ومن ثم فإننا نقول إننا «نفعل» حين يكون الحادث نتيجة ضرورية لنشاطنا وطاقتنا ... أعني حين نكون نحن الذين خلقنا هذا الحدث.»
18 (19) ويعتقد «برادلي» أن هذا النشاط هو ظاهر فحسب، وليس حقيقيا؛ لأن فكرته تؤدي إلى نتائج متناقضة. ويذهب إلى أن النشاط يعني أن التغير الذي يظهر فيه هو - في آن معا - له سبب وليس له سبب. وهو لكي يبين لنا أن التغير الذي يتضمنه النشاط لا بد أن يكون قد سببه شيء آخر غير الشيء النشط نفسه. يقول: «النشاط يعني تغير شيء ما إلى شيء آخر مختلف عنه. وهذا واضح فيما أعتقد، لكن النشاط ليس مجرد تغير أو تبدل بلا سبب. والواقع ... أن ذلك لا يمكن لنا أن نتصوره؛ لأن «أ ب» لكي تصبح «أ ج»، فلا بد أن يكون هناك شيء آخر إلى جانب «أ ب»، وإلا فسوف نكون أمام تناقض ذاتي صريح. وهكذا فإن انتقال النشاط يتضمن باستمرار سببا ما.»
19
لكنه يستمر في حديثه ليبين لنا أن التغير الذي يتضمنه النشاط لا بد من ناحية أخرى، ألا يكون قد سببه شيء آخر غير طبيعة الشيء النشط نفسه. وهو يقول في هذا المعنى: «النشاط هو تغير له سبب، لكنه لا بد أن يكون أيضا أكثر من ذلك؛ لأن الشيء المعين إذا ما غيره شيء آخر، فإنه لا يقال عنه عادة إنه نشط فعال
active ، بل يقال على العكس إنه سلبي أو متقلب
passive ، أما النشاط فهو يبدو بالأحرى تغيرا يشتمل في ذاته على السبب
self-Caused ، فالانتقال الذي يبدأ بالشيء نفسه ويظهر من الشيء نفسه، هو العملية التي نشعر فيها أن هذا الشيء نشط فعال، والنتيجة لا بد بالطبع أن تعزى إلى الشيء على أنها صفة له؛ إذ ينبغي أن ينظر إليها، لا على أنها تنتمي إلى الشيء فحسب، بل على أنها بدأت وخرجت منه، والشيء حين يحقق طبيعته الخاصة يسمى شيئا نشطا فعالا.»
20 (20) وعبارة «برادلي» الأولى هي ما يهمنا هنا؛ ذلك لأن الزعم بأن التغير الذي يتضمنه النشاط يحتاج إلى شيء آخر غير الشيء النشط، يعني إنكار كل معنى لكلمة النشاط. فلماذا تصف «الشيء» بصفة «النشاط» إذا لم يكن في نيتك أن تنسب لهذه الصفة أي معنى؟ إنه لو صحت التفرقة - التي سبق أن ذكرناها - بين الفعل والحادثة، ولو أننا وضعنا في ذهننا هذه التفرقة، فإننا لن تضللنا بعد ذلك عبارة «برادلي» التي تقول: «إن «أ ب» لكي تصبح «ب ج»، فإنه لا بد أن يكون هناك شيء آخر إلى جانب «أ ب».» فهذه العبارة صحيحة إذا ما طبقت على الحوادث، لكنها كاذبة إذا ما طبقت على الأفعال. فهذا الكرسي الموجود في الجانب الأيسر من الغرفة لكي يصبح في الجانب الأيمن منها، فلا بد أن يكون هناك شيء آخر إلى جانب الكرسي هو الذي ينقله من هنا إلى هناك، لكن الإنسان الذي يوجد في الجانب الأيسر من الغرفة ويريد أن ينتقل إلى الجانب الأيمن منها لا يحتاج إلى شيء آخر بجانبه. فحركة الكرسي حادثة تتطلب شيئا آخر يفسرها، فيما حركة الإنسان - لو أنه كان فاعلا لهذه الحركة - تفسر نفسها بنفسها، ولا تحتاج إلى شيء آخر يفسرها، بمجرد ما نعرف أنها نتيجة لعمل الإنسان أو فعله أو أنها الموضوع الذي اختاره لحظة انتباهه. (21) مشكلتنا الرئيسية هي ذي: افرض أننا كتبنا مجملا مختصرا للذات على النحو التالي «أ - ب» بحيث تكون «أ» هي الفاعل المنتبه و «ب» هي الموضوع الذي ينتبه إليه. فالسؤال الآن هو: ما الذي يجعل الفاعل يلتقط «ب» لتكون موضوعا لانتباهه في لحظة معينة ويستثني موضوعات أخرى ممكنة، مثل «ج، س، د» ... إلخ؟ هل الفرد حين ينتبه يكون مبتدئا أم منتهيا؟ أعني هل يكون محصلا أم مبدعا؟ أهو نتيجة لظروف سابقة أم أنه سبب فحسب؟ هل لا بد للخلية أو الخلايا العصبية التي تمد حركات العين بالطاقة العصبية لكي تنظر مثلا إلى موضوع معين - هل لا بد أن يثيرها بالضرورة مقدم فيزيائي، وهذا المقدم يثيره شيء آخر ... وهكذا حتى نصل - نصل إلى أين؟ أم هل يمكن لهذه الإثارة أن تبدأ دون أن يسبقها بالضرورة مقدم فيزيائي، أعني أن تبدأ مع شروع التكوين الطبيعي للفاعل السيكوفيزيقي في الانتباه؟ وبعبارة أخرى، لو أننا أخذنا حاسة الإبصار مرة ثانية: فهل نحن ننتبه إلى هذا الموضوع أو ذاك لأن عيوننا قد تحولت، أردنا أو لم نرد، نحوه، أم أن عيوننا تتحول نحو الموضوع المعين لأننا نقرر أن ننتبه إليه؟
الرأي الذي ندافع عنه هو أن الفرد في حالة الانتباه مجبر ذاتيا، أعني أنه محدد بذاته، فالفاعل في حالة الانتباه يكون نشطا، أعني أنه يكون سبب نفسه
self-caused ؛ أي إنه يحمل سببه في ذاته، فهو ينتقي بطريقة نشطة ما يبدو أنه يساعد على البقاء، أو ما يحفظ وجوده: «إنه في اللحظة التي يفكر فيها المرء في هذا الموضوع سرعان ما يتكشف له زيف الفكرة التي تجعل الخبرة مساوية لمجرد ظهور نظام خارجي أمام الحواس، إن هناك ملايين الأجزاء من النظام الخارجي تظهر أمام حواسي، لكنها لم تدخل قط في خبرتي: لماذا؟ لأنها لا نفع فيها ولا غناء بالنسبة لي. إن خبرتي هي ما أوافق على الانتباه إليه. والأجزاء التي ألاحظها أو ألتفت إليها هي وحدها التي تشكل ذهني، ومن ثم فالخبرة تصبح عماء مطبقا دون النفع الانتقائي. إن النفع وحده هو الذي يضفي خبرة وتأكيدا وضوءا وظلا، ومقدمة ومؤخرة - هو الذي يعطي للكلمة منظورا واضحا.»
صفحة غير معروفة