[chapter 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصناعة الصغيرة
قال جالينوس:
إن قصد الطب التماس الصحة، وغاية إحرازها.
فالطبيب مضطر إلی أن يعلم الأشياء التي تعيد الصحة إذا فقدت، والأشياء التي تحفظها إذا كانت موجودة.
صفحة ١١
فأما الأشياء التي تعيد الصحة إذا فقدت فهي الأشياء التي ينتفع بها في اجتلاب الصحة، والتي تبلغ بمن فقد الصحة إليها من العلاج باليد والأغذية والأدوية.
وأما الأشياء التي تحفظ الصحة إذا كانت موجودة فهي ما يستعمل الأصحاء من التدبير والأغذية.
ولذلك قالت القدماء: إن الطب هو معرفة الأشياء المصححة، والأشياء الممرضة.
صفحة ١٢
والأشياء المصحة هي التي تحفظ الصحة إذا كانت موجودة، والتي ترد البدن الذي قد فقدت صحته إلی الصحة.
والأشياء الممرضة هي ضد هذه.
وذلك أن الطبيب يحتاج إلی معرفة هذين الأمرين كليهما، كيما يستعمل هذا، ويتوقی ذاك.
ولم يتفق جميع الأطباء علی الطريق التي تؤخذ منها معرفة هذه الأشياء، كما اتفقوا في نفس هذه الأشياء.
لكن بعضهم قال: إن التجربة وحدها تكفي في ذلك.
صفحة ١٣
وبعضهم رأی أن القياس يعين التجربة علی ذلك معونة ليست باليسيرة.
ويسمون من اقتصر علی التجربة أصحاب التجربة، وكذلك من استعمل القياس يسمون قياسين.
وهاتان الفرقتان أول فرق الطب: إحداهما تسلك في معرفة الأشياء النافعة في التماس الصحة طريق التجربة، والأخری تسلك في معرفة ذلك طريق الاستدلال علی الشيء الذي يحتاج إليه بالشيء الذي من أجله احتيج إليه.
وجعلوا اسم إحدی هاتين الفرقتين: فرقة التجربة، واسم الأخری فرقة القياس.
صفحة ١٤
ومن عادتهم أن يسموا أيضا رأي أصحاب التجربة بأسماء مشتقة من الرصد، والتحفظ، والتذكر.
ويسموا رأي أصحاب القياس بأسماء مشتقة من صريمة الرأي والقياس علی ما خفي بما يظهر.
ويسموا أهل هاتين الفرقتين بأسماء مشتقة من الأسماء التي يسمون بها آراءهما.
فيسمون من اقتصر علی التجربة بأسماء مشتقة من التجربة، والتذكر، والرصد، والتحفظ بما يظهر حسا.
ويسمون من استعمل القياس بأسماء مشتقة من القياس، وصريمة الرأي، والاستدلال علی ما يخفی بما يظهر.
صفحة ١٥
[chapter 2] الرأس الثاني في استخراج فرقة أصحاب التجربة
وأما أصحاب التجربة فقالوا:
إن هذه الصناعة إنما أدركت بهذا الطريق.
قالوا:
صفحة ١٦
إنهم كانوا لا يزالون يرون أشياء كثيرة تعرض للناس في حال المرض والصحة، بعضها من تلقاء أنفسها، مثل الرعاف، أو القيء، أو العرق، أو الاختلاف، أو غير ذلك مما أشبهها، فتجلب لمن عرضت له مضرة، أو منفعة، من غير أن تظهر لهم بالحس العلة الجالبة لما كان يعرض لهم، وبعضها كانت تظهر لهم علتها، من غير أن يكون ذلك بقصد وتعمد.
لكن كان يتفق أن يحدث عنها شيء ما، مثل أن يسقط إنسان، أو يضرب، أو يجرح بنوع من الأنواع فيجري منه الدم.
أو أن يتبع شهوته، فيشرب في مرضه ماء باردا، أو شرابا، أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي تعقب منفعة، أو مضرة.
فسموا النوع الأول من هذه الأشياء التي تنفع، أو تضر «طبيعيا»، وسموا النوع الآخر «عرضيا».
