وجميل جدا، وواجب، هذا الاهتمام الكبير بقضية المرض والعلاج في هذه الأيام، ولكن ما لا شك فيه أيضا أن هناك شبه اتفاق أن وزارة الصحة في ماضيها أو حاضرها لم تقم بهذه المهمة الملقاة على عاتقها لا خير قيام ولا حتى أقله، لا لتقصير في همة وزرائها وأطبائها، ولا لإهمال ممرضيها وحكيماتها، وإنما لسبب أبسط من هذا كله وأخطر؛ لسبب أنها أقل الوزارات ميزانية في بلد يتمتع بنسبة مروعة من المرضى والأمراض. والمشكلة أيضا أنه برغم ازدياد ميزانية كل الوزارات والمصالح إلى درجة تضاعفت معها فعلا ميزانية وزارة التربية والتعليم فقفز المخصص لها من 23 مليون جنيه قبل 1952 إلى 46 مليون جنيه في الوقت الحالي، وبينما تضاعفت الميزانية العامة للدولة ثلاث مرات أو أكثر، فميزانية وزارة الصحة تكاد لا تتغير؛ فهي لا تزال، كما كانت قبل الثورة، حوالي 10 ملايين جنيه. وفي ظل ميزانية كهذه ليس غريبا إذن أن يكون لدينا طبيب لكل 2600 نسمة، بينما في بلد كسيلان مثلا هناك طبيب لكل ألف نسمة، والمأساة أدهى وأمر بالنسبة للعلاج الداخلي في المستشفيات؛ إذ مجموع الأسرة في مستشفيات وزارة الصحة حوالي 16 ألف سرير نصفها تقريبا موزع على المجموعات الصحية حيث لا يوجد أطباء متخصصون بينما الباقي وقدره على وجه التحديد 7900 سرير هي الأسرة العامة فعلا، الكائنة في مستشفيات لديها الحد الأدنى من المعدات والإخصائيين؛ أي بمعدل سرير واحد لكل 3250 نسمة. تصوروا في شعب تبلغ نسبة المرضى فيه 90٪ من هؤلاء ال 3250 مواطنا مرضى، أي بمعدل سرير واحد يتنازع الرقود عليه 2900 مريض!
وضع ليس غريبا معه أن نسمع عن مستشفيات بلا أطباء، ومناطق بأكملها بلا مستشفيات، ودفعات بأكملها من الأطباء بلا وظائف لأن الميزانية لا تسمح بالتعيين. مشكلة المرض عندنا أيها السادة هي مشكلة الفقر، وأوله فقر وزارة الصحة، وحلها الوحيد أن نبني مستشفيات، ونخرج عددا أكبر من الأطباء، ونتيح لهم مجال العمل، وندير المؤسسات العلاجية بعقلية ثورتنا؛ بعقلية شعبية لا مركزية وليس بقوانين ولوائح صدرت أيام الاحتلال البريطاني وربما العثماني. وليس الحل أبدا أن نؤمم العلاج؛ فعلاجنا أعرج. فلنعالج العلاج الأعرج أولا ولنفعل به بعد هذا ما نشاء.
عبد الوهاب ضحك علينا وعلى وزارة الثقافة
منذ عام أو أكثر، وحين قامت الضجة حول الأوبريت وتعالت الصيحات تنادي بوجوب أن تتجه موسيقانا إليها وصرح عبد الوهاب أكثر من مرة بأنه بسبيله إلى إعداد أوبريت، وأكد تصريحاته بطريقة جعلت وزارة الثقافة تبادر وتتفق معه، كتبت أقول إن عبد الوهاب لن يلحن مهر العروسة ولا غيرها، وإن كل تصريحاته واتفاقاته ما هي إلا حركة ذكاء بارعة هدفها «سرقة» هذه المظاهرة المنادية بالأوبريت، تماما كما كان بعضنا، ونحن طلبة في الجامعة يصنع، حينما يلمح مظاهرة معادية مقبلة من بعيد، فيطلب من زملائه أن يرفعوه على أكتافهم، لينضم إلى المظاهرة ويبدأ يهتف بنفس شعاراتها حتى يطمئن القائمين عليها، ولكنه شيئا فشيئا يبدأ يحرف المظاهرة وشعاراتها إلى ما يريد وينجح في النهاية و«يسرق» المظاهرة. عبد الوهاب أيضا، كلما كان يفاجأ بالمظاهرات المطالبة بالأوبريت لم يكن أبدا يقف ضدها، بالعكس كان يتبناها، ويبدأ في عقد سلسلة من الاجتماعات، وينشر في الجرائد تصريحات وأحاديث وأخبارا تؤكد أنه فعلا يلحن، وأنه في طريقه إلى الانتهاء منها، ويظل متحمسا، طالما الحماس للمظاهرة قائما، ويظل يردد الأحاديث والتصريحات حتى يهبط الحماس وينسى الناس، فينسى هو الآخر، وتنتهي المظاهرة النهاية التي يريدها لها عبد الوهاب.
تذكرت كل هذا وأنا أشاهد أوبريت «يوم القيامة»، إنها أوبريت جيدة وألحانها لا بأس بها، ولكنها أبدا ليست ما نريد. ولقد قدمتها وزارة الثقافة مضطرة، وأنفقت عليها مضطرة بعد أن خذلها عبد الوهاب ولم يحقق وعده الذي كان قد قطعه على نفسه.
