وأيضا: فقد علمنا أن الفعل لا يحدث /105/ على حقيقته إلا من محدث أحدثه على ما هو عليه؛ لأنه لو جاز أن يحدث على حقيقته لا من محدث أحدثه على ما هو عليه لجاز أن يحدث لا من محدث أحدثه؛ فلما لم يجز أن يكون الفعل محدثا إلا من محدث أحدثه دل على أنه مخلوق من محدث.
ألا ترى أن حركة الاضطرار تدل على أن الله تعالى هو الفاعل لها على حقيقتها، ولا تدل على أنه هو المتحرك بها في الحقيقة، ولا يجب أن يكون المتحرك المضطر إليها فاعلا لها على حقيقتها إذا كان متحركا بها، وكان معنى المتحرك أن الحركة خالية، ولم يكن ذلك جائزا على ربنا تعالى.
وكذلك إذا كان الكسب دالا على فاعل فعله على حقيقته لم يجب أن يدل على أن الفاعل له على حقيقته هو المكتسب له، ولا على أن المكتسب له هو الفاعل له على حقيقته إذا كان المكتسب مكتسبا للشيء؛ لأنه وقع بقدرة له عليها محدثة، ولم يجز أن يكون رب العالمين قادرا على الشيء بقدرة محدثة، فلم يجب أن يكون مكتسبا للكسب، وإن كان فاعلا له على الحقيقة.
فإن قال: فما الفرق بين الحالين أن الاضطرار لا يجوز دفعه؟
قيل له: قد وجب إذا كان العجز على أحد الحالين، أن القدرة التي هي ضدها حادثة في الحال الأخرى؛ لأن العجز لو كان في الحالين جميعا لكان سبيل الإنسان سبيلا واحدا، فلما لم يجز هذا، وكان القدرة مع أحد الحالين وجب أن يكون كسبا؛ لأن حقيقة الكسب أن الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة، ولافتراق الحالين في الحركتين.
ولأنا وجدناهما معنيين، فالتي ضرورة وجب أن تكون ضرورة؛ ولأن الأخرى بمعنى الكسب وجب أن تكون كسبا، ودليل الخلق في حركة الاضطرار وحركة الاكتساب واحد، وجب إذا كان أحدهما خلقا وجب أن يكون الآخر خلقا.
صفحة ١٤٧