ولقبوا أول وجودهم لما شاهدوا من هذين النوعين «الاتفاق». وإنما خصوا هذا المعنی بهذا الاسم، لأنه يحدث في الأشياء من غير إرادة ولا قصد.
فهذه هي صفة أحد أنواع التجربة، وهو المنسوب إلی الاتفاق.
صفحة ١٧
ولها نوع آخر يكون بالقصد، إلا أنه يكون بأيسر السعي وأهونه، إذا قصدوا بإرادتهم لأن يجربوا شيئا ما، إما لأن حلما حركهم علی ذلك، وإما لأن داعيا غير ذلك دعاهم إليه.
وللتجربة نوع آخر ثالث يكون بطريق التشبيه، إذا قصد لشيء ما مما قد رأی عيانا أنه نفع، أو ضر بوجه ما، إما بالطبع، وإما بالعرض، وإما مما قصد إليه بأيسر السعي وأهونه، فأعيدت تجربته في تلك الأمراض بأعيانها.
صفحة ١٨
وبهذا النوع خاصة كان أكثر قوام هذه الصناعة.
وذلك أنهم لما شبهوا بالشيء الذي قد رأوه قد نفع أو ضر، فوجدوه لا مرة، ولا مرتين، ولا ثلثا، لكن مرارا كثيرة يفعل ذلك الفعل بعينه في تلك الأمراض بأعيانها في أكثر الحالات، حفظوا ذلك الشيء، ولزموه، وسموه بابا من الطب، وصح عندهم، ووثقوا به، وعدوه جزءا من هذه الصناعة.
فلما اجتمعت لهم أبواب كثيرة من أشباه هذه الأبواب، كان المجتمع عندهم منها هو الطب، والجامع لها هو الطبيب. وسموا المجتمع أيضا «المشاهدة»، وهو حفظ ما لأشياء قد شوهدت مرارا كثيرة علی حال واحد. وسموه أيضا تجربة وخبرة، وسموا الإخبار به خبرا.
صفحة ١٩
وهذا المجتمع بعينه هو لمن رصده، وحفظه مشاهدة، ولمن تعلم الشيء الذي رصد وحفظ من غير خبر.
ولما كانوا ربما صادفتهم أمراض ما لم يروها قبل ذلك، أو قد رأوها، إلا أنهم في مواضع لا يمكنهم فيها وجود الأدوية التي قد حفظوها بالتجربة، جعلوا لأنفسهم النقلة من شيء إلی شيء شبيه به آلة لوجود الأدوية في تلك الأحوال.
فاستعملوا تلك النقلة في نقل الدواء الواحد من مرض إلی مرض شبيه به، ومن عضو إلی عضو شبيه به، ومن دواء قد عرف قبل إلی دواء شبيه به.
أما من مرض إلی مرض، فمثل أن ينقلوا الدواء الواحد من الورم المعروف بالحمرة إلی البثر المعروف بالنملة.
وأما من عضو إلی عضو، فمثل أن ينقلوا الدواء الواحد في العلة الواحدة من العضد إلی الفخذ.
صفحة ٢٠
وأما من دواء إلی دواء آخر شبيه به، فمثل أن ينقلوا في المرض الواحد — مثل الذرب — من دواء إلی دواء آخر شبيه به، مثل النقلة من السفرجل إلی الزعرور.
وهذه النقلة كلها هي طريق ومسلك إلی الإدراك، وليس هي الإدراك نفسه، دون أن تقع التجربه له.
إلا أنه إذا جرب الشيء الذي قد رأی مرة واحدة، فقد صح ما شهدت عليه تلك التجربة صحة ليست بدون صحته لو كان رصد فوجد مرارا لا يحصی عددها كثرة علی تلك الحال.
ونسبوا هذه التجربة التابعة للنقلة من شيء إلی شيء شبيه به إلی الدربة والحذق، لأن الذي من شأنه أن يستخرج شيئا علی طريق النقلة يحتاج إلی أن تكون معه دربة، وحنكة، وحذق في هذه الصناعة.
صفحة ٢١
وأما التجارب المتقدمة للاختبار التي كانت بالصناعة حاجة إليها في قوامها، فقد يمكن أن ينالها كل من رامها.
فهذا هو الطريق إلی غاية هذه الصناعة بالتجربة.
