مدونة الحنابلة (1)
الجامع لعلوم الإمام أحمد
تصنيف
إبراهيم النحاس
«قسم الحديث 1»
[المجلد الرابع عشر]
صفحة ١
جميع الحقوق محفوظة لدار الفلاح ولا يجوز نشر هذا الكتاب بأي صيغة أو تصويره PDF إلا بإذن خطي من صاحب الدار الأستاذ/ خالد الرباط
الطبعة الأولى
1430 ه - 2009 م
رقم الإيداع بدار الكتب
19194/ 2009
دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث
18 شارع أحمس - حي الجامعة - الفيوم
ت: 01000059200
صفحة ٢
الجامع لعلوم الإمام أحمد
[14]
صفحة ٣
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ٤
مقدمة دار الفلاح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، ثم أما بعد،
فهذا قسم علوم الحديث عند الإمام أحمد بن حنبل من الموسوعة المباركة الجامعة لعلوم الإمام المبجل، وهي بالطبع لا تشتمل ما أسنده الإمام فهذا خارج نطاق هذه الموسوعة، وقد كنا عملنا على هذا القسم ولكن وجدنا الأخ الفاضل إبراهيم النحاس قد سبقنا فآثرنا إشراكه في العمل بدلا من تكرار الجهد، وقد قام -جزاه الله خيرا- بعمله بكفاءة، وإن كان عنده اختلاف يسير عن طريقتنا، فهو لا يلتزم هنا بذكر الراوي عن الإمام أحمد، وقد عالجنا هذا في بعض المواضع، كما أن الأمر واضح في بعض المواضع من المصدر، لكن هناك مواضع أخرى سيلزم الباحث الرجوع إلى المصدر الأصلي إذا كان في حاجة لاسم الراوي، كما أنه لم يلتزم وجود الراوي في المصدر الذي نقل منه، وهو ما التزمناه في باقي الموسوعة، ويلزم هنا أن أشير إلى أن كثيرا من المسائل الموجودة في هذا القسم تكررت في مواضع من قسم الفقه، وهو ما يجعل ذكر الراوي هنا أقل أهمية، كما زاد في الحاشية بعض التعليقات الفقهية، وهو ما لم نفعله في باقي العمل إلا نادرا، وهناك اختلاف في أمور أخرى فنية أكثر منها علمية. وقد قمنا بتعديل معظم العزو إلى الطبعات المعتمدة عندنا، كما عدلنا ترتيب بعض المسائل، مع إضافات يسيرة.
وقد صدر الأخ إبراهيم عمله بمقدمة وضح فيها منهجه، وعرج على أمور ذات صلة بعلم الحديث، وأعطى لمحة عن منهج الإمام أحمد في الجرح والتعديل، ثم ذكر مصادر أقوال الإمام أحمد التي اعتمد عليها.
صفحة ٥
وقد زاد الباحثون بدار الفلاح على عمل الأخ إبراهيم: كتاب شرح الأحاديث والآثار، وكتاب علوم الحديث، ليتم النفع بهذا القسم من الموسوعة.
وأود أن أشير هنا إلى كتاب "الجامع لعلوم الحديث عند الحافظ ابن رجب" والذي جمعه الأخ/ جهاد المرشدي، وقمنا بمراجعته وإعادة ترتيبه وفهرسته؛ ليكون حلقة في سلسلة مع هذا القسم وغيره إن شاء الله.
نسأل الله التوفيق والسداد، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.
خالد الرباط
صفحة ٦
مقدمة المؤلف "إبراهيم النحاس"
الحمد لله بارئ البريات وغافر الخطيئات، المطلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلما، وقهر كل مخلوق عزة وحكمة، لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الأعصار، ولا تتوهمه الأفكار، وأتقن ما صنع وأحكمه، وأحصى كل شيء وعلمه، ورفع قدر العلم وعظمه، وخص به من خلقه من كرمه، وحض عباده المؤمنين على النفير للتفقه في الدين، وندبهم إلى إنذار بريته، كما ندب إلى ذلك أهل رسالته، ومنحهم ميراث أهل نبوته، ورضيهم للقيام بحجته، والنيابة عنه في الإخبار بشريعته، واختصهم من بين عباده بخشيته.
