ومعنى هذا أن كل معدن يشتمل في جوفه على معدن آخر يناقضه في صفاته؛ فالفضة من داخل هي نفسها الذهب من خارج؛ فلو أخرجنا ما هو مكنون في باطن الفضة إلى ظاهرها ودسسنا ظاهرها في باطنها، كان لنا بذلك معدن الذهب؛ فإذا أراد الكيموي تحويل الفضة إلى ذهب، كان عليه أولا أن يزيح برودتها الظاهرة لتخرج بدلها الحرارة الكامنة، ثم يزيح - ثانيا - يبوستها الظاهرة لتخرج بدلها الرطوبة الكامنة، حتى إذا ما اجتمع في الظاهر حرارة ورطوبة معا كان ما بين أيدينا ذهبا.
ولو أجرى الكيموي تجاربه على قطعة من الحديد - مثلا - ظاهرها حرارة ويبوسة شديدة، فله أن يزيح اليبوسة وحدها إلى الداخل لتخرج مكانها الرطوبة، وبذلك يصبح الظاهر حرارة ورطوبة؛ أي أن المعدن يصبح ذهبا؛ أو أن يزيح الحرارة الظاهرة إلى الداخل لتخرج مكانها البرودة الكامنة، وبذلك يصبح الظاهر برودة ويبوسة، أي أن المعدن يصبح فضة؛ أو أن يزيح الحرارة واليبوسة الظاهرين كليهما، ليخرج مكانهما البرودة والرطوبة الكامنان فيكون الناتج زئبقا (أو قصديرا حسب درجة الليونة، أي درجة الرطوبة التي تظهر).
وبنفس الطريقة يمكن رد أي معدن إلى أي معدن آخر، وبصفة خاصة يمكن رد أي معدن إلى ذهب؛ إذ ما علينا لكي نحول معدنا ما إلى ذهب إلا أن نجعل الكيفيتين الظاهرتين هما: الحرارة والرطوبة؛ فإن كان المعدن المراد تحويله نحاسا - وظاهر النحاس حرارة ويبوسة - كان أمامنا كيفية واحدة هي التي نحتاج إلى دسها في الداخل ليخرج ضدها من الداخل فيحل محلها؛ فالنحاس والذهب يشتركان في الحرارة، ويختلفان في أن الذهب رطب والنحاس يابس، فإذا أخرجنا للنحاس رطوبته الدفينة فيه كان ذهبا.
أما إن كان المعدن المراد تحويله رصاصا، فها هنا نجد التضاد بين الرصاص والذهب في الكيفيتين معا؛ فالرصاص بارد والذهب حار، والرصاص يابس والذهب رطب، فعندئذ علينا أن نعالج الصفتين جميعا، فندخلهما إلى الباطن، ليخرج مكانهما الضدان وبذلك يصير الرصاص ذهبا، وهكذا.
وأود أن أعيد هذا الذي قلته في تحويل المعادن بلغة جابر نفسه، كما ساق الموضوع في المقالة الثانية والثلاثين من كتاب السبعين؛ قال: «... لا يخلو كل موجود أن يكون فيه طبعان - فاعل ومنفعل - ظاهران، وطبعان - فاعل ومنفعل - باطنان،
17 ... ولذلك سهل عليهم وقرب رد الأجسام إلى أصولها في أقرب مدة، وهو أن يقلبوا الطبائع في الأجسام، فيجعلون الباطن ظاهرا والظاهر باطنا؛ فأما الحديد فإن ظاهره فاسد وباطنه فاسد؛ لأن ظاهره حديد، وهو فاسد عند الفضة والذهب، وباطنه زيبق وهو فاسد عندهما أيضا؛
18
فإذا قلبوا الحديد على الزيبقية صار ظاهره باردا رطبا وباطنه حارا يابسا، فأظهروا حرارته وأبطنوا برودته، فصار الظاهر حارا رطبا وذلك ذهب، وصار باطنه باردا يابسا وذلك فضة أو رصاص؛ لأن منهم من قال إن باطن الذهب رصاص ومنهم من قال إن باطنه فضة، وهي قولة حسنة، ونحن نذكر ذلك كله وكيف يقلب فاعرفه.» «إن الأصل في ذلك أن تعلم أولا أن من هذه الأجسام ما ينبغي أن تبطن عنصريه الظاهرين وتظهر عنصريه الباطنين حتى يكمل ويصير جسما غير فاسد على ما يراد من ذلك - وهو سرهم - وبعض هذه الأجسام ينبغي أن يستخرج له عنصر من باطنه فيظهر، ويبطن فيه ضد ذلك العنصر، ونحن نذكر ذلك لتعرفه.» «إن الأسرب (= الرصاص) بارد يابس في ظاهره رخو جدا، وهو حار رطب في باطنه صلب؛ ومعنى رخو وصلب أن كل جسم خلقه الله تعالى باطنه مخالف لظاهره في اللين والقساحة؛ والدليل على ذلك أنه إذا قلبت طبائعه فرجع ظاهره باطنا وباطنه ظاهرا إن كان رطبا قسح، وإن كان قاسحا ترطب؛ فهذا ما في الأسرب من الكلام.» «وأما القلعي (= القصدير) فإن أصله المتركب عليه أولا الأربع طبائع: فظاهره بارد رطب رخو، وباطنه حار يابس صلب ... فإذا أبطنت ظاهره، وأظهرت باطنه قسح فصار حديدا ...» «وأما الحديد فأصله المتكون عنه الأربع طبائع، وخص ظاهره من ذلك بالحرارة وكثرة اليبس، فباطنه إذن على الأصل بارد رطب، وهو كذلك، وهو صلب الظاهر رخو الباطن، وما في الأجسام أصلب منه ظاهرا، فكذلك رخاوة باطنه على قدر صلابة ظاهره على الأصل، وكذلك يكون بالتدبير إذا قلبت أعيانه، والذي على هذا المثال الزيبق؛
19
فإن ظاهره (أي ظاهر الحديد) حديد وباطنه زيبق؛ فالوجه في صلاحه أن تنقص يبوسته فإن رطوبته تظهر فيصير ذهبا؛ لأن رطوبته إذا ظهرت بطنت يبوسته ... أو فانقص حرارته فإن برودته تظهر وتبطن الحرارة بظهور البرودة فيصير فضة يابسة، أو فانقص يبوسته قليلا فإنه يصير فضة لينة، فهذا ما في الحديد من الوصف والحد.» «وأما الذهب فحار رطب في ظاهره بارد يابس في باطنه، فرد جميع الأجساد إلى هذا الطبع؛ فإنه طبع معتدل ...» «وأما طبع الزهرة (= النحاس) الذي هي عليه فالحر واليبس، وهو دون الحديد؛ لأن أصله حار رطب ذهب، فلما لحقه اليبس في المعدن أفسده، فاقلع يبسه فإنه يعود إلى طبعه.»
صفحة غير معروفة