كيف إذن يلعب الاستعمار في الجزائر
لا بد أننا جميعا لاحظنا ظاهرة غريبة تميز هذه المعركة بين القادة الجزائريين. ألم نلاحظ أنه كلما بدت المشكلة تجنح إلى التقريب بين وجهات النظر، كلما أصبح اجتماع القادة واتفاقهم على أبواب الوقوع، كلما تنفسنا جميعا الصعداء وقلنا: خلاص انتهت الأزمة. كلما حدث شيء من هذا وجدنا أنه في آخر لحظة تدخل عامل جديد لم يكن في الحسبان وأجج الخلاف مرة أخرى؟
إن الأمثلة لهذا أكثر من أن نضيع الوقت في إحصائها، ولكنا للأهمية نكتفي بهذا المثل الأخير، حكاية الولاية الرابعة التي دخلت قواتها إلى العاصمة لتحل الأزمة، وإذا بها تغير موقفها فجأة وتبدأ تعادي المكتب السياسي، وبعد أن كانت الأزمة ناشبة بين المكتب السياسي من ناحية والولاية الرابعة والثالثة من ناحية أخرى؛ أزمة على أثرها انفرط عقد المكتب السياسي وبدأ كريم يدلي بتصريحات وبوضياف يستقيل ويرتبك الوضع ويتعكر الماء بصورة أظلم وأعنف مما كانت عليه.
إننا لسنا في حاجة إلى ذكاء لكي ندرك أننا بهذا المثل نضبط تدخلا استعماريا على هيئة يد جزائرية، على هيئة قيادة الولاية الرابعة بالذات، وهو تدخل خطير لا لخطورته في حد ذاته ولكن لصعوبة التغلب عليه؛ فقوات الولاية الرابعة جيش مسلح لإخضاعه لا بد - إن فشلت في المفاوضات والمساومات - لا بد من استعمال القوة، يعني حربا أهلية؛ شيء يمقته الشعب الجزائري أشد المقت ومستعد أن يقف ضد كل من ينادي به أو يستخدمه حتى لو كان الحق كل الحق في جانب من ينادي به أو يستخدمه.
لا بد - للتغلب عليه إذن - من استعمال أسلحة أخرى.
أسلحة غير مباشرة مثل إحداث انقلابات داخل قوات الولاية الرابعة نفسها، مثلما حدث في الولاية الثانية، ولكني لا أعتقد أن شيئا كهذا ممكن هذه المرة؛ فقيادة الولاية الرابعة هذه لم تقم بحركتها تلك عبثا، وإلا فكيف كانت تجرؤ قيادة ولاية لا تملك سوى بضع مئات من الجنود أن تتحدى المكتب السياسي وجيش التحرير كله وأربع ولايات أخرى؟ إن التفسير الوحيد لإقدامها على هذا العمل هو أنها لا بد ضامنة بشكل قاطع وأكيد أنها ليست وحدها ولن تقف وحدها، وعند اللزوم ستتدخل قوى ضخمة لحمايتها؛ نفس القوى التي تغذيها الآن بالمعلومات وتحصنها ضد الانقلابات.
ولا أحد يعرف على وجه الدقة كيف سينتهي «فصل» الولاية الرابعة هذا، ولكن الظروف كلها توحي أنه لن يستمر طويلا، وأنه قد يحدث اليوم أو غدا أن تسيطر قوات الولايات الأخرى على العاصمة، ولكن المشكلة ليست أن ينتهي «فصل» الولاية الرابعة، المشكلة أنه حتى لو انتهى فسيحدث، في آخر لحظة، وكما كان يحدث دائما، أن عاملا ليس في الحسبان سيتدخل ليؤجل الحل، وليبقى الوضع مائعا ومنقسما. وستبقى فرنسا أيضا واقفة غير ملامة بينما الملام هم القادة، وبالتالي جبهة التحرير والثورة. ولو حاول بن بيلا من ناحيته أن يحسمه بالجيش فالشعب محصن ضد أي تدخل مسلح، وحتى إذا لم يكن كذلك فليس أحب إلى قلب فرنسا من معركة مسلحة تدور بين الجزائريين وتصيب فيها بضع رصاصات بضع رعايا فرنسيين، لا بد أن يتدخل الجيش الفرنسي على أثرها «للمحافظة على الرعايا الفرنسيين ومصالحهم» ولن يلوم أحد فرنسا بل اللوم كله سيقع على الجزائريين الذين «منحوا الاستقلال ولكنهم لم يعرفوا كيف يحكمون أنفسهم به وأضاعوه».
الحل الوحيد للموقف
إن هناك حلا واحدا للموقف في الجزائر؛ الشعب، ولا أقصد كسب الرأي العام الجزائري عن طريق الإذاعة والبيانات والمنشورات. إن الحل الوحيد أن يجند الشعب وينظم ولو تحت شعار المكتب السياسي بحيث يقف الشعب بجماهيره ضد كل خارج عليه أو طاعن فيه، بحيث تقف جماهير الشعب ضد قوات أية ولاية تراود الأحلام الخبيثة عقول قوادها. الشعب؛ ذلك السلاح الذي أهمل من أول لحظة فكانت النتيجة وبالا، وأدى اللجوء إلى قادة الولايات وقواتها أن أصبحت هناك ست جزائر بدلا من جزائر واحدة، ومائة قائد بدلا من قائد واحد، والصراع الذي كان قائما بين زعيمين ضرب في ست وعشر وعشرين مرة، وأصبح لا بين زعماء بل بين ضباط يملكون القوة والسلاح.
الشعب؛ الشعب الواعي الذي صقلته تجربة سبع سنوات من الحرب الجهنمية، أوعى الجميع وأحرصهم على الاستقلال. الشعب الذي لم ينس أبدا فرنسا والذي لا يزال يعتبر اتفاقية إيفيان مجرد خطوة.
صفحة غير معروفة