ثم أمر سائر الناس بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم، وجعل علامة زيغهم وضلالهم ذهاب علمائهم.
فمن هؤلاء العلماء العاملين الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله مفتي الأمة، خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر العاطر، والعلم الكامل، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، من أوفاهم فضيلة وأتبعهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعلمهم به وأزهدهم في الدنيا وأطوعهم لربه.
قال ابن القيم (¬1): كان بمدينة السلام إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد ابن حنبل الذي ملأ الأرض علما وحديثا وسنة، حتى أن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة، وكان -رضي الله عنه- شديد الكراهة لتصنيف الكتب وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه ويشتد عليه جدا، فعلم الله
صفحة ٧
حسن نيته وقصده من كلامه، وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا، ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل، وجمع الخلال نصوصه في "الجامع الكبير" فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر، ورويت فتاويه ومسائله، وحدث بها قرنا بعد قرن، فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى أن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه، ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة، ومن تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كل منها على الأخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاه واحدة، حتى أن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان، وكان تحريه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه، بل أعظم، حتى أنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل، قال إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ في "مسائله": قلت لأبي عبد الله: حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت؟ قال: أبو عبد الله رحمه الله: عن الصحابة أعجب إلي.
قلت: مما يدل على شدة تمسك الإمام أحمد بالحديث والآثار، فقد ذكر عبد الله في "مسائله" (¬1) لأبيه قال: سمعت أبي -وذكر وضع الكتب فقال: أكرهها؛ هذا أبو حنيفة وضع كتابا فجاء أبو يوسف ووضع كتابا وجاء ابن الحسن فوضع كتابا، فهذا لا انقضاء له، كلما جاء رجل وضع كتابا، وهذا مالك وضع كتابا، وجاء الشافعي أيضا، وجاء هذا -يعني: أبا ثور- وهذه الكتب وضعها بدعة، كلما جاء رجل وضع كتابا، ويترك حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. أو كما قال أبي هذا أو نحوه.
صفحة ٨
وعاب وضع الكتب وكرهه كراهية شديدة، وكان أبي يكره "جامع سفيان" وينكره، ويكرهه كراهية شديدة، وقال: من سمع هذا من سفيان؟ ولم أره يصحح لأحد سمعه من سفيان ولم يرض أبي أن يسمع من أحد حديثا.
اعلم أن من أهم مباحث هذا العلم وأشدها تعليقا بتحصيل الغاية المنشودة من علم الحديث معرفة علل الأحاديث، وهو فن دقيق؛ إذ به ينكشف مداخل الوهم والخطأ في مرويات الثقات الغالب على نقولهم السلامة والاستقامة، ولدقته لم يتحقق إلا لزمرة يسيرة من العلماء صاروا بذلك أئمة يقتدى بهم، وحجة يرجع إليهم.
وإن استمداد هذا العلم الشريف من كلام هؤلاء الأئمة ومناهجهم، وبمطالعة ذلك وتدبره يحصل لطالب علم الحديث أهلية الكلام في هذا الفن الدقيق.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدمت المذاكرة به فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد، وعلي بن المديني وغيرهم، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه وتفقهت نفسه فيه؛ صارت له قوة نفس وملكة، صلح له أن يتكلم فيه (¬1).
ورحم الله أبا عبد الله على شدة تمسكه بالأحاديث والآثار وترك ما دونها من الأخبار؛ فلذلك وقع أختيارنا على أقواله في الحكم على الأحاديث، فهو فيه سابق فرسانه، وفي الفقه سابق ميدانه، وأعلم الناس بالفتيا في زمانه، ويندر أن يسمح الزمان بمثله.
صفحة ٩
وهو من خير القرون المشهود لها، فقد زكى النبي -صلى الله عليه وسلم- القرون الأولى فقال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم"، وأيضا ذم القرون بعد ذلك فقال: "ما يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه".
لذلك فقد قمت بعون الله وقوته بجمع أقوال الإمام أحمد رحمه الله على الأحاديث، ليعلم ذلك من اقتفى آثاره، وأبين كثيرا لمن أراد مذهبه واختاره.
