28
ويقرن الأفغاني العدل بالقوة. فخير ما يحتاجه الشرق من الملوك القوي العادل. ولا خير في العادل الضعيف كما أنه لا خير في القوي الظالم. وهو الموقف الفقهي القديم في الجمع بين العدل والقوة. والجبن أقبح عيوب الملوك؛ لأن عيب الكبير كبير، ويحتاج الملك الجبان للصعلوك الشجاع؛ فالشجاعة قوة، والجبن ضعف، وعظمة الملك لا تكون بالتيجان بل بالقوة والعدل. ولكن أكثر أمراء الشرق إذا ألقي أحدهم في أضيق جب من الاستعباد وحفظت له ألقابه الضخمة مجردة حسبها عرضها السموات والأرض، لأنه أصبح ألعوبة في أيدي الأجنبي. ومع ذلك لا يكون الملك القائم على العدل والقوة مظهر رهبة من الناس. فمن رهب الملوك بغير جريرة فهو الصعلوك. ومهابة تصدر عن كرسي الحاكم لا عن عدله وفضائله أقرب للسخرية منها إلى الاحترام.
29
والحكم العادل القوي هو الحكم الديمقراطي. والتحول من التسلط إلى الديمقراطية سنة تاريخية وسنة إلهية، لا فرق بين قوانين التاريخ والآيات القرآنية. الحكم للعقل والعلم. وإذا ما تحول إلى جهل يظهر الحكم المتسلط. والتفرد بالسلطة وسوق الأمم على هوى الفرد يزيل العالم ويحوله إلى خراب. والأمة التي لا تستشار في مصالحها وليس لها حل ولا عقد في إرادتها تكون خاضعة لحاكم واحد، وإرادته قانون، ومشيئته نظام. لا ينضبط لها سير، ولا تثبت للرجال، وتتأرجح بين السعادة والشقاء، بين العلم والجهل، بين الغنى والفقر، وبين العز والذل. فإن كان الحاكم حازم الرأي، رفيع الهمة، قويم الطبع، عدل السياسة صلحت الأمة. وإن كان سيئ الطبع، سافل الهمة، خسيس النفس، فسدت الأمة. فساد الأمة بفساد حاكمها إذا كان الحكم فرديا. لذلك وجبت استشارة أهل الرأي. هنا يقترب الأفغاني من نظريته الشهيرة في المستبد العادل، الذي يجمع بين العدل والقوة وإن ضحى بالشكل الديمقراطي. فقد لا يحكم قوم من غير قاهر من أهله وكأن الاستبداد طبيعي في الحكام. وقد يعبر الأفغاني هنا عن عصر محمد علي وبسمارك وقيصر روسيا وعصر الميكادو في اليابان وربما عن نظرية الاستبداد الشرقي عند مونتسكيو. ولكنه يسخر في النهاية من الجبروتية والفرعونية التي تساق بسياسة بقروتية؛ فالفرعون الجبار لا يسوق شعبه إلا بسياسة الأبقار. ويستشهد الأفغاني بتاريخ الغرب وصراعه من أجل الديمقراطية؛ فبالرغم من تجزئة الغرب واستقلال عناصره بميزات قومية إلا أن الغربيين تساووا نسبيا بينهم بالفضائل وأهمها العلم بالواجبات والحقوق، ما لهم وما عليهم، فانتفى منهم التفرد بالسلطة وسوق الأمة على هوى السلطان، وسينتهي الحكم المطلق في التاريخ تدريجيا طبقا لمقتضيات الفطرة كما حدث في الغرب. إذ تحكمه الشورى، وصارت كل أمة في مأمن من أن تغزوها الدول المجاورة، ومتى ساد العلم في أمة فإن أول ما تناهضه هو هذا الشكل الفردي في الحكم وتعمل على التخلص منه. هذه سنة الله في الكون
ولن تجد لسنة الله تبديلا . هنا تصدق الآية القرآنية قانون التاريخ، ويكون القانون تحقيقا لمناطها كما يقول الأصوليون. لذلك اشتمل القرآن على تدبير المالك وأصول الحكم الشورية ووظائف الملوك، والإشارات إلى مقدمات العلوم والفنون الحديثة.
30
وعلى هذا النحو يحتاج الملك إلى أمة أكثر مما تحتاج الأمة إلى ملك. فقد رأينا شعبا يعيش بدون ملك، ولكن ما رأينا ملكا يعيش بدون شعب. ومع ذلك فسؤدد الأمة معقود بقادتها طالما وجد الاثنان؛ الشعب والملك. لذلك تحتجب الحقائق عن الملوك بقدر تحجبهم من الأمة. الملك هو العالم بأحوال شعبه وليس الذي يسكن في قصره بمعزل عن الناس، والصراحة هي أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم منعا لازدواجية الخطاب والسلوك بينهما. يقول الحاكم ما لا يفعل، ويؤيد المحكوم وهو لا يرضى. والأمة التي تطعن حاكمها سرا وتعبده جهرا فإنها لا تستحق الحياة. والأمة بأفرادها. والشمم بالتجرد عن النفع الذاتي وطلبه في النفع العام. فالفرد للجماعة والجماعة للفرد. وما مات أحد في حب أمة إلا وأحبته. ومن أحب الحياة فإنه يموت في سبيل حياة أمته. ومن طلب الموت في سبيل حياة الوطن إما أن يموت بطلا شهيدا وإما أن يعيش سيدا عزيزا. ولا أمة بدون أخلاق، ولا أخلاق بدون عقيدة، ولا عقيدة بغير فهم. وخير موازين الأمم أخلاقها.
31
الفصل الخامس
الأنا والآخر
صفحة غير معروفة