ولعمري إن هذا القول من «جابر» لمما نضعه في مقدمة الشروط التي نستوجب استيفاءها في كل باحث علمي، كائنا ما كان موضوع بحثه، وفي أي عصر جاء؛ فلا يجوز لغير العلماء المختصين أن يقولوا ماذا يستطاع وماذا لا يستطاع في مجال البحث. ويمضي «جابر» في حديثه عن إمكان العلم الكيموي أو امتناعه، فيقول إن أسرار الطبيعة قد تمتنع على الناس لأحد سببين؛ فإما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعسر الكشف عنها، وإما أن يكون للطاقة تلك الأسرار بحيث يتعذر الإمساك بها، وسواء كان الأمر هو هذا أو ذلك، كان في وسع الباحث العلمي أن يلتمس طريقا إلى تحقيق بغيته، فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز أن تحول العلماء دون السير في شوط البحث إلى غايته.
6 (2) مصدر العلم
أنى للإنسان أن يعلم العلم الذي يعلمه؟ هذا سؤال ما انفك الفلاسفة يسألونه ويحاولون عنه الجواب: أفيكون في فطرة الإنسان وطبعه المجبول أن يهتدي إلى العلم من تلقاء نفسه لو واتته الظروف المناسبة؟ ذلك ما أخذ به سقراط الذي كان على اعتقاد بأن العلم كامن في الإنسان، ولا يحتاج إلا إلى من يحركه بالأسئلة الموجهة، فيخرج العلم من حالة الإضمار إلى حالة الظهور، أو من حالة الكمون إلى حالة العلن، أو - بالمصطلح الفلسفي - من حالة الوجود بالقوة إلى حالة الوجود بالفعل. ولو كان الأمر كذلك لكان التعلم ضربا من ضروب الكشف عما هو خبيء في النفس، وليس هو باكتساب شيء يأتي إلى نفس المتعلم من خارجها، ولكانت عملية التعليم لا تزيد على عملية التوليد، ويعبر «جابر» عن هذا الرأي بقوله إن المتعلم عندئذ: «يكون مبتدعا للأشياء من نفسه في أول الأمر بطباعه.»
7
لكنه لا يجعل هذه الصفة عامة في كل إنسان على حد سواء، بل يقصرها على من يصفهم ب «الاعتدال»، والاعتدال عنده معناه توازن العناصر التي منها يتكون الشخص المعين - «فالشخص المعتدل هو الذي يستخرج الأشياء بطبعه، ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة.» ويستطرد «جابر» فيقول نقلا عن فورفوريوس
8 «إن من كان هذا سبيله (هو) سقراط الحكيم؛ فإنهم لا يشكون أن كثيرا من العلم وقع له بقليل الرياضة، وأن ذلك بالطباع.»
9
أي أن رياضة قليلة، أو قل فاعلية وجهدا قليلين كانا يكفيان لتحريك علم كثير في نفسه؛ لأن العلم كامن هناك بالفطرة، ينتظر ما يحركه فيتحرك.
العلم بالفطرة - إذن - أحد المذاهب المختلفة في تفسير التعلم؛ ومذهب آخر يقول إن العلم إنما يكون بالتلقين، فما في فطرة الإنسان علم لا بالقوة ولا بالفعل، فهي - على حد العبارة التي قالها الفيلسوف الإنجليزي «جون لك» (1632-1704) - تولد صفحة بيضاء، ثم تأتي العوامل الخارجية عن طريق الحواس فتخط عليها آثارها ومن هذه الآثار المخطوطة يتكون علم الإنسان، ومن بين هذه العوامل الخارجية - بل من أهمها - هو المعلم، والوالدان هما بمثابة المعلمين، فهؤلاء يلقنون الناشئ بما يكون له نفسه على الصورة التي يريدونها له؛ وفي ذلك يقول «جابر»: «... [إن من يوكل إليه أمر تكوين الإنسان] يدرس عليه جميع العلوم وضروب الآداب وعلوم العلويات، أو غير ذلك مما يراد من ذلك المكون أن يكون ماهرا فيه.»
10
صفحة غير معروفة