دخوله. وأما التأكيد فإنه أخبر عما لا يدرك بالحاسة، وذلك تغال بالمخبر عنه، وتفخيم له، إذ صير إلى منزلة ما يشاهد ويعاين. ألا ترى إلى قول بعضهم في الترغيب في الجميل: (لو رأيتم المعروف لرأيتموه حسنًا جميلًا). وإنما يرغب بأن ينبه عليه، ويعظم من قدره،
فيصور في النفوس، على أشرف أحواله وأعلى صفاته، وذلك بأن يخيل متجسمًا، لا عرضًا متوهمًا.
واعلم أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة، وذلك أن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة فيه، فمن ذلك عامة الأفعال نحو (قام زيد، وقعد عمرو) و(جاء الصيف وانصرف الشتاء). ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية، فقولك (قام زيد) معناه كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل. ومعلوم إنه لم يكن منه جميع القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنس مطبق جميع أنواعه من الماضي والحاضر والمستقبل، الكائنات من كل (من) وجد منه القيام؟. فإذا كان الحال كذلك علمت أن قيام زيد مجاز لا حقيقة، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض، للاتساع والتوكيد، وتشبيه القليل بالكثير. ويدل على انتظام ذلك في جميع جنسه أنك تعمل في جميع أجزاء ذلك الفعل، فتقول: قمت قومة، وقومتين، ومائة قومة، وقياما حسنًا، وقيامًا قبيحًا، فإعمالك إياه في جميع أجزائه يدل على إنه موضوع عندهم على صلاحيته، لتناول جميعها، ألا ترى إلى قول بعضهم:
وقد يجمَعُ الشَتِيْتَيْنِ بعدما ... يظُنّان كلَّ الظَنِّ أنْ لا تَلاقيا
فقوله (كل الظن) يدل على صحة ما أشرنا إليه.
وكذلك قولك (ضربت زيدًا) مجاز أيضًا، لأنك إنما لأعلك بعض الضرب لا كله، وإنما ضربت بعضه لا جميعه؛ لأنك قد تضرب يده، أو رجله، أو ناحية من نواحي جسده. ولهذا إذا احتاط الإنسان واستظهر جاء يبدل البعض، فقال (ضربت زيدًا رأسه) ثم هو مع ذلك متجوز، لأنه إنما يضرب ناحية من رأسه، لا رأسه كله. ولهذا يحتاط بعضهم في نحو
1 / 31