جامع البسيوي ج1
[ مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، رب يسر يا كريم.
الحمد لله الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من وحده بإتقان، وعمل له بالحق ودان. وأشهد أن محمدا ^ عبده ورسوله أرسله بالحق داعيا، وعن الباطل ناهيا، فقام فصدع بأمر الله، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين من عنده، فصلى الله عليه وسلم.
سألت أن أوجدك الدليل الهادي إلى السبيل، الذي من تبعه نجا، ومن خالفه ضل وغوى، وذلك ما لا يبلغه أحد إلا بتوفيق الله، ولا يناله إلا بهداية الله.
وقد نظرت فيما ذكرت فلم أر دليلا ولا هاديا أوضح من كتاب الله المنزل، وسنة نبيه المرسل ^، فإنه السبيل الواضح لمن سلكه، والضلالة عند من تركه.
قال الله لنبيه ^: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، وقال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}، وقال: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه}، والصراط المستقيم: هو الحق، والطريق الواضح.
وقال: {ولا تتبعوا السبل}، والسبل: هي الأهواء الضالة.
وقال: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}، فالقرآن هو الدليل الهادي إلى الطريق المستقيم، وهو الحق الذي لا يضل من سلكه، ولا يهدى من تركه، فما أمرك به فاتبع، وما نهاك عنه فارتدع، وما التوفيق إلا بالله.
[مسألة: في نعم الله تعالى على خلقه]
وذكرت: في نعم الله على خلقه؟ فهي ما لا يحصى عددها:
صفحة ١
فأما أولها: فخلقه إياهم أحياء؛ لأن بالحياة ينالون الملاذ والنعم والمنافع؛ لأن من لم يكن حيا لم يجد لذة ولا نعمة، وقد قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فهي ما لا يحصى، غير أن الحياة من أول النعم.
فأما أفضلها: فهو العقل الذي حسن الله به الحسن، وقبح به القبيح، وبه وجب الحمد والذم، وبه لزم التكليف؛ لأن الله تعالى إنما خاطب العقلاء بما يعقلون، ومن لم يكن له عقل سقط عنه التكليف، بالإجماع من الأمة على ذلك، قال الله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، وقال: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}، /2/ يعني: لمن كان له عقل. فالعقل أفضل نعمة، ومن حرم العقل فقد حرم النعمة، وتمام النعمة على هذه الأمة الإسلام الذي أنعم الله عليهم به، ورضيه لهم دينا، وأكمله لهم وأتم عليهم نعمته.
وكذلك قال الله ||تعالى|| في كتابه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. وقال: {إن الدين عند الله الإسلام}، فلا دين أرضى عند الله من الإسلام، فمن سلكه اهتدى، ومن تركه ضل وغوى، وهو واضح سبيله لمن من الله عليهم بقبوله، والعمل به، والتدبر في معانيه، واتباع فرائضه، واجتناب محارمه.
[مسألة في حق الله على العباد]
فأما ما ذكرت: ما حق الله على عباده؟
فحقه عليهم: أن يعرفوه ويوحدوه ||على ما أنعم||، ويعبدوه ويشكروه ولا يكفروه؛ لأن على العبد أن يعرف المنعم عليه، ويشكره على ما أنعم عليه، ويعترف له بحقه الواجب عليه، ويطيعه فيما أمره ونهاه، وقد قال الله: {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}. وقال الله تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك}.
صفحة ٢
وقال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}، فأوجب عليهم الشكر والذكر، والاعتراف له بحقه الذي أوجبه عليهم من المعرفة به، وأنه لهم خالق ورازق، وهاد ومنعم، وأنه بهم رؤوف رحيم.
وقلت: ما أول ما افترض الله على عباده المكلفين؟
قال: فأول ذلك المعرفة به أنه لهم خالق ورازق على وجه الفكر والنظر والاعتبار؛ لأن الله تعالى ليس بمشاهد، ولا مرئي ولا محسوس، ولكن بالشواهد يستدل عليه العاقل من خلق نفسه، وخلق غيره، وخلق السموات والأرض وما بينهما، يعلم أن لها خالقا لا يشبهها ولا تشبهه، وهو الله الواحد القهار، وقد قال الله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}، وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}، وقال: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق}، وقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
وفي كتاب الله /3/ ما قد بين وعرف أنبياءه، وما دلت عليه آياته، وبين أنه حجة يستدل بها عليه ما لا يحتمله كتابي هذا في رقعتي هذه لو عددته، وبذلك دلت عليه الآيات فيما ذكرت.
