عاد الكسيح والمكفوف وبين أيديهما الأبد، ولم يدر أحد من أهل الزاوية أيسخران من الموت أم الموت يسخر بهما؟ ••• - «يا رجل، لا تصعد في الجبل.» - «أنا مصعد فيه يا قوم.» - «أتبتغي الأبدية، وأنت بشر؟ أتخرج على سنة الكون؟ كل ما فيه مقدر؛ الجفاف يترقب النبات، الليل راصد للشمس، الموت يحصي على الإنسان أنفاسه.» - «الكون مبذول لنا، لسنا بمدفوعين إلى الكون يعبث بنا ويتحكم في أمرنا، الكون مبذول لنا، فليسخر! قيوده للعبيد، لمن يطوح النظر إلى فوق وكفه مبسوطة فوق حاجبه. هذا الجبل يكسر طرفي، وأنا أريد أن أحدق إليه؛ وأقول له: الآن لا أسارقك النظر، ولا أخشى لمسك وخطفك؛ لأن سرك انتقل إلي، أنت تطويه في رأسك وأنا في عروقي أبثه، أنا أفضلك وأبهرك؛ لأنك صاحب السر، أما أنا فمختلسه. أنت قبضت على المستحيل وهولت به علينا، أنا أجعله برجولتي ممكنا.» - «ولكن الكسيح والمكفوف، ألا تتعظ بهما؟» - «إنهما رغبا في الأبدية طمعا فيها وحدها، أما أنا فأطلبها لتنقاد، لأحس بأني ظافر. هما رغبا فيها للتنعم بالحياة الباقية، وأنا أطلبها لأصرعها ... كالمرأة تستمتعون بها وتلهون، أما أنا فأطرحها تحت همتي لأشعر بأني أملك شيئا نابضا، شيئا أستطيع أن أنشر فيه من إرادتي، وأسل منه إرادته عوضا. إني لا أحس برجولتي إلا إذا وجدتني السلطان القادر على حياة غيري. حياتي لا أملكها، لأني عبد لها تسيرني ولا أجرؤ على الانتقام منها ... لا يقتل نفسه إلا من افتقد حياته فانفلت من ضغطها، ولست كذلك؛ حياتي بين يدي، لكنهما لا تسعانها.»
تمهل الرجل ليتصفح القوم، ثم واصل: «أنا مصعد في الجبل لأغتصب عمري من براثن العدم، فأعود سيد نفسي: إذا ضايقتني أدبتها، سيد جسمي: أفنيه متى أشاء، سيد روحي: أميلها على هواي ... الروح التي حرتم في شأنها سأقبض على أطرافها، وأجعل لها من عظامي إطارا يخنقها، أنا مصعد.»
قال الرجل مقاله، فضحك الكسيح، وبكى المكفوف من خلفه، كأن أحدهما يتمم أخاه، ثم حمل المكفوف الكسيح، وأخذا يتحسسان - هذا بعينه وذاك بقدمه - نعيم الفناء: الأرض وما عليها.
عاد الرجل إلى مقاله: «أنا مصعد، وسألقي إليكم كل يوم بحجر؛ لأعلمكم بأني سالم، حتى أرجع إليكم فتلتفوا حولي، وتسألوني أن أفتك بهذا الكسيح وبهذا المكفوف؛ لأنهما طلبا ما فاتهما خطره، أنا مصعد.»
هدأ الرجل، ومن بين الصفوف برزت فتاة وقالت: «لا تذهب إلى البيت المنقور.»
أخذت الرجل بحة، وهو يقول: «يا حبيبتي ...»
تطلعت الفتاة إليه قلقة البصر حيرى السمع، فأكد الرجل: «نعم، حبيبتي، الآن فقط أناديك: يا حبيبتي، ومن قبل كتمت ما يشغل صدري؛ لأني لو نشرت حبي بين يديك لتعطل إحساسك الدفين به.»
ثبت القلق في البصر، وامتدت الحيرة في السمع، فزاد الرجل: «الروضة التي عن يمينك تجلسين إليها تنقلين البصر؛ فيتزود، فينساب سحر مستتر تحت الجفنين فيغلبهما ويطبقهما، ثم تقبل صاحبة من صواحبك فتصيح: ما أجمل الروضة! فينزعج السحر؛ ويفر من تحت الجفنين، فينفرجان، فترى عينك ما تراه عين صاحبتك: تلمس حواسك الأشياء؛ فتصحو، فتبطل الخلوة بالوهم الخاطر ... الحب والجمال كالبريق الذي في الياقوت الأصفر الرقيق: ماء رعاش في تعاريج جوهرة، فوق الوصف ودون اللمس ... الحب والجمال وماء الجواهر لا تفعل فعلها إلا إذا رفت وراء حجاب شفاف ... يا حبيبتي.»
دنا الرجل من الفتاة التي برزت من بين الصفوف، فارفض القوم، فقالت الفتاة: «لا تذهب إلى البيت المنقور.»
ضمها الرجل إليه: «اليوم أناديك: يا حبيبتي؛ لأني منصرف عنك، لحظة ينشرم اللحم من اللحم يحسن بالألفاظ أن تنفح دما، وهل يفور بالدم غير الألفاظ المقدسة؟»
صفحة غير معروفة