وأشير إلى قوله على سبيل الاختصار، وأعزو ما أمكنني عزوه من الأخبار إلى كتب الأئمة من علماء الآثار؛ لتحصل الثقة بمدلولها، والتمييز بين صحيحها ومعلولها.
صفحة ١٠
منهجي في البحث
التزمت في بحثي قدر الاستطاعة المنهج التالي:
- الأحاديث المذكورة كلها على الرفع أو لمن كان في حكم الرفع، إلا ما استثني من أقوال الصحابة في التفسير والفتن كعمل الصحيحين أحيانا.
- أعرضت عن قوله رحمه الله على الأحاديث بلفظ: أذهب إليه، أو أحتج به، أو عليه العمل عندنا، أو ما شابه ذلك؛ لأن الغالب عليها عند الإمام أحمد الناحية الفقهية إلا إذا احتاج إليه المقام فأذكره وأنبه عليه.
- قد يكون الحديث ثابتا صحيحا، بل في الصحيحين وإنما المنتقد السند المذكور، فأبينه وأذكر البديل الصحيح.
- لم أتعرض للأحاديث بكل طرقها، وإنما فقط على أقوال الإمام أحمد في الأسانيد المذكورة، كشأن أهل العلل في هذا الفن.
- إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما وقام الإمام أحمد بتصحيحه، فلا أذكره إلا إذا احتاج إليه المقام، وأما إذا تكلم فيه بقدح فأقوم بذكره.
- الطرق التي ذكرتها في التخريج هي نفس الطرق التي ذكرها الإمام أحمد على هذا المتن، فقد تجد في التخريج: "لم أقف عليه"؛ أي: من الطرق التي ذكرها الإمام أحمد، وقد يكون المتن محفوظا.
- قمت بترتيب الأبواب ترتيبا فقهيا مستعينا بطريقة صاحبي الصحيح، حتى فيما صدرت به الباب.
- قد أتعرض لبعض المسائل الفقهية في بعض الأبواب في الحاشية؛ لإتمام الفائدة وزيادة النفع.
صفحة ١١
- قام الإخوة بدار الفلاح بمراجعة الكتاب مع بعض الإضافات القليلة على ما جمعته، مع تعديل بعضها، كما زادوا كتابين في آخر الكتاب، أحدهما ما ورد عن الإمام أحمد في غريب الحديث، والآخر ما ورد عن الإمام أحمد في علوم الحديث، فزادت الفائدة وكمل المراد إن شاء الله.
والله أسأل أن ينفع به من كتبه، أو قرأه، أو حصله، أو سعى في شيء منه، والله يعصمنا من الزلل، ويوفقنا في القول والعمل.
ثم أعتذر لذوي الألباب، من التقصير الواقع في هذا الكتاب، وأسألهم أن ينظروا بعين الرضا والصواب، فما كان من نقص كملوه، ومن خطأ أصلحوه، فقلما يخلص مصنف من الهفوات أو ينجو من العثرات.
والله أسأل صفحا جميلا، وعفوا كثيرا، وأن يتجاوز عن التقصير والنسيان، والحمد لله ولي الإنعام، وصلى الله على من هو للأنبياء ختام، وعلى آله سرج الظلام، وعلى أصحابه الغر الكرام.
كتبه: أبو معاذ إبراهيم بن محمد بن محمد السيد المشهور ب / إبراهيم النحاس
صفحة ١٢
منهج الإمام أحمد وإطلاقاته في الجرح والتعديل
الإمام أحمد رحمه الله رباني الأمة في وقته وعالمها وفقيهها وحافظها وعابدها وزاهدها، وشهرة فضائله ومناقبه تغني عن الإطالة فيها، وقد أفرد العلماء التصانيف لمناقبه؛ فمنهم من طول ومنهم من قصر، ومن أراد المزيد فليراجع ترجمته مبسوطة في المصادر المعروفة. وما يهمنا هنا هو منهجه ومعرفة مخارج إطلاقاته التي عرفها أصحابه وسار عليها هذا الإمام رحمه الله.
كما هو معروف أن منهج الإمام أحمد في المسائل الفقهية يعتمد على الكتاب والسنة والإجماع وعمل الصحابة والتابعين.