صفحة ٣
فإذا شاهد هذا العبد من نفسه ومن العالم، ونظر من وجه النظر علم أنه محدث، ولابد للمحدث من محدث أحدثه، ومدبر دبره، وهو الله الواحد القهار؛ لأنه لا يتصور في وهمه أنه يكون محدثا إلا من محدث أحدثه، كما أنه لو رأى بناء علم أن له بانيا، ولو رأى كتابا علم أن له كاتبا، وأشباه هذه الأشياء، لا يرى أثرا إلا وأن له مؤثرا دل على أن له خالقا، ولا بد من اعتقاد هذا من النظر والتفكر.
- وقلت: فإن قال: وما يدله أنه مخلوق؟
قيل له: إذا رأى أنه في حال التمام والكمال، وقد كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم لحما، فقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال، فدل أنه مخلوق وأن له خالقا، وقد قال الله تعالى: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه}، وقال: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة}، وقال: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة}، وقال: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق}.
فقد دل ذلك في العقل، ودل الكتاب المنزل على أن العبد مخلوق وله خالق، وهو الله الواحد القهار.
[اختلاف الناس في المعرفة]
- وأما ما ذكرت: من اختلاف الناس في المعرفة أنها تقع اضطرارا، وقال قوم: تقع اكتسابا، وقد أوجب الله المعرفة به، فما الوجه في عدل ذلك؟ والدليل عليه؟
صفحة ٤
قال: الدليل على ذلك أن الله تعالى قد ذم الجهل به، والفرية عليه، فلو لم يأمر بمعرفته من قد أكمل عقله، وألزمه ذلك لكان قد أباح له جهله، فلما كان الله قد أنعم عليهم، ووضع لهم الأدلة، وأمرهم بشكره ليشكروه على نعمه، كما قال الله: {فاذكروني أذكركم * واشكروا لي ولا تكفرون}، دل ذلك أن عليهم معرفته وشكره، وقد جعل لهم دليلا على معرفته؛ لأن العالم بما فيه من آثار الصنعة دليل على أن الله لا يجوز في حكمه أن يهملهم وقد نصب لهم ما يعرف به من آثار صنعته، فيعرف ويستدل به عليه؛ إذ لا تجوز عليه الرؤية، ولا المشاهدة، ولا الحس، ولا اللمس، ولا يعرف بغير الاستدلال عليه، والاستدلال /4/ لا يقع إلا من وجه النظر والاكتساب بالدلائل، وليس ذلك من طريق الاضطرار، والله تعالى لا يخلق شيئا لا معنى له؛ إما منفعة عاجلة أو آجلة.
صفحة ٥
كذلك أمرهم بالاستدلال عليه، والاستدلال لا يقع إلا من وجه النظر والعبرة، فقال: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب * ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد}. وقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت * فذكر إنما أنت مذكر}، وأمثال هذا كثير مما يدل على أنه أمر بالاستدلال الذي يعرف به الخالق أنه خالق، ورازق، ومحي، ومميت، فدل ذلك في الكتاب والعقل أن المعرفة تدرك بالاستدلال على المدلول عليه، والدليل هو الهادي إلى الحق، وقد قال الله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى}، وقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}.
وقد عرف في كتابه أن السماوات والأرض، وما خلق من شيء دليل على ربوبيته ووحدانيته، وأنه ليس كمثله شيء.
[كيف يستدل بالشاهد على الغائب؟]
وأما ما ذكرت: كيف يستدل بالشاهد على الغائب؟
فذلك أنا إذا شاهدنا نارا علمنا أن كل نار كذلك حكمها، وإذا رأينا الحيوان لا يقع إلا على التناسل حكمنا بذلك على ما غاب عنا من جنس الحيوان، ويستدل بالأثر على المؤثر، والبناء على الباني، والكتاب على الكاتب، وقد بينا لك من الدلالات ما يكتفى بدونه.
صفحة ٦
[الدليل على معرفة حدوث الخلق] وأما ما ذكرت من الدليل على معرفة حدوث الخلق؟
فإنا وجدنا العالم أجساما وجواهر وأعراضا لا تنفك من الاجتماع والافتراق، ||والاجتماع والافتراق|| محدثان كانا بعد أن لم يكونا، فما لم ينفك من الحدث محدث، ولا يتوهم الجسم خاليا منها.
وقد صح وثبت أن الاجتماع والافتراق معنيان، بهما اجتمع المجتمع وافترق المفترق، وهما مجتمعان بجامع جمعهما ومفرق فرقهما؛ فدل بذلك على حدثهما، وقد قال الله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}.
