الجامع لمسائل المدونة
للإمام العلامة
ابن يونس ت: ٤٥١ هـ
صفحة غير معروفة
المقدمة
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي رحمة الله عليه: الحمد لله المنعم بهدايته، المتمم لنعمته، المتفضل على جميع بريته، أحمده على جميع آلائه، وسوابغ نعمه، حمد مقر بربوبيته، عارف بوحدانيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى كافه خلقه، بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، فبلغ رسالته، وأدى أمانته، فهدى به من شاء بفضله، وأضل به من خذله بعدله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
أما بعد:- يسرنا الله لهدايته، وهدانا إلى توفيقه:
فقد انتهى إلي ما رغب فيه جماعة من طلبة العلم ببلدنا في اختصار كتب المدونة، والمختلطة، وتأليفها على التوالي، وبسط ألفاظها تيسيرًا، وتتبع الآثار المروية فيها عن النبي ﷺ وعن أصحابه ﵃، وإسقاط إسناد الآثار، وكثير من التكرار، وشرح ما أشكل من مسائلها، وبيان وجوهها، وتمامها من
1 / 2
غيرها من الكتب، فسارعت إلى ذلك رجاءَ النفع به، والمثوبة عليه إن شاء الله تعالى.
وأدخلت فيه مقدمات أبواب كتاب الشيخ أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى وزياداته، إلا اليسير منها، وطالعت في كثير منها ما نقله في النوادر، ونقلت كثيرًا من الزيادات من كتاب ابن المواز، والمستخرجة ولم أخل من النظر إلى نقل أبي محمد واختصاره فيها، وعملت على الأتم عندي من ذلك، وربما قدمت، أو أخرت مسائل يسيرة إلى شكلها؛ [لئلا] تفوت
1 / 3
قراءتها قارئ موعده في الأمهات، ورأيت العناية بذلك محمودة، والخير فيه مأمول، وكل ينتهي من ذلك إلى ما يسر إليه، وأعين عليه بمن الله وفضله، وتسديده، وتوفيقه.
1 / 4
باب-١ في فصل العلم والحث عليه وأصوله
فصل ١: في الدلائل على فضل العلم والعلماء، وحكم طلب العلم.
قال تعالى: ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴿
وقال تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴿قال ابن أبي زيد: «بالعلم في الدنيا».
وفي قوله سبحانه: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرا ﴿، فقد جاء في التفسير أنه الفقه في الدين وقاله مالك بن انس، وقال الرسول ﷺ: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
1 / 5
وقال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم أن يتعلمه».
فطلب العلم فريضة، كفريضة الجهاد؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿،
فجعل ذلك فرضًا يحمله الخاص عن العام، إلا ما لا يسع جهله من اللوازم، من صفة الوضوء، والطهر، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج ففرض على كل من لزمه ذلك، معرفته.
وقد سئل مالك عن طلب العلم أفريضة؟. فقال: أما على كل الناس فلا.
1 / 6
وذكر عن سحنون أنه قال: أما من كان فيه موضع لرجاء الإمامة، فواجب عليه قوة الطلب، أو كلامًا هذا معناه.
[فصل-٢: الجد. والمثابرة. وهداية الله سبب الحصول على العلم.]
والعلم لا يأتي إلا بالعناية، والمباحثه والملازمة مع هداية الله تعالى وتوفيقه.
قال ابن المسيب: «أن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد» وبذلك ساد أهل عصره، وكان يسمى سيد التابعين.
1 / 7
وقال مالك: أقمت خمسة عشر سنة أغدو من منزلي إلى منزل ابن هرمز وأقيم عنده إلى صلاة الظهر، مع ملازمته لغيره، وكثرة عنايته، وذيلك فاق أهل عصره، وسمي أمام دار الهجرة.
وإقام ابن القاسم متغربًا عن وطنه في رحلته إلى مالك عشرين سنة ولم يرجع حتى مات مالك ﵀، ورحل أيضًا سحنون إلى ابن القاسم حتى هذب هذه المدونة، والمختلطة، وحصلت أصل علم المالكيين، ومقدمة على سائر الدواوين بعد موطأ مالك رحمه / الله.
ويروي أن ما بعد كتاب الله تعالى اصح من موطأ مالك.
1 / 8
ومما تمثل به سحنون هذا الشعر:
اخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومد من القرع للأبواب أن يلجأ.
وقال مجاهد: «لا يتعلم العلم مستحي، ولا مستكبر».
وقالت عائشة ﵁: «نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين».
وسنذكر، أن شاء الله، كثيرًا من هذا، ومن فضائل العلم في الجامع لهذا الكتاب. والله نسأل التوفيق، وإياه نستخير، وهو حسبي ونعم الوكيل.
فصل -٣ [في أصول علم الفقه]
اعلم، وفقنا الله، أن الأصل في هذا العلم اتباع الكتاب، والسنة وإجماع الأمة، ثم النضر، والاستدلال، والقياس على ذلك.
والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴿
1 / 9
وقال: ﴿فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه ﴿.
فوجب علينا لذلك اتباعه، ثم اتباع السنة؛ لقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴿.
وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴿.
وقال: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿.
ثم إجماع الأمة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿.
وقال: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴿. فأمر باتباع سبيل المؤمنين، وقرن طاعتهم بطاعته، وطاعة رسوله.
وقال ﷺ: «لن تجتمع أمتي على ضلالة».