فالإمام أحمد كثيرا ما يعتمد في منهجه على العمل بالحديث وإن لم يصح. وقد قال ابن رجب وابن تيمية وغيرهما: إن الإمام أحمد يأخذ بالحديث الضعيف إن لم يكن في الباب غيره أحب إليه من الرأي، وهذا ظاهر.
ولكني وجدت من خلال الاستقراء والتتبع لكتب الإمام أحمد أنه رحمه الله قد يأخذ بالحديث الضعيف على العمل الفقهي، وإن كان في الباب حديث صحيح فيأخذ به أيضا ويكون له في ذلك روايتان.
قال الخلال (¬1): وأبو عبد الله يحتاج من يقلد مذهبه أن يعرفه من رواية جماعة؛ لأنه ربما روى عنه المسألة الواحدة جماعة حتى يصبح قوله فيها العشرة ونحوهم؛ لأنه ربما يسأله عن المسألة الواحدة جماعة حتى يقول لا أدري وإنما يعني: لا أدري ما أختار، ويسأل عن تلك بعينها، فيجيب بالاختلاف لمن قال لا ونعم، ولا ينفذ له قول، ويسأل عن تلك المسألة
صفحة ١٣
أيضا في وقت آخر، فيحتج للجميع ويعلق مذهبه، ويسأل عن تلك أيضا في وقت، فيجيب بمذهبه من غير احتجاج للمسألة إذا كان قد تبين له الأمر فيها، ويسأل عن تلك أيضا ويحتج عليه، ويسأل عن مذهبه وعن الشيء ذهب إليه، فيجيبهم فيصبح مذهبه في تلك المسألة في ذلك الوقت وفي مسائله رحمه الله مسائل يحتاج الرجل أن يتفهمها ولا يعجل، وهو قد قال: ربما بقيت في المسألة ذكر بعضهم من العشر سنين إلى الثلاث سنين. بينت هذا كله في هذا الموضوع. أعني: لمن يقلد من مذهب أبي عبد الله شيئا ألا يتعجل وأن يستثبت.
ونفعنا الله وإياكم، ونسأله التوفيق فإنه لطيف.
فقد كان أبو عبد الله رجلا لا يذهب إلا في الكتاب والسنة وقول الصحابة والتابعين وكان يحب السلامة والتثبت فيما يقول ويدفع الجواب فإذا أجاب لم يجب إلا بما صح.
قلت: منهج الإمام أحمد في المسائل الفقهية يعتمد على الكتاب والسنة والإجماع وعمل الصحابة والتابعين.
فهو كثيرا ما يعتمد في منهجه على العمل بالحديث وإن لم يصح.
قال الأثرم: كان أبو عبد الله، ربما كان الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي إسناده شيء، فيأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه مثل حديث عمرو بن شعيب وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالحديث المرسل إذا لم يجئ خلافه.
ذكر ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (¬1) قال: ظاهر كلام أحمد أن المرسل عنده هو نوع الضعيف، لكنه يأخذ بالحديث إذا كان فيه ضعف ما لم يجئ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلافه أو عن الصحابة.
صفحة ١٤
ومن ثم كان لزاما على من يطلب الفقه على مذهب الإمام أحمد أن يدرس الحديث أولا دراسة وافية لفهم كتب العلل وإطلاقات الإمام أحمد وغيره؛ لأن الإمام أحمد قد يحتج بحديث ويعمل به ويقول: (أذهب إليه)، وفي مكان آخر يضعفه ويصفه بالنكارة.
مثال: نقل ابن رجب في "شرح البخاري" (¬1): قال الإمام أحمد في حديث عائشة رضي الله عنها: "النساء شقائق الرجال". قال: هذا منكر، وقال: أذهب إليه.
وأيضا نقل ابن رجب في "شرح علل الترمذب" (¬2)، والخلال في "الجامع لأحكام أهل الذمة" (¬3).
قول الإمام أحمد، في حديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة، قال: ليس بصحيح والعمل عليه، وكان عبد الرزاق يقول: عن معمر عن الزهري مرسلا.
قال ابن القيم في "الفروسية" (¬4): روى الإمام أحمد حديث علي: أن العباس سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك (¬5).
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله، ذكر له هذا الحديث، فضعفه وقال: ليس ذلك بشيء، هذا مع أن مذهبه جواز تعجيل الزكاة.