ومع أن /5/ المحدث هو كل ما لم يكن فكان، فلما لم ينفك الجسم قط مما لم يكن فكان، فهو على الذي دل على حدثه بعد إذ لم يكن فكان، مع الإجماع أن الله كان ولا مكان، ثم خلق المكان، فكان المكان إذا بعد أن لم يكن مكان.
ولما دل الدليل بالإجماع أن الأعراض محدثة لم تنفك من الجواهر دل على أن الجواهر والأجسام محدثة ما لم ينفك منها.
[الدليل على أن للمحدث محدثا]
وأما ما ذكرت أنه إذا كانت الأشياء محدثة، فما الدليل على أن لها محدثا؟
قيل له: الدليل على ذلك أنها لا تخلو من أن تكون أحدثت نفسها في حال وجودها أو في حال عدمها، فإن كانت أحدثت نفسها في حال وجودها فمحال إيجاد الموجود، وإن كانت أحدثت نفسها وهي معدومة فمحال أن يوجد المعدوم شيئا، فدل أنها محدثة، وكالبناء لا يكون إلا من بان، والكتاب لا يكون إلا من كاتب، فكذلك كل صنعة لا تكون إلا من صانع، فدل ذلك أن الأشياء محدثة مخلوقة مصنوعة، وقد قال الله تعالى: {خلق الله السماوات والأرض بالحق}.
مسألة: [الخالق لا يشبه المخلوق]
وأما ما ذكرت من الدليل على أن الخالق لا يشبه المخلوق؟
صفحة ٧
قيل له: فذلك من قبل أنه لو أشبهها لكان حكمه حكمها في الحدث، ولو أشبهها لم يخل أن يشبهها من كل الجهات أو من بعضها، فلو أشبهها من كل الجهات كان محدثا مثلها، ولو أشبهها من بعض الجهات كان محدثا من حيث أشبهها، فلما استحال أن يكون المحدث قديما دل ذلك على أن الخالق لا يشبه بالمخلوق المحدث من جهة من الجهات، وقد قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء}، {ولم يكن له كفوا أحد}.
مسألة: [في قول الثنوية]
وأما ما ذكرت من قول الثنوية:
فإن قال قائل: ما تنكر أن يكون العالم من أصلين قديمين: أحدهما نور، والآخر ظلمة؟
قيل له: أنكرنا ذلك من قبل أن لا يخلو الأمر أن يكونا متباينين أو متمازجين، فأيهما كان فقد صح بما يثبت لهما الحدث، والحد، والنهاية.
وقد دللنا أن الأجسام محدثة، فمتى صح أنهما جسمان فقد ثبت أنهما محدثان، والمحدث مصنوع وله صانع.
ووجه آخر: لا يجوز أن يكونا متباينين ثم يصح امتزاجهما أبدا؛ لأنهما عندهم، أحدهما نور والآخر ظلمة، وهما ضدان لا يزدادان إلا تباعدا، ولو كانا متباينين -على ما قالوا- ثم امتزجا لم يخل أن يكون التباين هما أو غيرهما، وكذلك الامتزاج، وقد ثبت أصل ثالث وفسد قولهم.
فإن قال: التباين والامتزاج /6/ غيرهما وثبت أصلا ثالثا.
قيل له: فقد تغير التباين والامتزاج، وإذا تغير فهو محدث، وهما محدثان، فقد ثبت أنهما محدثان، والقديم لا يتغير كالمحدثات، وقد أكذبهم الله بقوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}، فدل أنه خالق الظلمة والنور، وقد بطل ما قالوا وكذبهم الله، وبين في كتابه أن دعواهم باطل ممن قال بذلك من الثنوية وعباد النيران.
صفحة ٨
مسألة: [إنكار أن العالم من صانعين قديمين]
وأما ما ذكرت من قولهم: إن قال قائل: ما تنكر أن يكون العالم من صانعين قديمين؟
قيل له: أنكرنا عليه أشد الإنكار؛ لأنه لو كانا اثنين لكان لا يخلو أن يقع بينهما تمانع، وذلك أنه لو أراد أحدهما أن يجعل جسما في مكان ويريد الآخر أن يجعل في ذلك جسما غير ذلك، أو يريد أحدهما تسكين جسم ويريد الآخر تحريكه، أو يريد أحدهما بقاء جسم ويريد الآخر فناءه، فلا يجوز أن يكون ما أراداه جميعا، فيكونا جسمين في مكان، أو يكون جسما متحركا ساكنا في حال ووقت واحد، فلما لم يصح ذلك ثبت وصح أن الله إله واحد، ليس كمثله شيء، وقد قال الله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون}، وقال: {لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون}. وقال: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا}، فدل هذا من القرآن وغيره ما يبطل حجة الثنوية وغيرهم من الملل، وممن يزعم أن مع الله إلها آخر غيره، وثبت بذلك وحدانيته.
