هذا ما استنتجه البغدادي، وما كنا لنأبه لهذا الاستنتاج لولا جملة قالها الجاحظ يشتم منها رائحة الإباحية، هذا نصها نقلا عن معجم الأدباء لياقوت: «قال الجاحظ مرة بحضرة السدري: إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت ... فقال له السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم، وتمتع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت. فقال له السدري: فكيف عقل العجوز حفظها الله؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلا.»
على أن ذلك قد يحمل على محمل الهزل والدعابة، ومهما يكن فالجاحظ إمام من أئمة المسلمين، له آراء انفرد بها في الكلام، ومذهبه في ذلك التوفيق بين العقل والنقل، ولا يضره بعد ذلك لوم المخالفين.
شعره
نظلم الجاحظ كثيرا إذا اعتبرنا شعره ركنا من أركان عبقريته أو جزءا من أجزاء أدبه، ونضل إذا عددناه دليلا من أدلة عظمته؛ لأن الجاحظ لم يخلق شاعرا، وإنما نظم الشعر كما نظمه غيره من العلماء والكتاب واللغويين والفقهاء والمؤلفين، وتلك ظاهرة في الثقافة العربية عمت بلواها جميع من تذوق طعم العربية.
خذ أي كتاب من كتب التراجم، وارجع إلى ترجمة أي رجل شئت، فقيها كان أو محدثا، فيلسوفا أو طبيبا، فإنك واجد في أعقاب ترجمته: «ومن شعره قوله».
هذا النوع من الشعر يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: شعر الكتاب وشعر العلماء وشعر الفقهاء؛ فالأول يكنى به عن حسن الصنعة واختيار الألفاظ وانسجام النظم، كشعر ابن العميد والصاحب ابن عباد، والثاني يكنى به عن جمع الأمثال ومعالجة الحقائق العلمية وما وراء الطبيعة، كشعر ابن دريد وابن سينا، والثالث يكنى به عن الغثاثة والبرودة.
أما شعر الجاحظ فمن النوع الأول، وما أظن الباعث على نظمه إلا خيلاء العلم والأدب؛ يعني أن سعة روايته للشعر وغزارة مادته في الأدب ورسوخ قدمه في العلم وقوة طبعه في النثر زين له نظم الشعر، وإن لم يكن شاعرا، وهكذا قل في أكثر الكتاب.
فمن شعره قوله:
يطيب العيش إن تلقى حليما
غذاه العلم والرأي المصيب
صفحة غير معروفة