القول في تأويل قوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر }. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما: حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: { ولكم في الأرض مستقر } قال: هو قوله:
الذي جعل لكم الأرض فراشا
وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: { ولكم في الأرض مستقر } قال: هو قوله:
جعل لكم الأرض قرارا
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في الأرض قرار في القبور. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: { ولكم في الأرض مستقر } يعني القبور. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال: { ولكم في الأرض مستقر } قال: القبور. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { ولكم في الأرض مستقر } قال: مقامهم فيها. قال أبو جعفر: والمستقر في كلام العرب هو موضع الاستقرار. فإذ كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودا حالا، فذلك المكان من الأرض مستقره. إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أن لهم في الأرض مستقرا ومنزلا بأماكنهم ومستقرهم من الجنة والسماء، وكذلك قوله { ومتاع } يعني به أن لهم فيها متاعا بمتاعهم في الجنة. القول في تأويل قوله تعالى: { ومتاع إلى حين }. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: ولكم فيها بلاغ إلى الموت. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: { ومتاع إلى حين } قال يقول: بلاغ إلى الموت. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل، عن إسماعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس: ومتاع إلى حين قال: الحياة. وقال آخرون: يعني بقوله: { ومتاع إلى حين }: إلى قيام الساعة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { ومتاع إلى حين } قال: إلى يوم القيامة إلى انقطاع الدنيا.
وقال آخرون إلى حين، قال: إلى أجل. ذكر من قال ذلك: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: { ومتاع إلى حين } قال: إلى أجل. والمتاع في كلام العرب: كل ما استمتع به من شيء من معاش استمتع به أو رياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل حياة كل حي متاعا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان متاعا أيام حياته بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذ وجعلها من بعد وفاته لجثته كفاتا، ولجسمه منزلا وقرارا، وكان اسم المتاع يشمل جميع ذلك كان أولى التأويلات بالآية. إن لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالة على أنه قصد بقوله: { ومتاع إلى حين } بعضا دون بعض ، وخاصا دون عام في عقل ولا خبر أن يكون ذلك في معنى العام، وأن يكون الخبر أيضا كذلك إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تبدل الأرض غير الأرض. فإذ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وصفنا، فالواجب إذا أن يكون تأويل الآية: ولكن في الأرض منازل ومساكن، تستقرون فيها استقراركم كان في السموات، وفي الجنات في منازلكم منها، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزين والملاذ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرماسكم وأجداثكم، تدفنون فيها وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها.
[2.37]
قال أبو جعفر: أما تأويل قوله: { فتلقى ءادم } فقيل إنه أخذ وقيل، أصله التفعل من اللقاء كما يتلقى الرجل الرجل يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر، فكذلك ذلك في قوله: { فتلقى } كأنه استقبله فتلقاه بالقبول، حين أوحى إليه، أو أخبر به. فمعنى ذلك إذا: فلقى الله آدم كلمات توبة فتلقاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبا فتاب الله عليه بقيله إياها وقبوله إياها من ربه. كما: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { فتلقى ءادم من ربه كلمت } الآية، قال: لقاهما هذه الآية:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23] وقد قرأ بعضهم: «فتلقى آدم من ربه كلمات» فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك وإن كان من وجهة العربية جائزا إذ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له متلق وما لقيه فقد لقيه، فصار للمتكلم أن يوجه الفعل إلى أيهما شاء ويخرج من الفعل أيهما أحب، فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع «آدم» على أنه المتلقي الكلمات لإجماع الحجة من القراء وأهل التأويل من علماء السلف والخلف على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات، وغير جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة بقول من يجوز عليه السهو والخطأ. واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، فقال بعضهم بما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { فتلقى ءادم من ربه كلمت فتاب عليه } قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. قال: فهو قوله: { فتلقى آدم من ربه كلمات }. وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوه. وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: { فتلقى ءادم من ربه كلمت فتاب عليه } قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: { فتلقى ءادم من ربه كلمت } ذكر لنا أنه قال: يا رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إني إذا راجعك إلى الجنة.
صفحة غير معروفة