ولو كانا اثنين لم يخل أن يقدر كل واحد منهما على الآخر أو لا يقدر، فإن كانا لا يقدران فهما ضعيفان، والضعيف ليس بإله، وإن كان يقدر أحدهما على الآخر فالمقدور عليه ضعيف عاجز، والضعيف لا يكون إلها، وإن كان لا يقدر أحدهما على الآخر فهما عاجزان، والعاجز لا يكون إلها، فبطل ما اعتلوا به.
صفحة ٩
ولو كانا اثنين لكان لا يخلو أن يريد أحدهما أن يستسر سرا دون صاحبه فيقدر أو لا يقدر، فإن كان يقدر على ذلك، فالمستسر دونه جاهل، /7/ والجاهل ليس بإله، وإن كان لا يقدر فهو عاجز، والعاجز لا يكون إلها، فدل بذلك أن خالق الأشياء واحد، وهو الله الذي ليس كمثله شيء؛ لأن تدبير الاثنين لا يقع على نظام واحد، كما قال الله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون}.
مسألة: [دليل إعادة الخلق]
- وسأل فقال: ما الدليل على إعادة الخلق؟
قيل له: إن الله تعالى خلقه أولا على غير مثال سبق، فإذا خلقه أولا على غير مثال سبق لم يعيه أن يعيده خلقا آخر، وقد قال الله تعالى: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}، وقال: {وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم}، وقال: {أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون}، و{... لمبعوثون}، [وقال: {فسيقولون من يعيدنا] قل الذي فطركم أول مرة}.
فدل في القرآن في غير موضع أنه يعيدهم، وقال: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون}، وقال: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}.
صفحة ١٠
وقال: قالوا: {أئذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة * فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة}، فدل بما تلونا من كتاب ربنا، وحجة النظر في ابتداء الخلق دليل على إعادته، كما قال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}.
مسألة: [في معرفة الله تعالى]
- وسأل فقال: إذا كان على العبد المعرفة بالله، على ما وقع عليه الدليل في الدلائل من آية واحدة، فما المعرفة به؟ وما يجب على العبد من معرفة توحيده؟
قيل له: يجب على العبد من الاعتقاد والعلم بأن الله -تبارك وتعالى- واحد، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} كما قال.
وإنه العالم الذي لا يجهل، والقادر الذي لا يعجز، وأنه الواحد القهار، وأنه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المؤمن، المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون، الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى، الحي القيوم، واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، كما وصف نفسه /8/ في كتابه، ووصفه أنبياؤه، ودلت عليه آثار صنعته مما ذكرته أو لم أذكره.
صفحة ١١
فهذه الأسماء وما كان مثلها من أسماء الذات، أو كان من أسماء الصفات، الإيمان بتفسيرها إيمان بجملتها، ||والإيمان بجملتها|| إيمان بتفسيرها، والله بأسمائه يعرف، وتعرف أسماؤه بما وصف في كتابه، ويستدل عليه بآياته وآثار صنعته، وذلك قوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد * ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط}، فهو على كل شيء شهيد، وهو بكل شيء محيط، فلا يخفى عليه شيء.
مسألة: [معنى قوله تعالى: {ليس كمثله شيء}]
- وسأل فقال: ما معنى قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} ولم يرجعوا إلى واحد من طريق العدد، ولا هو محسوس، ولا متوهم بمثال معروف؟
قيل له: قلنا ذلك كما وصف نفسه أنه واحد، ليس كمثله شيء، اعتقدنا ذلك بقلوبنا، وأنه لا مثل له، ولا نظير، ولا نهاية، وأنه ليس كمثله شيء مما خلق، ونفينا بذلك قول الثنوية "من قال بالاثنين"، وقول النصارى وغيرهم.
وأنه الواحد الكبير المتعال، ليس كمثله شيء، كما قال: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله}، فالله أكبر الأشياء، وهو الكبير المتعال، وليس كمثله شيء، وهو الواحد القهار.
مسألة: [معنى الحي القيوم]
- وسأل فقال: ما معنى الحي القيوم؟
قال: الحي: هو الحي الذي لا يموت، والقيوم: الدائم الذي لا يزول، فالله هو الحي الذي لم يزل كما وصف نفسه، والقيوم الذي لا يزول، ولو لم يكن حيا لوصف بضد الحياة.
