أما علمه فإنه خال من اللغو أو اللهو، غزير المعارف، دقيق المعاني، قادر على حل المعضلات بنظرة شاملة ليوضحها، إدخالا للجزء في الكل. وهو متخصص في كل شيء، واسع الأفق، خصب الخيال، قوي الحجة، شديد الجدال. ما خاصم أحدا إلا انتصر عليه. وهو قوي الذهن، نافذ البصيرة، حي الذاكرة، وهو واسع الاطلاع في العلوم العقلية والنقلية والفلسفية القديمة والتمدن الإسلامي، عليم بأحوال المسلمين وظروف عصرهم. يعرف اللغات الأفغانية والفارسية والعربية والتركية والفرنسية التي تعلمها في ثلاثة أشهر مع إلمام باللغتين الإنجليزية والروسية.
وقد رد الأفغاني على منتقديه بأن حكمته في لسانه أكثر مما هي في قلبه بأن كل مسلم مريض ودواؤه القرآن، وعلى طالب الحكمة تدبر معانيه. وهي حجة تقليدية سلفية. وكان محمد حكيما، حكمته من قلبه. فكيف يرفضها مرضى القلب وساقطو الهمم وأهل الذل؟ وهي حجة خطابية اتهامية كما يفعل الخطيب يوم الجمعة. فهل المسلمون اليوم عاملون بما جاء به الرسول أو مقتدون به كما اقتدى الصحابة؟ وهي حجة خطابية أخرى تقوم على الاقتداء بالرسول والاهتداء بالسلف الصالح كما يفعل الوعاظ. بئس الخلف نحن ونعم السلف السلف، يخشى من إدراك ذله خوفا من نزعه فيرجع إلى القول البارد والرأي السفيه.
17
لذلك كان جهوريا، يسرع بذهنه، يجهر بالرأي حتى ولو كان فيه خطر وضرر. يحسن الجدل والحجاج. كان من أكبر علماء الكلام. فعرف أنواع السفسطة لدرجة الإقناع في حالتي السلب والإيجاب وتأثيره في مخاطبه وحمل الخامل على العظائم والجبان على الجسارة. وساعده على ذلك حكمته وسرعة الخاطر وتوقد الذكاء، وسعة الاختبار لأخلاق البشر، وكثرة مخالطة الأمم، وحصوله على ملكة الخطابة وإحاطته بأخلاق العرب والترك والفرس والأوروبيين. يغالي في المدح ولا يسترسل في الذم. ويستعمل الصور الجدلية للمدح والذم مثل الهر والكلب.
اختلف الناس في أمره وتباعد صوره في الأذهان مع أنه شخص واحد يتميز بصفاء الجوهر وذكاء المخبر. وصفه أديب إسحاق بأنه قد تمر بالناس الأيام حتى يظهر عالم يعبر عن حاجات الناس أو يكشف أسرار الطبيعة في كل عصر. مثال ذلك جمال الدين، فيلسوفا، سياسيا مثل سقراط. لم يؤلف إلا رسالة، ولكنه باق بمريديه، يجلس في الأماكن العامة ويحولها إلى مراكز علم وحلقات درس حتى حسده فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس. (3) قراءة الأعمال
تتنوع أعمال الأفغاني بين الرسائل، والخاطرات، والمقالات. الرسائل هي الأعمال التي كتبها الأفغاني بنفسه. وهو لم يكتب إلا رسالة واحدة شهيرة هي
الرد على الدهريين
أثناء مقامه بالهند للمرة الثانية. كتبها بالفارسية ثم ترجمها محمد عبده إلى العربية بمساعدة أبي تراب، تابع الأفغاني وصديقه. كانت حياة الأفغاني وتنقلاته من بلد إلى آخر لا تسمح له بالاستقرار والكتابة المنظمة. كما أن طبعه الشفاهي يجعله أشبه بحكماء الشرق وأنبيائه، بوذا، المسيح، سقراط. كتبها عام 1880م وعمره واحد وأربعون عاما. والغاية منها إبطال مذهب الدهريين وإثبات أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران.
18
والخاطرات هو الاسم الذي فضله الأفغاني لمجموعة أقواله المتناثرة التي جمعها المخزومي منه في سنواته الأربع الأخيرة في الآستانة بين 1892-1897 وهو ملازم له. فهي حديث موجه إلى شيخ بني مخزوم. كان المخزومي قد سماها
صفحة غير معروفة