83

جابر بن حيان

تصانيف

(1) جابر العلم

جبر الشيء يجبره فهو جابره، إذا أعاد تنظيم الشيء وأصلح فاسده وقوم بناءه. ولقد قيل إن جابرا سمي باسمه هذا؛ لأنه هو الذي أعاد تنظيم العلم الطبيعي وأعاد بناءه على نحو ما كان عليه عند أرسطو، قبل أن يصيبه الفساد بامتزاجه بالسحر في العصور الوسطى.

كان أرسطو أول من دعا في إصرار إلى أن تكون المشاهدة والتجربة أساس علمنا بالطبيعة، وذهب الزمن بالمعلم الأول، وبقيت بعده آثاره وذكراه، فلقي من العصور الوسطى إجلالا هو به جدير، لكن عوامل كثيرة فعلت في عقول الناس فعلها، حتى لقد تنوسي اللباب الذي من أجله كان شيخ الفلاسفة الأقدمين حقيقا بالتقدير والتوقير، وبقيت القشور دون لبابها تحظى بالنصيب الأوفر من إجلال الناس لمعلمهم الأول؛ فنشأت أرسطية مزيفة سلطت على العقول، وبعد أن كانت الفلسفة الأرسطية في روحها الحقيقية حافزا إلى العلم الصحيح، أصبحت بديلتها الزائفة حائلا دون الوصول إلى ذلك العلم الصحيح، وقيدا يقيد أصحاب الفكر فلا يخلي بينهم وبين الحركة الطليقة الحرة، ولبثت الحال على هذا النحو في أوروبا حتى قامت النهضة في القرن السادس عشر.

كان أرسطو - ومعه آخرون من فلاسفة اليونان الأقدمين - لا يأخذ بالرأي القائل إن الطبيعة تنحل إلى وحدات صغيرة هي الذرات، وهو الرأي الذي كان قد ذهب إليه ديمقريطس وأتباعه؛ إذ كان الرأي عند أرسطو في ذلك هو أن المادة الأولية - ويطلق عليها اسم الهيولى - قد اكتسبت صورا أربعا، هي الكيفيات الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة ، فنشأ عن ذلك أربعة أجسام بسيطة، هي النار والهواء والماء والتراب. ومن هذه تتألف سائر الأشياء؛ وإنما نشأت الأجسام الأربعة البسيطة بالتقاء الكيفيات الأربع الأولى اثنتين اثنتين؛ فالنار حرارة ويبوسة، والهواء حرارة ورطوبة؛ إذ الهواء ضرب من بخار الماء، والماء برودة ورطوبة، والتراب برودة ويبوسة؛

1

على أن الأجسام المركبة في الطبيعة تتألف من الأجسام البسيطة مجتمعة دائما؛ فما من شيء إلا وفيه النار والهواء والماء والتراب بدرجات؛ فهي كلها على درجة من الحرارة معينة، ويتغلغل فيها الهواء، وهي كلها أيضا مشتملة على ماء وهو الذي يجعلها قابلة للتشكيل، ثم هي كلها مشتملة على أرض؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فما دام كل شيء قابلا للصيرورة والتحول، فإنه لا بد أن يكون مشتملا على أضداد؛ لأنه لو كان - فرضا - مؤلفا من حرارة مطلقة فقط، لما كان هنالك سبيل إلى تحوله إلى ما ليس بحرارة؛ إذ من أين يأتيه ما ليس فيه؟ فوجود النار - وهي حرارة ويبوسة - يقتضي بالضرورة وجود ضدها وهو الماء - لأنه برودة ورطوبة - كما أن وجود الأرض - وهي برودة ويبوسة - يقتضي بالضرورة وجود ضدها وهو الهواء - لأنه حرارة ورطوبة؛ فحسبك أن تقول عن شيء أن فيه أرضا وماء، لتقول ضمنا إن فيه كذلك الضدين الآخرين، وهما الهواء والنار، ما دمت تعترف لذلك الشيء بإمكان التحول والتغير؛ ومن هنا لزم أن نقول عن كل جسم مركب إنه يشتمل على كل الأجسام البسيطة في آن معا.

2

فلما انتقل مركز العلم إلى الإسكندرية بعد أفول نجمه في اليونان، امتزج العلم النظري بالروح التصوفية السائدة هناك، فكان أن امتزجت الكيمياء بالسحر امتزاجا عاق تقدمها - في أوروبا - إبان العصور الوسطى؛ لكن ظهور الإسلام في الشرق الأوسط، وغزو العرب لمصر وسوريا وفارس، قد غير من الموقف؛ إذ: «نفض المسلمون الأولون عن أنفسهم كثيرا من الإلغاز الصبياني الذي كانت مدرسة الإسكندرية قد أدخلته على العلم، وقاموا بتنقية الجو العقلي - لفترة من الزمن - فكانوا باحثين عن المعرفة يشتعلون حماسة وجدا ... فترجمت كتب لا عدد لها من اليونانية، وخصوصا في حكم هارون الرشيد (786-809) والمأمون (813-833)، وظفرت الكيمياء بنصيبها من العناية في غمرة هذه الحماسة الشاملة للعلوم ... وكان الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية (مات سنة 704ه) أول من أشاع علم الكيمياء بين المسلمين، غير أن شهرته قد خسفتها شهرة تلميذه جابر - أبو موسى جابر بن حيان - الذي هو جدير - لأسباب كثيرة - بأن يعد أول من يستحق لقب الكيماوي».

3 «كان فلسفة جابر - شأنه شأن جميع المسلمين - أرسطية معدلة، ونظريته في تكوين المادة هي نفسها - في جوانبها الهامة كلها - نظرية أرسطو؛ ولم تكن عبقرية جابر ترضى له بالاستسلام للتأمل العقيم المنقطع الصلة بالواقع المشاهد؛ فآثر - كما آثر كثيرون من المسلمين الذين جاءوا بعده - المعمل على شطح الخيال؛ فجاءت آراؤه - على وجه الإجمال - واضحة ودقيقة؛ والإضافات التي أضافها إلى الكيمياء هي التي سوغت بحق - لقيمتها - أن ينعت باسم «جابر»؛ لأنه هو الذي «جبر» العلم - أي أعاد تنظيمه - وأقامه على أساس ثابت.»

4 (2) الوجود بالقوة والوجود بالفعل

صفحة غير معروفة