صفحة ٢٢
[chapter 3] الرأس الثالث في اسخراج فرقة أصحاب القياس
وأما الطريق الذي يكون بالقياس، فإن أصحابه يأمرون بتعرف طبيعة البدن الذي يقصد لعلاجه، وتعرف قوی جميع الأسباب التي تميل أبدان الحيوان عما كانت عليه إلی الصحة، أو إلی المرض.
وقالوا بعد هذا:
صفحة ٢٣
إنه ينبغي للطبيب أن يكون عالما خبيرا باختلاف حالات الهواء، والمياه، والبلدان، والأعمال، والعادات، والأطعمة، والأشربة ليصل إلی وجود أسباب جميع الأمراض، وقوی الأدوية، وما يتداوی به منها، ويقدر أن يقيس ويتفكر، فيعلم ما فعل هذا الدواء الذي معه هذه القوة، إذا عولج به هذا النوع من العلة.
وذلك أنه لا يمكنه — في قولهم — الوصول إلی معرفة ما يتداوی به دون أن يرتاض في جميع هذه الأشياء، ويتصرف فيها.
وأنا ممثل لك في ذلك مثالا تستدل به علی جميع ما وصفت لك.
فانزل: أن عضوا من أعضاء البدن حدث فيه وجع، وصلابة، وانتفاخ، ومدافعة للغامز عند غمزه إياه، فقد ينبغي للطبيب إذا رأی ذلك أن يستخرج أولا علم السبب في ذلك، ويعرفه: وهو أن جسما رطبا مقداره أكثر من المقدار الطبيعي تحلب إلی ذلك العضو، فانتفخ، وتمدد، وحدث فيه وجع.
ثم ينظر من بعد ذلك إن كانت تلك الرطوبة تتحلب بعد، فينبغي أن يمنعها من التحلب. وإن كانت قد انقطعت، فينبغي أن تستفرغ من ذلك العضو الذي تحلبت إليه.
صفحة ٢٤
وقد ينبغي أن تعلم كيف تمنع الرطوبة التي هي في التحلب من أن تتحلب، وكيف تستفرغ من العضو إذا حصلت فيه، فأقول:
إنك إذا بردت العضو وقبضته، منعت التحلب وقطعته عنه.
وإذا أسخنته وسخفته، استفرغت منه ما هو محتبس فيه.
فعلی هذا الوجه، يأخذ أصحاب القياس الاستدلال من نفس العلة علی ما ينتفع به فيها.
ويقولون:
إنه ليس يكتفي بهذا الاستدلال وحده.
لكن لهم استدلال غيره يأخذونه من قوة المريض، واستدلال من سنه، واستدلال من طبيعة المريض المخصوص بها.
وكذلك قد يؤخذ من كل واحد من الوقت الحاضر من أوقات السنة، وطبيعة البلد، والعمل، والعادة استدلال خاص دون ما يؤخذ من غيره علی ما ينتفع به في تلك العلة.
وأنا ممثل لك أيضا في ذلك مثالا ليزداد به عندك بيانا.
صفحة ٢٥
فانزل: أنك رأيت رجلا به حمی حادة، وكسل عن الحركة، وهو يحس في بدنه بثقل، وتراه أملأ بدنا مما كان، وأشد حمرة بدن، وعروقه أشد امتلاء وانتفاخا.
فجميع من رأی هذا — في قولهم — يعلم أنه قد كثر في بدنه الدم، وسخن، وأن دواءه استفراغه، لأن التفرغ ضد الكثرة والامتلاء، ومداواة الضد بالضد.
وليس يمكن أن نعلم من هذا السبب وحده كيف نستفرغ، ولا بأي مقدار نستفرغ، لأنه قد ينبغي أن ننظر مع ذلك في القوة، والسن، والوقت الحاضر من أوقات السنة، والبلد، وسائر الأشياء التي ذكرناها قبيل.
وذلك أنه إن كانت قوة المريض قوية، وكانت سنه منتهی الشباب، وكان الوقت الحاضر من أوقات السنة الربيع، وكان البلد معتدلا، فلن تخطئ إن فصدته، واستفرغته من الدم بالمقدار الذي يدل عليه السبب.