فإن قال: أفتقولون: إن الله عالم؟
قلنا له: نعم، كذلك نقول: إنه عالم وعليم، كما قال في كتابه، لا نجاوز ذلك ولا نعدوه. ولما كانت أفعال الله -تبارك وتعالى- متسقة منتظمة غير متفاوتة ولا مختلفة علم أنه عالم.
صفحة ١٢
- فإن سأل فقال: أفتقولون: إن الله قادر؟
قيل له: نعم، كذلك نقول كما وصف نفسه أنه القادر، وأنه القدير، كل ذلك سواء، وكل ذلك معنا.
وكما كانت أفعال الله توجد وتصح منه علمنا أنه قادر عليها، ولو لم نصفه بالقدرة لكنا قد وصفناه بضد القدرة، فلما نفينا عنه الأضداد كلها وكان قادرا بالاتفاق وصفناه بها كما وصف نفسه بها مع اتفاق الأمة /9/ على ذلك.
مسألة: [في الدليل على صفات الله]
فإن قال: أفتقولون: إن الله تعالى - عز وجل - لم يزل حيا، عالما قادرا، سميعا بصيرا؟ قيل له: كذلك نقول.
فإن قال: فما الدليل؟
قيل له: إن الحي إذا لم يكن عالما كان موصوفا بضد العلم ، ولو كان - عز وجل - لم يزل حيا غير عالم لكان موصوفا بضد العلم ولاستحال أن يعلم، فلما دل الدليل أن الأفعال توجد منه وتصح وتقع منتظمة ومتسقة صح أنه لم يزل عالما بها، مع أن اللغة متفقة والأمة مجمعة على أن الله تعالى لم يزل عالما لما يكون قبل كونه. وكذلك قال: {يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون}، وقال: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}، وقال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين}. فقد أخبر بما يقولون قبل أن يقولوا ذلك، وأخبر تعالى أنهم {لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}.
مسألة: [في معاني صفات الله]
فإن قال، وسأل وقال: أتقولون: إن الله سميع بصير؟
قيل له: نعم، كذلك نقول: إن الله سميع بصير وسامع، وقد قال: {إنه هو السميع البصير}.
صفحة ١٣
فنصفه بما وصف به نفسه، وذلك من صفاته التي يستحيل أن يوصف بضدها؛ لأنه لو لم يوصف بأنه سميع بصير لوصف بأنه غير سميع وبصير، فلما ثبت وصح أنه هو السميع البصير لم تجز الصفة له بغير ذلك من الأضداد، ولم يزل الله تعالى سميعا بنفسه، بصيرا بنفسه، عالما بنفسه، قادرا بنفسه، لا بآلة ولا بجارحة هي غيره، ولكن هو الحي العالم السميع البصير، القادر الواحد القهار، العزيز الجبار، الغني عن كل ما خلق، وكذلك وصف نفسه.
فإن قال: فما معنى العزيز؟
قيل: معناه: نفي الذلة عنه. ومعنى الغني: هو الغني عن الأشياء، فلا يجوز عليه منها نفع ولا ضر، فهو الغني عنها. وقد وصف نفسه أنه العزيز الحكيم الغني الكريم، وكذلك يوصف كما وصف نفسه. والعزيز: هو الغالب القاهر، وكذلك قال: {وهو الواحد القهار} .
فإن قال: أفتقولون: إن الله رب؟
قيل له: نعم، ومعنى الرب هو المالك، ولا مالك إلا رب، ولا رب إلا مالك، وكذلك نطقت اللغة والإجماع على أن المالك للشيء هو ربه، والمالك هو القادر. /10/
فإن قال: أفتقولون لم يزل الله ربا؟
قيل له: نعم، لم يزل قادرا، ومالكا لما يقدر عليه. وأما العبد فمالك؛ لأنه انتفع باستخدام غيره، فسمي في اللغة ربه ومولاه على المجاز، ومن ملك شيئا فهو رب له، وأما الله فهو رب على الحقيقة كما قال: {[وهو] رب كل شيء}، و{ربكم ورب آبائكم الأولين}.
فإن قال: ما معنى قولكم الله، والإله، وإله؟
قيل له: معنى ذلك أن الإله هو المستحق للعبادة، والله هو الإله.
وقد قيل: هو اسم خاص مشتق له يسمى به، وقد سمى نفسه أنه إله، وأنه الله، وأنه الإله، وأنه {لا إله إلا هو العزيز الحكيم}، كما وصف نفسه، لا نعدو ذلك.
