدر على بعض صفات نفسه وعلى بعض أشخاص الإنس فى بعض الأمور، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا ولا ضرا ولا نفعا. بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولسانه من الخرس، وأذنه من الصمم، وبدنه من المرض، ولا يحتاج إلى عدما يعجز عنه فى نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته. فضلا عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت السموات وأفلاكها وكواكبها، والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها، فلا قدرة له على ذرة منها، وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه، بل الله خالقه، خالق قدرته، وخالق أسبابه، والممكن له من ذلك. ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال فى أعظم ملوك الأرض ذى القرنين إذ قال: (إنا مكنا له في الأرض) ، فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه فى جزء من الأرض. 22 ص والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم، وجميع الولايات التى يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة. ثم تلك الغبرة أيضا من فضل الله تعالى وتمكينه. فيستحيل أن يحب عبدا من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه، واستيلائه وكمال قوته، ولا يحب الله تعالى لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، فهو الجبار القاهر والعليم القادر. السموات مطويات بيمينه، والأرض وملكها وما عليها فى قبضته، وناصية جميع المخلوقات فى نطاق قدرته. إن أهلكهم عن آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة. وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعى بخلقهم، ولا يمسه لغوب ولا فتور فى اختراعهم، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته، فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء واللهر والاستيلاء، فإن كان يتصور أن يحب الإنسان قادرا لكمال قدرته فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلا. وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص، والتقدس عن الرذائل والخبائث أفهو أحد موجبات الحب، ومقتضيات الحسن والجمال فى الصور الباطنة، والأنبياء والصديقون وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك القدوس ذى الجلال والإكرام. وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص أو عن نقائص، بل كونه عاجزا مخلوقا مسخرا مضطرا هو من العيب والنقص، فالكمال لله وحده، وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله، وليس فى المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره، فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبدا مسخرا لغيره قائما بغيره. وذلك محال فى حق غيره، فهو المنفرد بالكمال، المنزه عن النقص، المقدس عن العيوب. وشرح وجوه التقدس والتنزه فى حقه عن النقائص يطول وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره. فهذا الوصف أيضا. إن كان كمالا وجمالا محبوبا فلا تتم حقيقته إلا له، وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقا، بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصانا، كما أن للفرس كمالا بالإضافة إلى الحمار، وللإنسان كمال بالإضافة إلى الفرس، وأصل النقص شامل للكل، وإنما يتفاوتون فى درجات النقصان. فماذا الجميل محبوب، والجميل المطلق هو الأحد الذى لا ند له، والفرد الذى لا 228
صفحة ٢١٩