وأيضا نقل ابن القيم عن الإمام أحمد في حديث عائشة: "لا نذر في
صفحة ١٥
معصية وكفارته كفارة اليمين" قال: هذا حديث منكر، مع أنه رواه وبنى عليه مذهبه واحتج به.
قلت: ذكر ابن قدامة في "المغني" (¬1) قول الإمام أحمد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما "العرب بعضهم لبعض أكفاء إلا حائكا أو حجاما" قيل للإمام أحمد: كيف تأخذ بهذا وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه.
وأشد من هذا فقد يضعف الحديث بالإعراض عنه فقط وإن لم يتكلم عليه ويذهب إلى آثار الصحابة. مثال ذلك: في مسألة القصر في السفر:
نقل ابن قدامه في "المغني" (¬2): قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد.
قيل له: مسيرة يوم تام؟ قال: لا، أربعة برد -ستة عشر فرسخا- مسيرة يومين.
قال ابن قدامة: وهو قول ابن عباس وابن عمر، وإليه ذهب مالك والليث والشافعي وإسحاق.
قلت: وفي الباب حديث أخرجه مسلم (¬3) من طريق شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال -أو ثلاثة فراسخ، شعبة الشاك- صلي ركعتين.
قلت: ويحيى بن يزيد الهنائي ليس من أصحاب أنس، وهو مقل جدا أو ليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث عن أنس. وقد قال فيه ابن معين:
صفحة ١٦
صويلح. وقال أبو حاتم: شيخ. [أكثر ما تطلق عند أبي حاتم على الجهالة] قال الحافظ في "التقريب": مقبول. قال الذهبي في "الميزان": لا بأس به.
قلت: فمثل هذا الراوي لا يتحمل أحاديث الأحكام، والتي قال فيها الإمام أحمد: إذا جاءت أردنا رجالا هكذا، وضم يده ورفع الإبهام؛ كناية عن الرواة الثقات الأثبات وممن ضعف الحديث من أجل يحيى بن يزيد الهنائي:
ابن عبد البر في "الاستذكار" (¬1) فقد قال: يحيى بن يزيد الهنائي شيخ من أهل البصرة ليس مثله ممن يحتمل هذا المعنى الذي خالف جمهور الصحابة والتابعين، ولا هو ممن يوثق في ضبط هذا الأصل.
ومما سبق تبين لك أن الإمام أحمد لم يحتج بهذا الحديث لما عرفت، وأعرض عنه وأخذ بآثار الصحابة، وقد تكون آثار الصحابة أيضا ضعيفة ويعمل بها الإمام أحمد فلينتبه لذلك.
فالعمل الفقهي قد يقترن بصحة الحديث ، وقد لا يقترن في مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
مثال آخر: قال الإمام أحمد، عندما سئل عن حديث مالك بن الحويرث: أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا (¬2).
قال: الإمام أحمد: صحيح. وقال مرة: ليس لهذا الحديث ثان. يعني: لم ترو هذه الجلسة في غير هذا.
وقال مرة: أكثر الأحاديث ليس فيها ذكر شيء من ذلك.
قلت: يشير الإمام أحمد إلى جلسة الاستراحة أنها لم ترو في حديث غير
صفحة ١٧
هذا. ولكن قد رويت -أي: جلسة الاستراحة- في حديث المسيء صلاته، فلما أعرض عنها ولم يذكرها، فهل يقال: إنه لم يقف على حديث المسيء في صلاته؟ هذا أمر فيه بعد؛ لشهرة هذا الحديث عند العوام، فحسبك بإمام أهل السنة. هذا وقد اختلف في هذا الحديث على عبيد الله العمري. فقد رواه القطان وأبو أسامة بدونها ورواه ابن نمير عنه بإثباتها، والراجح والله أعلم عدم ثبوتها؛ فقد قال الحافظ في "الفتح" (¬1): أشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وهم، فقد قال عقب الحديث: قال أبو أسامة في الأخير: حتى تستوي قائما، ويمكن أن يحمل إن كان محفوظا على الجلوس للتشهد.