1 / 10
ثم النظر، والاستدلال، والقياس؛ لقوله تعالى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿وقوله: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ﴿، وقوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴿.
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
1 / 11
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴿.
فقد ثبت أصل ذلك من كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
1 / 12
كتاب الطهارة
1 / 13
باب، -١ - في فرض الوضوء، وسننه، وفضائله/
[فصل -١ - في حكم الطهارة. وشروط وجوبها]
قال محمد بن عبد الله من يونس ﵀: «الطهارة من الحدث فريضة واجبة على كل من لزمته الصلاة».
وشروط وجوبها خمسة: الإسلام، البلوغ، وثبات العقل، وارتفاع دم الحيض والنفاس، وحضور وقت الصلاة.
قال ابن مسعود، وغيرة «كان الطهر في أول الإسلام سنة حتى نزل
1 / 14
فرض الوضوء بالمدينة في سورة المائدة، وهو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ﴿إلى قوله ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴿.
قال زيد بن اسلم: أذا قمتم يعني من النوم. وقيل: معناه، أذا قمتم محدثين. وقيل: كان هذا أمرًا من الله تعالى بالوضوء لكل صلاة، ثم نسخ ذلك بفعل النبي ﷺ تخفيفًا على أمته؛ لان ذلك كان يشق عليهم.
1 / 15
وقيل: معنى قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ ﴿أذا أردتم القيام إلى الصلاة.
قال محمد بن سلمة، وغيره: آية الوضوء فيها تقديم، وتأخير، والمعنى فيها: يا إيها الذين آمنوا أذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء احد منكم الغائط، أو لامستهم النساء فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم، وان كنتم جنبًا فاطروا /، وان كنتم مرضى، أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم، وأيديكم منه ما يريد الله؛ ليجعل عليكم من حرج، أي من ضيق، ولكن يريد ليطهركم، أي من الذنوب، بامتثال ما أمركم به، وفعل ما افترض عليكم.
وإنما قدرت هذا التقدير؛ ليكون ذكر هذه الإحداث معطوف متصلًا بقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ ﴿فيتضح أن قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ ﴿يعنى من النوم، كما قال زيد.
ويبعد قوله من تأول قوله ﴿إِذَا قُمْتُمْ ﴿، أي محدثين؛ لاتصال ذكر الإحداث بقوله ﴿إِذَا قُمْتُمْ ﴿، فيكون تكريرًا في اللفظ بمعنى واحد، فحملها على فائدتين أولى وليكون - أيضًا - قوله ﴿وَأَرْجُلَكُمْ ﴿عطفًا متصلًا على غسل اليدين، فيكون حجة على من قال فيهما بالمسح، وجعل إنهما مطوفتان على مسح الرأس.
ولذلك قال ابن مسلمة: فيها تقديم وتأخير.
1 / 16
والتقديم والتأخير في كتاب الله تعالى كثير / قال الله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿، والمعنى: واركعي واسجدي؛ لأن الركوع قبل السجود باتفاق، والواو لا توجب رتبة في كلام العرب.
وقوله تعالى: ﴿جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ ﴿يعني: السببين: الغائط، والبول، وقوله تعالى: ﴿أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ ﴿يعني الملامسة الصغرى، دون الجماع، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴿، أي فاغتسلوا، وقوله: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى ﴿يعني: لا تستطيعون مس الماء أو على سفر، وانتم على هذه الأحوال التي تقدم ذكرها، فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا.
وقيل: بل الآية على تلاوتها، لا تقديم فيها ولا تأخير فيها، لان التلاوة موافقة لصفة وضوئه ﵇، ولما عليه العمل.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى ﴿. يعني: لا تستطيعون مس الماء أو على سفر، أو جاء احد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا يعني: أن كنتم مسافرين، أو محدثين مقيمين وأردتم القيام إلى الصلاة فلم تجدوا ماء فتيمموا.
1 / 17
وهذا كله كلام مستقيم، لا يحتاج فيه إلى تقديم، ولا تأخير.
والله اعلم.
فصل -٢ [في أنواع الطهارة]
قال عبد الوهاب: الطهارة من الحدث الفريضة الواجبة على كل من لزمته الصلاة، وهى ثلاثة أنواع: وضوء، وغسل، وبدل منهما عند تعذرهما، وهو التيمم، وهو طهارة على الحقيقة، وان كان لا يرفع الحدث.
وقال غيره: لا أقول أن التيمم بدل منهما، وإنما أقول: أنها عبادة مستأنفة وليس بدل؛ لان البدل يقوم مقام المبدل منه في كل الأحوال، والتيمم لا يقوم مقام الطهارة بالماء في كل الأحوال؛ لأنه لا يرقع الحدث رأسًا، ولا يصلى به
1 / 18
صلاتين.
[فصل -٣: في إحكام الوضوء]
قال عبد الوهاب: وإحكام الوضوء ثلاثة أنواع: فرض، وسنة، وفضيلة/، والسنة أوكد من الفضيلة.
ففروضه من غير المتطهر من جنابة، أو حيض سبعة، وهى: النية، والماء الطاهر، وغسل جميع الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح ارأس كله عند مالك، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والموالاة مع الذكر، ولا يفسده قليل التفريق.
وقد قيل: أن الموالاة سنة، والظاهر من قول مالك أنها واجبة.
1 / 19