وعبد الوهاب قطع هذا الوعد وهو يعرف تماما أنه لو يوفيه وأنه ليس ملحن أوبريت، وأن حياته وثقافته الموسيقية وقالب الغناء العاطفي المفرد الذي تزعمه وحدد إقامته داخله لا يمكن أبدا أن ينفرج بين يوم وليلة عن موسيقار يلحن الأوبريت. وهو يتزعم المظاهرات، ويجزل الوعود، ويزاول حركات الذكاء هذه، فقط ليضيع الوقت ويشتت الحماس ويصرف الأنظار عن الأوبريت، كنوع من أنواع الدفاع عن النفس الفنية. لقد تسلم عبد الوهاب حركتنا الموسيقية من سيد درويش وهي حافلة بكل ألوان التعبير الموسيقي، ولكن، ربما لأنه أساسا مغني ومطرب، وربما لحلاوة صوته وإعجازه، فقد آثر الأغنية العاطفية على غيرها وأخذ يعمل بروعة لتطويرها على حساب كل الألوان الأخرى، حتى نجح في هذا إلى أبعد حدود النجاح ويؤسفني أن أضيف إلى أضر حدود النجاح أيضا؛ فقد سادت الأغنية العاطفية على ما عداها، وماتت الأوبريت ومؤلفوها وملحنوها. وازدهار لون على حساب غيره من الألوان يؤدي إلى انحراف، ونحن حقيقة في عصر الانحراف المريض نحو الأغنية العاطفية، بل نحو نوع واحد من الأغاني العاطفية؛ ذلك النوع الذي يخاطب كل ما فينا من ضعف ومراهقة وإحساس بالوحدة ليثير فينا الضعف والمراهقة والإحساس بالوحدة. ولقد ظل هذا اللون سائدا إلى أن بدأ يدور في حلقة مفرغة، ويلجئ اصحابه إلى الاقتباس والتقليد وافتعال التجديد؛ ذلك لأن الطريق الطبيعي لتطور الأغنية وتنفسها هو المسرح الغنائي حيث الأغاني في الأوبرا والأوبريت تخاطبنا كجماعة، ونسمعها كجماعة، وترسم ملامحنا وتعبر عنا كشعب، ومن خلالها فقط نستطيع أن نجد التعبير المتطور الناضج عن أنفسنا وحياتنا بكل رحابتها واتساعها.
ولكي ندرك خطورة ما آلت إليه أوضاعنا الموسيقية، يكفي أن نستمع إلى واحد أو واحدة أو أكثر من تلاميذ هذه المدرسة العاطفية في الغناء، لنرى إلى أي حد مخجل يخنث هذا من صوته ، وتزيد تلك من حرارة تأوهاتها، لكي يستطيع وتستطيع أن تعبر عن الحب، أي حب هذا؟ إنه قطعا ليس حبنا؛ فالرجال عندنا لا يحبون بهذه الطريقة المائعة المخنثة، ولا المحبات عندنا يتأوهن مثل هذه التأوهات ومع هذا فنحن نضطر مكرهين إلى الاستماع؛ فالموسيقى غذاء، ونحن جوعى، جوعى إلى ألحان قوية تعبر عن قوتنا، وموسيقى؛ موسيقانا المحرمة علينا، النابعة منا، المعبرة عنا، الأصلية العريقة بمثل أصالتنا وعراقتنا، نحاول عبثا أن نعثر عليها في هذه الألحان العربية المتهافتة، وخلال الأصوات التي تختبئ وراء التخنث والميكروفونات.
ونحن في حاجة عظمى إلى المسرح الغنائي، إلى الأوبريت. وأقولها صريحة لهؤلاء الذين ينتظرون في حسن نية وطيبة أن يفرغ عبد الوهاب من تلحين أوبريتته الأولى، أقول لهم عبثا ما تفعلون ولا تطلبوا من عبد الوهاب المستحيل؛ فهو أولا ليست ملحن أوبرا أو جماعات، وهو ثانيا لا يمكن أن ينحي نفسه بيده عن العرش الجالس عليه. لندعه في لونه العاطفي الذي امتاز فيه وبرع، ولنعهد بالتلحين إذا كنا جادين لموسيقار، إذا فرضنا جدلا أنه ليس له شهرة عبد الوهاب ونبوغه؛ فيكفي أنه سيوجد اللون، وسيبدأ ومن خلال البداية نستطيع أن ننهض ونعرف أخطاءنا ونسير؛ إذ لا بد أن نسير ولا يمكن أبدا أن نقف جميعا، ثلاثين مليونا وأكثر من الرجال والنساء والأطفال والثوار، نردد التأوهات.
مرة أخرى، عبد الوهاب والأوبريت
الصديق أحمد حمروش من أكثر الناس محافظة على شعور الآخرين، وأعتقد أنه لهذا السبب وحده، وليس لأية أسباب أخرى كتب يستنكر ما قلته عن الموسيقار محمد عبد الوهاب والأوبريت، واصفا طريقتي بأنها تشبه طعن الخناجر والسكاكين، معتقدا أنها نوع من مهاجمة الفنانين المشهورين طلبا للشهرة ربما، مؤكدا أن عبد الوهاب غير مسئول أو مقصر إلى آخر ما ورد في يومياته.
صفحة غير معروفة