صفحة ٢٦
وإن كانت قوة المريض ضعيفة، وكانت سنه سن صبي صغير، أو شيخ فان، وكان بلده بلدا باردا جدا مثل بلاد الصقالبة، أو كان بلده حارا جدا محرقا مثل بلد السودان، وكان الوقت الحاضر من أوقات السنة علی مثل حال البلد: إما مفرط البرد، وإما مفرط الحر، فليس ينبغي لأحد أن يقدم علی الفصد.
وكذلك أيضا يأمرون بالنظر في عادات الناس، وأعمالهم، وطبائع أبدانهم، لأنهم يذكرون أن لهم من كل واحد من جميع هذه الأشياء استدلالا خاصيا.
[chapter 4]
وتلك الأشياء التي يأخذ منها أصحاب الرأي والقياس الاستدلال علی ما ينتفع به، فمنها بأعيانها يأخذ أصحاب التجارب الرصد والتحفظ.
صفحة ٢٧
وذلك أن اجتماع الأعراض التي وصفناها قبيل في المحموم يرون فيها مثل ما يری أصحاب القياس.
ومن عادتهم أن يسموا هذا الاجتماع «المقارنة» التي تدل صاحب الرأي والقياس علی الاستفراغ، وتذكر صاحب التجربة بما رصده وحفظه.
وذلك أنه لما كان قد رأی مرارا كثيرة أن الاستفراغ قد نفع من كانت هذه حاله، صيره ذلك إلی الرجاء إذا استعمله الآن أن ينتفع به.
ويعلم أيضا أن صاحب سن منتهی الشباب يحتمل الاستفراغ الكافي بلا مشقة مما قد رآه وشاهده مرارا كثيرة.
وكذلك أيضا يعلم أن الاستفراغ يحتمل في الربيع أكثر مما يحتمل في الصيف، وفي البلد المعتدل أكثر من غيره. وإن كان أيضا قد اعتاد المريض الاستفراغ إما بانفتاح أفواه العروق التي في المقعدة، وإما برعاف، فانقطع عنه، فإن صاحب الرأي والقياس يستفرغ من الدم بسبب ذلك مقدارا أكثر مما يبعثه ويدله عليه نفس الشيء.
وأما صاحب التجربة فإنه يفعل ذلك، لأنه كذلك رصد وحفظ.
وبالجملة: فإن أصحاب التجربة وأصحاب القياس يستعملون في المرض الواحد علاجا واحدا، إلا أنهم يختلفون في طريق استخراج ذلك العلاج ووجوده.
صفحة ٢٨
وذلك أن الفريقين ينظرون إلی الأعراض التي تظهر في الأبدان.
ثم إن أصحاب الرأي والقياس يأخذون من تلك الأعراض دلائل علی السبب، ويستخرجون من علم السبب العلاج والمداواة.
وأصحاب التجربة يتذكون بها ما رصدوه وحفظوه مرارا كثيرة، فوجدوه علی حال واحدة.
وإذا لم يجد أصحاب الرأي عرضا بينا في المريض يستدلون به علی سبب مرضه، لم يمتنعوا عن مساءلته عن السبب الذي يسمی «البادئ».
صفحة ٢٩
مثال ذلك: أن يروا نهشة، ولا يعلمون مما هي، فيسئلون: هل كانت من كلب كلب، أو أفعی، أو غيرهما، مما أشبههما.
لأن نفس القرحة إما أن لا يكون بينها وبين سائر القروح التي من النهش، منذ أول أمرها إلی آخره، فرق؛ وإما أن يكون بينها وبين سائر القروح فرق لا محالة.
أما إن كانت من نهشة كلب كلب فهي منذ أول أمرها إلی آخره شبيهة بالقرحة العارضة من نهشة غيره.
وأما إن كانت من نهشة أفعی فإنها في الأيام الأول تكون شبيهة بالقرحة العارضة من نهشة غيرها، ثم إنها بأخرة — إذا ساءت حال المنهوش — حدثت فيها أعراض رديئة مهلكة.
وكل نهشة تكون من ذوات السموم، إذا لم تتدارك، فتداوی من أول أمرها علی ما ينبغي، فإنها تؤول بأخرة إلی حال رديئة مهلكة.
صفحة ٣٠