1
وسنرى أن عالمنا الفيلسوف جابر بن حيان هو من هذه الزمرة. (2)
وفريق ثان من الفلاسفة يذهب إلى أن الإنسان محال عليه أن يجاوز بعلمه حدود كلمات اللغة إلى حيث العالم الخارجي في ذاته، وإن شئت أن تفهم وجهة نظر هذا الفريق فحاول أن تنقل إلى من شئت أمرا تريد أن تحيطه به علما، كأن تقول له - مثلا - «إن الورقة بيضاء» تجد أنك تشرح له كلمة بأخرى، وهذه بثالثة فرابعة وهلم جرا، أي أنك ستظل مع زميلك حبيس الكلمات التي تتفاهمان بها، ولا وسيلة أمامكما تخرجان بها من سجن الكلمات إلى حيث «البياض» الخارجي الذي يصف الورقة، فما بالك إذا أردت لزميلك أن يعرف - مثلا - أنك خائف أو حزين أو نشوان أو عاشق ولهان؟ مجاوزة اللغة هنا إلى الحقيقة المرموز إليها باللغة أمر محال. وخلاصة الرأي عند هذا الفريق الثاني من الفلاسفة هي أن أي أن معرفة وكل معرفة - حتى المعرفة العلمية - إنما هي معرفة كلمات لغوية لا أكثر ولا أقل، ومن هذا الفريق أولئك الذين يسمون بالاسميين في تاريخ الفلسفة، مثل وليم أوكام في العصور الوسطى (1290-1349 تقريبا) ومثل «باركلي» في العصور الحديثة (1685-1753) ومثل طائفة من جماعة الوضعيين المنطقيين في الفلسفة المعاصرة. (3)
وفريق ثالث من الفلاسفة يذهب إلى أن الإنسان في وسعه أن يدرك حقيقة ما غير كلمات اللغة التي يتكلمها، ويعتقد هذا الفريق أن مثل هذه الحقيقة يستحيل على اللغة أن تعبر عنها، ومع ذلك ترى مدركيها يكتبون عنها ويتكلمون على الرغم من اعترافهم بأن الكتابة والكلام لا يجديان في نقلها إلى القارئ أو إلى السامع، اللهم إلا على سبيل الإيحاء، وهؤلاء هم المتصوفة والفلاسفة الذين يأخذون بالإدراك الحدسي مثل برجسون.
ولسنا في هذا المقام بصدد تحليل هذه الآراء الثلاثة في اللغة، ودلالتها أو عدم دلالتها على حقيقة الواقع الخارجي الذي هو من طبيعة غير طبيعة اللغة، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن نضع جابرا في موضعه من مذاهب الفلسفة اللغوية، فهو من القائلين بأن طبيعة اللغة بأحرفها وكلماتها وجملها تشف عن طبائع الأشياء؛ فدراسة الاسم هي في الوقت نفسه دراسة للمسمى، كما سنرى تفصيلا فيما بعد.
يقول ابن حيان: «إن تركيب الكلام يلزم أن يكون مساويا لكل ما في العالم من نبات وحيوان وحجر.»
2
ولو حللنا هذه العبارة تحليلا وافيا، لكشفت لنا وحدها عن وجهة نظر منطقية تحدد موقف ابن حيان إزاء اللغة وعلاقتها بعالم الأشياء، وهو موقف جد شبيه بفرع من فروع المنطق الحديث الذي يأخذ به فتجنشتين
3
وبرتراند رسل وغيرهما من فلاسفة التحليل في عصرنا الحاضر؛ ومؤداه أن كلمات اللغة هي ضرب من التصوير، بل إنها قد كانت تصويرا فعليا في بعض الكتابات القديمة، ولئن اخترعت أحرف الهجاء تيسيرا لتركيب الصور التي نصور بها الأشياء، لسهولة حلها وجمعها في صور لا نهاية لعددها، فإن ذلك لم يسلب من الكتابة قوتها التصويرية؛ فلا فرق من حيث الجوهر بين أن ترسم شجرة وترسم طائرا على أحد فروعها، وبين أن تكتب هذه العبارة: «الطائر على الشجرة»، فهذه العبارة - لو أمعنت فيها النظر - هي «صورة»، فكلمة «الشجرة» تنوب عن صورة الشجرة، وكلمة «الطائر» تنوب عن صورة الطائر، وكلمة «على» تنوب عن العلاقة التي تصل الطائر بالشجرة لو صورناها بصورة تعكس الواقع عكس المرآة، وما دامت الكتابة في حقيقتها «تصويرا» للواقع، وجب أن نحاسب المتكلم أو الكاتب على هذا الأساس، فنطالبه - منطقيا - بأن يرسم بكلامه صورا للواقع، والكلام الذي لا يرسم مثل هذه الصور لا يكون ذا معنى ولا يقوم بمهمة الكلام التي خلق الكلام أساسا من أجلها. ولو كانت لنا اللغة المنطقية الكاملة لوجدنا تراكيبها - كما ورد في عبارة ابن حيان السالف ذكرها - «مساوية لكل ما في العالم من نبات وحيوان وحجر». (2) محاورة أقراطيلوس
صفحة غير معروفة