فبداية المعرفة هي فرز شيء عن شيء آخر، أو إدراك الفروق بين الأشياء. ونحن ما لم نتأثر تأثيرا متميزا بأشياء مختلفة على نحو ما نتأثر مثلا بالحرارة، واللون الأحمر، واللون الأزرق - فإننا لن نتأثر على الإطلاق. وكلما كنا أكثر إدراكا للفروق بين الأشياء، كنا أكثر تعقلا، أو ارتفع إدراكنا من الناحية العقلية. لكن كيف يمكن لنا أن نفرز الأشياء أو أن ندرك الفروق بينها؟ لا يمكن أن يتيسر لنا ذلك إلا بالانتباه إلى جانب واحد من جوانب الخبرة والعزوف عن بقية الجوانب في اللحظة التي أقوم فيها بعملية الفرز، ولو أن ذهني تلقى إحساسين، لكنه لم ينتبه إلى أحدهما أولا ثم إلى الآخر بعد ذلك، فإن هذين الإحساسين لن يكونا اثنين بالنسبة له.
إن الشعور بأن هناك اتفاقا بين الأشياء، أو بعبارة أخرى، الوعي بالهوية بين الاختلاف، هو أعظم الجوانب ماهوية في الأنشطة العقلية. وتلك «... خاصية نادرة للذهن، تعتمد على اختراق قناع التنوع والإمساك بعناصر التشابه المشتركة (وتلك هي الخاصية) التي تزودنا بالمعيار للعقل.»
70
ولقد قال أفلاطون عن قوة التوحيد هذه إنه لو صادف رجلا يستطيع أن يكشف عن الواحد بين الكثير فإنه سوف يسير وراءه كما يسير وراء إله.
71
ومن الواضح أنه يستحيل علي أن أعرف أن شيئين يتفقان معا في جوانب معينة رغم اختلافهما، ما لم أكن قادرا على الانتباه إلى جانب معين من الشيء، وعزله عن بقية الجوانب. ومثل هذا الانتقاء للجانب الذي أنتبه إليه هو الخاصية الأساسية للانتباه، وهو الشرط الذي تفترضه مقدما عملية التجريد، أعني تجريد هذا الجانب أو ذاك في الشيء الموجود أمامنا.
ويعتمد الحفظ على دوام الاستثارة الذهنية ومواصلتها بعد اختفاء المثير الأصلي، غير أنه إذا كانت هناك استثارة للكائن الحي تبقى كذاكرة، فلا بد أن تكون قد وجدت من قبل، كالإدراك. ولا يمكن إدراك شيء، اللهم إلا إذا انتبهنا إليه، وعملية الانتباه تدل على تلك العملية، التي يمكن للشيء بفضلها أن يصبح موضوعا للوعي، إذا ما قورن بغيره من الأشياء الكثيرة، التي رغم وجودها في متناول الملاحظ فإنه لا يلاحظها على الإطلاق.
إن العملية الأساسية - بصفة عامة - في جميع ضروب المعرفة هي الكشف عن العلاقات بين الأشياء من خلال الانتباه. وأكثر العلاقات عمومية بين الأشياء هي الاتفاق والاختلاف، وكل معرفة إنما تعني إدراك الفرق بين فكرة وفكرة، أو بين موضوع وموضوع آخر، غير أن العلاقات لا توجد في الأشياء نفسها، وإنما تخلقها الطريقة التي أنتبه بها إلى هذه الأشياء، فبما أنني أنتبه إلى الكتاب الموجود أمامي الآن، فإنني أجده فوق المنضدة، وتحت السقف، وعلى يمين القلم، أو على يسار المحبرة. (41) وسوف نناقش الآن العمليات النوعية الخاصة بالإنسان: كالتجريد وتكوين التصورات، وإصدار الأحكام، والقيام بالاستدلالات - وسوف نرى أنها كلها تفترض سلفا الانتباه كشرط أساسي لها. ولقد سبق أن أشرنا إلى هذه العمليات في الصفحات السابقة بإيجاز شديد، لكنها تستحق منا وقفة لنعرض لها بشيء من التفصيل.
إن تعريف التجريد نفسه يظهرنا في الحال على أنه لا يمكن تصوره بدون الانتباه؛ فالتجريد هو الانتباه إلى خصائص معينة في الشيء واستبعاد خصائص أخرى. «التجريد يعني وفقا للاشتقاق اللغوي سحب «الانتباه» من شيء من الأشياء لكي نركزه على شيء آخر ... وعلى الرغم من أننا نتحدث عن التجريد عادة على أنه تحول من المختلفات إلى المتشابهات، فإن هذه العملية نفسها تظهر في صور أخرى ... فإذا افترضنا أن هناك موضوعين يتشابهان تشابها تاما (كما هي الحال في التشابه الشديد بين خروفين مثلا) فإننا نجد أنفسنا في حاجة إلى بذل جهد في عملية التجريد، حتى تتغاضى عن جوانب التشابه، وتتنبه إلى جوانب الاختلاف.»
72
صفحة غير معروفة