فإن قال: أفتقولون: إن الله عظيم؟
قيل له: نعم، كذلك هو سمى نفسه.
صفحة ١٤
فإن قال: وما معنى قولكم: عظيم؟
قيل له: معنى ذلك: عظيم الشأن والمنزلة.
فإن قال: وما معنى قولكم: حكيم؟
قال: هو من طريق العلم بمعنى عليم، وقد يكون في الفعل متقنا.
فإن قال: أفتقولون: لم يزل حكيما؟
قيل له: نعم، لم يزل حكيما عليما؛ لأن الحكيم عالم، والعالم حكيم، فهو الحكيم من طريق أنه العليم.
فإن قال: أفتسمونه جوادا؟
قيل له: نعم، كذلك قال: «إنه جواد كريم»، وقد يكون الجود والكرم في البذل، وقد يكون في النفس، فنسميه كما وصف نفسه أنه الجواد الكريم، ولو لم نصفه بذلك لكنا قد وصفناه ||تعالى|| بضد ذلك، فلما نفينا عن الله تعالى الأضداد وصفناه بأنه الجواد الكريم في الأزل.
مسألة: [وصف الله بالعدل]
- وسأل فقال: أتقولون: إن الله عادل؟
قيل له: نعم، ولو لم نصفه بالعدل لكان موصوفا بضده، فلما نفينا عنه أن يكون جائرا وصفناه عادلا.
فإن قال: فما معنى العدل؟
قيل له: هو فعل ما له أن يفعله في الحكمة، وإعطاء المستحق ما يجب له، والجور: ضد العدل، وهو منع المستحق ما يجب له، فلما نفينا عن الله الأضداد وصفناه عادلا.
فإن قال: أفتقولون: إن الله حق؟
قيل له: نعم، كذلك قال: {[ب]أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير}. فهو الحق على ما وصف نفسه في كتابه، ولو لم نصفه بأنه الحق لوصفناه بضده، والأضداد عن الله منفية.
وكذلك هو صادق الوعد، والقول كما قال: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}، وقال: {ومن أصدق من الله قيلا}. /11/
فالله أصدق القائلين، فنصفه كما وصف نفسه، لا نجاوز ذلك ولا نعدوه إلى غيره، وننفي بذلك عنه الأضداد، تعالى ربنا وجل.
ومعنى الصادق: أن يكون مخبره على ما أخبره، وضده أن يكون مخبره على خلاف ما أخبره.
صفحة ١٥
مسألة: [في معنى صفات الله] - وسأل فقال: أتقولون: إن الله هو الملك الجبار؟
قيل له: نعم.
فإن قال: فما معنى ذلك؟
قيل له: المعنى أن الملك: هو الذي له الملك، والجبار: هو الذي لا يقاوم في الحقيقة، وقد قال تعالى: {الملك... الجبار} فهو كما قال، وقال: {بيده الملك}، و{بيده ملكوت كل شيء}، وقال: {مالك الملك}، فهو مالك الملك، وبيده الملك، وبيده ملكوت كل شيء، كما وصف نفسه نصفه، وكذلك هو في الحقيقة.
فإن قال: ما معنى: القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن؟
قيل له: القدوس: هو الطاهر عن الأشياء، فليس له مثل ولا شبيه ولا نظير، نزه نفسه عن الأشباه، فليس كمثله شيء.
ومعنى السلام: أن ذكره سلامة على من ذكره.
والمؤمن: أنه يؤمن منه الجور.
والمهيمن: الشاهد تعالى.
وقد قال: إنه {السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون}، فوصف نفسه بهذه الصفات، ثم نزه نفسه عما يشركون به؛ لأن التسبيح تنزيه وتنزه، ونزه عن الأشباه، فنحن نصفه كما وصف به نفسه، وذلك لا خلاف بين أحد فيه.
فإن قال: أفتصفونه بأنه خالق بارئ مصور؟
قيل له: نعم هو كذلك، قد وصف نفسه في كتابه، فقال: {الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}.
فنحن نصفه كما وصف نفسه بذلك؛ لأنه خالق الخلق، وبارئ النسم، ومصور الصور، يذرؤكم فيه، ويخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، ليس كمثله شيء مما خلق، وهو السميع البصير، نزه نفسه عن أشباه الخلق كما قال: {يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}.