قال ابن رجب في "الفتح": فهذه اللفظة قد اختلف فيها في حديث أبي هريرة فمن الرواة من ذكر أنه أمره بالجلوس بعد السجدتين ومنهم من ذكر أنه أمره بالقيام بعدهما وهذا هو الأشبه، فإن هذا الحديث لم يذكر أحد فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمه شيئا من سنن الصلاة المتفق عليها، فكيف يكون قد أمره بهذه الجلسة؟ فهذا بعيد جدا (¬2). قال: ثم وجدت البيهقي قد ذكر هذا، وذكر أن أبا أسامة اختلف عليه في ذكر هذه الجلسة الثانية بعد السجدتين قال: والصحيح عنه أنه قال بعد ذكر السجدتين: "ثم ارفع حتى تستوي قائما". قال البيهقي: وقد رواه البخاري في "صحيحه" عن إسحاق بن منصور عن أبي أسامة، وذكر رواية ابن نمير ولم يذكر تخريج البخاري لها، ولم يذكر يحيى بن سعيد في روايته السجود الثاني ولا ما بعده من القعود أو القيام.
قال: والقيام أشبه بما سيق الخبر لأجله من عد الأركان دون السنن، والله أعلم.
صفحة ١٨
قال ابن رجب: وهذا يدل على أن ذكر الجلسة الثانية غير محفوظ عن يحيى.
[قلت]: مما سبق يتبين سبب إعراض الإمام أحمد عن هذه الزيادة، لضعفها وعدم ثبوتها، فقال في حديث مالك بن الحويرث بأنها لم ترو هذه الجلسة في غير هذا.
فإعراض الإمام أحمد عن هذا الحديث ونفيه له يدل على ضعفه عنده وإن لم يضعفه تصريحا.
قال ابن القيم في "الفروسية" (¬1): ومذهبه -يعني: الإمام أحمد- وهو ألا يقدم على الحديث الصحيح شيئا البتة لا عملا ولا قياسا ولا قول صاحب، وإذا لم يكن في المسألة حديث صحيح، وكان فيها حديث ضعيف وليس في الباب شيء يرده عمل به، فإن عارضه ما هو أقوى منه تركه للمعارض القوي، وإذا كان في المسألة حديث ضعيف وقياس قدم الحديث الضعيف على القياس.
وليس الضعيف في اصطلاحه هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل هو والمتقدمون يقسمون الحديث إلى صحيح وضعيف، والحسن عندهم داخل في الضعيف بحسب مراتبه، وأول من عرف عنه أنه قسمه إلى ثلاثة أقسام أبو عيسى الترمذي ثم الناس تبع له بعد، فأحمد يقدم الضعيف الذي هو حسن (¬2) عنده على القياس ولا يلتفت إلى الضعيف الواهي الذي لا يقوم به حجة، بل ينكر على من أحتج به وذهب إليه، فإن لم يكن عنده
صفحة ١٩
في المسألة حديث أخذ فيها بأقوال الصحابة ولم يخالفهم. وإن اختلفوا رجح من أقوالهم ولم يخرج منها، وإذا اختلفت الصحابة في مسألة ففي الغالب بختلف جوابه فيها ويخرج عنه فيها روايتان أو أكثر، فكل مسألة عن الصحابة فيها روايتان إلا وعنه فيها روايتان أو أكثر وهو أتبع خلق الله تعالى للسنن مرفوعها وموقوفها. أ. ه
- ومما أكثر الكلام حوله إطلاق الإمام أحمد لفظ المنكر، فقد ذهب جمع من أهل العلم المتأخرين والمعاصرين على أن النكارة عند الإمام أحمد على مجرد التفرد.
فقد قال الحافظ ابن حجر في "هدي السارب" في ترجمة محمد بن إبراهيم التيمي -صاحب حديث "الأعمال بالنيات" بعد ذكر قول الإمام أحمد: يروي أحاديث مناكير.
قال: المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له.
ويتضح قول الحافظ أكثر في "النكت" (¬1) قال: فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ المنكر على مجرد التفرد، لكن حيث لا يكون التفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده.
فقول الحافظ هنا قريب من طريقة الإمام أحمد، ولكن عند الإمام أحمد حتى ولو كان المتفرد من الثقات أو من كبار الثقات بقرائن أهمها الوهم والخطأ.
صفحة ٢٠