8
والخلاف فيها بين رجلين: الأول يؤمن بالوحي ويثبت الأنبياء، والآخر يجحد بالوحي وينكر الأنبياء. الأول يدرك وحدة الأديان، والثاني يقول إن الكون ليس فيه جديد ويأتي العلماء فيصوغونه. توحيد الله عند قدماء المصريين قبل موسى، والتثليث من الوثنيين، قال به فيثاغورث قبل المسيح. وموسى وعيسى ومحمد اعتمدوا على أقوال الحكماء القدماء وضموها إلى كتبهم. فهي كتب بشرية وليست إلهية. ولو كان بهذه الكتب بعض النفع فضررها أعظم. وقد سببت الشحناء والبغضاء. ولو كان الدين حقيقة لما وقع الاختلاف فيه. ويرد الأفغاني على الجاحد بأن الاتفاق بين الأديان حقيقة، والاختلاف من صنع رؤساء تلك الأديان الذين يتاجرون بالدين ويشرون بآياته ثمنا قليلا. وما أنفع رجال الدين إذا صلحوا وما أضرهم إذا فسدوا، الأديان الثلاثة واحدة، يكمل بعضها بعضا، إلا أن كل طائفة اعتبرت نفسها حانوتا أو متجرا. فظهر الاختلافات الدينية والطائفية والمذهبية كما قال الشاعر:
قد يفتح المرء حانوتا لمتجره
وقد فتحت لك الحانوت في الدين
صيرت دينك شاهينا تصيد به
وليس يفلح أصحاب الشواهين
فإذا قاوم رجل الاختلاف قطع رزقهم، واتهموه بالكفر والزندقة والإلحاد والجحود والمروق على الدين. فأكبر خطأ مس كرامة الدين لمجرد عمل يأتيه فرد من رجال هذا الدين. والإيمان واليقين ليس معناهما عبادة رؤساء الدين. لقد تحولت الأديان إلى متاجر وحوانيت. وينقد الأفغاني بالمناسبة الشيخ الميرغني الذي صاحب فرقة إنجليزية ضد ثورة القبائل السودانية، والشرع يحذر منه. وقد حكم العلماء بمروقه، وهو مثل نقد الكندي لرجال الدين الذين يدافعون عن مناصبهم المزورة باسم الدين وهم عدماء الدين؛ لأن من جهل الحق عاداه في أول رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى.
وتنشأ الشبهات حول الأديان بمقارنة المثال بالواقع، ما ينبغي أن يكون بما هو كائن. فقد سأل أحد نواب الهند: إذا كان الإسلام هو الدين الحق، فلماذا تقهقر المسلمون؟ ويرد الأفغاني على ذلك بحجة جدلية بأن الدين الحق هو الظاهر وليس الإسلام. وإذا كان المسلمون غير ذلك فهذا لا ينفي الإسلام؛ لأن حجة الواقع لا تطعن في الفكر. والدين الحق هو الدين الواحد وليس مراحله المتتالية، اليهودية والنصرانية والإسلام، الدين الحق هو الدين الخالص. كما يستعمل الأفغاني حجة خيالية، إذا وضعت الكرة الأرضية بين يديه وتم قياسها ببعض الأجرام كانت صغيرة، والإنسان أصغر. وإذا عاش الإنسان في كوكب آخر فإنه قد يمتلك حجم الكرة الأرضية، ولما نشأ الاختلاف. وتقوم الحجة على عظم الكون والأرض، والإنسان لا يشغل إلا مساحة ضئيلة فيه، ومع ذلك يختلف الناس عليها. فما بالهم لو تكاثروا وعاشوا في الكون الأرحب والأوسع؟ وما المانع أن يعيش أهل كل قرية في أمن وسلام؟
9
ويستشهد الأفغاني بالتوراة والإنجيل والقرآن ما دام الدين واحدا. وهو أقرب إلى موقف الصوفية والفلاسفة وإخوان الصفا منه إلى المتكلمين والفقهاء إلا أنه يسميها الديانات الموسوية والعيسوية والمحمدية، وهو خطأ؛ لأن أسماء الديانات لا تشتق من أسماء مؤسسيها، مثل البوذية والمسيحية والزرادشتية والمانوية، بل من جوهرها. فالإسلام من أسلم، والنصراني من نصر.
صفحة غير معروفة