فإن قال: أفتقولون: لم يزل خالقا بارئا مصورا؟
صفحة ١٦
قيل له: لا نطلق بذلك؛ لأنه يوجب بذلك اللفظ قدم الخلق، والخلق محدث، والله خالقهم ومحدثهم، وهو الله /12/ الخالق البارئ المصور لم يزل، ثم أحدث الخلق، فهو لم يزل قبل خلقهم ثم خلقهم، فهو الله له الأسماء الحسنى، فهو الحي الخالق العالم القادر الذي لم يزل -تعالى ربنا-.
مسألة: [في وصف الله تعالى]
- وسأل فقال: أفتصفونه بأنه الرازق، والمحيي والمميت، الباعث الناشر، المثيب المعاقب؟
قيل له: نعم، كذلك نقول، وكذلك وصف نفسه في كتابه فقال تعالى {الخالق}، {الرازق}، وقال: {يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم}، فهو كما وصف نفسه.
فإن قال: أفتقولون: إنه لم يزل خالقا، رازقا، محييا مميتا، مثيبا معاقبا؟
قيل له: لا نطلق ذلك؛ لأن ذلك يوجب قدم الخلق، والرزق، والموت والحياة والمجازاة، والله تعالى لم يزل، ثم أحدث هذه الأشياء التي قد وصف في كتابه أنه خلقها، وخلق خلقه، وأجرى عليهم الرزق، والحياة، والموت، والبعث، والثواب، والعقاب، والمجازاة.
فالله هو المحدث لذلك في خلقه، وهو لم يزل، وهو الخالق الرازق، والمحيي والمميت الباعث، المثيب المعاقب، لا رازق ولا باعث ولا معاقب غير الله تعالى، وكل ما وصف بأنه خلقه وفعله وأحدثه فجائز أن يوصف بذلك أنه أحدثه، ولا يقال: إنه لم يزل يحدث ويخلق ||ويرزق|| ويغفر، وجائز أن يوصف أنه هو الغافر والخالق، والمنشئ النشأة الآخرة، فلم يزل ثم أحدث الأشياء -تعالى ربنا وجل-.
مسألة: [الله متفضل على خلقه]
- وسأل فقال: أتقولون: إن الله متفضل على خلقه؟
قيل له: نعم، كذلك نقول، وقد قال: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}، وقال: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته}.
فإن قال: ما معنى التفضل؟
صفحة ١٧
قيل له: هو من أعطى بغير استحقاق، فهو متفضل، وإذا كان له أن يفعل وله ألا يفعل ثم فعل فهو متفضل، وهو على ما وعده أن يفعله وأوجبه لخلقه تفضل منه.
فإن قال: فمن أين قلت: إنه تفضل وقد استحقه العامل بعمله، ولو كان تفضلا لكان من دفع إلى أجير أجرته متفضلا؟!!
قيل له: الفرق بينهما من قبل أن الأجير قد نفع المستأجر بعمله كما نفعه المستأجر بأجرته، و[أما] العبد فلم يعمل لله شيئا ينفعه به، وإنما نفع نفسه بما عمل، فكان ما أعطاه من القوة على العمل تفضلا، وهدايته إلى ذلك تفضلا، وما أعطاه على عمله تفضلا منه عليه. إذا كان الله تعالى غنيا عن جميع خلقه وعملهم لا يجوز عليه منهم نفع ولا ضر، تبارك وتعالى، وهو الحكيم العليم. /13/
مسألة: [اختلاف الناس في صفات الله تعالى]
- وسأل فقال: أخبرنا عما اختلف الناس فيه من صفات الله، فزعم قوم أنها محدثة مخلوقة، ما الجواب عليه؟
قال: يقال لمن زعم أنها محدثة مخلوقة أخبرونا عن الصفة ما هي؟
فإن قالوا: هي الكلام الذي يتكلم به الناس من قولهم: الله والسميع والبصير وجميع الأسماء التي يصفونه بها؛ قيل لهم: إن كلام الناس وصفاتهم لم يختلف فيه أحد أنه محدث مخلوق، وصفة الواصف هي كلام الواصف، ومن وصف شيئا فكلامه فعله، فإن كان معنى الصفة هي الكلام فإن كلام العبد فعل العبد، والعباد يذكرون الله في جميع أحوالهم.
وفي قياد هذا القول لا يجوز لأحد أن يقول: لم يزل الله، ولا عالم ولا سميع ولا بصير؛ لأن الصفات في قولك: فعل العباد، وفعلهم محدث، والفاعل أقدم من فعله، فعلى قولك: قد كان الخلق ولا صفة لله، إذ كانت صفته هي أفاعيلهم في قولك، وهذا ما لا يجوز في العقل.
