21 (4) تعريف الألفاظ
لقد بلغت الدقة العلمية المنهجية بجابر مبلغا بعيدا، عندما أدرك في وضوح خطر تحديد المعاني الواردة في أي بحث علمي، تحديدا يبين معالم الموضوع في حسم وجلاء، ويساعد على استنباط الأفكار بعضها من بعض؛ ولقد وضع في «الحدود» - أعني تعريف الألفاظ العلمية - كتابا سنوجز مادته فيما يلي، لكننا نسارع هنا إلى إثبات عبارة قالها في تقديره لقيمة كتابه هذا؛ لأنه تقدير يدل على وعيه الشديد بأهمية الموضوع، فيقول: «يا ليت شعري كيف يتم عمل لمن لم يقرأ كتاب الحدود من كتبنا ، فإذا قرأته يا أخي، فلا تجعل قراءتك له مثل قراءة سائر الكتب، بل ينبغي أن تكون قراءتك للكتب مرة في الشهر، وأما «الحدود» فينبغي أن ينظر فيه كل ساعة، وأن إعطاء الحد أعظم ما في الباب.»
22
وأنه في ذلك لعلى حق؛ لأنك إذا أحسنت تحديد المعنى الذي تتحدث فيه، قطعت بذلك شوطا بعيدا من طريق البحث الموفق السديد.
يقول جابر في كتابه «الحدود»:
23
إن الغرض بالحد هو الإحاطة بجوهر المحدود على حقيقته، حتى لا يخرج منه ما هو فيه، ولا يدخل فيه ما ليس منه، فإذا ما حدد الموضوع تحديدا تاما، صار لا يحتمل زيادة ولا نقصانا؛ والتحديد التام إنما يكون بذكر الجنس الذي يندرج تحته النوع المراد تحديده، ثم بذكر الفصل الذي يميز ذلك النوع من بقية الأنواع التي تندرج معه تحت جنس واحد.
وقد قيل في الحد إنه لا يحتمل الزيادة والنقصان؛ لأنك إذا زدت من الحد أدى ذلك إلى نقصان المحدود؛ كأن تضيف إلى حد الإنسان «بأنه حيوان ناطق» بحيث تجعله «حيوان ناطق يسكن جزيرة العرب»، فعندئذ تنحصر دائرة المحدود في طائفة قليلة من الناس، بعد أن كان المحدود هو الناس جميعا؛ وكذلك إذا انتقصت من الحد أدى ذلك إلى زيادة المحدود؛ كأن تقول في حد الحمار إنه حيوان ذو أربع قوائم، فتنقص فصله المتمم لنوعه وهو النهاق، وبهذا تتيح بهذا النقصان في الحد لكل ذي قوائم أربع الدخول في ذلك الحد، ولا تجعله حدا مقصورا على الحمار وحده؛ لكن زيادة الحد لا تنقص من المحدود إلا إذا كان زيادة تشمل بعض أفراد النوع دون بعضهم الآخر، كأن تضيف إلى حد الإنسان عبارة «متكلم بالعربية»، فيصبح: «الإنسان حيوان ناطق متكلم بالعربية»، فالزيادة ها هنا تؤدي إلى نقصان المحدود، أما إذا كانت الزيادة صفة شاملة للنوع كله، أي أنها خاصة من خصائصه المميزة، مثل إضافة كلمة «الضحاك» إلى حد الإنسان بحيث يصبح هذا الحد هو: «الإنسان حيوان ناطق ضحاك»، فمثل هذه الزيادة لا تؤدي إلى نقصان المحدود؛ وأما النقصان من الحد فهو مؤد إلى زيادة المحدود لا محالة على أي وجه جاء هذا النقصان منه؛ وذلك لأن الحد مؤلف من الجنس والفصل الذي يميز النوع ويحدثه، فإذا أنقصنا من الحد أحد فصوله المميزة للنوع دخل في النوع ما ليس منه ...
نعم إن «جابرا» لم يزد شيئا على ما قاله أرسطو في الحد (التعريف)، ولكن حسبه - وهو العالم الطبيعي - أن يتنبه إلى ضرورة الأساس الذي ينبني عليه تحديد المعاني، لكي يقيم عليها العالم بناءه العلمي في دقة منطقية، وسنورد في موضع آخر من هذا الكتاب
24
صفحة غير معروفة