فصل في تجرد النفس وبقائها لا ريب في تجرد النفس وبقائها بعد مفارقتها عن البدن. أما الأول (والمراد به عدم كونها جسما وجسمانية) فيدل عليه وجوه:
(منها) إن كل جسم لا يقبل صورا وأشكالا كثيرة لزوال كل صورة أو شكل فيه بطريان مثله، والنفس تقبل الصور المتعددة المختلفة من المحسوسات والمعقولات من دون أن نزول الأولى بورود الأخرى، بل كلما قبلت صورة ازدادت قوتها على قبول الأخرى، ولذلك تزيد القوة على إدراك الأشياء بالرياضيات الفكرية وكثرة النظر، فثبت عدم كونها جسما.
و (منها) إن حصول الأبعاد الثلاثة للجسم لا يتصور إلا بأن يصير طويلا عريضا عميقا وحصول الألوان والطعوم والروائح له لا يتصور إلا بأن يصير ذا لون وطعم ورائحة وهي تحصل للنفس وقوتها الوهمية بالإدراك من غير أن تصير كذلك، وأيضا حصول بعضها للجسم يمنع من حصول مقابله له، ولا يمنع ذلك في النفس بل تقبلها كلها في آن واحد على السواء.
و (منها) أن النفس تلتذ بما لا يلائم الجسم من الأمور الإلهية والمعارف الحقيقية، ولا تميل إلى اللذات الجسمية والخيالية والوهمية، بل تحن أبدا إلى الابتهاجات العقلية الصرفة التي ليس في الجسم وقواه فيها نصيب، وهذا أوضح دليل على أنها غيرهما، إذ لا ريب في أن ما يحصل لبعض النفوس الصافية عن شوائب الطبيعة من البهجة والسرور بإدراك العلوم الحقة الكلية والذوات المجردة النورية القدسية، وبالمناجاة والعبادات والمواظبة على الأذكار في الخلوات مع صفاء النيات لا مدخلية للجسم فيها وقواه الخيالية والوهمية وغيرهما، إذ النفس قد تغفل في تلك الحالة عنها بالكلية، وربما استغرقت بحيث لا تشعر بالبدن ولا تدري أن لها بدنا فكأنها منخلعة عنه، فهذا يدل على أنها من عالم آخر غير عالم الجسم وقواه، إذ التذاذهما منحصر بالملائمات الجزئية التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة.
و (منها) أن النفس تدرك الصور الكلية المجردة فتكون محلا لها، ولا ريب في أن المادي يكون محلا للمجرد إذ كل مادي ذو وضع قابل
صفحة ٣٣