للانقسام، وكون المحل ذا وضع قابل للانقسام يستلزم أن يكون حاله أيضا كذلك كما ثبت في محله، والمجرد لا يمكن كذلك وإلا خرج عن حقيقته، فالنفس لا تكون مادية وإذا لم تكن مادية كانت مجردة لعدم الواسطة.
و (منها) أن القوى الجسمية الباطنية لا تكتسب العلوم إلا من طريق الحواس الظاهرة إذ ما لم يدرك الشئ بها لم تتمكن الحواس الباطنة أن تدركه وهذا وجداني وضروري. والنفس قد تدرك ما لا طريق الشئ من الحواس إلى إدراكه كالأمور المجردة والمعاني البسيطة الكلية، وأسباب الاتفاقات والاختلافات التي بين المحسوسات، والضرورة العقلية قاضية بأنه لا مدخلية لشئ من الحواس في إدراك شئ من ذلك.
وأيضا تحكم بأنه لا واسطة بين النقيضين، وهذا الحكم غير مأخوذ من مبادئ حسية إذ لو كان مأخوذا منها لم يكن قياسا أوليا، فمثله مأخوذ من المبادئ الشريفة العالية التي تبنى عليها القياسات الصحيحة.
وأيضا هي حاكمة على الحس في صدقه وكذبه وقد تخطئه في أفعاله وترد عليه أحكامه كتخطئته للبصر فيما يراه أصغر ما هو عليه في الواقع أو بالعكس، وفيما يراه مستديرا وهو مربع، أو مكسورا وهو صحيح، أو معوجا وهو مستقيم، أو منكوسا وهو منتصب، أو مختلفا في وضعه الواقعي، وفي رؤيته للأشياء المتحركة على الاستدارة كالحلقة والطوق، وكتخطئته للسمع فيما يدركه في المواضع الصقيلة المستديرة عند الصدى، وللذوق في إدراكه الخلو مرا ومثله، كذا الحال في الشم واللمس، ولا ريب في أن تخطئة النفس الحواس في هذه الإدراكات وحكمها بما هو المطابق للواقع إنما يكون مسبوقا بالعلم الذي لا يكون مأخوذا من الحس، لأن الحاكم على الشئ أعلى رتبة منه فلا يكون علمه الذي هو مناط مأخوذا عنه.
ومما يؤكد ذلك أنها عالمة بذاتها وبكونها مدركة لمعقولاتها. ومعلوم إن هذا العلم مأخوذ من جوهرها دون مبادي، أخر.
و (منها) إنا نشاهد أن البدن وقواه يضعفان في أفعالهما وآثارهما، والنفس تقوى في إدراكاتها وصفاتها، كما في سن الكهولة، أو يكونان قويين في الأفعال مع كونها ضعيفة فيها كما في سن الشباب، فلو كانت جسما أو
صفحة ٣٤