أقول له لما استوى في ترابه
على أي دين قبل الرأس مصعب
وقال بعضهم: { ثم استوى إلى السمآء }: عمد إليها. وقال: بل كل تارك عملا كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه. وقال بعضهم: الاستواء: هو العلو، والعلو: هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. حدثت بذلك عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع بن أنس: { ثم استوى إلى السمآء } يقول: ارتفع إلى السماء. ثم اختلف متأولو الاستواء بمعنى العلو والارتفاع في الذي استوى إلى السماء، فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها: هو خالقها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء. قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل، ومنها استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيم:
طال على رسم مهدد أبده
وعفا واستوى به بلده
يعني: استقام به. ومنها الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه. ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها. ومنها العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه. وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: { ثم استوى إلى السمآء فسوهن } علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سموات. والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: { ثم استوى إلى السمآء } الذي هو بمعنى العلو والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفوهم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: { استوى } أقبل، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفا، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إنه شاء الله تعالى. قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟ قيل: بعده، وقبل أن يسويهن سبع سموات، كما قال جل ثناؤه:
ثم استوى إلى السمآء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها
[فصلت: 11] والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا، وقبل أن يسويها سبع سموات. وقال بعضهم: إنما قال استوى إلى السماء ولا سماء، كقول الرجل لآخر: «اعمل هذا الثوب» وإنما معه غزل. وأما قوله { فسوهن } فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبرهن وقومهن، والتسوية في كلام العرب: التقويم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوى فلان لفلان هذا الأمر: إذا قومه وأصلحه ووطأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهن على إرادته، وتفتيقهن بعد ارتاقهن كما: حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: { فسوهن سبع سموت } يقول: سوى خلقهن وهو بكل شيء عليم. وقال جل ذكره: { فسوهن } فأخرج مكنيهن مخرج مكنى الجمع. وقد قال قبل: ثم استوى إلى السماء فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكني الجمع. لأن السماء جمع واحدها سماوة، فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر، ونخلة ونخل وما أشبه ذلك ولذلك أنث مرة، فقيل: هذه سماء، وذكرت أخرى فقيل:
السمآء منفطر به
[المزمل: 18] كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحدة غير دخول الهاء وخروجها، فيقال: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل، وما أشبه ذلك. وكان بعض أهل العربية يزعم أن السماء واحدة، غير أنها تدل على السموات، فقيل: { فسوهن } يراد بذلك التي ذكرت، وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تذكر معها. قال: وإنما تذكر إذا ذكرت وهي مؤنثة، فيقال: السماء منفطر به كما يذكر المؤنث، وكما قال الشاعر:
صفحة غير معروفة