صفحة ١٨
ويقال له: ما دليلك على ما ادعيت أن له اسما غيره مما يسمع من قول القائل: "الله، الرحمن، الرحيم، العليم"، فإنه لا يجد دليلا حتى يرجع فيقول: "لم يزل الله، وهو السميع، العليم، الرحمن، الرحيم، وجميع صفاته".
فإذا قال ذلك، قيل له: ففي قولك خطأ أن صفاته غيره، أنه لم يزل ومعه غيره؛ لأنك زعمت أن الله لم يزل وهو السميع العليم الرحمن الرحيم، وجميع صفاته، وزعمت أنها غيره، فجعلت معه غيره.
وقد أجمع أهل الصلاة أن الله واحد لم يزل، وما سواه محدث مخلوق، فافهموا ما وصفنا، وبالله التوفيق.
واعلموا أن القوم مع ما قالوا من أسمائه أنها محدثة وقد فرقوا بين أسمائه فزعموا أن بعضها لم تزل وهي له، وبعضها محدثة، وذلك أنهم لم يجدوا بدا من أن يقولوا: إن الله لم يزل وهو الله السميع العليم البصير، القادر الأول الحافظ الشاهد، فلما لم يجدوا بدا من ذلك، قالوا: إن هذه أسماء ذاتية.
يقال لهم: ما تعنون بقولكم: أسماء ذاتية؟
فإن قالوا: يعنون أنه لم يزل، وهو الله السميع العليم، القادر القاهر الأول، الآخر الشاهد الحافظ؟!
فإن قالوا: نعم. قيل لهم: الحق قلتم، وقد أصبتم. وإن كنتم تعنون: أن الله هو السميع البصير القادر القاهر الأول، الآخر الحافظ الشاهد، هي الأسماء المعني بها الله، فإنها أسماء لم تزل معه، فقد أثبتم أن معه غيره لم يزل، وقد افتريتم إثما عظيما، وقلتم بما به خرجتم من موافقة أهل الصلاة.
فإن قالوا: إنما أثبتنا له اسم العلم نفينا عنه بذلك الجهل، /14/وقلنا له: إنه السميع نفينا عنه الصمم، وبصير نفينا عنه العمى، وقادر نفينا عنه العجز، وحافظ نفينا عنه النسيان.
صفحة ١٩
يقال لهم: حدثونا عن قولكم: نفينا عنه الجهل فهل ينفي الجهل إلا العلم؟! وقولكم: نفينا عنه الصمم فهل ينفي الصمم إلا السمع؟! وقولكم: نفينا عنه العمى فهل ينفي العمى إلا البصر؟! وقولكم: نفينا عنه الاستكراه فهل ينفي الاستكراه إلا القدرة؟! وقولكم: نفينا عنه الغفلة فهل ينفي الغفلة إلا التذكرة؟
وفي قياد قولكم هذا إثبات للأضداد، ونحن نسألكم عن هذه الأضداد التي أثبتموها أهي الله نفسه أم هي غيره؟
فإن قالوا: هي الله نفسه؛ فقد دخلوا في أشنع ما أنكروا على من خالفهم، إذ وصفوا الله بأنه علم، وأنه سمع، وأنه بصر، وأنه قدرة، وأنه حفظ، وأنه تذكرة، والله لم يصف نفسه بشيء مما وصفتموه، إنما قال: هو السميع العليم البصير ، وجميع ما وصف به نفسه. فمن وصفه بغير ما وصف به نفسه فقد افترى إثما عظيما.
وإن قلتم: هذه الأضداد غيره، فقد أثبتم معه غيره وجعلتموه ذا أجزاء كالخلق، تعالى الله علوا كبيرا.
واعلموا أن قولكم: نفينا عنه الجهل، لا يكون الجهل ضد عالم، إنما يكون الجهل ضد العلم، والجاهل ضد العالم، والصمم ضد السمع، ولا يكون ضد السميع، والعمى ضد البصر، ولا يكون ضد البصير؛ فتفهموا الأضداد ومجاريها، وما نفى بعضها عن بعض تعلموا أن القوم ليس على طريق مستقيم.
فإن قالوا: إن العليم لم يزل وهذا من أسماء ذاته، والغفور من أسماء فعله، والخالق والرازق هذه من أسماء فعله، وأن هذه الأسماء عندهم إنما أضيفت إليه بفعله، فمن الحجة عليهم أن يقال لهم: أليس الغفور هو العليم؟
فإن قالوا: نعم، تركوا قولهم.
صفحة ٢٠